سورة لقمان

مكيّة،

وهي ألفان ومائة وعشرة أحرف،

وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة،

وأربع وثلاثون آية

أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال : أخبرني أبو عبداللّه محمد بن يزيد المعدل قال : أخبرني أبو يحيى البزار،

عن محمد بن منصور،

عن محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى،

حدّثني أبي،

عن مخالد بن عبدالواحد،

عن الحجّاج بن عبداللّه،

عن أبي الخليل،

عن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة،

عن زر بن حبيش،

عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً في يوم القيامة وأُعطي من الحسنات عشراً بقَدَر من عمل المعروف،

وعمل بالمنكر).

بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١-٣

{الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم هُدىً وَرَحْمَةً} قرأ العامة بالنصب على الحال والقطع،

وقرأ حمزة (ورحمةٌ) بالرفع على الابتداء

٤-٥

{لِلْمُحْسِنِين الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} .

٦

قوله : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} .

قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي،

كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدِّث بها قريشاً ويقول لهم : إنَّ محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود،

وأنا أُحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأعاجم والأكاسرة،

فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن،

وقال مجاهد : يعني شراء (القيان) والمغنّين،

ووجه الكلام على هذا التأويل يشتري ذات أو ذا لَهْو الْحَدِيثِ.

أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى سنة ثلاث وثمانين،

حدّثني جدّي محمد بن إسحاق بن خزيمة)عن علي بن خزيمة) عن علي بن حجرة،

عن مُستمغل بن ملجان الطائي،

عن مطرح بن يزيد،

عن عبيداللّه بن زجر،

عن علي بن يزيد،

عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا يحلّ تعليم المغنيات ولا بيعهن،

وأثمانهن حرام،

وفي مثل هذا نزلت هذه الآية : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّه} ...) إلى آخر الآية.

وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلاّ بعث اللّه عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت. وقال آخرون : معناه يستبدل ويختار اللّهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال : سبيل اللّه : القرآن.

وقال أبو الصهباء البكري : سألت ابن مسعود عن هذه الآية،

فقال : هو الغناء واللّه الذي لا إله إلاّ هو يردّدها ثلاث مرّات،

ومثله روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. ابن جريج : هو الطبل. عبيد عن الضحّاك : هو الشرك. جويبر عنه : الغناء،

وقال : الغناء مفسدة للمال،

مسخطة للربّ مفسدة للقلب. وقال ثوير بن أبي فاخته عن أبيه عن ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلاً ونهاراً. وكلّ ما كان من الحديث مُلهياً عن سبيل اللّه إلى ما نهى عنه فهو لهو ومنه الغناء وغيره. وقال قتادة : هو كلّ لهو ولعب. قال عطاء : هو الترّهات والبسابس. وقال مكحول : مَنْ اشترى جارية ضرّابة ليمسكها لغناها وضَرْبِها مقيماً عليه حتّى يموت لم أُصلِّ عليه،

إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ} ... إلى آخر الآية.

وروى علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ اللّه تعالى بعثني رحمةً وهدىً للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصّلب وأمر الجاهلية،

وحلفَ ربّي بعزّته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمّداً إلاّ سقيته من الصديد مثلها يوم القيامة مغفوراً له أو معذّباً،

ولا يسقيها صبيّاً صغيراً ضعيفاً مسلماً إلاّ سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة مغفوراً له أو معذّباً،

ولا يتركها من مخافتي إلاّ سقيته من حياض القدس يوم القيامة. لا يحلّ بيعهن ولا شرائهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن وثمنهنّ حرام). يعني الضوارب. وروى حمّاد عن إبراهيم قال : الغناء ينبت النفاق في القلب. وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يحرقُون الدفوف.

أخبرنا عبداللّه بن حامد،

عن ابن شاذان،

عن جيغويه،

عن صالح بن محمد،

عن إبراهيم ابن محمد،

عن محمد بن المنكدر قال : بلغني أنَّ اللّه عزّ وجلّ يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللّهو ومزامير الشيطان؟

أدخلوهم رياض المسك،

ثمّ يقول للملائكة : أسمعوا عبادي حمدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أنْ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

قوله : {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب {وَيَتَّخِذَهَا} بنصب الذال عطفاً على قوله : {لِيُضِلَّ} وهو اختيار أبي عبيد قال : لقربه من المنصوب،

وقرأ الآخرون بالرفع نسقاً على قوله : {يَشْتَرِى} .

