سُورَةُ الْفَتح

مدنية،

وهي تسع وعشرون آية،

وخمسمائةوستّون كلمة،

وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفاً

أخبرنا عبيداللّه بن محمّد الزاهد بقراءتي عليه،

حدّثنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا أبو الأشعث،

حدّثنا أبو المعتمر،

قال : سمعت أبي يحدث عن قتادة،

عن أنس،

قال : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية،

قد حيل بيننا وبين نسكنا،

فنحن بين الحزن والكآبة،

فأنزل اللّه تعالى عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآية كلّها.

فقال رسول اللّه : (لقد نزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً).

أخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل القهندري بقراءتي عليه،

أخبرنا مكي بن عبدان،

حدّثنا محمّد بن يحيى،

قال : وفيما قرأت على عبداللّه بن نافع وحدّثني مطرف،

عن مالك،

عن زيد بن أسلم،

عن أبيه أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطّاب ح يسير معه ليلاً،

فسأله عمر عن شيء فلم يجبه،

ثمّ سأله فلم يجبه،

قال عمر : فحرّكت بعيري حتّى تقدّمت أمام الناس،

وخشيت أن يكون نزل فيَّ قرآن،

فجئت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (لقد أُنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس)،

ثمّ قرأ {إِنَّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر}.

أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه الثقفي،

حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي،

حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي،

حدّثنا محمّد بن عبدالملك،

قال : سمعت يزيد بن هارون يقول : سمعت المسعودي يذكر،

قال : بلغني أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} في التطوّع حفظ ذلك العام.

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}

أخبرنا عبيداللّه بن محمّد الزاهد،

أخبرنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا هنّاد بن السري،

حدّثنا يونس بن بكير،

حدّثنا علي بن عبداللّه التيمي يعني أبا جعفر الرازي،

عن قتادة،

عن أنس {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال : فتح مكّة،

وقال مجاهد والعوفي : فتح خيبر،

وقال الآخرون : فتح الحديبية.

روى الأعمش،

عن أبي سفيان،

عن جابر،

قال : ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلاّ يوم الحديبية.

وروى إسرائيل،

عن أبي إسحاق،

عن البراء،

قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكّة،

وقد كان فتح مكّة فتحاً،

ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية،

كنّا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أربع عشرة مائة. والحديبية بئر.

أخبرنا عقيل بن محمّد الفقيه أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي،

أخبرهم،

عن محمّد بن جرير،

حدّثنا موسى بن سهل الرملي،

حدّثنا محمّد بن عيسى،

حدّثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري،

قال : سمعت أبي يحدِّث،

عن عمّه عبد الرّحمن بن يزيد،

عن عمّه،

مجمع بن حارثة الأنصاري وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن قال : شهدنا الحديبية مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلمّا انصرفنا عنها،

إذا الناس يهزون الأباعر،

فقال بعض النّاس لبعض : ما بال النّاس؟

قالوا : أُوحي إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : فخرجنا نوجف،

فوجدنا النبي (عليه السلام) واقفاً على راحلته عند كراع العميم،

فلمّا اجتمع إليه الناس،

قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} . فقال عمر : أو فتح هو يا رسول اللّه؟

قال : (نعم والّذي نفسي بيده إنّه لفتح). فقسم (صلى اللّه عليه وسلم) الخمس بخيبر على أهل الحديبية،

لم يدخل فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية.

أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه العدل،

حدّثنا أبو محمّد عبداللّه بن محمّد بن شنبه،

حدّثنا عبيداللّه بن أحمد الكسائي،

حدّثنا الحارث بن عبداللّه،

أخبرنا هشيم،

عن مغيرة،

عن الشعبي في قوله : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال : فتح الحديبية،

غفر له ما تقدّم من ذنبه،

وما تأخّر،

وأطعموا نخل خيبر،

وبلغ الهدي محلّه،

وظهرت الروم على فارس،

وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.

وقال مقاتل بن حيان : يسّرنا لك يُسراً بيّناً،

وقال مقاتل بن سليمان : لمّا نزل قوله : {ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} فرح بذلك المشركون،

والمنافقون،

وقالوا : كيف نتّبع رجلاً لا يدري ما يفعل به وبأصحابه،

ما أمرنا وأمره إلاّ واحد،

فأنزل اللّه تعالى بعدما رجع من الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} أي قضينا لك قضاءً بيّناً.

٢

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فنسخت هذه الآية تلك الآية،

وقال (صلى اللّه عليه وسلم) (لقد نزلت عليَّ آية ما يسرّني بها حمر النعم).

وقال الضحاك : {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} بغير قتال،

وكان الصلح من الفتح،

وقال الحسن : فتح اللّه عليه بالإسلام.

{لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه} قال أبو حاتم : هذه (لام) القسم،

لما حذفت (النون) من فعله كسرت اللام ونُصبَ فعلها بسببها بلام كي،

وقال الحسين بن الفضيل : هو مردود إلى قوله : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} و{لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى} وقال محمّد بن جرير : هو راجع إلى قوله : {إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجاً فسبِّح بحمد ربّك واستغفره} {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} قبل الرسالة {وَمَا تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه السورة.

أخبرنا أبو عبداللّه الحسين بن محمّد بن عبداللّه الحافظ،

حدّثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدرّاج،

حدّثنا حامد بن شعيب،

حدّثنا شريح بن يونس،

حدّثنا محمّد بن حميد،

عن سفيان الثوري {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} ما عملت في الجاهلية {وَمَا تَأَخَّرَ} كلّ شيء لم تعمله.

وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني : {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك {وَمَا تَأَخَّرَ} ديوان أُمّتك بدعوتك. سمعت الطرازي يقول : سمعت أبا القاسم النصر آبادي يقول : سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول : في قول اللّه تعالى : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ،

قال : لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه.

{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} أي ويثبتك عليه،

٣

وقيل : يهدي بك. {وَيَنصُرَكَ اللّه نَصْرًا عَزِيزًا} غالباً. وقيل : مُعزّاً.

٤

{هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ} الرحمة،

والطمأنينة {فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عبّاس : كلّ سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلاّ التي في البقرة.

{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عبّاس : بعث اللّه نبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه،

فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة،

فلمّا صدّقوا زادهم الصيام،

فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة،

فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ،

ثمّ زادهم الجهاد،

ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك،

وقوله تعالى : {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان.

وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم،

وقال الكلبي : هذا في أمر الحديبية حين صدق اللّه رسوله الرؤيا بالحقّ.

{وَللّه جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ وَكَانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً} أخبرنا عبيداللّه بن محمّد الزاهد،

أخبرنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا محمّد بن عبداللّه بن المبارك،

حدّثنا يونس بن محمّد،

حدّثنا شيبان،

عن قتادة في قوله سبحانه : {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال أنس بن مالك : إنّها نزلت على النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) بعد مرجعه من الحديبية،

وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة،

قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية،

فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لقد أُنزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً) فقرأها على أصحابه،

فقالوا : هنيئاً مريئاً يا رسول اللّه،

قد بيّن اللّه تعالى ما يفعل بك،

فماذا يفعل بنا؟

٥-٦

فأنزل اللّه تعالى : {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} قال أهل المعاني : وإنّما كرّر (اللام) في قوله : {لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بتأويل تكرير الكلام مجازه {إنّا فتحنا لك فتحاً مبيِناً ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر} إنّا فتحنا لك {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللّه فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللّه ظَنَّ السَّوْء} أي لن ينصر اللّه محمّداً (صلى اللّه عليه وسلم) والمؤمنين.

{عَلَيْهِمْ دَآئرَةُ السَّوْءِ} بالذلّ والعذاب

٧-٩

{وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً وَللّه جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ وَكَانَ اللّه عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها (بالياء) واختاره أبو عبيد،

قال : لذكر اللّه المؤمنين قبله،

وبعده،

فأمّا قبله فقوله تعالى : {فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وبعده قوله : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} وقرأها الآخرون (بالتاء) واختاره أبو حاتم.

{وَتُعَزِّرُوهُ} وقرأ محمّد بن السميقع (بزايين)،

وغيره (بالراء) أي لتعينوه،

وتنصروه. قال عكرمة : تقاتلون معه بالسيف،

أخبرنا علي بن محمّد بن محمّد بن أحمد البغدادي،

أخبرنا أبو محمّد عبداللّه بن محمّد الشيباني،

أخبرنا عيسى بن عبداللّه البصري بهراة،

حدّثنا أحمد بن حرب الموصلي،

حدّثنا القاسم بن يزيد الحرمي،

حدّثنا سفيان بن سعيد الثوري،

عن يحيى بن سعيد القطان،

حدّثنا سفيان بن عينية،

عن عمرو بن دينار،

عن جابر بن عبداللّه،

قال : لمّا نزلت على النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) {وَتُعَزِّرُوهُ} ،

قال لنا : ماذا كُم؟

قلنا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : لتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ وتعظّموه وتفخموه. وهاهنا وقف تام.

