سورة فاطر

أخبرني محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن مطير النيسابوري قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من الجنّة أنِ ادخل من أي الأبواب شئت).

بسم اللّه الرَّحْمن الرحيم

١

قوله عز وجل : {الْحَمْدُ للّه فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض جَاعِلِ الْمَلَاِكَةِ رُسُلا أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} يعني في أجنحة الملائكة.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : حدّثنا ابن شاذان قال : حدّثنا جعونة بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدثنا مسلم بن اياس عن عبد اللّه بن المبارك عن ليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سأل جبرائيل (عليه السلام) : أن يتراءى لهُ في صورته،

فقال له جبرائيل (عليه السلام). (إنك لن تطيق ذلك). قال : (إني أُحبُّ أن تفعل).

فخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى المصلّى في ليلة مقمرة،

فأتاه جبرائيل (عليه السلام) في صورته،

فغشي على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حين رآه،

فلما أفاق وجبرائيل (عليه السلام) مسنده واضعاً إحدى يديه على صدره والأُخرى بين كتفيه،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (سبحان اللّه ما كنت أرى أنّ شيئاً من الخلق هكذا). فقال جبرائيل عليه السلام : (فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام؟

إنّ له لاثني عشر جناحاً؛ جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب،

وإنّ العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة اللّه عز وجل حتى يعود هذا الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرشه إلاّ عظمته).

وأخبرني أبو الحسن الساماني قال : أخبرني أبو حامد البلالي عن العباس بن محمد الدوري قال : أخبرني أبو عاصم النبيل عن صالح التاجي عن ابن جريج عن ابن شهاب في قول اللّه عز وجل : {يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} قال : حسن الصورة.

وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن عبد اللّه بن محمد بن سنان عن سلمة بن حبان عن صالح التاجي عن الهيثم القارئ قال : رأيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في المنام فقال : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟

جزاك اللّه خيراً،

وقيل : الخطّ الحسن.

أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شيبة عن ابن زنجويه عن سلمة عن يحيى بن أحمد الفزار ويحيى ابن أكثم قالا : أخبرنا أبو اليمان عن عاصم بن مهاجر الكلاعي عن أبيه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الخط الحسن يزيد الحق وضحاً.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد اللّه بن يوسف قال : حدّثني الحسن بن علي بن يزيد الوشاء عن علي بن سهل الرملي قال : أخبرني الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج عن قتادة في قول اللّه عز وجل : {يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ} قال : الملاحة في العينين.

{إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} من الزيادة والنقصان.

٢

{مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} نعمة،

{فَلا مُمْسِكَ لَهَا} : لا يستطيع أحد حبسها {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} فيما أمسك {الْحَكِيمُ} فيما أرسل.

٣

{يا أيها الناس اذكروا نعمة اللّه عليكم هل من خالق غير اللّه} . قرأ سفيان بن سلمة وأبو جعفر وحمزة والأعمش والكسائي : {غَيْرَ} بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. الياقوت : بالرفع.

وهذه الآية حجة على القدرية؛ لأنه نفى خالقاً غيره وهم يثبتون معه خالقين كثيرين.

٤

{يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلاّ هو فأنى تؤفكون وإنْ يكذبوك فقد كُذبت رُسلٌ من قبلك} فعزى نبيه (صلى اللّه عليه وآله وسلم)،

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ} ،

٥

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } قراءة العامة بفتح الغين،

وهو الشيطان،

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن يزيد المقري عن محمد بن المصفى عن أبي حياة،

قرأ : {وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللّه الْغَرُورُ} برفع الغين،

وهي قراءة ابن السماك العدوي يدل عليه وماحدثنا.

قال : أخبرناعبد اللّه بن حامد محمد بن خالد قال : أخبرنا داوُد بن سليمان قال : أخبرنا عبد بن حميد عن يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن عبد اللّه بن عقبة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير : {فلا يغرنّكم باللّه الغرور} قال : أن يعمل المعصية ويتمنّى العفو.

٦

{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} : فعادوه ولا تطيعوه {إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ} : أشياعه وأولياءه {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ليسوقهم إلى النار،

فهذه عداوته ثم بيّن حال موافقيه ومخالفيه فقال عزّ من قائل :

٧

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .

٨

قوله : {أفمن زين له} أي شُبّة وموّه وحُسّنَ له {سُوءُ} : قبح عمله وفعله {فَرَءَاهُ حَسَنًا} زين ذلك الشيطان بالوسواس ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق،

واللّه سبحانه وتعالى يخلقه ذلك في قلبه،

وجوابه محذوف مجازه : أفمن زين له سُوء عمله كمن لم يزين له سوء عمله ورأى الحق حقاً والباطل باطلاً؟

نظيره قوله : {أَفَمَنْ هُوَ قَآمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} ،

وقوله {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} ونحوها.

