سورة الذاريات

مكية،

وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفاً،

وثلاثمائة وستون كلمة،

وستون آية

أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار الناجي قال : حدّثنا عبداللّه بن أحمد بن محمد البلخي قال : حدّثنا عمرو بن محمد قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبداللّه السلمي قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن خنيس عن أُبىّ قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة والذاريات أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ريح هبت وجرت في الدنيا).

بسم اللّه الرَّحْمن الرحيم

١

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} الرياح التي تذرو التراب ذرواً،

يقال : ذرت الريح التراب وأذرته.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا الحسن بن أيوب،

قال : حدّثنا عبداللّه بن أبي زياد قال : حدّثنا سيار بن حاتم قال : حدّثنا أيوب بن خَوط قال : حدّثنا عمر الأعرج قال : بلغنا أنّ مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيّين حملة الكرسي،

فتهيج من ثمّ فتقع بعجلة الشمس،

ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال،

ثم تهيج من رؤوس الجبال فتقع في البر. فأمّا الشمال فإنّها تمرّ بجنّة عدن،

فتأخذ من عرق طيبها فتمرّ على أرواح الصدّيقين،

ثّم تأخذ حدّها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس،

ويأتي الدبور حدّها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل،

ويأتي الجنوب حدّها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس،

ويأتي الصبا حدّها من مطلع الشمس إلى كرسيّ بنات نعش،

فلا تدخل هذه في حدّ هذه،

ولا هذه في حدّ هذه.

أخبرني الحسن قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل،

قال : حدّثنا الحكم سليمان،

قال : حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي ح {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} ،

قال : (الرياح).

٢

{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} قال : (السحاب).

٣

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} قال : (السفن).

٤

{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} ،

قال : (الملائكة).

٥

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} من الخير والشر والثواب والعقاب

٦

{لصادق وإنّ الدين} الحساب والجزاء {لَوَاقِعٌ} لنازل كائن.

(ثم) ابتدأ قَسَماً آخر فقال عزّ وجلّ :

٧

{وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قال ابن عباس وقتادة والربيع : ذات الخلق الحسن المستوي،

وإليه ذهب عكرمة،

قال : ألم ترَ إلى النّسّاج إذا نسج الثوب فأجادَ نسجه،

قيل : ما أحسن حبكه

وقال سعيد بن جبير : ذات الزينة،

وقال الحسن : حبكت النجوم.

مجاهد : هو المتقَن البنيان،

الضحاك : ذات الطرائق،

ولكنّها بعيد من العباد فلا يرونها،

قال : ومنه حَبكَ الرمل والماء إذا ضربهما الريح،

وحبك الشعر الجعد والدرع،

وهو جمع حباك وحبيكة،

قال الراجز :

كأنما جللّها الحوّاك

طنفسة في وشيها حباك

ومنه الحديث في صفة الجبال : (راسية حبك حبك) يعني الجعودة،

وقال ابن زيد : ذات الشدّة،

وقرأ قول اللّه سبحانه : {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} ،

وقال عبداللّه بن عمرو : هي السماء السابعة.

٨

{أَنَّكُمْ} يا أهل مكة {لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} في القرآن ومحمد عليه السلام،

فمن مصدّق ومكذّب،

ومقرّ ومنكر،

وقيل : نزلت في المقتسمين.

٩

{يُؤْفَكُ} يصرف {عَنْهُ} أي عن الإيمان بهما {مَنْ أُفِكَ} صرف فنجويه،

وقيل : يصرف عن هذا القول،

أي من أجله وسببه عن الإيمان من صرف،

وذلك أنهّم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له : إنّه ساحر وكاهن ومجنون،

فيصرفونه عن الإيمان،

وهذا معنى قول مجاهد.

وقد يكون (عن) بمعنى (أجل). أنشد العبسي :

عن ذات أولية أُساودُ ربّها

وكأن لون الملح فوق شفارها

أي من أجل ناقة ذات أوليه.

١٠

{قُتِلَ} لعن {الْخَراصُونَ} الكذابون.

وقال ابن عباس : المرتابون،

وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب اللّه،

واقتسموا القول في النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ليصرفوا الناس عن دين الإسلام.

وقال مجاهد : الكهنة.

١١

{الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ} : شبهة وغفلة {سَاهُونَ} : لاهون.