{وَتُسَبِّحُوهُ} أي وتسبحوا اللّه بالتنزيه والصلاة. {بُكْرَةً وَأَصِيلا} .

١٠

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} يا محمّد بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه} .

أخبرنا ابن منجويه،

حدّثنا ابن حبش المقري،

حدّثنا محمّد بن عمران،

حدّثنا أبو عبداللّه المخزومي،

حدّثنا سفيان بن عينية،

عن عمرو بن دينار إنّه سمع جابراً يقول : كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة،

فقال لنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أنتم اليوم خير أهل الأرض). قال : وقال لنا جابر : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة،

وقال : بايعنا رسول اللّه تحت السمّرة على الموت على أن لا نفرّ،

فما نكث أحد منّا البيعة،

إلاّ جد بن قيس وكان منافقاً،

اختبأ تحت أبط بعيره،

ولم يسر مع القوم. {يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن عبّاس : {يَدُ اللّه} بالوفاء لما وعدهم من الخير {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} بالوفاء.

وقال السدي : {يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وذلك إنّهم كانوا يأخذون بيد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ويبايعونه،

و {يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} عند المبايعة.

وقال الكلبي : معناه نعمة اللّه عليهم فوق ما صنعوا من البيعة،

وقال ابن كيسان : قوّة اللّه ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم.

{فَمَن نَّكَثَ} يعني البيعة {فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} عليه وباله {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّه فَسَيُؤْتِيهِ} قرأ أهل العراق (بالياء)،

وغيرهم (بالنون).

{أَجْرًا عَظِيمًا} وهو الجنّة

١١

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ اعْرَابِ} قال ابن عبّاس ومجاهد : يعني أعراب غفار،

ومزينة،

وجهينة،

وأشجع،

وأسلم،

والديك،

وذلك أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب،

وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدّوه عن البيت،

وأحرم هو (صلى اللّه عليه وسلم) وساق معه الهدي ليعلم النّاس أنّه لا يريد حرباً،

فتثاقل عنه كثير من الأعراب،

وقالوا : نذهب معه إلى قوم،

قد جاؤوه،

فقتلوا أصحابه،

فنقاتلهم،

فتخلّفوا عنه. واعتلُّوا بالشغل،

فأنزل اللّه تعالى : {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ اعْرَابِ} الّذين خلّفهم اللّه عن صحبتك،

وخدمتك في حجّتك،

وعمرتك إذا انصرفت إليهم،

فعاتبتهم على التخلّف عنك.

{شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} ثمّ كذّبهم في اعتذارهم واستغفارهم وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم،

فقال : {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللّه شيئا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} قرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ (الضاددّ والباقون بالفتح،

واختاره أبو عبيد،

وأبو حاتم،

قالا : لأنّه قابله بالنفع ضدّ الضرّ.

١٢

{أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْء} وذلك بأنّهم قالوا : إنَّ محمّداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون،

فأين تذهبون؟

انتظروا ما يكون من أمرهم.

{وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا} هالكين،

فاسدين،

لا تصلحون لشيء من الخير.

١٣-١٥

{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّه وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرا وللّه مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} عن الحديبية {إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ} يعني غنائم خيبر {لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر فنشهد معكم،

فقال أهلها : {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللّه} قرأ حمزة والكسائي (كلم اللّه) بغير (ألف)،

وغيرهم (كلام اللّه)،

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم،

قال الفرّاء : الكلام مصدر،

والكلم جمع الكلمة،

ومعنى الآية يريدون أن يغيّروا وعد اللّه الذي وعد أهل الحديبية،

وذلك أنّ اللّه تعالى جعل غنائم خيبر لهم عوضاً من غنائم أهل مكّة،

إذا انصرفوا عنهم على صلح،

ولم يصيبوا منهم شيئاً،

وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : {فَاسْتَ ْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا} . والقول الأوّل أصوب،

وإلى الحقّ أقرب،

لأنّ عليه عامّة أهل التأويل،

وهو أشبه بظاهر التنزيل لأنّ قوله : {فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا} نزلت في غزوة تبوك. {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر. {كَذَالِكُمْ قَالَ اللّه مِن قَبْلُ} أي من قبل مرجعنا إليكم : إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية،

ليس لغيرهم فيها نصيب.

{فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أن نصيب معكم من الغنائم.

١٦

{بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلا قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الاْعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْم أُوْلِي بَأْس شَدِيد} قال ابن عبّاس،

وعطاء بن أبي رباح،

وعطاء الخراساني،

وعبد الرحمن بن أبي ليلى،

ومجاهد : هم فارس. كعب : الروم. الحسن : فارس،

والروم. عكرمة : هوازن. سعيد بن جبير : هوازن،

وثقيف. قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين. الزهري،

ومقاتل : بنو حنيفة أهل اليمامة،

أصحاب مُسيلمة الكذّاب.

قال رافع بن جريج : واللّه لقد كنّا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتّى دعا أبو بكر ح إلى قتال بني حنيفة،

فعلمنا أنّهم هم،

وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد.

{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قرأ العامّة يسالمون في محل الرفع عطفاً على قوله : {تُقَاتِلُونَهُمْ} ،

وفي حرف أُبي (أو يسلموا) بمعنى حتّى يسلموا،

كقول امرئ القيس : أو يموت فنعذرا.

{فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّه أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ} يعني عام الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو النّار. قال ابن عبّاس : فلمّا نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة : فكيف بنا رسول اللّه ؟

١٧

فأنزل اللّه سبحانه وتعالى : {لَّيْسَ عَلَى اعْمَى حَرَجٌ} في التخلّف عن الجهاد،

والقعود عن الغزو.

{وَ لا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} في ذلك. {وَمَن يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} قرأ أهل المدينة والشام (يدخله) (ويعذّبه) فيهما (بالنون) فيهما وقرأ الباقون (بالياء) فيهما،

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم،

قالا : لِذِكر اللّه تعالى قبل ذلك.

١٨

{لَّقَدْ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً،

ولا يفروا. {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وكانت سمرة،

ويروى أنّ عمر بن الخطّاب ح مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة،

فقال : أين كانت؟

فجعل بعضهم يقول : هاهنا،

وبعضهم هاهنا،

فلمّا كثر اختلافهم قال : سيروا،

هذا التكلف،

وقد ذهبت الشجرة،

أما ذهب بها سيل وأمّا شيء سوى ذلك. وكان سبب هذه البيعة أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) دعا خراش بن أُمية الخزاعي،

فبعثه إلى قريش بمكّة،

وحمله على جمل له يقال له : الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له،

وذلك حين نزل الحديبية.

فعقروا له جمل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش،

فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول اللّه،

فدعا رسول اللّه (عليه السلام) عمر بن الخطّاب ح ليبعثه إلى مكّة،

فقال : يا رسول اللّه إنّي أخاف قريشاً على نفسي،

وليس بمكّة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني،

وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها،

وغلظتي عليهم،

ولكنّي أدُّلك على رجل هو أعزّ بها منّي،

عثمان بن عفّان،

فدعا رسول اللّه عثمان،

فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب،

وإنّما جاء زائراً لهذا البيت،

معظّماً لحرمته،

فخرج عثمان إلى مكّة،

فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكّة،

أو قبل أن يدخلها،

فنزل عن دابّته وحمله بين يديه،

ثمّ ردفه وأجازه حتّى بلّغ رسالة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به،

فقال : ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول اللّه.

فاحتبسته قريش عندهم،

فبلغ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل،

فقال رسول اللّه : (لا نبرح حتّى نناجز القوم). ودعا الناس إلى البيعة،

فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة،

فكان الناس يقولون : بايعهم رسول اللّه على الموت،

وقال بكير بن الأشج : بايعوه على الموت،

فقال رسول اللّه (عليه السلام) : (بل على ما استطعتم).

وقال عبداللّه بن معقل : كنت قائماً على رأس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذلك اليوم،

وبيدي غصن من السمرة،

أذبّ عنه،

وهو يبايع النّاس،

فلم يبايعهم على الموت،

وإنّما بايعهم على أن لا يفرّوا،

وقال جابر بن عبداللّه : فبايع رسولَ اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) النّاس ولم يتخلّف عنه أحد من المسلمين حضرها إلاّ الجد بن قيس أخو بني سلمة،

لكأنّي أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته مستتر بها من النّاس.

وكان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له : أبو سنان بن وهب. ثمّ أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّ الّذي ذُكر من أمر عثمان باطل،

واختلفوا في مبلغ عدد أهل بيعة الرضوان،

فروى شعبة،

عن عمرو بن مُرّة،

قال : سمعت عبداللّه بن أبي أوفى يقول : كنّا يوم الشجرة ألف وثلاثمائة،

وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين.

وقال قتادة : كانوا خمسة عشر ومائة. وروى العوفي عن ابن عبّاس،

قال : كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرون. وقال آخرون : كانوا ألفاً وأربعمائة.

أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه،

حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه،

حدّثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الخولي،

حدّثنا محمّد بن رمح،

حدّثنا الليث بن سعد،

عن أبي الزبير،

عن جابر بن عبداللّه،

عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا يدخل النّار أحدٌ ممّن بايع تحت الشجرة).

{فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من الصدق،

والصبر،

والوفاء. {فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو خيبر

١٩

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} وكانت خيبر ذات عقار وأموال. فاقتسمها رسول اللّه بينهم.

٢٠

{وَكَانَ اللّه عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمْ اللّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني يوم خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ} أهل مكّة عنكم بالصلح،

وقال قتادة : يعني وكفّ اليهود من خيبر،

وحلفاءهم من أسد،

وغطفان،

عن بيضتكم،

وعيالكم،

وأموالكم بالمدينة،

وذلك أنّ مالك بن عوف النصري،

وعيينة بن حصن الفزاري،

ومن معهما من بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة أهل خيبر فقذف اللّه تعالى في قلوبهم الرعب فانصرفوا.

{وَلِتَكُونَ} هزيمتهم،

وسلامتكم {لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ} ليعلموا أنّ اللّه هو المتولّي حياطتهم،

وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} طريق التوكّل،

والتفويض حتّى تتقوا في أُموركم كلّها بربّكم،

وتتوكّلوا عليه،

وقيل : يثبتكم على الإسلام،

ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية،

وفتح خيبر،

وذلك أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لما رجع من غزوة الحديبية إلى المدينة،

أقام بها بقيّة ذي الحجّة،

وبعض المحرم،

ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى خيبر،

واستخلف على المدينة سماع بن عرفطة الغفاري.

أخبرنا عبداللّه بن محمّد بن عبداللّه الزاهد،

قرأه عليه،

أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن إسحاق السرّاج،

حدّثنا يعقوب بن إبراهيم،

حدّثنا عثمان بن عمر،

أخبرنا ابن عون،

عن عمرو ابن سعيد،

عن أنس بن مالك،

أخبرنا عبيداللّه بن محمّد،

أخبرنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا عبد الأعلى بن حمّاد أبو يحيى الباهلي،

حدّثنا يزيد بن زريع،

حدّثنا عن ابن أبي عروبة،

قال : أخبرنا عبيداللّه بن محمّد،

حدّثنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري،

حدّثنا روح،

عن سعيد،

عن قتادة،

عن أنس،

قال : كنت رديف أبي طلحة يوم أتينا خيبر،

فصبّحهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقد أخذوا مساحيهم،

وفؤوسهم،

وغدوا على حرثهم،

وقالوا : محمّد والخميس. فقال رسول اللّه : (اللّه أكبر هلكت خيبر،

إنّا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين). ثمّ نكصوا،

فرجعوا إلى حصونهم.

أخبرنا عبيداللّه بن محمّد بن عبداللّه بن محمّد،

حدّثنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا قتيبة بن سعيد،

حدّثنا حاتم بن إسماعيل،

عن يزيد بن أبي عبيد،

عن سلمة بن الأكوع.

وأخبرنا عبيداللّه بن محمّد،

أخبرنا أبو العبّاس السرّاج،

حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي،

حدّثنا النضر بن محمّد،

حدّثنا عكرمة بن عمّار،

حدّثنا سلمة بن الأكوع،

عن أبيه،

قال : وحدّثت عن محمّد بن جرير،

عن محمّد بن حميد،

عن سلمة،

عن ابن إسحاق،

عن رحالة،

قال : وعن ابن جرير،

حدّثنا ابن بشار،

حدّثنا محمّد بن جعفر،

حدّثنا عوف،

عن ميمون أبي عبداللّه،

عن عبداللّه بن بريدة،

عن أبيه،

دخل حديث بعضهم في بعض،

قالوا : خرجنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى خيبر يسير بنا ليلاً،

وعامر بن الأكوع معنا،

فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هينهاتك؟

وكان عامر شاعراً فنزل يحدو بالقوم وهو يرجز لهم :

اللّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

انّ الذين هم بغوا علينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا

فاغفر فداء لك ما اقتفينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

وألقيَنْ سكينةً علينا

إنّا إذا صيح بنا أتينا

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَنْ هذا؟).

قالوا : عامر بن الأكوع. فقال : (غفر لك ربّك). فقال رجل من القوم : وجبت يا نبي اللّه،

لو امتعتنا به. وذلك أنّ رسول اللّه (عليه السلام) ما استغفر قطّ لرجل يخصّه إلاّ استشهد. قالوا : فلمّا قدمنا خيبر وتصافّ القوم،

خرج يهودي،

فبرز إليه عامر،

وقال :

قد علمت خيبر إنّي عامر

شاك السلاح بطل مغامر

فاختلفا ضربتين،

فوقع سيف اليهودي في ترس عامر،

ووقع سيف عامر عليه،

وأصاب ركبة نفسه،

وساقه،

فمات منها،

قال سلمة بن الأكوع : فمررت على نفر من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهم يقولون : بطل عمل عامر،

فأتيت نبي اللّه وأنا شاحب أبكي،

فقلت : يا رسول اللّه أبطلَ عمل عامر؟

فقال : (ومَنْ قال ذاك؟)

قلت : بعض أصحابك. قال : (كذب من قال،

بل له أجره مرّتين،

إنّه لجاهد مجاهد).

قال : فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ اللّه تعالى فتحها علينا،

وذلك أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أعطى اللواء عمر بن الخطّاب،

ونهض من نهض معه من الناس،

فلقوا أهل خيبر،

فانكشف عمر،

وأصحابه،

فرجعوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يحينه أصحابه،

ويحينهم،

وكان رسول اللّه قد أخذته الشقيقة،

فلم يخرج إلى النّاس،

فأخذ أبو بكر راية رسول اللّه،

ثمّ نهض فقاتل قتالاً شديداً،

ثمّ رجع،

فأخذها عمر،

فقاتل قتالاً شديداً،

وهو أشدّ من القتال الأوّل،

ثمّ رجع،

فأخبر بذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (أما واللّه لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه،

ورسوله،

ويحبّه اللّه،

ورسوله يأخذها عنوة).

وليس ثَمّ علي،

فلمّا كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش رجاء كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك،

فأرسل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سلمة بن الأكوع إلى علي،

فدعاه،

فجاء علي على بعير له حتّى أناخ قريباً من خباء رسول اللّه،

وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري،

قال سلمة : فجئت به أقوده إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) .

فقال رسول اللّه : (ما لكَ؟).

قال : رمدت. فقال : (إدن منّي). فدنا منه فتفل في عينيه،

فما وجعهما بعد حتّى مضى لسبيله،

ثمّ أعطاه الراية،

فنهض بالراية وعليه حلّة أُرجوان حمراء،

قد أخرج حملها،

فأتى مدينة خيبر،

وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر،

وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه،

وهو يقول :

قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السلاح بطلٌ مجرّب

أطعن أحياناً

وحيناً أضرب

إذا الحروب أقبلت تلهّب

كان حمائي كالحمى لا يقرب

فبرز إليه علي ح،

وقال :

أنا الّذي سمّتني أُمّي حيدره

كليثِ غابات شديد قسوره

أكيلكم بالسيف كيل السندره

فاختلفا ضربتين،

فبدره علي،

فضربه،

فقدَّ الحجر والمغفرة،

وفلق رأسه حتّى أخذ السيف في الأضراس،

وأخذ المدينة،

وكان الفتح على يديه،

ثمّ خرج بعد مرحب أخوه ياسر بن نحر،

وهو يقول :

قد علمت خيبر أنّي ياسر

شاكي السلاح بطل مغاور

إذا الليوث أقبلت تبادر

وأحجمت عن صولتي المغاور

إنّ حمائي فيه موت حاضر

وهو يقول : هل من مبارز؟

فخرج إليه الزبير بن العوّام،

وهو يقول :

قد علمت خيبر أنّي زبار

قرم لقرم غير نكس فرار

ابن حماة المجد ابن الأخيار

ياسر لا يغررْك جمع الكفّار

وجمعهم مثل السراب الحبار

فقالت أُمّه صفية بنت عبد المطّلب : أيقتل ابني يا رسول اللّه؟

فقال : (بل ابنك يقتله إن شاء اللّه) ثمّ التقيا،

فقتله الزبير،

فقال أبو رافع مولى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول اللّه (عليه السلام) برايته،

فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم،

فضربه رجل من اليهود،

فطرح ترسه من يده،

فتناول علي باباً كان عند الحصن،

فتترّس به عن نفسه،

فلم يزل في يده،

وهو يقاتل حتّى فتح اللّه تعالى عليه،

ثمّ ألقاه من يده حين فرغ،

فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب،

فما نقلبه.