وقيل : معناه : أفمن زين له سوء عمله فأضلّه اللّه كمن هداه؟

دليله قوله : {فَإِنَّ اللّه يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} .

وقيل : معناه تحت قوله : {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ،

فيكون معناه : أفمن زُيّن له سوء عمله فأضله اللّه ذهبت نفسك عليه حسرة،

أي تتحسف عليه؟

فلا تذهب نفسك عليهم حسرات،

وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير،

مجازه : أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فلا تُذهب نفسك عليهم حسرات فإنّ اللّه يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء،

والحسرة : شدة الحزن على ما فات من الأمر.

وقراءة العامة : (تذهَبَ نفسُك) : بفتح الباء والهاء وضم السين،

وقرأ أبو جعفر بضم التاء وكسر الهاء وفتح السين،

ومعنى الآية : لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إذ لم يؤمنوا،

نظيره {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} .

{إِنَّ اللّه عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ} .

٩

{وَاللّه الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا كذلك النُّشُورُ} من القبور.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن محمد بن خالد عن داوُد بن سليمان عن عبد بن حميد عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال : قلت يا رسول اللّه : كيف يحيي اللّه الموتى؟

وما آية ذلك في خلقه؟

فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (هل مررت بواد أهلك محلاً ثم مررت به يهتز خضرا؟)

قلت : نعم.

قال : (فكذلك يحيي اللّه الموتى،

وتلك آيته في خلقه).

١٠

قوله عز وجل {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} ،

يعني علِم العزة لمن هي،

{فَللّه الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ،

وذلك أنّ الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله : {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا} ،

وقال سبحانه : {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّه ءَالِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} ،

كلاّ،

وردّ اللّه عليهم : من آراد أن يعلم لمن العزّة الحقيقية فآية العزّة للّه،

ومن أراد أن يكون في الدراين عزيزاً فليطع اللّه فإنّ العزّة للّه جميعاً.

{إِلَيْهِ} أي إلى اللّه،

ومعناه : إلى محل القبول وإلى حيث لا يملك فيه الحكم إلاّ اللّه عز وجل،

وهو كما يُقال : ارتفع أمرهم إلى القاضي.

{يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}

يعني : (لا إله إلاّ اللّه) وكل ذكر مرضي للّه تعالى،

وقرأ أبو عبد الرَّحْمن : (الكلام الطيب)،

وأخبرني أبو عبد اللّه الحسين بن محمد بن عبد اللّه الدينوري قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن أحمد الهمداني قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد المسكين البصري عن أحمد بن محمد المكي عن علي بن عاصم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قول اللّه تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} قال : (هو قول الرجل : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر،

إذا قالها العبد عرج بها ملك إلى السماء فحيا بها وجه الرَّحْمن عزّ وجل،

فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه).

واختلف العلماء في حكم هذه الكناية ومعنى الآية،

فقال أكثر المفسرين : الهاء في قوله : {يَرْفَعُهُ} راجعة إلى {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ،

يعني أنّ العمل الصالح يرفع الكلم فلا يقبل القول إلاّ بالعمل،

وهذا اختيار نحاة البصرة،

وقال الحسن وقتادة : {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} : ذكر اللّه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} أداء فرائضه. فمن ذكر اللّه ولم يؤدِّ فرائضه زاد كلامه على عمله،

وليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلي،

ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال. فمن قال حسناً وعمل غير صالح ردّ اللّه عليه قوله،

ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ذلك؛ فإن اللّه يقول : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .

ودليل هذا التأويل قوله (عليه السلام) : (لا يقبل اللّه قولاً إلاّ بعمل،

ولا يقبل قولاً وعملاً إلاّ بنية (ولا يقبل قولاً ونية إلاّ باصابة السنة)).

وجاء في الخبر : (الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب).

وفي هذا المعنى يقول الشاعر :

لا ترضَ من رجل حلاوة قوله

حتى يزيّنُ ما يقول فعالُ

فإذا وزنت فعالَهُ بمقالهِ

فتوازنا فإخاءُ ذاك جمال

قال ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم،

وسحاب بلا مطر،

وقوس بلا وتر،

وفيه قيل :

لا يكونُ المقالُ إلاّ بفعل

إنما القول زينة في الفعالِ

كل قول يكون لا فعلَ فيه

مثلَ ماء يُصبُّ في غربالِ

وأنشدني أبو القاسم الحبيشي لنفسه :

لا يكون المقال إلاّ بفعل

وكلُّ قول بلا فعال هباء

إنّ قولاً بلا فعال جميل

ونكاحاً بلا ولي سواء

وقال بعض أهل المعاني على هذا القول : معنى {يَرْفَعُهُ} ،

أي يجعله رفيعاً ذا وزن وقيمة،

كما يُقال : طود رفيع ومرتفع،

وقيل : العمل الصالح هو الخالص،

يعني أنّ الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأعمال،

دليله قوله : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} أي خالصاً ثم قال : {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} ،

فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء،

وقال قوم : هذه الكناية راجعة إلى العمل،

يعني أنّ الكلم الطيب يرفع العمل؛ فلا يرفع ولا يقبل عمل إلاّ أن يكون صادراً عن التوحيد وعائد الذكر يرفع وينصب،

وهذا التأويل اختيار نُحاة الكوفة وقال آخرون : الهاء كناية عن العمل،

والرفع من صفة اللّه سبحانه،

أي يرفعه اللّه.

