سورة سبأأخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة سبأ لم يبقَ نبي ولا رسول إلاّ كان يوم القيامة له رفيقاً ومصافحاً). بسم اللّه الرَّحْمن الرحيم ١قوله : {الْحَمْدُ للّه} وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم {الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فى الآخرة} كما هو له فى الدنيا؛ لأنّ النعم كلها في الدارين منه، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} . ٢قوله : {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض} يدخل ويغيب فيها من الماء والموادّ والحيوانات، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات، {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ} من الأمطار، {وَمَا يَعْرُجُ} يصعد {فِيهَآ} : من الملائكة وأعمال العباد، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} . ٣{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} الساعة، ثم عاد جلّ جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه، فقال عز من قائل : {عَالِمُ الْغَيْبِ} ، اختلف القراء فيها، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي : (علاّمِ الغيب) بخفض الميم على وزن فعال، وهي قراءة عبد اللّه وأصحابه. قال الفراء : وكذلك رأيتها في مصحف عبد اللّه (علاّمِ). وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل رداً على قوله، وهي اختيار أبي عبيد فيه، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء. وقرأ الآخرون (عالمُ) رفعاً بالاستئناف؛ إذ حال بينهما كلام. {يَعْزُبُ} يغيب ويبتعد {عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} : وزن نملة، وهذا مثل؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة. ٤-٥{في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئك لهم مغفرةٌ ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا} عملوا في إبطال أدلّتنا والتكذيب بكتابنا {مُعَاجِزِينَ} : مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. قال ابن زيد : جاهدين، وقرأ : {تَسْمَعُوا لِ هذا الْقُرْءَانِ} . {أُولَاكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ} ، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل {أَلِيمٌ} بالرفع على نعت ال (عذاب). غيرهم بالخفض على نعت ال (رجز). قال قتادة : الرجز أسوأ العذاب، ٦ومثله في الجاثية {وَيَرَى} يعني : وليرى {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} يعني : مؤمني أهل الكتاب : عبد اللّه بن سلام وأصحابه، وقال قتادة : هم أصحاب محمد (عليه السلام) . ٧{الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} يعني : القرآن {هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى} يعني : القرآن {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وهو الإسلام. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منكرين للبعث متعجبين منه : {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} : يخبركم، يعنون : محمداً (عليه السلام) {إِذَا مُزِّقْتُمْ} : قطعتم وفرقتم {كُلَّ مُمَزَّقٍ} وصرتم رفاتاً {إِنَّكُمْ} بالكسر على الابتداء والحكاية، مجازة يقول لكم : {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} . ٨{افْتَرَى} ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نُصب {عَلَى اللّه كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةُ} : جنون؟ ٩قال اللّه تعالى : {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض} فيعلموا أنهم حيث كانوا، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، لا يخرجون من أقطارها، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني؟ {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ} قطعة. قراءة العامة بالنون في الثلث، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال : لذكر اللّه عز وجل قبله. {إِنَّ فِى ذلك لآية لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه. ١٠قوله تعالى : {ولقد آتينا داوُد منا فضلاً يا جبال} مجازه وقلنا : يا جبال {أَوِّبِى مَعَهُ} : سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة : هو بلسان الحبشة، وقال بعضهم : هو التفعيل من الإياب، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد، وقال وهب بن منبّه : نوحي معه. {وَالطَّيْرُ} تساعدك على ذلك، قال : وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم. ويقال : إن داود كان إذا سبح اللّه جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه : (لأعبدن اللّه تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها)، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة، فأوحى اللّه سبحانه إلى الجبال أن آنسي داوُد قال : فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل، فقال داوُد في نفسه : (كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟) فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فركله برجله فانفرج له البحر، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز، فقال له الملك : إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع. وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً. قال ابن مقبل : لحقنا بحي أوّبوا السيرَ بعدما دفعنا شعاعَ الشمسِ والطرفُ مجنحُ كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه، وقيل : سيري معه كيف يشاء : {وَالطَّيْرُ} قراءة العامة بالنصب، وله وجهان : أحدهما بالفعل، مجازه : وسخرنا له الطيرَ، مثل قولك : (أطعمته طعاماً وماء) تريد : وسقيته ماء، والوجه الآخر النداء كقولك : يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت؛ لأنه إنما يُدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته، فنصب، وقيل : مع الطير، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب. وروي عن يعقوب بالرفع؛ رداً على {الْجِبَالُ} أي أوبي معه أنتِ والطير، كقول الشاعر : ألا يا عمرو والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق يجوز نصب الضحاك ورفعه. قوله : {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد، وكان سبب ذلك على ما رُوي في الأخبار أن داوُد (عليه السلام) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه، تقدم إليه يسأله عن داوُد، فيقول له : (ما تقول في داوُد واليكم هذا؛ أي رجل هو؟) فيثنون عليه ويقولون : خيراً فينا هو. فبينا هو في ذلك يوماً من الأيام إذ قيّض اللّه ملكاً في صورة آدمي، فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك : نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داوُد ذلك وقال : (ما هي يا عبد اللّه؟) قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال : فتنبه لذلك، وسأل اللّه تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان اللّه له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها. فيُقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضاً : إنما ألان الحديد في يده لما أُعطي من القوّة. ١١{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} دروعاً كوامل واسعات {وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ} ، أي لا تجعل المسامير دقاقاً فتغلق ولا غلاظاً فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك : وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد : صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها : السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب : وعليهما مسرودتان قضاهما داوُد أو صنع السوابغ تُبّع وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز : سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ : كما تابعت سرد العنان الخوارز وسرد الكلام. {وَاعْمَلُوا} يعني داوُد وآله {صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . ١٢قوله : (ولسليمان الريح قراءة العامة بنصب الحاء، أي وسخرنا لسليمان الريح، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا} من انتصاف النهار إلى الليل مسير {شَهْرٍ} ، فجعل (ما) تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، وقال وهب : ذُكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة (كتبها) بعض صحابة سليمان (عليه السلام)، إما منَ الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه، مبنياً وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء اللّه فبائتون بالشام. قال الحسن : لما شغلت نبي اللّه سليمان بن داوُد الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب للّه فعقر الخيل، فأبدله اللّه تعالى مكانها خيراً وأسرع له، تجري بأمره كيف يشاء {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل. وقال ابن زيد : كان له (عليه السلام) مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلهم معه الجيوش. ويروى أن سليمان (عليه السلام) سار من أرض العراق غادياً فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخللاً بلاد الترك، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياماً وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره بمدينة تدمر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة : ألا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفندِ وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمدِ ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داوُد (عليهما السلام) : ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح إلى الأوطان من أرض تدمرِ إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدوّ لآخر أُناس شروا للّه طوعاً نفوسهم بنصر ابن داوُد النبي المطهّرِ لهم في معالي الدين فضل ورفعة وإن نسبوا يوماً فمن خير معشرِ متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصّرِ تظلهمُ طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفرِ قوله : {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} : وأذبنا له عين النحاس أُسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج اللّه لسليمان. {وَمَن يَزِغْ} : يملْ ويعدل {عَنْ أَمْرِنَا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} في الآخرة. عن أكثر المفسرين، وقال بعضهم : في الدنيا، وذلك أن اللّه تعالى وكّل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته. ١٣{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ} : مساجد ومساكن وقصور، والمحراب : مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي : كدُمى العاج في المحاريب أو كال بيض في الروض زهره (مستنير) وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن اللّه تعالى بارك في نسل إبراهيم (عليه السلام) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يُحصون، فلما كان زمن داوُد (عليه السلام) لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادُون كثرة، فأُعجب داوُد بكثرتهم فأمر بعدّهم، فكانوا يعدون زماناً من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمُهُم بعدد بني إسرائيل، فأوحى اللّه إلى داوُد : (إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح ولده فصدقني وائتمر أمري أن أُبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم) وخيرّه بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يُسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يُرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام. فجمع داوُد بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى اللّه إليه وخيره فيه، فقالوا : أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا (عليه) وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لابد فالموت. فأمرهم داوُد عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجّوا إلى اللّه تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال : وارتفع داوُد (عليه السلام) فوق الصخرة فخرّ ساجداً يبتهل إلى اللّه تعالى فأرسل اللّه فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلاّ بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داوُد وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف اللّه عنهم الطاعون. قالوا : فلما أن شفّع اللّه تعالى داوُد في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داوُد بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم : (إن اللّه سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكراً). فقالوا : كيف تأمرنا. قال : (آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر). فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل : إنّ لي فيه موضعاً أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له : يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلاّ وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال : أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له : إما إن ترضى وتطيب نفساً، وإلاّ أخذناه كرهاً. فقال لهم : أوتجدون ذلك في حكم اللّه وفي حكم داوُد؟ قال : فرفعوا خبره إلى داوُد فقال : (أرضوه). فقالوا : بكم نأخذه يا نبي اللّه؟ قال : (خذوه بمائة شاة). فقال الرجل : زد. فقال داوُد : (بمائة بقر). قال : زد. قال : (مائة إبل). قال : زدني فإنّ ما تشتريه للّه تعالى. فقال داوُد : (أما إذا قلت هذا، فاحتكم أُعطكه) فقال : تشتري مني بحائط مثله زيتوناً ونخلاً وعنباً. قال : (نعم). فقال : تشتريه للّه فلا تبخل. قال : (سل ما شئت أُعطكه، وإن شئت أُؤاجرك نفسي) قال : وتفعل ذلك يا نبي اللّه؟ قال : (نعم إذا شئت). قال : أنت أكرم على اللّه من ذلك، ولكنك تبني حوله جداراً مشرفاً ثم تملؤه ذهباً، وإن شئت ورقاً. قال داوُد : (هو هين). فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال : هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداوُد : يا نبي اللّه لئن يغفر اللّه لي ذنباً واحداً أحبُّ إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أُجرّبكم. فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داوُد (عليه السلام) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى اللّه تعالى إلى داوُد (عليه السلام) : (إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أُملكه بعدك اسمه سليمان، أُسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقياً). فصلوا فيه زماناً، وداوُد يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفّاه اللّه واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضاً، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطاً. فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقاً، فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر، فأُتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ اللّه تعالى، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها، فتصوّت صوتاً شديداً لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم : (هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟). فقالوا : يا رسول اللّه، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علماً من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعاً وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد : جني ولا شيطان إلاّ انقاد له بإذن اللّه عزّت قدرته. فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفاً، فأقبل مسرعاً مع الرسل حتى دخل على سليمان (عليه السلام). فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا : يا رسول اللّه إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان (عليه السلام) : (ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعاً حتى صرت تسخر بالناس؟). فقال : يا نبي اللّه إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّباً مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان : (وما ذاك؟). قال : اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة. ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله. ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلاً دفن في موضع فراشها ذهباً كثيراً في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعاً وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها. ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبّب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلاّ أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه. ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلاً، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزناً فضحكت من ذلك. ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى اللّه تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فملَّ منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاؤوا فجلسوا، فضحكت؛ تعجباً للقضاء والقدر. قالوا : فقال سليمان له : هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئاً تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال : نعم يا نبي اللّه، أعرف حجراً أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى يُنقبه به ليصل إلى فراخه. قال : فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوماً وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به الصندوق حتى وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفراً من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين. قال : فبنى سليمان (عليه السلام) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه للّه وأنّ كل شيء فيه خالص للّه، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً. وقالوا : من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أنْ بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورِع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة. ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده. وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد اللّه بن الديلمي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه اللّه الثالثة : سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أنْ لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أُمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك). قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان (عليه السلام) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق. قال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه : (بصلوات أبي داوُد إلاّ فتحت الأبواب). ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل : خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلاّ واللّه يعبد فيها. {وَتَمَاثِيلَ} أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم. {وَجِفَانٍ} أي قصاع، واحدها جفنة {كَالْجَوَابِ} كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية. قال الأعشى ميمون بن قيس : تروح على آل مخلق جفنة كجابية الشيخ العراقي تفهق أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال : أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد اللّه بن مسلم قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا سهل السرّاج قال : سمعت الحسن يقول : (وجفان كالجواب) مثل حياض الإبل، ويقال : إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه. {وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} : ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال : رواسي {اعْمَلُوا} أي وقلنا : اعملوا {آل داوُد شكراً} مجازه : اعملوا بطاعة اللّه يا آل داوُد شكراً له على نعَمه، و {شَاكِرًا} في محل المصدر. {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} أرسل حمزة (الياء) وفتحها الباقون. قال القرظي : الشكر : تقوى اللّه والعمل بطاعته. وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال : حدثنا الحصر بن أبان قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا جعفر بن سليمان قال : سمعت ثابتاً يقول : كان داوُد نبي اللّه (عليه السلام) قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داوُد قائم يصلي، فعمهم اللّه تعالى في هذه الآية {اعملوا آل داوُد شكراً} . ١٤{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} قال المفسرون : كان سليمان (عليه