ثمّ لم يزل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يفتح الحُصون حُصناً حُصناً،

ويجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حُصن الوطيح والسلالم،

وكان آخر حصون خيبر افتتح،

فحاصرهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بضع عشرة ليلة،

فلمّا أمسى النّاس يوم الفتح أوقدوا نيراناً كثيرة،

فقال رسول اللّه : (على أيّ شيء توقدون؟)

قالوا : على لحم،

قال : (على أيّ لحم؟)

قالوا : لحم الحمر الأنسية. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اهريقوها واكسروها). فقال رجل : أَوَ نهرّقها ونغسلها؟

فقال : (أو ذاك).

قال ابن إسحاق : ولمّا افتتح رسول اللّه (عليه السلام) القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بصفية بنت حي بن أحطب،

وبأُخرى معها،

فمرّ بهما بلال،

وهو الذي جاء بهما على قتلى من قُتل من اليهود،

فلمّا رأتهما التي مع صفية،

صاحت،

وصكّت وجهها،

وحثت التراب على رأسها،

فلمّا رآها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : أغربوا عنّي هذه الشيطانة). وأمر بصفية،

فجرت خلفه وألقى عليها رداءه،

فعلم المسلمون أنّ رسول اللّه قد اصطفاها لنفسه.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى : (أَنُزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟)

وكانت صفية قد رأت في المنام،

وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أنّ قمراً وقع في حجرها،

فعرضت رؤيتها على زوجها،

فقال : ما هذا إلاّ أنّك تمنين مَلِك الحجاز محمّداً،

فلطم وجهها لطمة اخضّرت عينها منها،

فأتت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وبها أثر منها.

فسألها : (ما هو؟)

فأخبرته هذا الخبر،

وأتى رسول اللّه بزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق،

وكان عنده كنز بني النضير،

فسأله،

فجحده أن يكون يعلم مكانه،

فأتى رسول اللّه برجل من اليهود،

فقال لرسول اللّه (عليه السلام) : إنّي قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كلّ غداة،

فقال رسول اللّه لكنانة : (أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك). قال : نعم.

فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالخزنة،

فحفرت،

فأخرج منها بعض كنزهم،

ثمّ سأله ما بقي،

فأبى أن يؤدّيه،

فأمر به رسول اللّه الزبير بن العوّام. فقال : (عذّبه حتّى تستأصل ما عنده).

فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتّى أشرف على نفسه،

ثمّ دفعه رسول اللّه إلى محمّد ابن مسلمة،

فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة،

وكانت اليهود ألقت عليه حجراً عند حصن ناعم،

فقتله،

كان أوّل حصن افتتح من حصون خيبر.

قالوا : فلمّا سمع أهل فدك بما صنع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بخيبر،

بعثوا إلى رسول اللّه أن يسترهم ويحقن لهم دماءهم ويخلّوا له الأموال،

ففعل،

ثمّ إنّ أهل خيبر سألوا رسول اللّه أن يعاطيهم الأموال على النصف ففعل على إنّا إن شئنا فخرجنا أخرجناكم،

وصالحه أهل فدك على مثل ذلك،

وكانت خيبر فيئاً للمسلمين،

وكانت فدك خالصة لرسول اللّه (عليه السلام) لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.

فلما اطمئنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم،

شاة مصلية،

وقد سألت،

أي عضو من الشاة أحبّ إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ؟

فقيل لها : الذراع،

فأكثرت فيها السمّ،

وسمّت سائر الشاة،

ثمّ جاءت بها،

فلمّا وضعتها بين يدي رسول اللّه،

تناول الذراع،

فأخذها،

فلاك منها مضغة،

فلم يسغها،

ومعه بشر بن البراء بن معرور،

وقد أخذ منها كما أخذ منها رسول اللّه،

فأما بشر فأساغها،

وأمّا رسول اللّه فلفظها،

ثمّ قال : (إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم). ثمّ دعاها،

فاعترفت،

فقال : (ما حملك على ذلك؟)

قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك،

فقلت : إن كان نبيّاً فسيخبر،

وإن كان ملكاً استرحت منه. قال : فتجاوز عنها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل.

قال : ودخلت أُم بشر بن البراء على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تعوده في مرضه الذي توفى فيه،

فقال : (يا أُمّ بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعادني،

فهذا أوان انقطاع أبهري).

وكان المسلمون يرون أنّ رسول اللّه مات شهيداً مع ما أكرمه اللّه تعالى به من النبوّة.

٢١

{وَأُخْرَى} أي وعدكم فتح بلدة أُخرى. {لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّه بِهَا} حتّى يفتحها عليكم،

وقال ابن عبّاس : علم اللّه أنّه يفتحها لكم. واختلفوا فيها،

فقال ابن عبّاس وعبد الرّحمن بن أبي ليلى والحسن ومقاتل : هي فارس والروم.

وقال الضحّاك وابن زيد وابن إسحاق : هي خيبر،

وعدها اللّه تعالى نبيّه قبل أن يصيبها،

ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها،

حتّى أخبرهم اللّه تعالى بها. وهي رواية عطية،

وماذان،

عن ابن عبّاس،

وقال قتادة : هي مكّة. عكرمة : هي خيبر. مجاهد : ما فتحوا حتّى اليوم. {وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا} .

٢٢

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُوا} يعني أسد،

وغطفان،

وأهل خيبر،

وقال قتادة : يعني كفّار قريش

٢٣

{لَوَلَّوْا الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سنَّةَ اللّه} أي كسنّة اللّه {الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} في نصرة أوليائه،

وقهر أعدائه

٢٤

{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلا وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} وهو الحديبية {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (الياء) أبو عمرو،

وغيره (بالتاء)،

واختلفوا فيهم،

فقال أنس : إنّ ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول اللّه وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم،

فأخذهم رسول اللّه سلماً،

وأعتقهم،

فأنزل اللّه تعالى : {هو الذي كفَّ أيديهم عنكم} ... الآية. عكرمة،

عن ابن عبّاس،

قال : إنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين،

وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه عام الحديبية ليصيبوا من أصحابه أحداً،

وأُخذوا أخذاً،

فأتى بهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فعفا عنهم،

وخلّى سبيلهم،

وقد كانوا يرمون عسكر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالحجارة،

والنّبل فأنزل اللّه تعالى : {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} ... الآية.

وقال عبداللّه بن المغفل : كنّا مع النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) بالحديبية في أصل الشجرة وعلى ظهره غصنٌ من أغصان تلك الشجرة،

فرفعته عن ظهره،

وعليّ بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصُلح،

وسهيل بن عمرو،

فخرج علينا ثلاثون شابّاً عليهم السّلاح،

فثاروا في وجوهنا،

فدعا رسول اللّه (عليه السلام)،

فأخذ اللّه بأبصارهم،

فقمنا إليهم،

فأخذناهم،

فخلّى عنهم رسول اللّه،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال مجاهد : أقبل نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) معتمراً،

وأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين،

فأرسلهم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فذلك الإظفار ببطن مكّة،

وقال قتادة : ذُكر لنا أنَّ رجلاً من أصحاب رسول اللّه يقال له : زنيم اطّلع الثنية من الحديبيّة،

فرماه المشركون بسهم،

فقتلوه،

فبعث رسول اللّه خيلاً،

فأتوا باثني عشر فارساً من الكفّار،

فقال لهم نبيّ اللّه : (هل لكم عليَّ عهد؟

هل لكم عليَّ ذمّة؟).

قالوا : لا، فأرسلهم،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال ابن ايزي،

والكلبي : هم أهل الحديبية،

وذلك أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) لمّا خرج بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة،

فقال له عمر ح : يا نبي اللّه تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح،

ولا كراع؟

قال : فبعث إلى المدينة،

فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلاّ حمله،

فلمّا دنا من مكّة منعوه أن يدخل،

فسار حتّى أتى منى،

فنزل منى،

فأتاه عينه أنّ عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة،

فقال لخالد بن الوليد : (يا خالد هذا ابن عمّك قد أتاك في الخيل).

فقال خالد : أنا سيف اللّه،

وسيف رسوله،

يا رسول اللّه،

أرمِ بي حيث شئت،

فيومئذ سمّي سيف اللّه،

فبعثه على خيل،

فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة،

ثمّ عادوا في الثانية،

فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة،

ثمّ عاد في الثالثة فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية : {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} إلى قوله : {عَذَابًا أَلِيمًا} فكفّ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية،

أن تطأهم الخيل بغير علم،

٢٥

وذلك قوله تعالى : {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفًا} محبوساً. أي وصدّوا الهدي معكوفاً محبوساً.

{أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} منحره،

وكان سبعين بدنة،

روى الزهيري،

عن عروة بن الزبير،

عن المسوّر بن مخرمة،

ومروان بن الحكم،

قالا : خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من المدينة عام الحديبية يريد زيارة البيت،

لا يريد قتالاً،

وساق معه سبعين بدنة،

وكان الناس سبعمائة رجل،

فكانت كلّ بدنة عن عشرة نفر،

فلمّا بلغ ذا الحليفة،

تنامى إليه النّاس،

فخرج في بضع عشرة مائة من أصحابه،

حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد الهدي،

وأشعره،

وأحرم بالعمرة،

وكشف بين يديه عيناً من خزاعة يخبره عن قريش.