١٢

{يسألونك أيان يوم الدين} متى يوم القيامة استهزاءً منهم بذلك وتكذيباً.

١٣

قال اللّه سبحانه وتعالى : {يَوْمَ هُمْ} أي يكون هذا الجزاء في يوم هم {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} يُعذّبون ويُحرقون ويُنضَجون بالنار كما يفتن الذهب بالنار.ومجازه بكلمة (على) ههنا : أنهم موقوفون على النار،

وقيل : هو بمعنى الباء.

١٤

ويقول لهم الخزنة : {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذا} ولم يقل هذه؛ لأنّ الفتنة هاهنا بمعنى العذاب،

فردّ الإشارة إلى المعنى {الَّذِى كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} .

١٥-١٦

{إن المتقين في جنان وعيون آخذين ما آتاهم ربهم} من الثواب وأنواع الكرامات.

وقال سعيد بن جبير : تعني آخذين بما أمرهم ربّهم،

عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم.

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلك } قبل دخولهم الجنة {مُحْسِنِينَ} في الدنيا،

وقيل : قبل نزول الفرائض محسنين في أعمالهم.

١٧

{كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} اختلف العلماء في حكم (ما)،

فجعله بعضهم جحداً،

وقال : تمام الكلام عند قوله : {كَانُوا قَلِيلا} أي كانوا قليلا من الناس،

ثم ابتدأ {مَا يَهْجَعُونَ} أي لا ينامون بالليل،

بل يقومون للصلاة والعبادة،

وجعله بعضهم بمعنى (الذي)،

والكلام متّصل بعضه ببعض،

ومعناه : كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون،

أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم؛ لأنّ (ما) إذا اتصل به الفعل،

صار في تأويل المصدر كقوله : {بِمَا ظَلَمُوا} أي بظلمهم،

وجعله بعضهم صلة،

أي كانوا قليلا من الليل يهجعون.

قال محمد بن علي : (كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة)،

وقال أنس بن مالك : يصلّون ما بين المغرب والعشاء،

وقال مطرف : قلّ ليلة تأتي عليهم لا يصلّون فيها للّه سبحانه،

إما من أوّلها،

وإما من أوسطها،

وقال الحسن : لا ينامون من الليل إلاّ أقلّة،

وربما نشطوا فمدّوا إلى السحر.

١٨-١٩

{وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} ،

قال ابن عباس وسعيد بن المسيب : السائل : الذي يسأل الناس،

والمحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم.

وقال قتادة والزهري : السائل الذي يسألك،

والمحروم : المتعفف الذي لا يسألك،

وقال إبراهيم : هو الذي لا سهم له في الغنيمة،

يدلّ عليه ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسين بن محمد أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بعث سريّة فغنموا،

فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة،

فنزلت هذه الآية،

وقال عكرمة : المحروم : الذي لا ينمي له مال،

وقال زيد بن أسلم : هو المصاب بثمره أو زرعه أو نسل ماشيته.

أخبرني الحسن بن محمد،

قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا الحسن بن علي الفارسي قال : حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا محمد بن مسلم الطائفي عن أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي : المحروم صاحب الحاجة،

ثم قرأ : {إنّا لمغرمون بل نحن محرومون} ،

ونظيره في قصة ضروان {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ،

وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة،

قال : حدّثنا عبد (...) عن شعبة عن عاصم يعني الأحول عن أبي قلابة،

قال : كان رجل من أهل اليمامة له مال،

فجاء سيل فذهب بماله،

فقال رجل من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) هذا المحروم فاقسموا له.

وقال الشعبي : أعناني أن أعلم ما المحروم،

لقد سألت عن المحروم منذ سبعين سنة،

فما أنا اليوم بأعلم مني من يومئذ.

وأصله في اللغة الممنوع،

من الحرمان،

وهو المنع.

أخبرنا أبو سهيل بن حبيب قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن موسى قال : حدّثنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا علي بن عثمان النفيلي الحراني،

قال : حدّثنا علي بن عباس الحمصي،

قال : حدّثنا سعيد بن عمارة بن صفوان الكلاعي عن الحرث بن النعمان ابن أُخت سعيد بن جبير قال : سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يا أنس ويل للاغنياء من الفقراء يوم القيامة،

يقولون : يا ربّ ظلمونا حقوقنا التي فرضتها عليهم. قال : فيقول : وعزّتي وجلالي لأقربنّكم ولأُبعدنّهم).