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ} أي يعملون،

قال مقاتل : يعني الشرك،

وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في دار الندوة،

وقال الكلبي : {الذين يمكرون} يعني يعملون السيئات في الدُّنيا،

وقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب : هم أصحاب الرياء. {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَاكَ هُوَ يَبُورُ} أي يكسد ويفسد ويضل ويضمحل في الآخرة.

١١

{وَاللّه خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِى كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى اللّه يَسِيرٌ} قراءة العامة : (يُنقص) بضم الياء،

وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى (ينقُص) بفتح الياء وضم القاف،

وقرأ الأعرج : {مِنْ عُمُرِهِ} بالتخفيف.

قال سعيد بن جبير : مكتوب في أول الكتاب عمره كذا وكذا سنة،

ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره.

١٢

{وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} : طيب {سَآئغٌ} : جائز هني شرابه.

وقرأ عيسى : (سيّغ) مثل : ميّت وسيّد. {وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة،

عن : ابن عباس،

وقال الضحاك : هو المرّ مزاجه كأنه يحرق من شدة المرارة والملوحة. {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} : طعاماً شهياً،

يعني : السمك من العذب والملح،

{وتستخرجون منه} : من الملح دون العذب {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يعني اللؤلؤ،

وقيل : فيه عيون عذبة،

ومما بينهما يخرج اللؤلؤ. {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} : جواري،

وقال مقاتل : هو أنْ يرى سفينتين إحداهما مقبلة والأُخرى مدبرة،

وهذه تستقبل تلك وتلك تستدبر هذه،

يجريان بريح واحدة،

{لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اللّه على نعمه.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد الوزان قال : أخبرنا ابن شاذان قال : حدثنا جيفويه بن محمد قال : حدثنا صالح بن محد عن القاسم بن عبد اللّه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (كلم اللّه البحرين فقيل للبحر الذي بالشام : يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء،

وإني حامل فيك عباداً يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟

قال : أُغرقهم. قال اللّه عز وجل : فإني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواحيك (وحاملهم على يدي).

وقال للبحر الذي باليمن : إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عباداً لي يسبحونني ويحمدونني ويهللوني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟

قال : أُسبحك وأحمدك وأُهللك وأُكبرك معهم،

وأحملهم على (ظهري) بطني. قال اللّه سبحانه : فإني أُفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري).

١٣

قوله : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى جَلٍ مُّسَمًّى ذَالِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} وهي القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة،

عن أكثر المفسرين. وقال ابن عباس : هو شق النواة،

وقال السدي : هو ما ينقطع به القمع.

١٤

{إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} : يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها،

{وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يعني نفسه تعالى.

١٥-١٨

{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى اللّه واللّه هو الغني الحميد إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على اللّه بعزيز ولا تزروا وازرةٌ وُزر أُخرى}،

سئل الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} فقال : {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} طوعاً {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} كرهاً.

{وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا يُحْمَلْ مِنْهُ} يعني وإن تدع نفس مثقلة بذنوب غيرها إلى حملها،

أي حمل ما عليها من الذنوب {يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} : ولو كان المدعوّ ذا قربى له : ابنه أو أُمه أو أباه أو أخاه.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا عن أحمد بن محمد بن رزمة القزويني عن محمد بن عبد ابن عامر السمرقندي قال : حدّثنا إبراهيم بن الأشعث قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : قوله سبحانه : {لا يحمل منه شيء لو كان ذا قربى} قال : يعني الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول : يا بني ألم تكن بطني لك وعاء؟

ألم يكن لك ثديي سقاء؟

فيقول : بلى يا أُماه. فتقول : يا بُني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنباً واحداً. فيقول : يا أُماه إليكِ عني،

فإني اليوم عنكِ مشغول.

{إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} أي يخافونه ولم يروه،

{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} صلح عمل خيراً وصالحاً {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ} .

١٩

{وَمَا يَسْتَوِى الأعْمَى وَالْبَصِيرُ} يعني : الجاهل والعالم،

٢٠

{وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} يعني : الكفر والإيمان،

٢١

{وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} يعني : الجنة والنار،

والحرور : الريح الحارة بالليل،

والسموم بالنهار،

وقال بعضهم : الحرور : بالنهار مع الشمس،

٢٢

{وَمَا يَسْتَوِى الأحْيَآءُ وَلا الأمْوَاتُ} يعني : المؤمنين والكفار. {إِنَّ اللّه يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ} ،

حتى يتعظ ويجيب {وما أنت بمسع من في القبور} يعني : الكفار شبههم بالأموات،

وقرأ أشهب العقيلي : (بمسمع من في القبور) بلا تنوين على الإضافة.