وسار النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) حتّى إذا كان بغدير الأشطاط،

قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعي،

فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي،

قد جمعوا لك الأحابيش،

وهم مقاتلوك،

وصادّوك عن البيت،

فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أشيروا عليَّ،

أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الّذين عاونوهم فنصيبهم؟

فإن قعدوا قعدوا موتورين،

وان نجوا تكن عنقاً قطعها اللّه أو ترون أن نأمّ البيت،

فمن صدّنا عنه قاتلناه).

فقام أبو بكر ح،

فقال : يا رسول اللّه إنّا لم نأت لقتال أحد،

ولكن من حال بيننا،

وبين البيت قاتلناه،

فقال رسول اللّه (عليه السلام) : (فروحوا إذاً).

وكان أبو هريرة يقول : ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فراحوا حتّى إذا كانوا بعسفان،

لقيه بشر بن سفيان الكعبي،

فقال له : يا رسول اللّه هذه قريش،

قد سمعوا بسيرك،

فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل،

قد لبسوا جلود المنون،

ونزلوا بذي طوى،

يحلفون باللّه لا يدخلها عليهم أبداً،

وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها إلى كراع العميم. وقد ذكرت قول من قال : إنّ خالد بن الوليد يومئذ كان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مسلماً،

فقال رسول اللّه (عليه السلام) : (يا ويح قريش،

قد أكلتهم الحرب،

ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟

فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا،

وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين،

وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة،

فما تظنّ قريش،

فواللّه لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني اللّه به حتّى يظهره اللّه،

أو تنفرد هذه السّالفة).

ثمّ قال : (مَن رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها)،

فقال رجل من أسلم : أنا يا رسول اللّه. فخرج على طريق وعر حزن بين شعاب،

فلمّا خرجوا منه،

وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي،

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) للناس : (قولوا : نستغفر اللّه،

ونتوب إليه). ففعلوا،

فقال : (واللّه إنّها للحطّة التي عُرِضَت على بني إسرائيل،

فلم يقولوها).

ثمّ قال رسول اللّه للنّاس : (اسلكوا ذات اليمين) في طريق يخرجه على ثنية المرار على مهبط الحديبية من أسفل مكّة.

فسلك الجيش ذلك الطريق،

فلمّا رأت خيل قريش فترة قريش وأنّ رسول اللّه قد خالفهم عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم،

وسار رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتّى إذا سلك ثنية المرار بركت به ناقته،

فقال النّاس : حل حل. فقال : (ما حل؟)

قالوا : حلأت الفضول. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما حلأت،

وما ذاك لها بخلق،

ولكن حبسها حابس الفيل).

ثمّ قال : (والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات اللّه،

وفيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إيّاها)،

ثمّ قال للناس : (انزلوا) فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء،

إنّما يتبرضه الناس تبرضاً،

فلم يلبث الناس أن ترجوه،

فشكا الناس إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) العطش فنزع سهماً من كنانته،

وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له : ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم،

وهو سائق بدن رسول اللّه،

فنزل في ذلك البئر،

فغرزه في جوفه،

فجاش الماء بالريّ،

حتّى صدروا عنه،

ويقال : إنّ جارية من الأنصار أقبلت بدلوها،

وناجية في القليب يمتح على الناس،

فقالت :

يا أيّها الماتح دلوي دونكا

إنّي رأيت الناس يحمدونكا

يثنون خيراً ويمجّدونكا

أرجوك للخير كما يرجونكا

فقال :

قد علمت جارية يمانية

أنّي أنا الماتح واسمي ناجية

وطعنة ذات رشاش واهية

طعنتها عند صدور العادية

قال : فبينا هم كذلك،

إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه،

وكانت خزاعة عيبة نصح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من أهل تهامة،

فقال : إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا بعَداد مياه الحديبية،

معهم العوذ المطافيل،

وهم مقاتلوك،

وصادّوك عن البيت.

فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّا لم نأتِ لقتال أحد،

ولكن جئنا معتمرين،

وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب،

وأضرّت بهم،

فإن شاءوا ماددناهم مدة،

ويخلّوا بيني وبين الناس،

فإن أظهر،

وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا،

وإلاّ فقد حموا،

فواللّه لأُقاتلنّهم على أمري هذا،

حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذنّ اللّه أمره).

فقال بديل : سنبلغهم ما تقول.

فانطلق حتّى أتى قريشاً،

فقال : إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل،

وسمعناه يقول قولاً،

فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا،

فقال سفهاؤوهم : لا حاجة لنا في أن تحدّثنا بشيء عنه،

وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول. قال : سمعته يقول كذا،

وكذا.فحدّثهم بما قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقام عروة بن مسعود الثقفي،

فقال : أي قوم،

ألستم بال الوالد؟

قالوا : بلى. قال : ألستُ بالولد؟

قالوا : بلى.

قال : فهل تتّهموني؟

قالوا : لا. قال : أفلستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ،

فلمّا ألحّوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟

قالوا : بلى. قال : فإنّ هذا الرجل،

قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها ودعوني آئته،

قالوا : آتيه. فأتاه،

فجعل يكلِّم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقال النبي نحواً من مقالته لبديل،

فقال عروة عند ذلك : يا محمّد،

أرأيت إن استأصلت قومك،

فهل سمعت بأحد من العرب استباح،

وقيل اجتاح أصله قبلك؟

وإن تكن الأُخرى فواللّه إنّي لأرى وجوهاً وأشواباً من الناس خُلقاً أن يفرّوا ويدعوك.

فقال أبو بكر الصدِّيق ح : امصص بظر اللات واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون أنحن نفرّ وندعه؟

فقال : مَنْ هذا؟

قالوا : أبو بكر. فقال : أما والّذي نفسي بيده،

لولا يدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها،

لأجبتك،

وجعل يكلِّم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فكلّما كلّمه أخذ بلحيته،

والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول اللّه،

ومعه السيف وعلى رأسه المغفر،

فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ضرب يده بنعل السيف،

وقال : أخّر يدك عن لحيته،

فرفع عروة رأسه،

فقال : مَنْ هذا؟

قالوا : المغيرة بن شعبة. قال : أي غدّار،

أوَلستَ أسعى في غدرتك؟

وكان المغيرة قد صحب قوماً في الجاهلية،

فقتلهم،

وأخذ أموالهم،

ثمّ جاء فأسلم،

فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (امّا الإسلام فقد قبلنا،

وأمّا المال،

فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه). وإنّ عروة جعل يرمق أصحاب رسول اللّه بعينه،

فقال : واللّه لن يتنخم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم،

فدلك بها وجهه،

وجلده،

وإذا أمرهم ابتدروا أمره،

وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه،

وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده،

وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له.

فرجع عروة إلى أصحابه،

فقال : أي قوم لقد وفدت على الملوك،

ووفدت على قيصر،

وكسرى،

والنجاشي،

واللّه إنْ رأيت مَلكاً يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً،

واللّه إن يتنجم نخامة إلاّ وقعت في كفّ رجل منهم،

فدلك بها وجهه،

وجلده،

وإذا أمرهم أمراً ابتدروا أمره،

وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه،

وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم،

وما يحدّون النظر تعظيماً له،

وإنّه قد عرض عليكم خطة رُشد فاقبلوها.

فقال رجل من كنانة : دعوني آتيه. قالوا : أتيه. فلمّا أشرف على النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه،

قال النبي : (هذا فلان من قوم يعظّمون البُدن،

فابعثوها له) فبعثت له،

واستقبله قوم يلبّون،

فلمّا رأى ذلك،

قال : سبحان اللّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت،

ثمّ بعثوا إليه الجليس بن علقمة بن ريان،

وكان يومئذ سيّد الأحابيش،

فلمّا رآه رسول اللّه قال (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ هذا من قوم يتألّهون،

فابعثوا بالهدي في وجهه حتّى يراه).

فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده،

قد أكل أوتاده من طول الحبس،

رجع إلى قريش،

ولم يصل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إعظاماً لما رأى،

فقال : يا معشر قريش،

إنّي قد رأيت ما لا يحل صدّه،

الهدي في قلائده،

قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محلّه،

فقالوا له : اجلس،

فإنّما أنت أعرابي لا علم لك،

فغضب الجليس عند ذلك،

فقال : يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفناكم،

ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت اللّه من جاءه معظِّماً له،

والذي نفس الجليس بيده،

لتخلنّ بين محمّد،

وبين ما جاء له،

أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد،

فقالوا له : كفّ عنّا يا جليس حتّى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به.