٧-١١

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَاكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} إخبرهُ {بِعَذَاب أَلِيم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّه حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الاْرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِيم} أي نوعاً حسناً {هذا} الذي ذكرت ممّا يعاينون {خَلْقُ اللّه فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} من آلهتكم التي تعبدونها {بَلِ الظالِمُونَ فِي ضَلَل مُبِين} .

١٢

قوله : {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمنَ الْحِكْمَةَ}

يعني العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأُمور.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار : وهو لقمان بن باعور بن باحور بن تارخ وهو آزر،

وقال وهب : كان ابن أُخت أيّوب. وقال مقاتل : ذُكر أنَّ لقمان كان ابن خالة أيّوب.

قال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل،

واتّفق العلماء على أنّه كان حكيماً ولم يكن نبيّاً إلاّ عكرمة فإنّه قال : كان لقمان نبيّاً،

تفرّد بهذا القول.

حدّثنا أبو منصور الجمشاذي قال : حدّثني أبو عبداللّه محمد بن يوسف،

عن الحسين بن محمد،

عن عبداللّه بن هاشم،

عن وكيع عن إسرائيل،

عن جابر،

عن عكرمة قال : كان لقمان نبيّاً. وقال بعضهم : خُيِّر لقمان بين النبوّة والحكمة،

فاختار الحكمة.

وروى عبداللّه بن عمر،

عن نافع،

عن ابن عمر قال : سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه يقول : (حقّاً أقول لم يكن لقمان نبيّاً ولكن عبد صمصامة كثير التفكير،

حسن اليقين،

أحبَّ اللّه فأحبّه وضمن عليه بالحكمة).

(وروي أنّ لقمان في ابتداء أمره) كان نائماً نصف النهار إذ جاءهُ نداء : يا لقمان هل لك أنْ يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟

فأجاب الصوت فقال : إنْ خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء،

وإنْ عزم عليَّ فسمعاً وطاعة. فإنّي أعلم إنْ فعل ذلك بي عصمني وأعانني،

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لِمَ يا لقمان؟

قال : لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كلّ مكان إن (وفى فبالحري) أن ينجو،

وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة،

ومن يكن في الدنيا ذليلاً (وفي الآخرة شريفاً) خير من أن يكون)في الدنيا) شريفاً (وفي الآخرة ذليلاً).

ومن تخيّر الدنيا على الآخرة تفتهُ الدنيا ولا يصيب الآخرة،

فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأُعطي الحكمة. فانتبه يتكلّم بها.

ثمّ نودي داود بعده فقبلها ولم يشرط ما شرط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرّة كلّ ذلك يعفو اللّه عزّ وجلّ عنه،

وكان لقمان يؤازره بحكمته،

فقال له داود : طوبى لك يا لقمان أُعطيت الحكمة وصُرفتْ عنك البلوى. وأُعطي داود الخلافة وأُبتلي بالبليّة والفتنة.

وحدّثنا الإمام أبو منصور بن الجمشاذي لفظاً قال : حدّثني أبو عبداللّه بن يوسف عن الحسن بن محمد،

عن عبداللّه بن هاشم،

عن وكيع،

عن محمّد بن حسّان،

عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشيّاً نجّاراً. وأخبرنا أبو عبداللّه بن فنجويه قال : حدّثني أبو بكر بن مالك القطيعي،

عن عبداللّه بن أحمد بن حنبل،

عن أبي عن أسود بن عامر،

عن حمّاد،

عن علي بن يزيد،

عن سعيد بن المسيب أنّ لقمان كان خيّاطاً.

{أَنِ اشْكُرْ للّه} يعني وقلنا له : أن اشكر للّه.

{وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ حَمِيدٌ} .