٢٣-٢٥

{إن أنت إلاّ نذيرٌ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أُمة إلاّ خلا فيها نذيرٌ وإن يكذبوك فقد كذبَ الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والزُبر وبالكتاب المنير} كرر وهما واحد لاختلاف اللفظين.

٢٦

{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .

٢٧

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} قدم النعت على الاسم فلذلك نصب. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ} : طرق،

واحدها جُدّة نحو مدة و (مدد)،

وأما جمع الجديد فجدُد (بضم الدال) مثل : سرير وسُرُر {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} ،

قال الفراء : فيه تقديم وتأخير،

مجازه : سود غرابيب،

وهي جمع غربيب،

هو الشديد السواد يشبّهها بلون الغراب قال الشاعر يصف كرماً :

ومن تعاجيب خلق اللّه غاطية

البعضُ منها ملاحيٌّ وغربيب

٢٨

{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} قال : المؤرخ : إنما {أَلْوَانُهُ} لأجل {مِنْ} ،

وسمعت أُستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر محمّد بن عياش يقول : إنما قال : {أَلْوَانُهُ} ؛ لأجل أنها مردودة إلى (ما) في الإضمار،

مجازه : ومن الناس والدوابّ والأنعام ما هو مختلف ألوانه.

{ كذلك } تمام الكلام هاهنا،

أي ومن هذه الأشياء مختلف ألوانه باختلاف الثمرات،

ثم ابتدأ فقال سبحانه وتعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} روى عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأ (إنما يخشى اللّه) رفعاً و (العلماءَ) نصباً،

وهو اختيار أبي حنيفة على معنى يعلم اللّه،

وقيل : يختار،

والقراءة الصحيحة ما عليه العامة.

وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ح أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه عن إسحاق بن صدقة قال : حدّثنا عبد اللّه بن هاشم عن سيف بن عمر قال : حدّثنا عباس بن عوسجة عن عطاء الخراساني رفع الحديث قال : ظهر من أبي بكر خوف حتى عرف فيه فكلمه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في ذلك فأنزل اللّه سبحانه تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} في أبي بكر ح وفي الحديث : (أعلمهم باللّه أشدهم له خشية).

وقال مسروق : كفى بالمرء علماً أنْ يخشى اللّه،

وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه.

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال : حدثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن محمد بن أيوب المحرمي قال : حدثنا صالح بن مالك الأزدي قال : حدّثنا عبيد اللّه بن سعد عن صالح بن مسلم الليثي قال : أتى رجل الشعبيَّ فقال : أفتني أيها العالم؟

فقال : العالم من خشي اللّه عز وجل.

٢٩

{إنّ اللّه عزيزٌ غفور إنّ الذين يتلون كتاب اللّه} الآية قال مطرف بن عبد اللّه بن الشخير : هذه آية القراء،

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّه وَأَقَامُوا الصلاةَ} .

أخبرنا عبد اللّه بن حامد الوزان قال : حدّثنا ابن شاذان قال : حدثنا جيعويه قال : حدّثنا صالح بن محمد عن عبد اللّه بن عبد اللّه عن عبيد اللّه بن الوليد الوصافي عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن عمير الليثي أنه قال : قام رجل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه،

ما لي لا أُحبُّ الموت؟

قال : (ألك مال؟).

قال : نعم. قال : (فقدمه). قال : لا أستطيع. قال : (فإنّ قلب المرء مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به،

وإن أخّره أحب أن يتأخر معه).

{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} ،

قال الفراء : قوله {يَرْجُونَ} جواب لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ} .

٣٠-٣٢

{ليوفيهم أُجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورٌ شكورٌ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إنّ اللّه بعباده لخبيرٌ بصير ثم} مردود إلى ما قبله من كتب اللّه في قوله : {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ،

أي قبله من الكتب السالفة،

أي أنزلنا تلك الكتب،

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا} هذا {الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ،

ويجوز أن تكون {ثُمَّ} بمعنى الواو أي (وأورثنا) كقوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي وكان ومعنى و {أَوْرَثْنَا} : أعطينا؛ لأنّ الميراث عطاء،

قاله مجاهد،

وقال بعض أهل المعاني : {أَوْرَثْنَا} أي أخرنا،

ومنه الميراث؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه : أخرنا القرآن عن الأُمم السالفة وأعطيناكموه وأهّلناكم له،

و قال عنترة :

وأورثت سيفي عن حصين بن معقل

إلى جده إني لثأري طالب

أي أخرت،

وفي هذا كرامة لأُمة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) حيث قال لهم : {أَوْرَثْنَا} وقال : لسائر الأُمم {وَرِثُوا الْكِتَابَ} الآية يعني القرآن.