قال : فتلا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عليه هذه الآية : {وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآلِ وَالْمَحْرُومِ} .

٢٠

{وَفِى الأرض ءَايَاتٌ} عِبَرٌ وعظات إذا ساروا فيها. {لِّلْمُوقِنِينَ} .

٢١

{وَفِى أَنفُسِكُمْ} أيضاً آيات {أَفَ تُبْصِرُونَ} .

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب الكلماباذي بقراءتي عليه،

قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص،

قال : حدّثنا السري بن خزيمة الآبيوردي،

قال : حدّثنا أبو نعيم،

قال : حدّثنا سفيان عن ابن جريج عن محمد بن المرتفع عن الزبير {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَ تُبْصِرُونَ} ،

قال : سبيل الغايط والبول،

وقال المسيب بن شريك : يأكل ويشرب من مكان واحد،

ويخرج من مكانين،

ولو شرب لبناً محضاً خرج ماء،

فتلك الآية في النفس.

وقال أبو بكر الوراق : {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَ تُبْصِرُونَ} يعني في تحويل الحالات وضعف القوة وقهر المنّة وعجز الأركاب وفسخ الصريمة ونقض العزيمة،

ثم أخبر سبحانه وتعالى أنّه وضع رزقك حيث لا يأكله السوس ولا يناله اللصوص،

فقال سبحانه : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} يعني المطر والثلج اللذين بهما تخرج الأرض النبات الذي هو سبب الأقوات،

وقال بعض أهل المعاني : معناه : وفي المطر والنبات سبب رزقكم،

فسمّي المطر سماء؛ لأنّه عن السماء ينزل،

قال الشاعر :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وقال ابن كيسان : يعني وعلى ربّ السماء رزقكم {فِى} بمعنى (على) كقوله : {فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} ،

وذكر الربّ مختصراً،

كقوله : {وَسَْلِ الْقَرْيَةَ} ،

ونظيره قوله : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلا عَلَى اللّه رِزْقُهَا} .

وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير،

قال : حدّثنا ابن حميد،

قال : حدّثنا هارون بن المعتز من أهل الري عن سفيان الثوري قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية :

٢٢

{وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال : ألا أرى رزقي في السماء،

وأنا أطلبه في الأرض؟

فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً،

فلمّا أن كان اليوم الثالث إذا هو يرى جلّة من رطب،

وكان له أخ أحسن نيّة منه فدخل معه (فصارتا جلّتين)،

فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق بينهما الموت.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خميس قال : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا إبراهيم بن هاشم البغوي قال : حدّثنا ابن أبي بزّة،

قال : حدّثنا حسن بن محمد بن عبيد اللّه بن أبي يزيد عن شبل بن عبّاد عن ابن (أبي نجيح) أنّه قرأ (وفي السماء رازقكم وما توعدون) بالألف يعني اللّه.

قال مجاهد : {وَمَا تُوعَدُونَ} من خير أو شر،

وقال الضحاك {وَمَا تُوعَدُونَ} من الجنة والنار،

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويّة قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب بن شريك قال : قال أبو بكر بن عبداللّه : سمعت ابن سيرين يقول : {وَمَا تُوعَدُونَ} : الساعة.

{فَوَرَبِّ السَّمَآءِ والأرض إِنَّهُ} يعني أن الذي ذكرت من أمر الرزق {لَحَقٌّ مِّثْلَ} بالرفع قرأه أهل الكوفة بدلا من (الحق)،

وغيرهم بالنصب أي كمثل.

{مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} فتقولون : لا إله إلاّ اللّه،

وقيل : كما أنّكم ذوو نطق خصصتم بالقوة الناطقة العاقلة فتتكلمون،

هذا حق كما حق أنّ الآدمي ناطق،

وقال بعض الحكماء : كما أنّ كلّ انسان ينطق بلسان نفسه،

ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره،

فكذلك كلّ إنسان يأكل رزقه الذي قسم له،

ولا يقدر أن يأكل رزق غيره،

وقال الحسن في هذه الآية : بلغني أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (قاتل اللّه أقواماً أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه).