قال مجاهد : كان لقمان عبداً أسود عظيم الشفتين،

متشقّق القدمين. وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد : لا تحزن من أجل أنّك أسود،

فإنّه كان من أخيَر الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر بن الخطّاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيّاً من سودان مصر ذا مشافر.

١٣

قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ بْنِهِ} واسمه أنعم

١٤

{وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم وَوَصَّيْنَا الاْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن} قال ابن عبّاس : شدّة بعد شدّة. الضحاك : ضعف على ضعف. قتادة : جهداً على جهد. مجاهد وابن كيسان : مشقّة على مشقّة.

{وَفِصَالُهُ} فطامه. وروي عن يعقوب : وفصله {فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ} أنبأني عبداللّه بن حامد الأصفهاني،

عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال : أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم البلخي،

عن نصير بن يحيى،

عن سفيان بن عيينة في قول اللّه عزّ وجلّ : {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ} قال : مَنْ صلّى الصلوات الخمس فقد شكر اللّه،

ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين.

١٥

{وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} عِشْرة جميلة،

وتقديره : بالمعروف.

{وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} واسلك طريق محمّد وأصحابه.

{ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقّاص وأُمّه،

وقد مضت القُصّة.

١٦

{يَابُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} قال بعض النحاة : هذه الكناية راجعة إلى الخطيئة والمعصية،

يعني : إنَّ المعصية إنْ تَكُ. يدلّ عليه قول مقاتل : قال أنعم بن لقمان لأبيه : يا أبة إنْ عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها اللّه؟

فقال له : يا بُني إنّها إنْ تَكُ. وقال آخرون : هذه الهاء عماد،

وإنّما أنّث لإنّه ذهب بها إلى الحبّة،

كقول الشاعر :

ويشرق بالقول الذي قد اذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم

ويرفع المثقال وينصب،

فالنّصب على خبر كان والرّفع على اسمها ومجازه : إنْ تقع وحينئذ لا خبر له : {فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ} قال قتادة : في جبل،

وقال ابن عبّاس : هي صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجّار،

وخضرة السماء منها،

وقال السدي : خلق اللّه الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره اللّه عزّ وجلّ في القرآن {وَالْقَلَمِ} والحوت في الماء،

والماء على ظهر صفاة،

والصفاة على ظهر ملك والملك،

على صخرة،

وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض،

والصخرة على الرّيح.

{أَوْ فِي السَّماوَاتِ أَوْ فِي الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّه إِنَّ اللّه لَطِيفٌ} باستخراجها {خَبِيرٌ} عالم بمكانها. ورأيت في بعض الكتب أنّ لقمان (عليه السلام) قال لابنه : يا بُني {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} إلى آخر الآية. فانفطر من هيبة هذه الكلمة فمات فكانت آخر حكمته.

١٧

قوله : {يَابُنَىَّ أَقِمِ الصلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ امُورِ}

أي الأُمور الواجبة التي أمر اللّه بها،

وقال ابن عبّاس : حزم الأُمور. مقاتل : حقّ الأُمور.

١٨

{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قرأ النخعي ونافع وأبو عمرو وابن محيص ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تصاعر بالألف.

أخبرني أبو عبداللّه بن فنجويه قال : أخبرني أبو حبش قال أبو القاسم بن الفضل قال أبو زرعة : حدّثني نضر بن علي قال : أخبرني أبي عن معلى الورّاق عن عاصم الجحدري {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ} بضم التاء وجزم الصاد من أصعر. الباقون {تُصَعِّرْ} من التّصعير. قال ابن عبّاس : يقول لا تتكبّر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. مجاهد : هو الرجل يكون بينه وبينك إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه. عكرمة : هو الذي إذا سُلّم عليه لوى عنقه تكبّراً. الربيع وقتادة : لا تحقّر الفقراء،

ليكن الفقير والغني عندك سواء.