{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وهم أمة محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم). ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال اللّه تعالى : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} قيّد اللفظ وعَلّق الظلم بالنفس؛ فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه.

فإن قيل : ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل؟

فالجواب عنه أن نقول : إنما أُخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب،

كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض،

فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر اللّه تعالى.

ومنهم من قال : إنما جعل ذلك؛ لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل. كقوله تعالى : {إنّ ربك لشديد العقاب وإنه لغفورٌ رحيم} ،

وقال : {يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ} ،

وقال : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} وقال : {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ} .

وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله.

وقال جعفر الصادق (عليه السلام) : (بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلاّ بصرف رحمته وكرمه،

وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين؛ لأنهم بين الخوف والرجاء،

ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر اللّه وكلّهم في الجنة بحرمه كلمة الإخلاص).

وقال بعضهم : قدم الظالم؛ لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلاّ رحمة اللّه فاعتمد على اللّه واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته.

وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء؛ لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء؛ لذلك قيل : صحح النسبة ثم اطمع في الميراث.

وقال أبو بكر الوراق : إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس؛ لأنّ أحوال العبد ثلاث : معصية،

وغفلة،

ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين،

وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل باللّه ودخل في عداد السابقين.

واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا،

وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وباللّه التوفيق :

أخبرنا أبو عبد اللّه الحسين بن محمّد بن الحسين بن عبد اللّه الحافظ،

قال : حدّثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا : أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال : حدثنا محمد بن كثير قال : أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أنّ رجلاً دخل المسجد فقال : اللّهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليساً صالحاً. قال أبو الدرداء : لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بذلك منك،

سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قرأ هذه الآية {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه} ،

فقال : (أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب،

وأما المقتصد فيُحاسب حساباً يسيراً،

وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة،

فهم (الذين) قالوا : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} إلى قوله : {لُغُوبٌ} .

قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت : وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدّثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد اللّه الأزدي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (قال اللّه عز وجل : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه} ،

فأما الذين سبقوا بالخيرات فأُولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب،

وأما الذين اقتصدوا فأُولئك يحاسبون حساباً يسيراً،

وأما الذين ظلموا أنفسهم فأُولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلقّاهم اللّه برحمته فهم الذين يقولون : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} إلى قوله : {لُغُوبٌ}

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال : حدّثنا محمّد بن خالد بن عبد اللّه المزني قال : حدّثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد اللّه الحرازي قال : حدّثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية،

فقال : سابقنا : أهل جهادنا،

ومقتصرنا : أهل حضرنا،

وظالمنا : أهل بدونا.

وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا إسماعيل بن يزيد قال : حدّثنا داوُد عن الصلت بن دينار قال : حدّثنا عقبة بن صهبان قال : دخلت على عائشة فسألتها عن قول اللّه عز وجل : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} فقالت لي : يا بني كلّهم في الجنة؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) شهد له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالجنة،

وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به،

وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا.

وقال مجاهد والحسن وقتادة : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} قالوا : هم أصحاب المشأمة،

{وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} هم أصحاب الميمنة {وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه} هم السابقون المقربون من الناس كلهم.

قال قتادة : فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال اللّه تعالى : {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} إلى قوله : {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} ،

وفي الآخرة أيضاً،

قال عز وجل : {وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة} إلى قوله : {الْمُقَرَّبُونَ} .

وقال ابن عباس : السابق : المؤمن المخلص،

والمقتصد : المرائي،

والظالم : الكافر بنعمة اللّه غير الجاحد لها؛ لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال :

٣٣

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} ،

وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول : سمعت أبا بكر بن عبد يقول : قالت عائشة : السابق : الذي أسلم قبل الهجرة،

والمقتصد : الذي أسلم بعد الهجرة،

والظالم : نحن.

وقال بكر بن سهل الدمياطي : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة ولم يتب منها،

والمقتصد : الذي لم يصب كبيرة،

والسابق بالخيرات : الذي لم يعصِ اللّه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وعن الحسن أيضاً قال : السابق : من رجحت حسناته،

والمقتصد : من استوى حسناته وسيئاته،

والظالم : الذي ترجح سيئاته على حسناته.

سهل بن عبد اللّه : السابق : العالم،

والمقتصد : المتعلم،

والظالم : الجاهل،

وعنه أيضاً : السابق : الذي اشتغل بمعاده،

والمقتصد : الذي اشتغل بمعادة عن معاشه،

والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.

وقيل : الظالم : طالب الدنيا،

والمقتصد : طالب العقبى،

والسابق،

طالب المولى.

وقيل : الظالم : المسلم،

والمقتصد : المؤمن،

والسابق : المحسن.