حدّثنا أبو القاسم بن حبيب قال : أخبرنا أبو الحسن الكائيني وأبو الطيّب الخياط وأبو محمد يحيى بن منصور الحاكم في القسطنطينية قالوا : حدّثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي،

قال : حدّثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياسي البصري،

قال : سمعت الأصمعي يقول : أقبلتُ ذات يوم من المسجد الجامع في البصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس،

فدنا وسلّم وقال لي : مَن الرجل؟،

قلت : من بني الأصمع،

قال : أنت الاصمعي؟

قلت : نعم،

قال : ومن أين أقبلت؟،

قلت من موضع مليء بكلام الرَّحْمن،

قال : وللرَّحْمن كلام يتلوه (الآدمين).

قلت : نعم،

قال : اتلُ عليّ شيئاً منه،

فقلت له : انزل عن قعودك. فنزل،

وابتدأت بسورة والذاريات،

فلمّا انتهيت إلى قوله سبحانه : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} . قال : يا أصمعي هذا كلام الرَّحْمن؟،

قلت : أي والذي بعث محمداً بالحق،

إنّه لكلامه أنزله على نبيّه محمد،

فقال لي : حسبك،

ثم قام إلى الناقة فنحرها وقطعها كلّها،

وقال : أعنىّ على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر،

ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل وولّى مدبراً نحو البادية وهو يقول : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} .

فأقبلت على نفسي باللوم وقلت : لم تنتبهي لما انتبه له الأعرابي،

فلمّا حججت مع الرشيد دخلت مكة،

فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً فسلّم علىّ وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي : اتل كلام الرَّحْمن،

فأخذت في سورة والذاريات،

فلمّا انتهيت الى قوله : {وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} ،

صاح الاعرابي فقال : وجدنا ما وعدنا ربنّا حقاً،

ثم قال : وهل غير هذا؟

قلت : نعم يقول اللّه سبحانه

٢٣

{فَوَرَبِّ السَّمَآءِ والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} ،

فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان اللّه من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟،

ألم يصدّقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟

قالها ثلاثاً وخرجت فيها نفسه.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة،

قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان،

قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا شبانة،

قال حدّثنا صدقة،

قال حدّثنا الوضين بن عطاء عن زيد بن جرير أنّ رجلا جاع في مكان ليس فيه شيء،

فقال : اللّهم رزقك الذي وعدتني فأتني به،

قال : فشبع وروى من غير طعام ولا شراب.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن القاسم الخطيب. قال : حدّثنا إسماعيل بن العباس بن محمد الوراق،

قال : حدّثنا الحسين بن سعيد بن محمد المحرمي،

قال : حدّثنا علي ابن يزيد العبداني قال : حدّثنا فضيل بن مسروق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لو أنّ أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت) وأنشدت في معناه :

الرزق في القرب وفي البعد

أطلَبُ للعبد من العبد

لو قصّر الطالب في سعيه

أتاه ما قدّر في قصد

وقال دعبل :

أسعى لأطلب رزقي وهو يطلبني

والرزق أكثر لي مني له طلباً

٢٤

{هَلْ أَتَ اكَ} يا محمد {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} اختلفوا في عددهم فقال ابن عباس ومقاتل : كانوا اثني عشر ملكاً،

وقال محمد بن كعب : كان جبريل ومعه سبعة،

وقال عطاء وجماعة : كانوا ثلاثة : جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر {الْمُكْرَمِينَ} قال ابن عباس : سمّاهم مكرمين؛ لأنهّم كانوا غير مدعوّين.

وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال : حدّثني عبداللّه بن أحمد الشعراني،

قال : أخبرنا عبدالواحد بن محمد بن سعيد الأرعيالي قال : سمعت محمد بن عبدالوهاب يقول : قال لي علي بن غنام : عندي هريسة،

ما رأيك فيها؟

قلت : ما أحسن رأيي،

قال : امضِ،

فدخلت الدار فجعل ينادي يا غلام يا غلام،

والغلام غايب،

فأدخلني بيتاً فجلست فيه،

فما راعني (إلاّ معه) القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل،

فقلت : إنّا للّه يا أبا الحسن لو علمت أن الأمر عندك هكذا ما دخلت. قال : هوّن عليك،

حدّثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله سبحانه : {هَلْ أَتَ اكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} قال : خدمته إياهم بنفسه،

وقال عبدالعزيز بن يحيى الكناني : كانوا مكرمين عند اللّه،

نظيره في سورة الأنبياء {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} .