عطاء : هو الذي يلوي شِدقه. أخبرنا عبداللّه بن حامد،

عن حامد بن محمد،

عن محمد ابن صالح،

عن عبد الصمد،

عن خارجة بن مصعب،

عن المغيرة،

عن إبراهيم في قوله : {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} قال : التشديق في الكلام. وقال المؤرّخ : لا تعبس في وجوه الناس. وأصل هذه الكلمة من المَيل،

يقال : رجل أصعَر إذا كان مائل العنق. وجمعُهُ صُعر،

ومنه،

الصِّعر : وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلفت أعناقها،

فشُبّه الرجل المتكبّر الذي يعرض عن الناس احتقاراً لهم بذلك. قال الشاعر يصف إبلاً :

وردناه في مجرى سهيل يمانياً

بصعر البري من بين جمع وخادج

أي مائلات البري. وقال آخر :

وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه

أقمنا له من ميله فتقوّما

{وَلا تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا} أي خيلاءَ. {إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} في مشيته {فَخُورٍ} على الناس.

أخبرني عبداللّه بن حامد الوزان،

عن أحمد بن محمد بن شاذان،

عن جيغويه،

عن صالح ابن محمد،

عن جرير بن عبد الحميد،

عن عطاء بن السائب،

عن أبيه،

عن عبداللّه بن عمرو قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حُلّة،

فأمر اللّه عزّ وجلّ الأرضَ فأخذتْه،

فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

١٩

{وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ} أي تواضع ولا تتبختر وليكن مشيك قصداً لا بخيلاء ولا إسراع.

أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ سنة إحدى وثمانين وثلثمائة قال : أخبرني أبو العبّاس محمد بن إسحاق السرّاج وأبو الوفا،

المؤيّد بن الحسين بن عيسى قالا : قال عبّاس بن محمد الدوري،

عن الوليد بن سلمة قاضي الأردن،

عن عمر بن صهبان،

عن نافع عن ابن عمران أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن).

{وَاغْضُضْ} واخفض {مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ اصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قال مجاهد وقتادة والضحاك : أقبح،

أوّله زفير وآخره شهيق،

أمره بالاقتصاد في صوته. عكرمة والحكم بن عيينة : أشدّ. ابن زيد : لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله للحمير.

أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحري قال : أخبرني أبو حامد أحمد بن عبدون بن عمارة الأعمش قال : أخبرني أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي،

عن يحيى بن صالح الوحاضي،

عن موسى بن أعين قال : سمعت سفيان يقول في قوله عزّ وجلّ : {إِنَّ أَنكَرَ اصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} يقول : صياح كلّ شيء تسبيح للّه عزّ وجلّ إلاّ الحمار. وقيل : لأنّه ينهق بلا فائدة.

أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن محمد بن الحسين بن بشر قال : أخبرني أبو بكر ابن أبي الخصيب،

عن عبداللّه بن جابر،

عن عبداللّه بن الوليد الحراني،

عن عثمان بن عبد الرحمن،

عن عنبسة بن عبد الرحمن،

عن محمد بن زادان،

عن أُمّ سعد قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنَّ اللّه عزّ وجلّ يبغض ثلاثة أصوات : نهقة الحمار،

ونباح الكلب،

والداعية بالحرب).

فصل في ذِكْر بعض ما رُوي مِنْ حِكَمِ لُقمان

أخبرنا عبداللّه بن حامد الوزّان الأصفهاني،

عن أحمد بن شاذان،

عن جيغويه بن محمد (عن صالح بن محمد) عن إبراهيم بن أبي يحيى،

عن محمد بن عجلان قال : قال لقمان : ليس مال كصحّة،

ولا نعيم كطيب نفس.

وأخبرنا أبو عبداللّه الحسين بن محمد الدينوري،

عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي،

عن محمد بن عبد الغفّار الزرقاني،

عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن (حفص) عن عمّه أبي زجر بن حصن،

عن جدّه حميد بن منهب قال : حدّثني طاووس،

عن أبي هريرة قال : مرَّ رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال : ألستَ بالعبد الأسود الذي كُنتَ راعياً بموضع كذا وكذا؟

قال : بلى. قال : فما بلغ بك ما أرى؟

قال : صدق الحديث،

وأداء الأمانة،

وترك ما لا يعنيني.

وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي،

عن عبداللّه ابن أحمد بن حنبل،

عن أُبيّ،

عن وكيع قال : أخبرني أبو الأشهب،

عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشيّاً نجّاراً،

فقال له سيّده : اذبح لنا شاة،

فذبح له شاة،

فقال له : ائتني بأطيب المضغتين فيها،

فأتاه باللسان والقلب. فقال : ما كان فيها شيء أطيب من هذا؟

قال : لا،

قال : فسكت عنه ما سكت،

ثمّ قال له : اذبح لنا شاة،

فذبح شاة،

فقال : ألقِ أخبثها مضغتين،

فرمى باللسان والقلب،

فقال : أمرتك أنْ تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللّسان والقلب وأمرتك أنْ تلقي أخبثها مضغتين فألقيتَ اللسان والقلب؟

فقال : لأنّه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا.

وأخبرني الحسين بن محمد،

عن أحمد بن جعفر بن حمدان،

عن يوسف بن عبداللّه عن موسى ابن إسماعيل،

عن حمّاد بن سلمة،

عن أنس أنّ لقمان كان عند داود (عليه السلام) وهو يسرد درعاً فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى،

ويريد أن يسأله،

ويمنعه حكمه عن السؤال،

فلمّا فرغ منها وجاء بها وصبها قال : نِعمَ درع الحرب هذهِ فقال لقمان : إنّ من الحكم الصمت وقليل فاعله.

(وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي) قال : أخبرني أبو أُسامة ووكيع قالا : أخبرنا سفيان،

عن أبيه،

عن عكرمة قال : كان لقمان من أهون مملوكيه على سيّده. قال : فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره،

فجاؤوا وليس معهم شيء،

وقد أكلوا الثمر،

وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه : إنّ ذا الوجهين لا يكون عند اللّه أميناً،

فاسقني وإيّاهم ماءً حميماً ثمّ أرسِلنا فلْنعدُ،

ففعل،

فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماءً،

فعرف صدقه وكذبهم.

قال : أوّل ما روي من حكمته،

أنّه بينا هو مع مولاه،

إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس،

فناداه لقمان : إنّ طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد،

ويورث الباسور،

ويصعد الحرارة إلى الرأس،

فاجلس هوناً،

وقم هوناً،

قال : فخرج وكتب حكمته على باب (الحش).

قال : وسكر مولاه يوماً فخاطر قوماً على أن يشرب ماء بحيرة،

فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال : لمثل هذا كنتُ اجتبيتك،

فقال : اخرج كرسيّك وأباريقك ثمّ اجمعهم،

فلمّا اجتمعوا قال : على أيّ شيء خاطرتموه؟

قالوا : على أن يشرب ماء هذه البحيرة،

قال : فإنّ لها موادَّ احبسوا موادّها عنها،

قالوا : وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها؟

قال لقمان : وكيف يستطيع شربها ولها موادّ؟

وأخبرني الحسين بن محمد،

عن عبيداللّه بن محمد بن شنبه،

عن علي بن محمد بن ماهان،

عن علي بن محمد الطنافسي قال : أخبرني أبو الحسين العكلي (عن عبداللّه بن أحمد بن حنبل،

عن داود بن عمر،

عن إسماعيل بن عياش عن عبداللّه بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر،)

فلقي غلامه في الطريق،

فقال : ما فعل أبي؟

قال : مات،

قال : الحمد للّه،

ملكت أمري. قال : ما فعلت امرأتي؟

قال : ماتت. قال : جدَّدَ فراشي،

قال : ما فعلت أُختي؟

قال : ماتت،

قال : ستَرَ عورتي،

قال : ما فعل أخي؟

قال : مات،

قال : انقطع ظهري.

وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك،

عن عبداللّه بن أحمد بن حنبل،

عن أبي،

عن سفيان قال : قيل للقمان : أيّ الناس شرّ؟

قال : الذي لا يبالي أنْ يراه الناس مسيئاً. وقيل للقمان : ما أقبح وجهك قال : تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟

٢٠

قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه}.

قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيّوب وحفص {نِعَمَهُ} بالجمع والإضافة،

واختاره أبو عبيد وأبو معاذ النحوي وأبو حاتم،

وقرأ الآخرون منُوّنة على الواحد ومعناها جمع أيضاً،

ودليله قول اللّه عزّ وجلّ : {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه تُحْصُوهَآ} وقال مجاهد وسفيان : هي لاَ إِلهَ إِلاّ اللّه،

وتصديقه أيضاً ما أخبرني أبو القاسم (الحبيبي) أنّه رأى في مصحف عبداللّه {نِعْمَتَهُ} بالأضافة والتوحيد {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} اختلفوا فيها فأكثروا. فقال ابن عبّاس : أمّا الظاهرة فالدين والرياش،

وأمّا الباطنة فما غاب عن العباد وَعَلِمَهُ اللّه.

مقاتل : الظاهرة تسوية الخَلق والرّزق والإسلام،

والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها. الضحّاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء،

والباطنة المغفرة. القرظي : الظاهرة محمّد (عليه السلام) والباطنة المعرفة. ربيع : الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب. عطاء الخراساني : الظاهرة تخفيف الشرائع،

والباطنة الشفاعة. مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء،

والباطنة الإمداد بالملائكة.

أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني،

قال : أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش،

قال : أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب،

عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال : أخبرني أبو مالك الجبنى،

عن جويبر،

عن الضحاك قال : سألت ابن عبّاس عن قول اللّه عزّ وجلّ : {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} فقال : هذا من محرزي الذي سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قلت : يا رسول اللّه ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟

قال : أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق،

وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك،

يابن عبّاس يقول اللّه تعالى : إنّي جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أُكفّر به عن خطاياه،

وجعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم.

وقال محمّد بن علي الترمذي : النعمة الظاهرة : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} والباطنة قوله : {وَرَضِيتُ لَكُمُ اسْلَامَ دِينًا} .

(الحرث بن أسد المحاسبي) : الظاهرة نعيم الدنيا،

والباطنة نعيم العقبى. عمرو بن عثمان الصدفي : الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع.

وقيل : الظاهرة الجزاء،

والباطنة الرضا. سهل بن عبداللّه : الظاهرة إتباع الرسول،

والباطنة محبّته. وقيل : الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر. وقيل : الظاهرة التبيين،

بيانه قوله تعالى : {يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّوا} {وَيُبَيِّنُ ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ} والباطنة التزين قوله : {وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ} وقيل : الظاهرة الرزق المكتسب،

والباطنة الرزق من حيث لا يُحتسب.

وقيل : الظاهرة المدخل للغذاء،

والباطنة المخرج للأذى. وقيل : الظاهرة الجوارح،

والباطنة المصالح. وقيل : الظاهرة الخَلق،

والباطنة الخُلق. وقيل الظاهرة التنعيم،

بيانه قوله : {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} والباطنة التعليم. قوله : {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} وقيل : الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء،

وقيل الباطنة : ما طوي وزوي من أنواع البلاء،

وقيل : الظاهرة الدعوة،

بيانه قوله : {واللّه يدعوا اِلى دار السَّلاَم} والباطنة الهداية. بيانه قوله : {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} .

وقيل : الظاهرة الإمداد بالملائكة،

والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفّار،

وقيل : الظاهرة تفصيل الطاعات،

وهو أنّه ذكَر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها،

بيانه قوله : {التَّائِبُونَ} وقوله : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخر الآية. والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنّه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدّها وتفصيلها،

بيانه قوله : {وَتُوبُوا إِلَى اللّه جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} وقيل : الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار،

والباطنة إحياء الأقطار والأمصار.

وقيل : الظاهرة التوفيق للعبادات،

والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءات،

وقيل : الظاهرة ذكر اللسان،

والباطنة ذكر الجنان،

وقيل : الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته. وقيل : الظاهرة ضياء النهار للتصرّف والمعاش،

والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار. وقيل : الظاهرة النطق،

والباطنة العقل،

وقيل : الظاهرة نِعَمَهُ عليك بعدما خرجت من بطن أُمّك،

والباطنة : نِعَمَهُ عليك وأنت في بطن أُمّك.

