٩{فَكَانَ} منه {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أي : بل أدنى، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع. قال أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير، تقديره : ثم تدلّى فدنا؛ لأن التدلّي : الدنوّ، ولكنه سامع حسن؛ لأن التدلّي يدل على الدنوّ، والدنو يدل على التدلّي، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي، وقال آخرون : معناه ثم دنا الرب سبحانه من محمد (صلى اللّه عليه وسلم) فتدلّى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وأصل التدلىّ : النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب، قال لبيد : فتدلّيت عليه قافلا وعلى الأرض غيابات الطفل وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس. وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا الربيع قال : حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال : سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى السماء السابعة، ثم علا به بما لا يعلمه إلاّ اللّه (عز وجل) حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار ربّ العزة فتدلّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه ما شاء، ودنوّ اللّه من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية، لا بالمكان والمسافة والنقلة، كقوله سبحانه : {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . وقال بعضهم : معناه : ثم دنا جبريل من ربّه عزّوجل فكان منه قاب قوسين أو أدنى، وهذا قول مجاهد، يدلّ عليه ما روي في الحديث : (إنه أقرب الملائكة من جبرائيل الى اللّه سبحانه). وقال الضحاك : ثم دنا محمد من ربّه عز وجل فتدلّى فأهوى للسجود، فكان منه قاب قوسين أو أدنى، وقيل : ثم دنا محمد من ساق العرش فتدلّى، أي : جاور الحجب والسرادقات، لا نقلة مكان، وهو قائم بإذن اللّه كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل. ومعنى قوله {قَابَ قَوْسَيْنِ} قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء، ونظيره من الكلام زير وزار. قال (صلى اللّه عليه وسلم) ( لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدينا وما فيها). وقال مجاهد : معناه حيث الوتر من القوس، وقال سعيد بن المسيب : القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد (صلى اللّه عليه وسلم) عند الوحي كقرب قاب قوسين. وقال أهل المعاني : هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة، وأصله أنّ الحليفَين والمحبَّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما والصفا بينهما يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وقيل : هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} قدر ذراعين، والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض أهل الحجاز. {أَوْ أَدْنَى} بل أقرب. وقال بعض : إنّما قال {أَوْ أَدْنَى} ؛ لأنه لم يردْ أن يجعل لذلك حدّاً محصوراً. وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال : كيف أصف لكم مقاماً انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل، ولم يكن إلاّ محمد وربّه؟ وقال الكسائي : {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} أراد قوساً واحداً كقول الشاعر : ومَهْمَهَيْنِ قَذَقَيْنِ مَرْتَيْنْ قطعته بالسّمْتِ لا بالسّمْتَيْنْ أراد مهمهاً واحداً. وقال بعض أهل المعاني : معنى قوله : {فَتَدَلَّى} فتدلّل من الدلال كقولهم : (تظني بمعنى تظنن) وأملى وأملل بمعنى واحد. |
﴿ ٩ ﴾