وقيل : الظالم : المرائي في جميع أعماله،

والمقتصد : من تكون أعماله بعضها رياءً وبعضها إخلاصاً،

والسابق : المخلص في أفعاله كلها،

وقيل : الظالم : من أخذ الدنيا حلالاً كان أو حراماً،

والمقتصد : من يجتهد في طلب الحلال،

والسابق : الذي ترك الدنيا جملةً وأعرض عنها.

أبو عثمان الحبري : الظالم : من وجد اللّه بلسانه ولم يوافق فعله قوله،

والمقتصد : من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه،

والسابق : من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله،

وقيل : السابقون : هم المهاجرون الأولون،

والمقتصدون : عامة الصحابة،

والظالمون : التابعون.

وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد اللّه يقول : سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول : قال ابن عطا : الظالم : الذي تحبه من أجل الدُّنيا،

والمقتصد : الذي تحبه من أجل العقبى،

والسابق : الذي أسقط مراده بمراد الحق،

فلا يرى لنفسه طلباً ولا مراداً لغلبة سلطان الحق عليه،

وقيل : الظالم : من كان ظاهره خيراً من باطنه،

والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه،

والسابق : الذي باطنه خيرٌ من ظاهره.

وقيل : الظالم : الذي يعبد اللّه خوفاً من النار،

والمقتصد : الذي يعبده طمعاً في الجنة،

والسابق : الذي يعبده لا لسبب،

وقيل : الظالم : الزاهد،

والمقتصد : العارف،

والسابق : المحب،

وقيل : الظالم : الذي يجزع عند البلاء،

والمقتصد : الذي يصبر عند البلاء،

والسابق : الذي يتلذذ بالبلاء،

وقيل : الظالم : الذي يعبده على الغفلة والعادة،

والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة،

والسابق : الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة،

وقيل : الظالم : الذي أُعطي فمنع،

والمقتصد : الذي أُعطي فبذل،

والسابق : الذي مُنع فشكر،

وقيل : الظالم : غافل،

والمقتصد : طالب،

والسابق واجد،

وقيل : الظالم : من استغنى بماله،

والمقتصد : من استغنى بدينه،

والسابق : من استغنى بربه،

وقيل : الظالم التالي للقرآن،

والمقتصد : القارئ له والعالم به،

والسابق : القارئ لكتاب اللّه العالم بكتاب اللّه العامل به،

وقيل : السابق : الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن،

والمقتصد : الذي يدخل المسجد وقد أذن،

والظالم : الذي يدخل المسجد وقد أُقيم،

وقيل : الظالم : الذي يحب نفسه،

والمقتصد : الذي يحب ربه،

والسابق : الذي يحبه ربه،

وقيل : الظالم : مريد،

والمقتصد : مُراد،

والسابق : مطلوب،

وقيل : الظالم : مدعو،

والمقتصد مأذون له،

والسابق : مقرب،

وقيل : الظالم : عيوف،

والمقتصد : ألوف،

والسابق : حليف.

وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الظالم : ينتصف ولا ينصف،

والمقتصد : ينصف وينتصف،

والسابق ينصف ولا ينتصف.

ذو النون المصري : الظالم : الذي لا يذكر اللّه بلسانه،

والمقتصد : الذي يذكره بقلبه،

والسابق : الذي لا ينسى ربه.

أحمد بن عاصم الأنطاكي : الظالم : صاحب الأقوال،

والمقتصد : صاحب الأفعال،

والسابق : صاحب الأحوال.

ثم جمعهم اللّه سبحانه وتعالى في دخول الجنة فقال سبحانه وتعالى :

{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} .

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن زرعة قال : حدّثنا يوسف بن عاصم الرازي قال : حدّثنا أبو أيُّوب سليمان بن داوُد المنقري المعروف بالشاذكوي عن حصين ابن نمير أبو محصن عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أُسامة بن زيد عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} الآية قال : (كلهم في الجنة).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن علي بن الحسين الفأفاء القاضي قال : حدّثنا بكر بن محمد المروزي قال : حدّثنا أبو قلابة قال : حدّثنا عمرو بن الحصين عن الفضل بن عميرة عن ميمون الكردي عن أبي عثمان الهندي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية فقال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (سابقنا سابق،

ومقتصدنا ناج،

وظالمنا مغفورٌ له). قال أبو قلابة : فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه.

{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير قال : حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بن أُمِّ سعيد قال : حدّثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدّثنا أسيد بن موسى عن ابن ثومان عن عطاء ابن قرة عن عبد اللّه بن ضمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعاً لكان ما يحليه اللّه سبحانه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعاً).

٣٤

{وَقَالُوا} أي يقولون إذا دخلوا الجنة {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أخبرني الحسين بن محمد العدل قال : حدّثنا محمد بن المظفر قال : حدّثنا علي بن إسماعيل بن حماد البغدادي قال : حدّثنا عمرو بن علي الفلاس قال : حدّثنا معاذ بن هشام،

قال حدّثني أبي عن عمرو بن مالك عن ابن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول اللّه عز وجل : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال : حزن النار.

وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدثنا أبو شعيب الحراني قال : حدّثنا عبد العزيز بن أبي داوُد الحراني قال : حدّثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول اللّه عز وجل : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال حزن الخبز.

عكرمة : حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات،

وقيل : حزن الموت،

وقيل : حزن الجنة والنار لا يُدرى إلى أيهما يصير. الثمالي : حزن الدنيا. الضحاك : حزن إبليس ووسوسته. ذو النون : حزن القطيعة.

الكلبي : يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة،

وقيل : حزن العذاب والحساب،

وقيل : حزن أهوال الدنيا وأوجالها،

وقال القاسم : حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة.

وسمعت السلمي يقول : سمعت النصرآبادي يقول : ما كان حزنهم إلاّ تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم،

فلما نجوا منها حمدوا

{وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} ،

أخبرني أبو عبد اللّه الدينوري قال : أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد اللّه بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرَّحْمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال : سمعت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (ليس على أهل (لا إله إلاّ اللّه) وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم،

وكأني بأهل (لا إله إلاّ اللّه) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} .

٣٥

{الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} أي الإمامة {مِن فَضْلِهِ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي كلال وإعياء وفتور،

وقراءة العامة بضم اللام،

وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضاً كالولوع،

وقال الفراء : كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب.

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه الجوزقي قال : أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال : أبو عبد اللّه محمد بن زكريا بن محمدويه الرجل الصالح عن عبد اللّه بن عبد الوهاب الخوارزمي قال : حدّثنا عاصم بن عبد اللّه قال : حدّثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول اللّه سبحانه : {الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قال : إذا دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون. قال : فيبعث اللّه ملكاً من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه. قال : فيُريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت فيقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه. مكتوب في أول خاتم منها : {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ،

وفي الثاني مكتوب : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذلك يَوْمُ الْخُلُودِ} ،

وفي الثالث مكتوب : (رفعت عنكم الأحزان والهموم)،

وفي الرابع مكتوب : (زوجناكم الحور العين)،

وفي الخامس مكتوب : (ادخلوها بسلام آمنين)،

وفي السادس مكتوب : {إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} ،

وفي السابع مكتوب : (إنهم هم الفائزون)،

وفي الثامن : (صرتم آمنين لا تخافون)،

وفي التاسع مكتوب : (رافقتم النبيين والصديقين والشهداء)،

وفي العاشر مكتوب : (سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران). ثم تقول الملائكة : (ادخلوها بسلام آمنين).

فلما دخلوا بيوتاً ترفع {قالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن..} إلى قوله : {لُغُوبٌ} .

٣٦

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}

أي لا يقبضون فيستريحون.

وذكر عن الحسن : فيموتون،

و {لا} يكون حينئذ جواباً للنفي،

والمعنى : لا يقضى عليهم ولا يموتون. كقوله : {لا يؤذن لهم فيعتذرون} .

{وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كذلك نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} قراءة العامة بنصب النون واللام وقرأ أبو عمرو بضم الياء واللام وفتح الزاي على غير تسمية الفاعل.

٣٧

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ} : يدعون ويستغيثون ويصيحون فيها،

وهو افتعال من الصراخ،

ويُقال للمغيث : صارخ وللمستغيث : صارخ. {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا} من النار {نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} في الدُّنيا،

فيقول اللّه عز وجل : {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} . اختلفوا في هذه المدة،

فقال قتادة والكلبي : ثماني عشرة سنة،

وقال الحسن : أربعون سنة،

وقال ابن عباس : ستون سنة.

أخبرني أبو عبد اللّه بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان قالا : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة حدّثنا ابن أبي فديك عن عبد اللّه بن عبد الرَّحْمن بن أبي حصين عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم : (إذا كان يوم القيامة نُودي أين أبناء الستين؟

وهو الذي قال اللّه عز وجل فيه : {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} ).

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن حرجة قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : حدّثنا الحجبي عن عبد العزيز بن أبي حازم قال : سمعت أبي يُحدث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم : (من عمّره اللّه ستين سنة فقد أعذر اللّه إليه في العمر).

وأخبرني ابن فنجويه عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن إبراهيم بن سهلويه عن الحسين بن عرفة،

عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أعمار أُمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك).

وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (معترك منايا أُمتي ما بين الستين إلى السبعين).

{وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ} أي الرسول،

وقال زيد بن علي : القرآن،

وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل : يعني الشيب،

وفيه قيل :

رأيت الشيب من نُذُر المنايا

لصاحبها وحسبك من نذيرِ

فحدّ الشيبِ أُهبة ذي وقار

فلا خلفٌ يكون مع القتير

وقال آخر :

وقائلة تبيض والغواني

نوافر عن معاينة القتير

فقلت لها المشيب نذير عمري

ولستُ مسوداً وجه النذير

{فَذُوقُوا} أي العذاب

٣٨-٤٠

{فما للظالمين من نصير إن اللّه عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذاتِ الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ مقتاً} غضباً {ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خساراً قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون اللّه أروني ماذا خلقوا من الأرض} أي في الأرض {قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} يأمرهم بذلك {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْهُ} .

قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش وحمزة {بَيِّنَتٍ} على الواحد،

وقرأ غيرهم (بينات) بالجمع،

وهو اختيار أبي عبيد قال : لموافقة الخط. فإني قد رأيتها في بعض المصاحف بالألف والتاء.

٤١

{بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً إن اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدً من بعده إنه كان حليماً غفوراً} ،

روى مغيرة عن إبراهيم قال : جاء من أصحاب عبد اللّه بن مسعود إلى كعب ليتعلم من علمه،

فلما رجع قال عبد اللّه : هات الذي أصبت من كعب. قال : سمعت كعباً يقول : إنّ السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحا في عمود على منكب ملك. فقال عبد اللّه : وددت أنك انفلتّ من رحلتك براحلتك ورحلها،

كذب كعب ما ترك يهوديته بعدُ،

إنّ اللّه عز وجل يقول : {إنّ اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا} الآية،

إن السماوات لاتدور،

ولو كانت تدور لكانت قد زالت.

٤٢

{وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وذلك أنّ قريشاً لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن اللّه اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم،

فواللّه لئن أتانا رسول لنكونن أهدى ديناً منهم،

وهذا قبل قدوم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فلما بُعث محمد (صلى اللّه عليه وسلم) كذبوه فأنزل اللّه عز وجل : {وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَ ن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى امَمِ} ،

يعني اليهود والنصارى،

{فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ} : محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} بعداً ونفاراً.

٤٣

{اسْتِكْبَارًا فِى الأرض} ونصب {اسْتِكْبَارًا} على البدل من النفور،

قاله الأخفش،

وقيل : على المصدر،

وقيل : نزع الخافض. {ومكر السيّئ} يعني العمل القبيح،

وقال الكلبي : هو إجماعهم على الشرك وقتل النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) {ولا يحيق المكر السَّيِّئ إلاّ بأهله} ،

أي لا يحل ولا ينزل،

ويحيط ويلحق فقتلوا يوم بدر،

وقراءة العامة : بإشباع الإعراب فيها،

وجزم الأعمش وحمزة (ومكر السَّيْ) تخفيفاً وكراهة لالتقاء الحركات ولم يعملا ذلك في الأُخرى،

والقراءة المرضية ما عليه العامة.

وفي الحديث أنّ كعباً قال لابن عباس : قرأت في التوراة : من حفر حفرة وقع فيها. فقال ابن عباس : أنا أوجد لك ذلك في القرآن،

ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى : {ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله} .

وأخبرني أبو عبد اللّه الحسين بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن الحسن البلخي قال : حدّثنا عبد اللّه بن المبارك قال : أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال : بلغنا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا تمكر ولا تعن ماكراً؛ فإن : اللّه سبحانه وتعالى يقول : {ولا يحيق المكر السيّئ إلاّ بأهله} ،

ولا تبغ ولا تعن باغياً،

بقول اللّه سبحانه وتعالى : {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} ولا تنكث ولا تعن ناكثاً فإنّ اللّه سبحانه يقول : {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} )

{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأوَّلِينَ} يعني العذاب إذا كفروا {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّه تَحْوِيلا} .

٤٤-٤٥

{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان اللّه ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا} من الجرائم {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} ،

يعني الأرض كناية عن غير مذكور {مِن دَآبَّةٍ} .

قال الأخفش والحسين بن الفضل : أراد بالدابة : الناس دون غيرهم،

وأجراها الآخرون على العموم. أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه (عن) الفربابي قال : حدّثني أبو مسعود أحمد بن الفرات قال : أخبرنا أبو عوانة قال : حدّثنا عبد اللّه بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد اللّه بن عمر عن أبيه قال : قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا أصاب اللّه عز وجل قوماً بعذاب أصاب به من بين ظهرانيهم ثم يبعثون على أعمالهم يوم القيامة).

وقال قتادة في هذه الآية : قد فعل اللّه ذلك في زمن نوح فأهلك اللّه ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حُمل في سفينة نوح،

وقال ابن مسعود : كاد الجعل يُعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ هذه الآية،

وقال أنس : إنّ الضب ليموت هزلاً في جحره بذنب ابن آدم،

وقال يحيى ابن أبي كثير : أمر رجل بمعروف ونهى عن منكر،

فقال له رجل : عليك نفسك فإنّ الظالم لا يضر إلاّ نفسه. فقال أبو هريرة : كذبت والذي نفسي بيده،

إنّ الحباري لتموت هزلاً في وكرها بظلم الظالم.

وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية : يحبس المطر فيهلك كل شيء.

{وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرَا} .

﴿ ٠