وقيل : الظاهرة الشهادة الناطقة،

والباطنة السعادة السابقة. وقيل : الظاهرة ألوان العطايا،

والباطنة غفران الخطايا. وقيل : الظاهرة وضع الوزر ورفع الذّكر،

والباطنة شرح الصدر.

وقيل : الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممّن خالفك،

وقيل : الظاهرة المال والأولاد،

والباطنة الهدى والارشاد،

وقيل : الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد،

وقيل : الظاهرة ما يكفِّر اللّه به الخطايا من الرزايا والبلايا،

والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى،

وقيل : الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار،

والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار،

وقيل : الظاهرة العلوّ بيانه قوله : {وَأَنتُمُ الأعلون} والباطنة الدنوّ بيانه قوله : {أُولَاكَ الْمُقَرَّبُونَ} .

قوله : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَدِلُ فِي اللّه بغَيِرِ عِلْم} نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أنّ الملائكة بنات اللّه

٢١

{وَلاَ هُدَىً وَلاَ كِتَبٌ مُنير وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} .

قال اللّه تعالى : {أَوَلَوْ كَانَ} قال الأخفش : لفظه استفهام ومعناه تقرير،

وقال أبو عبيدة : لو هاهنا متروك الجواب مجازه أَوَلَو كَانَ {الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي موجباته فيتبعونه.

{قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} ألاّ يتبعوا ماسواهما بدعة وضلالة،

ولايؤخذ الجزية من الأوثان {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية،

وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه،

والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعاً عنها.

وأما قدرها : فقال أنس : قسَّم النبي على كل محتلم ديناراً،

وقسم عمر بن الخطاب ح على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهماً،

وعلى الاوساط أربعة وعشرين،

وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهماً،

ولم يجاوز به خمسين درهماً،

وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه.

{عَن يَدٍ} أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه،

كما يقال كلّمته فماً لفم.

وقال أبو عبيدة : يقال : أكلّ من (.............) من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد،

وقال القتيبي : يقال : أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئاً غير مكلف.

وقال ابن عباس : هو أنها يعطونها بأيديهم،

يمشون بها كارهين ولايجيئون بها ركباناً ولا يرسلون {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أذلاّء مقهورون،

قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة : معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. قال الكلبي : إنه إذا (جاء يعطي) صفع في قفاه،

وقيل : إعطاؤه إياها هو الصغار،

وقيل : إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة،

وقيل : إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصَغَار.

عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيًْا إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللّه الْغَرُورُ * إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسُ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ خَبِيرُ}

٢٢

قوله : {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّه} أي يخلص دينه للّه ويفوّض أمره إليه،

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يُسلِّمْ) بالتشديد،

وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله : {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} وأشباه ذلك.

{وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي : اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس : هي : {اله إِلا اللّه} .

{وَإِلَى اللّه عَاقِبَةُ امُورِ} يعني مرجعها.

٢٣-٢٤

{وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور نُمَتِّعُهُمْ} نعمّرهم ونمهلهم {قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نُلجئهم،

ونردّهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} .

٢٥-٢٦

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه قُلْ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُون للّه مَا فِي السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ إِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} .

٢٧

قوله عزّ وجلّ : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} الآية. قال المفسِّرون : سألت اليهود رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن الرّوح فأنزل اللّه بمكّة : {وَيَسَْلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية،

فلمّا هاجر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى المدينة أتاه أحبار اليهود،

فقالوا : يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول : وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً،

أفعنيتنا أم قومك؟

فقال (عليه السلام) : كلاًّ قد عنيت. قالو : ألستَ تتلوا فيما جاءَك : إنّا قد أُوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هي في علم اللّه قليلٌ وقد آتاكم اللّه ما إنْ عملتم به انتفعتم. قالوا : يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟

فأنزلَ اللّه : {وَلَوْ أَنَّمَا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} أي بريت أقلاماً {وَالْبَحْرُ} بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع،

وحجّتهم : قراءة عبداللّه وبحر {يَمُدُّهُ} أي يزيده وينصب عليه {مِن بَعْدِهِ} من خلفه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّه} وفي هذه الآية اختصار تقديرها : ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدُّهُ من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام اللّه ما نفدت كلمات اللّه،

وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق؛ لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق.

{إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} هذه الآية على قول عطاء بن يسار : مدنيّة،

قال : نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره : مكّيّة،

قالوا : إنّما أمرَ اليهود وفد قريش أنْ يسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة،

واللّه أعلم.

٢٨

قوله : {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله : {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت.

٢٩-٣٠

{إِنَّ اللّه سَمِيعٌ بَصِير أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَل مُسَمّىً وَأَنَّ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ذَلِك} الذي ذكرتُ لتعلموا :

٣١

{بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّه هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِير أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّه} برحمة اللّه،

{لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على أمر اللّه {شَكُورٍ} على نِعَمِهِ. قال أهل المعاني : أراد لكلّ مؤمن،

لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.

٣٢

{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} قال مقاتل : كالجبال. وقال الكلبي : كالسحاب (وَالظُّلَلِ) جمع ظلّه شَبَّهَ الموجَ بها في كثرتها وارتفاعها كقول النّابغة في صفة بحر :

يماشيهن أخضر ذو ظلال

على حافاته فلق الدنان.

وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع،

لاِنَّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضاً كالظلل. وقيل : هو بمعنى الجمع،

وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر،

وأصله من الحركة والازدحام.

{دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} قال ابن عبّاس : موف بما عاهد اللّه عليه في البحر. ابن كيسان : مؤمن. مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر. الكلبي : مقتصد في القول من الكفّار لأنَّ بعضهم أشدّ قولاً وأغلى في الافتراء من بعض. ابن زيد : المقتصد الذي على صلاح من الأمر. {وَمَا يَجْحَدُ بَِايَاتِنَآ إِلا كُلُّ خَتَّارٍ} غدّار {كَفُورٍ} جحود،

والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب :

وإنّك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر

٣٣

قوله : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَ يَجْزِي} لا يقضي ولا يُغني ولا يكفّر {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيًْا إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللّه الْغَرُورُ} . قراءة العامّة : بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا : هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير : هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب : بضم الغين ومعناه لا تغتروا

٣٤

{إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية،

أتى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟

وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد؟

وقد علمتُ أين وُلدتْ فبأيّ أرض تموت؟

فأنزل اللّه هذه الآية.

أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبداللّه بن حمدون،

عن أحمد بن محمد بن الحسن،

عن محمد بن يحيى،

عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد،

عن أبي عن ابن شهاب،

عن سالم بن عبداللّه ابن عمر،

عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه قال : (مفاتيحُ الغيب خمسة {إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية).

وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنَّ رجلاً قال : يا رسول اللّه هل من العلم علم لم تؤته؟

فقال : لقد أُوتيتُ علماً كثيراً أو علماً حسناً (أو كما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثمّ تلا رسول اللّه هذه الآية {إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى قوله : {خَبِيرٌ} فقال : هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلاّ اللّه تبارك وتعالى.

وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال : أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش،

عن علي بن حشرم،

عن الفضل بن موسى،

عن رجل سمّاه قال : بلغ ابن عبّاس أنَّ يهودياً خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال : إنْ شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال : إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم،

ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي،

وأنت لا تخرج من الدُّنيا حتى تعمى،

فقال ابن عبّاس : وأنت يا يهودي؟

قال : لا يحول عليَّ الحول حتى أموت،

قال : فأين موتك؟

قال : لا أدري. قال ابن عبّاس : صدق اللّه {وَمَا تَدْرِى نَفْسُ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} . قال : فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغَ عشراً حتّى مات الصبي،

وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا : مات،

وما خرجَ ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي : هذا أعجب حديث.

قوله : {بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كان حقه بأيّة أرض،

وبه قرأ أُبيّ بن كعب،

إلاّ أنّ مَن ذَكَّر قال : لاِنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل : أراد بالأرض المكان فلذلك ذَكَّر،

وأحتجُ بقول الشاعر :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا الأرض ابقل ابقالها

﴿ ٠