فقام رجل منهم يقال له : مكرز بن حفص،

فقال : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلمّا أشرف عليهم،

قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (هذا مكرز بن حفص،

وهو رجل فاجر)،

فجعل يكلِّم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) إذ جاء سهيل بن عمرو فلمّا رآه النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (قد سهل لكم أمركم،

القوم يأتون إليكم بأرحامكم،

وسائلوكم الصلح،

فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعلّ ذلك يليّن قلوبهم) فلبّوا من نواحي العسكر حتّى ارتجّت أصواتهم بالتلبية،

فجاءوا،

فسألوا الصلح،

وقال سهيل : هات نكتب بيننا وبينكم كتاباً،

فدعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) علي بن أبي طالب ح فقال له : (اكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم). فقال سهيل : أما الرّحمن فلا أدري ما هو،

ولكن اكتب باسمك اللّهم،

كما كنت تكتب،

فقال المسلمون : واللّه لا نكتبها إلاّ بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) لعليّ : (اكتب باسمك اللّهم)،

ثمّ قال : (اكتب : هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللّه). فقال سهيل : واللّه لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت،

ولا قاتلناك،

ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (واللّه إنّي لرسول اللّه وإن كذّبتموني). ثمّ قال لعلي : (امح رسول اللّه)،

فقال : واللّه لا أمحوك أبداً،

فأخذه رسول اللّه وليس يحسن يكتب،

فمحاه،

ثمّ قال : (اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبداللّه سهيل بن عمرو،

واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين،

يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم من بعض،

وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبغي من فضل اللّه،

فهو آمن على دمه وماله،

ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل اللّه،

فهو آمن على دمه وماله،

وعلى إنّه من أتى رسول اللّه من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم،

ومن جاء قريشاً ممّن مع رسول اللّه لم يردّوه عليه).

فاشتدّ ذلك على المسلمين،

فقال رسول اللّه (عليه السلام) : (من جاءهم منّا فأبعده اللّه،

ومن جاءنا منهم رددناه إليهم،

فلو علم اللّه الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً،

وإنّ بيننا عيبة مكفوفة،

وإنّه لا أسلال،

ولا أغلال،

وإنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد،

وعهده دخل فيه،

ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش،

وعهدهم دخل فيه).

فتواثبت خزاعة،

فقالوا : نحن في عقد محمّد وعهده،

وتواثبت بنو بكر،

فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (وعلى أن يخلوا بيننا وبين البيت،

فنطوف به). فقال سهيل : ولا يتحدّث العرب إنّا أخذتنا ضغطة،

ولكن لك ذلك من العام المقبل،

فكتب : وعلى إنّك ترجع عنّا عامك هذا،

فلا تدخل علينا مكّة،

فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك،

فدخلتها بأصحابك،

فأقمت فيها ثلاثاً،

ولا تدخلها بالسّلاح إلاّ السيوف في القراب،

وسلاح الراكب،

وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه،

ولا تقدمه علينا،

فقال لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (نحن نسوقه،

وأنتم تردون وجوهه).

قال : فبينا رسول اللّه يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو،

وإذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو،

يرسف في قيوده،

قد انفلت،

وخرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين،

فلمّا رأى سهيل أبا جندل،

قام إليه،

فضرب وجهه،

وأخذ سلسلته،

وقال : يا محمّد قد تمّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا،

وهذا أوّل من أقاضيك عليه،

أترده إلينا؟

ثمّ جعل يجرّه ليرده إلى قريش،

وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين،

أردّ إلى المشركين،

وقد جئت مسلماً لتنفرني عن ديني؟

ألا ترون ما قد لقيت؟

وكان قد عذِّب عذاباً شديداً في اللّه،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا أبا جندل احتسب،

فإنّ اللّه جاعل لك،

ولمن معك من المستضعفين فرجاً،

ومخرجاً،

إنّا قد عقدنا بيننا،

وبين القوم عقداً،

وصُلحاً،

وأعطيناهم على ذلك،

وأعطونا عهداً،

وإنّا لا نغدر).

فوثب عمر بن الخطّاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول : اصبر يا أبا جندل،

فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب،

ويدني قائم السيف منه،

قال : يقول عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه،

فضنّ الرجل بأبيه.

قالوا : وقد كان أصحاب رسول اللّه خرجوا،

وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلمّا رأوا ذلك دخل الناسَ أمر عظيم حتى كادوا يهلكون،

وزادهم أمر أبي جندل شرّاً إلى ما بهم،

فقال عمر : واللّه ما شككت منذ أسلمت إلى يومئذ،

فأتيت النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقلت : ألست رسول اللّه؟

قال : (بلى). قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟

قال : (بلى). قلت : فَلِمَ نعطي الدّنية في ديننا إذاً؟

قال : (إنّي رسول اللّه،

ولستُ أعصيه،

وهو ناصري).

قلت : ألستَ تحدّثنا أنّا سنأتي البيت،

فنطوف به؟

قال : (بلى). قال : (هل أخبرتك أنّا نأتيه العام؟).

قلت : لا،

قال : (فإنّك آتيه ومطوِّف به)،

قال : ثمّ أتيت أبا بكر،

وقلت : أليس هذا نبيّ اللّه حقّاً؟

قال : بلى. قلت : أفلسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟

قلت : فلِمَ يعطي الدّنية في ديننا إذاً؟

قال : أيّها الرجل إنّه رسول اللّه،

وليس يعصي ربّه،

فاستمسك بغرزه حتّى تموت،

فواللّه إنّه لعلى الحقّ. قلت : أوليس كان يحدِّث أنّا سنأتي البيت،

ونطوّف به؟

قال : بلى. قال : أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟

قلت : لا. قال : فإنّك آتيه وتطوف به. قال عمر : فما زلت أصوم وأتصدّق،

وأُصلّي،

وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به.

قالوا : فلمّا فرغ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من الكتاب أشهد رجالاً على الصلح من المسلمين،

ورجالاً من المشركين،

أبا بكر،

وعمر،

وعبد الرّحمن بن عوف،

وعبداللّه بن سهيل بن عمرو،

وسعد بن أبي وقاص،

ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل،

ومكرز بن حفص بن الأحنف،

وهو مشرك،

وعلي بن أبي طالب،

وكان هو كاتب الصحيفة.

فلمّا فرغ رسول اللّه من قصّته سار مع الهدي،

وسار الناس،

فلمّا كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية،

عرض له المشركون فردوا وجوهه،

فوقف النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) حيث حبسوه،

وهي الحديبية وقال لأصحابه : (قوموا،

فانحروا،

ثمّ احلقوا). قال : فواللّه ما قام منهم رجل. حتّى قال ذلك ثلاث مرّات فلمّا لم يقم منهم أحد. قام فدخل على أُمّ سلمة،

فذكر لها ما لقي من الناس.

فقالت أُمّ سلمة : يا نبيّ اللّه اخرج،

ثمّ لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاّقك فيحلقك. فقام فخرج،

فلم يكلِّم أحداً منهم كلمة حتى نحر بدنته،

ودعا حالقه،

فحلقه،

وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أُمية بن الفضل الخزاعي،

فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصّر آخرون،

وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (يرحم اللّه المحلّقين). قالوا : والمقصّرين يا رسول اللّه؟

قال : (يرحم اللّه المحلّقين)،

قالوا : والمقصّرين يا رسول اللّه؟

قالوا : فلم ظاهرت الترحم للمحلّقين دون المقصّرين؟

. قال : (لأنّهم لم يشكّوا). قال ابن عمر : وذلك أنّه تربض القوم،

قالوا : لعلّنا نطوف بالبيت. قال ابن عبّاس : وأهدى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عام الحديبية في هداياه جملاً لأبي جهل في رأسه برة من فضّة،

ليغيظ المشركين بذلك،

ثمّ جاءه (صلى اللّه عليه وسلم) نسوة مؤمنات،

فأنزل اللّه تعالى : {يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا إذا جاءَكم المُؤْمِنات مُهاجرات} ... الآية،

قال : فطلّق عمر امرأتين كانتا له في الشرك. قال : فنهاهم أن يردونهنّ وأمرهم أن ترد الصدُقات،

حينئذ،

قال رجل للزهري : أمن أجل الفروج؟

قال : نعم،

فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأُخرى صفوان بن أمية،

ثمّ رجع النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم،

وكان ممّن جلس بمكّة،

فكتب فيه أزهر بن عبد عوف،

والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وبعثا رجلاً من بني

عامر بن لؤي،

ومعه مولى لهم،

فقدما على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بكتابهما،

وقالا : العهد الذي جعلت لنا،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت،

ولا يصلح لنا في ديننا الغدر،

وإنّ اللّه تعالى جاعل لك،

ولمن معك من المستضعفين فرَجاً،

ومخرجاً).

ثمّ دفعه إلى الرجلين،

فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة،

فنزلوا يأكلون من تمر لهم،

فقال أبو نصير لأحد الرجلين : واللّه إنّي لأرى سيفك هذا جيّداً،

فاستلّه الآخر،

فقال : أجل واللّه إنّه لجيد. قال : أرني أنظر إليه. فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله،

وفرّ المولى وخرج سريعاً حتّى أتى رسول اللّه (عليه السلام)،

وهو جالس في المسجد،

فلمّا رآه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) طالعاً قال : (إنّ هذا الرجل قد رأى فزعاً).