قال أبو بكر الوراق وابن عطاء : سمّاهم مكرمين،

لأنّ أضياف الكرام مكرمون،

وكان إبراهيم ج أكرم الخليقة وأطهرهم فتوة.

٢٥

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ} أي أنتم قوم {مُّنكَرُونَ} غرباء لا نعرفكم،

وقيل : إنّما أنكر أمرهم،

لأنّهم دخلوا عليه من غير استئذان،

وقال أبو العاليه : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.

٢٦

{فَرَاغَ} فعدل ومال إبراهيم {إِلَى أَهْلِهِ} قال الفرّاء : لا ينطق بالروغ حتى يكون صاحبه محتفياً لذهابه ومجيئه {فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} قال قتاده : كان عامة مال إبراهيم البقر

٢٧-٢٩

{فقرّبه إليهم فقال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشّروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرّة} أي صيحة،

ولم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وإنّما هو كقول القائل : أقبل يشتمني،

بمعنى أخذ في شتمي.

{فَصَكَّتْ} قال ابن عباس : لطمت {وَجْهَهَا} وقال الآخرون : ضربت يدها على جبهتها تعجباً،

كعادة النساء إذا أنكرن شيئاً أو تعجبن منه،

وأصل الصكّ الضرب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} مجازه : أتلد عجوز عقيم؟

وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكان بين البشارة والولادة سنة،

فولدت له سارة وهي بنت سبع وتسعين،

وإبراهيم ابن مائة سنة.

٣٠

{قَالُوا كَذَالِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} حدّثنا أبو بكر بن عبدوس إملاءً قال : أخبرنا أبو سهل القطان ببغداد،

قال : حدّثنا يحيى بن جعفر،

قال : أخبرنا يزيد بن هارون،

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف،

قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب،

قال حدّثنا نصر بن علي،

قال : أخبرنا نوح بن قيس،

قال : حدّثنا عون بن أبي شداد أنّ ضيف إبراهيم المكرمين لمّا دخلوا عليه فقرّب إليهم العجل فسحه جبريل ج بجناحه،

فقام العجل يدرج في الدار حتى لحق بأُمّه.

٣١-٣٣

{قال فما خطبكم أيّها المرسلون قالوا إنّا أُرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل إليهم حجارة من طين} قال الكلبي من سنك،

وكل بيانه قوله سبحانه {مِّن سِجِّيلٍ} .

٣٤-٣٦

{مسوّمة عند ربّك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}.

٣٧

{وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً} عبرة {لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الِيمَ} .

٣٨

{وَفِى مُوسَى} أي وتركنا في إرسال موسى أيضاً عبرة وقال الفرّاء : هو معطوف على قوله : {وفي الأرض آيات..، وفي موسى} {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .

٣٩

{فَتَوَلَّى} فأعرض وأدبر عن الإيمان {بِرُكْنِهِ} بقوته وقومه،

نظيره {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ} يعني المنعة والعشيرة،

وقال المؤرخ : بجانبه {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} قال أبو عبيدة : (أو) بمعنى (الواو)؛ لأنهم قد قالوهما جميعاً،

وأنشد بيت جرير :

أثعلبة الفوارس أو رياحاً

عدلت بهم طهيّة والخشابا

وقد يوضع (أو) بمعنى (الواو) كقوله : {أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا} و (الواو) بمعنى (أو) كقوله سبحانه : {وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} .

٤٠

{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} قد أتى بما يلام عليه.

٤١

{وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وهي التي لا تلقّح شجراً ولا تنشئ سحاباً ولا رحمة فيها (ولا) بركة.

٤٢

{مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} كالنبت الذي قد يبس وديس.

قال ابن عباس كالشيء الهالك. مقاتل : كالبالي. مجاهد : كالتبن اليابس. قتادة : كرميم الشجر. أبو العالية : كالتراب المدقوق. (قال) يمان : ما رمته الماشية بمرمتها من (الكلأ)،

ويقال للنسفة : المرمة والمقمة،

وقيل : أصله من العظم البالي.