السلام) يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يُدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلاّ نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها : (ما اسمك؟) فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا، فيقول لها : (لأيّ شيء أنت؟) فتقول : لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع. فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب. فبينما هو يُصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها : (ما اسمك؟). قالت : الخروبة. قال : (ولأيّ شيء نبتّ؟) قالت : لخراب هذا المسجد. فقال سليمان : (ما كان اللّه ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهكِ هلاكي، وخراب بيت المقدس). فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : (اللّهم عمِّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب) وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد ثم دخل المحراب فقام يُصلي متكئاً على عصاه فمات. قال ابن زيد : قال سليمان لملك الموت : (إذا أُمرت بي فاعلمني). قال : فأتاه فقال : (يا سُليمان قد أُمرتُ بك، وقد بقيت لك سويعة). فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب، فقام يُصلي واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكىء على عصاه. وفي رواية أُخرى : أنّ سليمان (عليه السلام) قال ذات يوم لأصحابه : (قد آتاني اللّه من الملك ما ترون، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غداً). فلما كان من الغد دخل قصراً له وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئاً يسوؤه، ثم أخذ عصاه بيده، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره، فقال : (السلام عليك يا سليمان). فقال : (وعليك السلام، كيف دخلت هذا القصر، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحُجّاب؟ أما هِبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟) فقال : (أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن) قال سُليمان : (فمن أذن لك في دخوله؟) قال : (ربه). فارتعد سُليمان وعلم أنه ملك الموت، فقال له : (أنت ملك الموت؟) قال : (نعم)، قال : (فبمّ جئت؟). قال : (جئت لأقبض روحك). قال : (يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني). قال : (يا سُليمان، إنك أردت يوماً يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارضَ بقضاء ربك فإنه لا مرد له). قال : (فامضِ لما أُمرتَ به). فقبض ملك الموت روحه وهو متكىء على عصاه. قالوا : وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان، فكان للمحراب كُوَى بين يديه وخلفه، وكان الشيطان الذي يُريد أن يخرج يقول : ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أُولئك فمر ولم يسمع صوت سُليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سُليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا مذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك. وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سُليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة : لو كنتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناكِ أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليكِ الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال : ألم ترَ إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكراً لها، فذلك قوله تعالى : {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَآبَّةُ الأرض} وهي الأرضة، ويُقال لها : القادح أيضاً وهي دويبة تأكل العيدان. {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاه، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها، وقال طرفة : أمون كألواح الأران نسأتها على لاحب كأنه ظهر بُرجُدِ أي سقتها، وهمزها أكثر القراء، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة، وهما لغتان، وقال الشاعر في الهمز : ضربنا بمنسأة وجهه فصار بذاك مهيناً ذليلاً وقال الآخرون في ترك الهمز : إذا دببت على المنساة من هرم فقد تباعد عنك اللّهو والغزل قوله : {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ} ، و{ءَانٍ} في محل الرفع؛ لأن معنى الكلام : فلما خر تبين وانكشف أنْ لو كان الجن أي ظهر أمرهم، وفي قراءة ابن مسعود أنْ لو كان الجن يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين، وقيل : {ءَانٍ} في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أنْ لو كانوا يعلمون. وقال أهل التاريخ : كان عمر سليمان (عليه السلام) ثلاثاً وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه واللّه أعلم. ١٥قوله تعالى : {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مُسيك الغطيفي قال : قال رجل : يا رسول اللّه، أخبرني عن سبأ ما كان؛ رجلاً أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً؟ فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلاً من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة؛ فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير). فقال رجل : وما أنمار؟ قال : (الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان). والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ، وقد قرىء بهما جميعاً فالإجراء على أنه اسم رجل معروف، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو (هذه تميم). واختاره أبو عبيد لقوله : {فِى مَسَاكِنِهِمْ} ، واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والنخعي : (مسكنهم) بفتح الكاف على الواحد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد. الباقون : {مَسَاكِنِهِمْ} جمع. {ءَايَةً} دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسرها فقال : {جَنَّتَانِ} أي هي جنتان : بستانان {عَن يَمِينٍ} من أتاهما {وَشِمَالٍ} وعن شماله {كُلُوا} : وقيل لهم : كلوا {مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} على ما أنعم عليكم، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال : {بَلْدَةٌ} أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة {طَيِّبَةً} ليست بسبخة. قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلاّ أنْ ينظروا لى بيوتهم فتموت الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئاً بيده فذلك قوله سبحانه : {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} الهواء، {وَرَبٌّ غَفُورٌ} الخطأ كثير العطاء. ١٦قوله تعالى : {فَأَعْرِضُوا} ، قال وهب : بعث اللّه إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى اللّه، وذكروهم نعَمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف للّه علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فذلك قوله عز وجل : {فَأَعْرِضُوا} . {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} ، والعرم : السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة. وقال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان هذا السد يسقي جنتيهم، وكان فيما ذُكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا : لترجِعنَّ أو لنقتلنّكِ. فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول. قالوا : فإنا نطيعكِ فإنا لم نجد فينا خيراً بعدكِ. فجاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فأُلقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعاً معاً فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سُليمان ما كان. وبقوا على ذلك بعدها، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة. فلما طغوا وكفروا، سلط اللّه عليهم جرذاً يسمى الخَلَد فنقب من أسفله، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم. وقال وهب : وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلاّ ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان وما أراد اللّه بهم من التفريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتَهم الرملُ، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلاً عند العرب (فقالوا) : تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، فذلك قوله تعالى : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . وقيل : العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان. {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أُكل خمط} قراءة العامة بالتنوين، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة، وهما متقاربتان كقول العرب : في بستان فلان أعنابُ كرم وأعنابٌ كرمٌ، فتضيف أحياناً الأعناب إلى الكرم؛ لأنه منه، وتنون أحياناً الأعناب، ثم يترجم بالكرم عنها؛ إذ كانت الأعناب ثمر الكرم. والأكل : الثمر، والخمط : الأراك في قول أكثر المفسرين، وقيل : كل شجرة ذات شوك، وقيل : شجرة الغضا، وقيل : هو كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله، {وَأَثْلٍ} وهو الطرفاء، عن ابن عباس، وقيل : هو شجر شبيه بالطرفاء إلاّ أنه أعظم منه، وقال الحسن : الإثل الخشب. قتادة : ضرب من الخشب، وقيل : هو السمر. أبو عبيدة : هو النضار. {وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} ، قال قتادة : بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره اللّه من شر الشجر بأعمالهم. قال الكلبي : فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرُسل ١٧{ ذلك } الذي جعلنا بهم، {جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا} أي بكفرهم، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا : {وهل نجازي إلاّ الكفور} قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء، واختاره أبو عبيدة قال : (لقوله) : {جَزَيْنَاهُم} ، ولم يقل : جُوزوا، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء، ومعنى الآية : وهل يُجازى مثل هذا الجزاء إلاّ الكفور، وقال مجاهد : يجازي أي يُعاقب. ١٨{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام {قُرًى ظَاهِرَةً} أي متواصلة تظهر الثانية من الأُولى لقربها منها. قال الحسن : كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أُخرى، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك. وقال ابن عباس : قرئ ظاهرة يعني : قرئ عربيّة بين المدينة والشام. سعيد بن جُبير : هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد : هي السروات، وهب بن منبه : هي قرى صنعاء. {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيراً مقدراً من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، لا ينزلون إلاّ في قرية، ولا يغدون إلاّ في قرية، وقلنا لهم : {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّامًا} وقت شئتم {ءَامِنِينَ} : لا تخافون عدوّاً ولا جوعاً ولا عطشاً، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا : لو كان جَنْيُ جِنانِنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه. ١٩{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} : فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد. فجعل اللّه لهم الإجابة، واختلف القراء في هذه الآية؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : (ربنا بعّد)، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد)، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب : {رَبَّنَآ} برفع الباء {بَاعِدْ} بفتح الباء والعين والدال على الخبر، وهي اختيار أبي حاتم، استبعدوا أسفارهم بطراً منهم وأشراً، وقرأ الباقون : {رَبَّنَآ} بفتح الباء، {بَاعِدْ} بالألف وكسر العين وجزم الدال على الدعاء، ففعل اللّه ذلك بهم، فقال : {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والبطر والطغيان، {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} : عظة وعبرة يتمثل بهم، {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} ، قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان. وقال ابن إسحاق : يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم كان كاهناً فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا همَ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكاسن أو كرود، قال : فكان وادعة بن عمرو. ومن كان منكم يُريد عيشاً هانئاً وحرماً آمناً فليلحق بالأردن فكانت خزاعة، ومن كان منكم يُريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكان الأوس والخزرج، ومن كان منكم يُريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً وملكاً وتأميراً، فليلحق بكوثى وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام، ومن كان منهم بالعراق. {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} قال مطرف : هو المؤمن الذي إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر. ٢٠قوله : {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ} ، قرأ أهل الكوفة : بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد، أي ظن فيهم ظناً حيث قال : {فَبِعِزَّتِكَ غْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، وقال : {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه، وقرأ الآخرون : {صَدَقَ} بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم. {عَلَيْهِمْ} أي على أهل سبأ، وقال مجاهد : على الناس كلّهم إلاّ من أطاع اللّه ٢١{فاتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان} إلاّ تسليطنا إياه عليهم {لَنَعْلَمُ} : لنرى ونميز، ونعلمه موجوداً ظاهراً كائناً موجباً للثواب والعقاب، كما علمناه قبل مفقوداً معدوماً بعد ابتلاء منا لخلقنا. قال الحسن : واللّه ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلاّ أماني وغروراً دعاهم إليها. {مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ} الآية. ٢٢{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم : {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} أنهم آلهة {مِن دُونِ اللّه} ، ثم وصفها فقال : {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلا فِى الأرض} من خير وشر وضرّ ونفع، فكيف يكون إلهاً من كان كذلك؟ {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا} أي في السماوات والأرض {مِن شِرْكٍ} شركة {وَمَا لَهُ} أي للّه {مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} : عون. ٢٣{وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} تكذيباً منه لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي : (أُذن) بضم الألف، واختلف فيها عن عاصم، وقرأ غيرهم : بالفتح. {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ} قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي، (وقرأ) غيرهما : بضم الفاء وكسر الزاي، أي كشف الفزع، وأخرج {عَن قُلُوبِهِمْ} ، وأخبرني ابن فنجويه قال : أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال : حدثنا أبو عبيد القاضي قال : أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها حتى (إذا فرع عن قلوبهم) بالراء والعين يعني : فرعت قلوبهم من الخوف. واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة؛ من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟ فقال قوم : هم الملائكة، ثم اختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم : إنما يُفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام اللّه سبحانه. أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال : حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد اللّه قال : إذا تكلم اللّه عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجداً، فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم. قال : فيُرد إليهم، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضاً : {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} فرفعه بعضهم. وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال : حدثنا علي بن أشكاب قال : أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل (عليه السلام)، فإذا جاءهم جبرائيل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل ماذا قال ربك؟ قال : يقول : الحق، فينادون : الحق الحق). والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن محمد الفقيه قال : أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال : أخبرنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إنّ نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إذا قضى اللّه عز وجل الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : للذي قال : الحق وهو العلي الكبير). وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرَّحْمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال : قال رسول اللّه ( : (فإذا سمع بذلك أهل السماوات، صعقوا وخرّوا للّه سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه اللّه من وحيه بما أراده، ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل : قال الحق وهو العلي الكبير. قال : فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر اللّه). وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال : قال الحرث ابن هشام لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كيف يأتيك الوحي؟ قال : (يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته، ويأتيني أحياناً في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاماً وهو أهون عليّ). وقال بعضهم : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة. وقال الكلبي : كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) فترة زمان طويلة لا يجري فيها الرسل خمسمائة وخمسين عاماً، فلما بعث اللّه محمداً (عليه السلام) كلّم اللّه جبرائيل بالرسالة إلى محمد، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا. فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كلّ سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم، فيقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم قالوا : قال الحق وهو العلي الكبير؛ وذلك أنّ محمداً عند أهل السماوات من أشراط الساعة، فلما بعثه اللّه تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلاّ أنها الساعة. وقال الضحاك : إنّ الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً ويصعقون، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا تنبيه من اللّه سبحانه وإخبار أنّ الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أنْ يشفعوا لأحد إلاّ أنْ يؤذن لهم، فإذا أذن اللّه لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم. فكيف تشفع الأصنام؟ وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون. قال الحسن وابن زيد يعني : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم، قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا : الحق، فأقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة : {ولوترى إذا فُزعوا فلا فوت} . ٢٤{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلِ اللّه وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل : أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأنّ صاحبه كاذب. والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد، إنّ أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال. فالنبيّ ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب. وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود : يقول الأرذلون بنو قُشير : طوالَ الدهر لا تنسى عليّا بنو عم النبي وأقربوه أحبُّ الناس كلّهمُ إلَيّا فإن يك حبهم رشداً أصبْهُ وليس بمخطئ إن كان غياً فقاله من غير شك، وقد أيقن أن حبهم رشد. وقال بعضهم : {أَوْ} بمعنى الواو، يعني : إنا لعلى هدىً وإنكم إياكم لفي ضلال مبين، كقول جرير : أثعلبة الفوارس أو رياحا عدلت بهم طُهيّة والخشابا يعني ثعلبة ورياحا. ٢٥-٢٧{قل لا تسئألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا} يوم القيامة {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا} : يقضي بيننا {بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء} يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئاً أم لهم شرك في السماوات : وتفسيرها في سورة (الملائكة) و (الأحقاف). ثم قال تعالى {كَلا بَلْ هُوَ اللّه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه، الحكيم في تدبيره لخلقه، فأنّى يكون له شريك في ملكه؟ ٢٨قوله عز وجل : {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَآفَّةً} عامة {لِلنَّاسِ} كلهم؛ العرب والعجم وسائر الأُمم. أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا (يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً : بُعثت إلى الأحمر والأسود، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة، وهي إن شاء اللّه نائلة من لم يشرك باللّه شيئاً). وقيل : معناه كافّ للناس. يكفّهم عما هم عليه من الكفر، ويدعوهم إلى الإسلام، والهاء فيه للمبالغة. ٢٩-٣١{بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} من الكتب، ثم أخبر حالهم في مآلهم، فقال : {ولوترى إذ الظالمون} : الكافرون {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} يتلاومون ويحاور بعضهم بعضاً ٣٢-٣٣{يقول الذين استُضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استُضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار} أي مكركم بنا. فهما كما يُقال : عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم. قال الشاعر : ونمت وما ليل المطي بنائم وقيل : مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله : {وطال عليهم الأمد} ، ونحوه. {إذ تأمروننا أن نكفر باللّه، نجعل له أنداداً وأسرّوا} : أظهروا {النَّدَامَةَ} ، وهو من الأضداد؛ يكون بمعنى الإخفاء، والإبداء {لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا اغْلَالَ} : الجوامع من النار {فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} : الأتباع والمتبوعين، {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدنيا؟ ٣٤{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ} : رسول {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ} : رؤساؤها وأغنياؤها ٣٥{إنا بما أُرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولادا} منكم، ولو لم يكن راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد. ٣٦{وما نحن بمعذبين قل إنّ ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} ، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب، {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ} أنها كذلك. ٣٧{وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءَامَنَ} : لكن من آمن {وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَاكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} من الثواب بالواحد عشرة، و {مِنْ} يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون محله نصباً بوقوع عليه، والآخر : رفع تقديره : وما هو إلاّ من آمن. {وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ} الدرجات {ءَامِنُونَ} . وقراءة العامة : {جَزَآءُ الضِّعْفِ} بالإضافة، وقرأ يعقوب : (جزاءً) منصوباً منّوناً. الضعف رفع مجازه : فأُولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير، وقراءة العامة : الغرفات بالجمع، واختاره أبو عبيد قال : لقوله : {لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا} ، وقرأ الأعمش وحمزة : (في الغرفة) على الواحدة. ٣٨{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ} : يعملون {وَإِذَا رَأَيْتَ} بإبطال حججنا وكتابنا، و{مُعَاجِزِينَ} معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا، {أُولَاكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} ٣٩{قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} . قال سعيد بن جبير : ما كان من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة فهو يخلفه إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد اللّه قال : حدثنا أبي قال : حدثنا علي بن داوُد القنطري قال : حدثنا عبد اللّه بن صالح، قال : حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (إنّ اللّه عزّ وجل قال لي : أنفق أُنفق عليك). وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال : حدثنا صالح ابن محمد عن سُليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يُنادي مناد كلّ ليلة : لدوا للموت وينادي مناد : ابنوا للخراب، ويُنادي مُناد : اللّهمّ هب للمنفق خلفاً، ويُنادي مناد : اللّهم هب للممسك تلفاً، وينادي مناد : ليت الناس لم يخلقوا، وينادي مناد : ليتهم إذ خُلقوا فكروا فيما له خُلقوا). وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال : حدثنا موسى بن محمد قال : حدثنا الحسن بن علويه قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا المسيب، قال : حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرَّحْمن عن أبيه قال : قال عمر لصهيب : إنك رجل لا تمسك شيئاً، قال : إني سمعت اللّه عز وجل يقول : {ما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه} . {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، وأخبرني أبو سُفيان الثقفي قال : حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدثنا الحسن بن داوُد الخشاب قال : حدثنا سُويد بن سعيد قال : حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة، وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على اللّه ضامن إلاّ ما كان نفقة في بنيان أو معصية). قال عبد الحميد : فقلت لمحمد : ما معنى (ما يقي به الرجل عرضه)؟ قال : يُعطي الشاعر أو ذا اللسان المتّقى. وقال مجاهد : إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فإنّ الرزق مقسوم، فلعل رزقه قليل وهو يُنفق نفقة الموسع عليه، ومعنى الآية (ما كان من خلف فهو منه)، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلاً حتى يموت، ولكن ما كان من خلف فهو منه، ودليل تأويل مجاهد ما أخبرني أبو سُفيان الحسين بن محمد بن عبد اللّه قال : حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال : أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عمرو بن الحصين قال : حدثنا ابن علانة وهو محمد عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أُمامة قال : إنكم تؤوّلون هذه الآية على غير تأويلها {وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} . وسمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول وإلاّ فصُمتا : (إياكم والسّرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا). وقال (عليه السلام) : (ما عال من اقتصد). وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا عاصم بن خالد قال : أخبرني أبو بكر قال : حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من فقه الرجل رفقه في معيشته). {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وإنما جاز الجمع؛ لأنه يُقال : رزق السلطان الجند، وفلان يرزق عياله، كأنه قال : وهو خير المعطين. ٤٠{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يعني هؤلاء الكفّار {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَاكَةِ أَهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} في الدُّنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول : ٤١{سُبْحَانَكَ} : تنزيهاً لك. {أَنتَ وَلِيُّنَا} : ربنا {مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك. {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} : مصدقون. قال قتادة : هو استفهام تقديره كقوله لعيسى : {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ} . ٤٢{فَالْيَوْمَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا} : شفاعة ولا عذاباً، {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} في الدُّنيا فقد وردتموها. ٤٣{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَآ } يعني محمداً (عليه السلام) {إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَآ إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى} يعنون القرآن ٤٤{وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إنْ هذا إلاّ سحرٌ مبين وما آتيناهم} هؤلاء المشركين {مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} يقرؤونها ٤٥{وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير وكذب الذين من قبلهم} من الأُمم رسلنا وتنزيلنا {وَمَا بَلَغُوا} يعني هؤلاء المشركين {مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ} يعني مكذبي الأُمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر {فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} : إنكاري وتغيري عليهم، يحذر كفار هذه الأُمة عذاب الأُمم الماضية. ٤٦قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم} آمركم وأُوصيكم {بِوَاحِدَةٍ} بخصلة واحدة وهي {أَن تَقُومُوا للّه} لأجل اللّه و {ءَانٍ} في محل الخفض على البيان من {وَاحِدَةٌ} والترجمة عنها {مَثْنَى} يعني اثنين اثنين متناظرين، {وَفُرَادَى} واحداً واحداً متفكرين {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} جميعاً، والفكر : طلب المعنى بالقلب، فتعلموا، {مَا بِصَاحِبِكُم} محمد {مِّن جِنَّةٍ} جنون كما تقولون، و {مَآ} جحْد ونفي. ٤٧{إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد قل ما سألتكم} على تبليغ الرسالة والنصيحة {مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللّه} أي ما ثوابي إلاّ على اللّه ٤٨{وهو على كل شيء شهيد قل إن ربي يقذف} : يرمي ويأتي {بِالْحَقِّ} ينزله من السماء إلى خير الأنبياء، {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} رفع بخبر {ءَانٍ} . ٤٩{قُلْ جَآءَ الْحَقُّ} القرآن والإسلام، وقال الباقر : يعني السيف. {وما يبدئ الباطل وما يُعيد} يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبقَ له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . وقال الحسن : والباطل، وهو كل معبود من دون اللّه لأهله خيراً في الدنيا وفي الآخرة. وقال قتادة : الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد اللّه بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد اللّه بن مسعود قال : دخل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول : {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يُعيد} . ٥٠{قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى} وآخذ بجنايتي {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} . ٥١{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة {وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} يعني عذاب الدُّنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم : هو يوم بدر. الكلبي : من تحت أقدامهم. وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي : {ولوترى إذ فزعوا فلا فوت} قال : خسف بالبيداء. أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال : أخبرنا محمد بن جرير قال : حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سُفيان بن سعيد قال : حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب : (فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين : جيشاً إلى المشرق، وجيشاً إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مئة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدىً من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث اللّه سبحانه جبرائيل (عليه السلام) فيقول : يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف اللّه بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ : {ولوترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} فلا ينفلت منهم إلاّ رجلان : أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة).. فلذلك جاء القول : (وعند جهينة الخبر اليقين). وقال قتادة : ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل : إذا عاينوا عذاب اللّه يوم القيامة وأُخذوا من مكان قريب؛ لأنهم حيث كانوا فهم من اللّه قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه. ٥٢{وَقَالُوا} حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس {بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ} : من أين {لَهُمُ التَّنَاوُشُ} تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟ قال ابن عباس : يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : (التناؤش) : بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يُقال : تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء. قال الشاعر : تمنى نئيشاً أن يكون أطاعني وقد حدثت بعد الأُمور أُمور وقال آخر : وجئت نئيشاً بعدها فاتك الخبر وقرأ الباقون : بغير همز، من التناول. يُقال : نشته نوشاً إذا تناولته. قال الراجز : فهي تنوش الحوض نوشاً من علا نوشاً به تقطع أجواز الفلا وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً وتدانوا، واختار أبو عبيد : ترك الهمز؛ لأنّ معناه : التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول : أنى لهم البعد {مِن مَّكَان بَعِيدٍ} : من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟ ٥٣{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ} ، أي من قبل نزول العذاب {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَان بَعِيدٍ} ، يعني يرمون محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) بالظنون لا باليقين، وهو قولهم : إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة : يعني يرجمون بالظن، يقولون : لا بعث ولا جنّة ولا نار. ٥٤{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} ، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدُّنيا {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم} أي أهل دينهم وموافقهم من الأُمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس {إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ مُّرِيب} . |
﴿ ٠ ﴾