فلمّا انتهى إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ويلك مالكَ؟)

قال : قَتل صاحبكم صاحبي. فواللّه ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحاً بالسيف،

حتّى وقف على رسول اللّه،

فقال : يا رسول اللّه وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني وقيل : وذريتني إليهم ثمّ نجّاني اللّه منهم،

فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (ويلُ أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال).

فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم،

فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر،

ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة،

على ساحل البحر بطريق قريش،

الذي كانوا يأخذون إلى الشام،

وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول اللّه (عليه السلام) لأبي نصير : (ويل أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال). فخرج عصابة منهم إليه،

وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً منهم،

فواللّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لهم فقتلوهم،

وأخذوا أموالهم،

حتّى ضيّقوا على قريش،

فأرسلت قريش إلى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (عليه السلام) يناشدونه اللّه،

والرحم،

لمّا أرسل إليهم،

فمن أتاه فهو آمن،

فآواهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقدموا عليه المدينة.

قال اللّه تعالى : {وَلَوْ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَ ُوهُمْ} بأن يقتلوهم {فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ} قال ابن زيد : إثم،

وقال ابن إسحاق : غرم الدّية. وقيل : الكفّارة؛ لأنّ اللّه تعالى إنّما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها،

ولم يعلم قاتله إيمانه الكفّارة دون الدّية،

فقال جلّ ثناؤه : {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .

ولم يوجب على قاتل خطأ دية،

وقيل : هو أنّ المشركين يعيبونكم ويقولون : قتلوا أهل دينهم. (والمعرّة) المشقّة،

وأصلها من العرّ وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها،

ولكنّه حال بينكم،

وبين ذلك {لِّيُدْخِلَ اللّه فِى رَحْمَتِهِ} دينه الإسلام {مَن يَشَآءُ} من أهل مكّة قبل أن تدخلوها،

هكذا نظم الآية وحكمها،

فحذف جواب (لولا) استغناء بدلالة الكلام عليه،

وقال بعض العلماء : قوله : (لعذّبنا) جواب لكلامين : أحدهما {لولا رجالٌ مؤمنين} ،

والثاني : {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي تميّزوا.

ثمّ قال : {لِّيُدْخِلَ اللّه فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} يعني المؤمنين،

والمؤمنات {فِى رَحْمَتِهِ} لكن جنّته. قال قتادة : في هذه الآية إنّ اللّه يدفع بالمؤمنين عن الكفّار،

كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكّة.

أخبرنا أبو عبداللّه بن منجويه الدينوري،

حدّثنا أبو علي بن حبش المقري،

حدّثنا أبو الطيّب أحمد بن عبداللّه بن بجلي الدارمي بإنطاكية،

حدّثني أحمد بن يعقوب الدينوري،

حدّثنا محمّد بن عبداللّه بن محمّد الأنصاري،

حدّثني محمّد بن الحسن الجعفري،

قال : سمعت جعفر ابن محمّد يحدِّث،

عن أبيه،

عن جدّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب،

أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قول اللّه تعالى : {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال : (هم المشركون من أجداد النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ممّن كان بعده في عصره،

كان في أصلابهم المؤمنون،

فلو تزيّل المؤمنون عن أصلاب الكفّار يعذب اللّه عذاباً أليماً). إذ من صلة قوله تعالى : {لَعَذَّبْنَا}

٢٦

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} حين صدّوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه عن البيت،

ولم يقرّوا ببسم اللّه الرّحمن الرَّحيم،

ولا برسالة رسول اللّه،

(والحميّة) فعيلة من قول القائل : حمي فلان أنفه،

يحمي حميّة،

وتحمية. قال المتلمس :

ألا إنّني منهم وعرضي عرضهم

كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشّما

أي يمنع. {فَأَنزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} يعني الإخلاص،

نظيرها قوله تعالى : {وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} وقوله : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ} .

أخبرنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن شاذان الرازي بقراءتي عليه،

حدّثنا أبو عبداللّه الحسين ابن علي بن أبي الربيع القطان،

حدّثنا عبداللّه بن أحمد بن محمّد بن حنبل،

وهيثم أو وهضيم ابن همام الآملي،

وعلي بن الحسين بن الجنيد،

قالوا : حدّثنا الحسن بن قزعة،

حدّثنا سفيان بن حبيب،

حدّثنا شعبة،

عن يزيد بن أبي ناجية،

عن الطُفيل بن أُبي،

عن أبيه،

عن أُبي بن كعب أنّه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : في قول اللّه تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى}

قال : (لا إله إلاّ اللّه).

وهو قول ابن عبّاس،

وعمرو بن ميمون،

ومجاهد،

وقتادة،

والضحّاك،

وسلمة بن كهيل،

وعبيد بن عمير،

وعكرمة،

وطلحة بن مصرف،

والربيع،

والسّدي،

وابن زيد،

وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه.

أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق،

أخبرنا أبو بكر بن حبيب،

حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن عيسى المزني،

حدّثنا أبو نعيم،

وأبو حذيفة،

قالا : حدّثنا سفيان،

عن سلمة ابن كهيل،

عن عباية بن ربعي،

عن عليّ ح {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال : لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر. وهو قول ابن عمر،

وقال عطاء بن رباح : هي لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له،

له الملك،

وله الحمد،

وهو على كلّ شيء قدير.

أخبرنا أبو سعيد محمّد بن عبداللّه بن حمدون،

أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد،

حدّثنا أحمد بن منصور المروزي بنيشابور،

حدّثنا سلمة بن سليم السلمي،

حدّثنا عبداللّه ابن المبارك عن معمر عن ابن شهاب الزهري {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال : بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم.

٢٧

{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً لَقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ} محمّداً عليه السلام. {الرُّءْيَا} التي أراها إيّاه في مخرجه إلى الحديبية،

أنّه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. {بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّه ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} كلّها {وَمُقَصِّرِينَ} بعض رؤوسكم {تَخَافُونَ} وقوله : {لَتَدْخُلُنَّ} يعني وقال : {لَتَدْخُلُنَّ} لأنّ عبارة (الرؤيا) قول،

وقال ابن كيسان : قوله : {لَتَدْخُلُنَّ} من قول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأصحابه حكاية عن رؤياه،

فأخبر اللّه تعالى،

عن رسوله أنّه قال ذلك،

ولهذا استثنى تأدّباً بأدب اللّه تعالى حيث قال له : {ولا تقولنّ لشيء إنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إلاَّ أنْ يَشاءَ اللّه} ،

وقال أبو عبيدة : {إِنْ} بمعنى إذ مجازه إذ شاء اللّه كقوله : {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} .

وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأنّ بين (الرؤيا) وتصديقها سنة،

ومات منهم في السنة أُناس،

فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلّكم إن شاء اللّه آمنين.

ويجوز أن يكون الاستثناء واقعاً على الخوف،

والأمن لا على الدخول،

لأنّ الدخول لم يكن فيه شك،

لقوله (صلى اللّه عليه وسلم) عند دخول المقبرة : (وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون) فالاستثناء واقع على اللحوق دون الموت.

{فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أنّ الصلاح كان في الصلح،

وهو قوله : {وَلَوْ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} .. الآية. {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلك } أي من دون دخولهما المسجد الحرام،

وتحقيق رؤيا رسول اللّه {فَتْحًا قَرِيبًا} وهو صلح الحديبية عن أكثر المفسِّرين،

قال الزهري : ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية،

لأنّه إنّما كان القتال حيث التقى النّاس،

فلمّا كانت الهدنة وضعت الحرب،

وأمِنَ النّاس بعضهم بعضاً،

فالتقوا فتفاوضوا في الحديث،

والمناظرة،

فلم يكلّم أحد بالإسلام بعقل شيئاً إلاّ دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام،

مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر،

وقال ابن زيد : هو فتح خيبر فتحها اللّه تعالى عليهم حين رجعوا من الحديبية،

فقسّمها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على أهل الحديبية كلّهم إلاّ رجلاً واحداً من الأنصار،

وهو أبو دجانة سماك بن خرشة كان قد شهد الحديبية،

وغاب عن خيبر.

٢٨

{هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} أنّك نبي صادق فيما تخبر،

ونصب {شَهِيدًا} على التفسير وقيل : على الحال،

والقطع،

٢٩

ثمّ قال : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّه} تمّ الكلام هاهنا،

ثمّ قال مبتدئاً : {وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الواو) فيه (واو) الاستئناف {وَالَّذِينَ} في محل الرفع على الابتداء {أَشِدَّآءُ} غلاظ {عَلَى الْكُفَّارِ} لا تأخذهم فيهم رأفة. {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض كقوله تعالى : {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} .

{تَرَ اهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْ مِّنَ اللّه} أن يدخلهم جنّته {وَرِضْوَانًا} أن يرضى عنهم. {سِيمَاهُمْ} علامتهم {فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} واختلف العلماء في هذه السيماء،

فقال قوم : هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة،

يعرفون بتلك العلامة،

أنّهم سجدوا في الدُّنيا،

وهي رواية العوفي،

عن ابن عبّاس،

وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس : استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا.