٤٣

{وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} يعني وقت فناء آجالهم.

٤٤

{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} قال الحسين بن واقد : كلّ صاعقة في القرآن فهي عذاب {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليها نهاراً.

٤٥

{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض به ولا دفاع {وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} منتقمين منّا.

قال قتادة : وما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من اللّه.

٤٦

{وَقَوْمَ نُوحٍ} قرأ أبو عمرو والاعمش وحمزة والكسائي وخلف (وقوم) بجرّ الميم في {قَوْمُ نُوحٍ} ،

وقرأ الباقون بالنصب،

وله وجوه : أحدهما : أن يكون مردوداً على الهاء والميم في قوله {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} أي وأخذت قوم نوح،

والثاني : وأهلكنا قوم نوح،

والثالث : واذكر قوم نوح {مِّن قَبْلُ} أي من قبل عاد وثمود وقوم فرعون {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .

٤٧

{وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ} بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} قال ابن عباس قادرون،

وعنه أيضاً : لموسعون الرزق على خلقنا. الضحاك : أغنياء،

دليله قوله سبحانه {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} القتيبي : ذوو سعة على خلقنا. الحسين بن الفضل : أحاط علمنا بكل شيء. الحسن : مطبقون.

٤٨

{والأرض فَرَشْنَاهَا} بسطنا ومهدّنا لكم {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} الباسطون،

والمعنى في الجمع التعظيم.

٤٩

{وَمِن كُلِّ شَىْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض،

والشمس والقمر،

والليل والنهار،

والبر والبحر،

والسهل والجبل،

والشتاء والصيف،

والجن والانس،

والكفر والإيمان،

والشقاوة والسعادة،

والحق والباطل،

والذكر والانثى،

والجنة والنار. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أنّ خالق الأزواج فرد.

٥٠

{فَفِرُّوا إِلَى اللّه} أي : فاهربوا من عذاب اللّه إلى ثوابه بالإيمان ومجانبة العصيان.

قال ابن عباس : فرّوا منه إليه،

واعملوا بطاعته،

وقال أبو بكر الورّاق : فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرَّحْمن،

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا محمد بن حمدان بن سفيان،

قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : حدّثنا يعقوب بن القاسم،

قال : حدّثنا محمد بن معز عن محمد بن عبداللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان في قوله سبحانه {فَفِرُّوا إِلَى اللّه} قال : اخرجوا إلى مكة. الحسين بن الفضل : احترزوا من كل شيء دونه،

فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه.

قال الجنيد : الشيطان داع إلى الباطل،

ففرّوا إلى اللّه يمنعكم منه. ذو النون : ففرّوا من الجهل إلى العلم،

ومن الكفر إلى الشكر. عمرو بن عثمان : فرّوا من أنفسكم إلى ربّكم. الواسطي : فرّوا إلى ما سبق لكم من اللّه ولا تعتمدوا على حركاتكم. سهل بن عبداللّه : فرّوا مما سوى اللّه إلى اللّه. {إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .

٥١

{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} .

٥٢

{كَذَالِكِ} أي : كما كفر بك قومك،

وقالوا ساحر ومجنون كذلك {مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} .

٥٣

{أَتَوَاصَوْا بِهِ} أوصى بعضهم بعضاً بالتكذيب وتواطؤوا عليه،

والألف فيه ألف التوبيخ. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} عاصون.

٥٤

{فَتَوَلَّ} فأعرض {عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ} فقد بلّغتَ ما أُرسلتَ به وما قصّرتَ فيما أُمرتَ.

قال المفسرون : فلمّا نزلت هذه الآية حزن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) واشتدّ ذلك على أصحابه،

ورأوا أن الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر،

٥٥-٥٦

فأنزل اللّه سبحانه {فذكّر إنّ الذكرى تنفع المؤمنين وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدونِ} قال علي بن أبي طالب : معناه إلاّ لآمرهم أن يعبدون،

وأدعوهم إلى عبادتي،

واعتمد الزجاج هذا القول،

ويؤيده قوله {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الها وَاحِدًا} وقوله : {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .

قال ابن عباس : ليقرّوا لي بالعبوديه طوعاً أو كرهاً.

فإن قيل : فكيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلّل لأمره ومشيئته،

وأنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضى عليهم؟

(قلنا : ) لأنّ قضاءه جار عليهم ولا يقدرون الامتناع منه إذا نزل بهم،

وإنّما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به،

فأمّا التذلّل لقضائه فإنّه غير ممتنع فيه،

وقال مجاهد : إلاّ ليعرفونِ.

ولقد أحسن في هذا القول لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده،

ودليل هذا التأويل قوله : {وَلَ ن سَأَلْتَهُمْ} الآيات.

وروى حيّان عن الكلبي : إلاّ ليوحّدونِ،

فأمّا المؤمن فيوحّده في الشدّة والرخاء،

وأمّا الكافر فيوحده في الشدّه والبلاء دون النعمة والرخاء،

بيانه قوله سبحانه : {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية.

وقال عكرمة : إلا ليعبدونِ ويطيعونِ. فأُثيب العابد وأعاقب الجاحد،

وقال الضحاك وسفيان : هذا خاص لأهل عبادته وطاعته. يدلّ عليه (ما) قرأهُ ابن عباس :

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ} من المؤمنين {إِلا لِيَعْبُدُونِ} .

قال في آية أُخرى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَانسِ} وقال بعضهم : معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلاّ لعبادتي،

والأشقياء منهم إلاّ لمعصيتي،

وهذا معنى قول زيد بن أسلم،

قال : ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة،

وقال الحسين بن الفضل : هو الاستعباد الظاهر.

وليس على هذا القدر؛ لأنّه لو قدر عليهم عبادته لما عصوه ولما عبدوا غيره وإنمّا هو كقوله : {جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} ثم قال : {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} .

ووجه الآية في الجملة أنّ اللّه تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار،

فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خُلق لها،

ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق لها. كقوله (صلى اللّه عليه وسلم) (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) واللّه أعلم.

٥٧

{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} أي رزقاً

٥٨

{وما أُريد أن يطعمون إن اللّه هو الرزاق ذو القوّة المتين} قرأة العامّة برفع النون على نعت اللّه سبحانه وتعالى،

وهو القوي المقتدر المبالغ في القوّة والقدرة.

قال ابن عباس : المتين الصلب الشديد،

وقرأ يحيى والأعمش {الْمَتِينُ} خفضاً على نعت القوّة. قال الفرّاء : كان حقّه التأنيث فذكّره؛ لأنّه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم الفتل،

كما يقال : حبل متين،

وأنشد الفرّاء :

لكلّ دهر قد لبست أثوبا

حتى اكتسى الرأس قناعاً أشيبا

من ريطة واليمنة المعصّبا

فذكّر المعصب؛ لأنّ اليمنة صنف من الثياب.

ومن هذا الباب قوله سبحانه : {من جاءه موعظة} أي وعظ،

وقوله : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} أي الصياح والصوت.

وأخبرنا أبو عبداللّه بن فنجويه الدينوري،

قال : حدّثنا القطيفي،

قال : حدّثنا عبداللّه بن أحمد بن حنبل،

قال : حدّثني أبي،

قال : حدّثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي كثير قالا : حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالرَّحْمن بن يزيد عن عبداللّه بن مسعود قال : أقرأني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {إنّي أنا الرازق ذو القوة المتين} .

٥٩

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} كفروا من أهل مكة {ذَنُوبًا} قال ابن عباس وسعيد بن جبير : سجّلا. مجاهد : سبيلا. النخعي : طرفاً. عطاء وقتادة : عذاباً. الحسن : دولة. الكسائي : حظاً. الأخفش : نصيباً.

وأصل الذّنوب في اللغة الدلو الكبيرة العظيمة المملوءه ماءً.

قال الراجز :

لها ذَنوب ولكم ذَنوب

فإن أبيتم فلنا القليب

ثم يستعمل في الحظ والنصيب كقول علقمة بن عبيدة.

وفي كل قوم قد خبطت بنعمة

فحق لشأس من نداك ذَنوب

لعمرك والمنايا طارقات

لكل بني أب منهم ذَنوب

{مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} من كفار الأُمم الخالية {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} بالعذاب،

فإنّما أُمهلوا مع ذنوبهم لأجل ذنوبهم.

٦٠

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ} وهو يوم بدر،

وقيل : يوم القيامة.

﴿ ٠