وقال شهر بن حوشب : تكون مواضع السجود من وجوههم،

كالقمر ليلة البدر. قال آخرون : السمتُ الحسن،

والخشوع،

والتواضع،

وهو رواية الوالبي عن ابن عبّاس،

قال : أما إنّه ليس بالذي ترون،

ولكنّه سيماء الإسلام وسجيّته،

وسمته وخشوعه،

وقال منصور : سألت مجاهداً عن قوله سبحانه وتعالى : {سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم} ،

أهو الأثر يكون بين عينيّ الرجل؟

قال : لا ربّما يكون بين عينيّ الرجل،

مثل ركبة العنز،

وهو أقسى قلباً من الحجارة،

ولكنّه نور في وجوههم من الخشوع،

وقال ابن جريج : هو الوقار،

والبهاء،

وقال سمرة بن عطية : هو البهج،

والصُفرة في الوجوه،

وأثر السهرة. قال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى،

وما هم بمرضى،

وقال الضحّاك : أمّا إنّه ليس بالندب في الوجوه،

ولكنّه الصُفرة.

وقال عكرمة،

وسعيد بن جبير : هو أثر التراب على جباههم. قال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب،

وقال سفيان الثوري : يصلّون بالليل،

فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم،

بيانه قوله : صلّى اللّه عليه وسلّم : (من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار).

قال الزهري : يكون ذلك يوم القيامة،

وقال بعضهم : هو ندب السجود،

وعلته في الجبهة من كثرة السجود.

وبلغنا في بعض الأخبار إنّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة : يا نار أنضجي،

يا نار أحرقي،

وموضع السجود فلا تقربي،

وقال عطاء الخراساني : دخل في هذه الآية كلّ من حافظ على الصلوات الخمسة.

{ ذلك } الذي ذكرت {مَثَلُهُمْ} صفتهم {فِى التَّوْرَ اةِ} وهاهنا تمّ الكلام،

ثمّ قال : {وَمَثَلُهُمْ} صفتهم {فِى انجِيلِ} فهما مثلان {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْ َهُ} قرأه العامّة بجزم (الطاء)،

وقرأ بعض أهل مكّة،

والشام بفتحه،

وقرأ أنس،

والحسن،

ويحيى بن وثاب (شطاه) مثل عصاه. وقرأ الجحدري (شطه) بلا همزة،

وكلّها لغات. قال أنس : (شطأه) نباته،

وقال ابن عبّاس : سنبلة حين يلسع نباته عن جنانه. ابن زيد : أولاده. مجاهد،

والضحّاك : ما يخرج بجنب الحقلة فينمو ويتمّ عطاء جوانبه. مقاتل : هو نبت واحد،

فإذا خرج ما بعده،

فهو (شطأه). السدّي : هو أن يخرج معه ألطافه الأخرى. الكسائي : طرفه. الفراء : شطأ الزرع أن ينبت سبعاً،

أو ثمانياً،

أو عشراً. قال الأخفش : فراخة يقال : أشطأ الزرع،

فهو مشطي إذا أفرخ،

وقال الشاعر :

أخرج الشطأ على وجه الثرى

ومن الأشجار أفنان الثمر

وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لأصحاب محمّد (عليه السلام) يعني أنّهم يكونون قليلاً،

ثمّ يزدادون،

ويكثرون،

ويقوون،

وقال قتادة : مثل أصحاب محمّد (عليه السلام) في الإنجيل مكتوب أنّه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع،

يأمرون بالمعروف،

وينهون عن المنكر. {فَآزَرَهُ} قوّاه وأعانه وشد أزره {فَاسْتَغْلَظَ} فغلظ،

وقوى {فَاسْتَوَى} نما وتلاحق نباته،

وقام {عَلَى سُوقِهِ} أُصوله {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} يعني أنّ اللّه تعالى فعل ذلك بمحمّد (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} .

أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق،

أخبرنا أبو بكر محمّد بن يوسف بن حاتم بن نصر،

حدّثنا الحسن بن عثمان،

حدّثنا أحمد بن منصور الحنظلي،

المعروف بزاج المروزي،

حدّثنا سلمة بن سليمان،

حدّثنا عبداللّه بن المبارك،

حدّثنا مبارك بن فضلة،

عن الحسن في قوله تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّه} قال : هو محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم {وَالَّذِينَ مَعَهُ} أبو بكر الصدّيق ح {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر بن الخطّاب ح {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} عثمان بن عفّان ح {تَرَ اهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي بن أبي طالب ح {يَبْتَغُونَ فَضْ مِّنَ اللّه وَرِضْوَانًا} طلحة،

والزبير،

وعبد الرحمن بن عوف،

وسعد،

وسعيد،

وأبو عبيدة الجرّاح

{سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال : المبشَّرون عشرة أوّلهم أبو بكر،

وآخرهم أبو عبيدة الجراح { ذلك مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَ اةِ وَمَثَلُهُمْ فِى انجِيلِ} قال : نعتهم في التوراة والإنجيل {كمثل زرع} قال : الزرع محمّد (صلى اللّه عليه وسلم) {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ} أبو بكر الصدّيق،

{فَآزَرَهُ} عمر بن الخطّاب {فَاسْتَغْلَظَ} عثمان بن عفّان،

يعني استغلظ بعثمان الإسلام {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} علي بن أبي طالب يعني استقام الإسلام بسيفه {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} قال : المؤمنون {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} قال : قول عمر لأهل مكّة : لا نعبد اللّه سرّاً بعد هذا اليوم.

أخبرنا ابن منجويه الدينوري،

حدّثنا عبداللّه بن محمّد بن شنبه،

حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان،

حدّثنا محمّد بن مسلم بن واره،

حدّثنا الحسين بن الربيع،

قال : قال ابن إدريس ما آمن بأن يكونوا قد ضارعوا الكفّار،

يعني الرافضة،

لأنّ اللّه تعالى يقول : {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} .

أخبرنا الحسين بن محمّد العدل،

حدّثنا محمّد بن عمر بن عبداللّه بن مهران،

حدّثنا أبو مسلم الكجي،

حدّثنا عبداللّه بن رجاء،

أخبرنا عمران،

عن الحجّاج،

عن ميمون بن مهران،

عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يكون في آخر الزمان قوم ينبزون أو يلمزون الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه،

فاقتلوهم فإنّهم مشركون).

أخبرنا الحسين بن محمّد،

حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي،

حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي،

حدّثنا أبي،

حدّثنا أبو العوام أحمد بن يزيد الديباجي،

حدّثنا المدني،

عن زيد،

عن ابن عمر،

قال : قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) لعليّ : (يا علي أنت في الجنّة وشيعتك في الجنّة،

وسيجيء بعدي قوم يدّعون ولايتك،

لهم لقب يقال له : الرافضة،

فإن أدركتهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون).

قال : يا رسول اللّه ما علامتهم؟

قال : (يا علي إنّهم ليست لهم جمعة،

ولا جماعة يسبّون أبا بكر،

وعمر).

{وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي الطاعات،

وقد مرّ تأويله،

وقال أبو العالية في هذه الآية : {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعني الذين أحبّوا أصحاب رسول اللّه المذكورين فيها فبلغ ذلك الحسن،

فارتضاه،

فاستصوبه منهم،

قال ابن جرير : يعني من الشطأ الذي أخرجه الزرع،

وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة رد (الهاء) و (الميم) على معنى الشطأ لا على لفظه،

لذلك قال : {مِّنْهُم} ولم يقل : منه. {مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمَا} .

(في فَضلِ المُفَضَل)،

حدّثنا الشيخ أبو محمّد المخلدي،

إملاء يوم الجمعة في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة،

قال : أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد،

وعبداللّه بن محمّد بن مسلم،

قالا : حدّثنا هلال بن العلاء،

قال : حدّثنا حجّاج بن محمّد،

عن أيّوب بن عتبة،

عن يحيى بن أبي كثير،

عن شداد بن عبداللّه،

عن أبي أسماء الرجبي،

عن ثوبان،

أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إنّ اللّه أعطاني السبع الطوال مكان التوراة،

وأعطاني المئين مكان الإنجيل،

وأعطاني مكان الزبور المثاني،

وفضّلني بالمُفَضَل).

وأخبرنا أبو الحسن الحباري،

قال : حدّثنا أبو الشيخ الإصبهاني،

قال : أخبرنا ابن أبي عاصم،

قال : حدّثنا هشام بن عمّار،

قال : حدّثنا محمّد بن شعيب بن شابور،

قال : حدّثنا سعد ابن قيس،

عن قتادة،

عن أبي الملح الهذلي،

عن واثلة بن الأسقع،

أنّ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (أُعطيت السبع الطوال مكان التوراة،

وأعطيت المثاني مكان الإنجيل،

وأعطيت المئين مكان الزبور،

وفُضلت بالمُفَضَل).

﴿ ٠