سورة الحديد

مدنية وهي ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفاًوخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وتسع وعشرون آية

أخبرنا أبو الحسين المقرىء،

حدّثنا أبو بكر الاسماعيلي،

حدّثنا وأبو الشيخ الأصفهاني قالا،

حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك،

حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي،

حدّثنا سلام بن سليم المدايني،

حدّثنا هارون بن كثير،

حدّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة،

عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا باللّه ورسوله).

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١-٣

{سبح للّه ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن} يعني {هُوَ الأوَّلُ} قبل كل شيء بِلا حَد ولا ابتداء،

كان هو ولا شيء موجود {وَاخِرُ} بعد فناء كل شيء {وَالظَّاهِرُ} الغالب العالي على كل شيء،

وكل شيء دونه {وَالْبَاطِنُ} العالم بكل شيء،

فلا أحد أعلم منه.

وهذا معنى قول ابن عباس.

وقال ابن عمر : الأول بالخلق والآخر بالرزق،

والظاهر بالاحياء والباطن بالإماتة.

وقال الضحّاك : هو الذي أول الأول وآخر الاخر،

وأظهر الظاهر وأبطن الباطن.

مقاتل بن حيان : هو الأول بلا تأويل أحد،

والآخر بلا تأخير أحد والظاهر بلا إظهار أحد والباطن بلا إبطان أحد.

وقال يمان : هو الأول القديم،

والآخر الرحيم،

والظاهر الحليم،

والباطن العليم.

وقال محمد بن الفضل : الأول ببرّه والآخر بعفوه،

والظاهر بإحسانه والباطن بسرّه.

وقال أبو بكر الوراق : هو الأول بالأزلية والآخر بالأبدية،

والظاهر بالأحدية والباطن بالصمدية.

عبد العزيز بن يحيى : هذه الواوات مقحمة والمعنى : هو الأول الآخر الظاهر الباطن،

لأن من كان منا أولا لا يكون آخراً،

ومن كان ظاهراً لا يكون باطناً.

وقال الحسين بن الفضل : هو الأول بلا ابتداء،

والآخر بلا إنتهاء،

والظاهر بلا إقتراب،

والباطن بلا إحتجاب.

وقال القناد : الأول السابق إلى فعل الخير والمتقدم على كل محسن إلى فعل الإحسان،

والآخر الباقي بعد فقد الخلق،

والخاتم بفعل الإحسان،

والظاهر الغالب لكل أحد،

ومن ظهر على شيء فقد غلبه،

والظاهر أيضاً : الذي يعلم الظواهر ويشرف على السرائر،

والظاهر أيضاً : ظهر للعقول بالإعلام وظهر للأرواح باليقين وإن خفي على أعين الناظرين،

والباطن الذي عرف المغيّبات وأشرف على المستترات،

والباطن أيضاً : الذي خفي عن الظواهر فلم يدرك إلاّ بالسرائر.

وقال السدي : الأول ببرّه إذ عرّفك توحيده،

والآخر بجوده إذ عرّفك التوبة على ما جنيت،

والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له،

والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك.

وقال ابن عطاء : الأول بكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها،

والآخر بكشف أحوال العقبى حتى لا يشكّوا فيها،

والظاهر على قلوب أوليائه حتى يعرفوه،

والباطن عن قلوب أعدائه حتى ينكروه.

وقيل : الأول قبل كل معلوم،

والآخر بعد كل مختوم،

والظاهر فوق كل مرسوم،

والباطن محيط بكل مكتوم.

وقيل هو الأول بإحاطة علمه بذنوبنا قبل وجود ذنوبنا،

والآخر بسترها علينا في عقبانا،

والظاهر بحفظه إيانا في دنيانا،

والباطن بتصفية أسرارنا وتنقية أذكارنا.

وقيل : هو الأول بالتكوين،

بيانه قوله {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شيئا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}

والآخر بالتلقين،

بيانه قوله {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية.

والظاهر بالتبيين بيانه {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} والباطن بالتزيين بيانه {وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ} .

وقال محمد بن علي الترمذي : الأول بالتأليف والآخر بالتكليف والظاهر بالتصريف،

والباطن بالتعريف.

وقال الجنيد : هو الأول بشرح القلوب،

والآخر بغفران الذنوب،

والظاهر بكشف الكروب،

والباطن بعلم الغيوب.

وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.

وقيل : هو الأول بالهيبة والسلطان،

والآخر بالرحمة والاحسان،

والظاهر بالحجة والبرهان،

والباطن بالعصمة والامتنان.

وقيل : هو الأول بالعطاء،

والآخر بالجزاء،

والظاهر بالثناء،

والباطن بالوفاء.

وقيل : هو الأول بالبرّ والكرم،

والآخر بنحلة القسم،

والظاهر باسباغ النعم،

والباطن بدفع النقم.

وقيل : هو الأول بالهداية،

والآخر بالكفاية،

والظاهر بالولاية،

والباطن بالرعاية.

وقيل : هو الأول بالانعام،

والآخر بالاتمام،

والظاهر بالاكرام،

والباطن بالالهام.

وقيل : هو الأول بتسمية الأسماء،

والآخر بتكملة النعماء،

والظاهر بتسوية الأعضاء،

والباطن بصرف الأهواء.

وقيل : هو الأول بإنشاء الخلائق،

والآخر بافناء الخلائق،

والظاهر باظهار الحقائق،

والباطن بعلم الدقائق.

وقال الواسطي : لم يدع للخلق نفساً بعد ما أخبر عن نفسه أنه الأول والآخر والظاهر والباطن.

وسمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت الشبلي يقول : في هذه الآية أشياء ساقطة فإني أول آخر ظاهر باطن.

{وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} أخبرنا شعيب بن محمد أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أحمد بن الأزهر حدّثنا روح بن عبادة،

حدّثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال : (هل تدرون ما هذا؟)

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه اللّه عزّوجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه)

ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ).

قال : (فكم تدرون بينكم وبينها؟

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة)

قال : (هل تدرون ما فوق ذلك؟

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة) حتى عدّد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة.

ثم قال : (هل تدرون ما فوق ذلك؟)

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين).

ثم قال : (هل تدرون ما الذي تحتكم؟

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (فإنها الأرض).

قال : (فهل تدرون ما تحتها؟)

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (فإن تحتها أرضاً أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة)،

ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على اللّه) ثم قرأ {هُوَ الأوَّلُ وَاخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} ومعناه بالعلم والقدرة والخلق والملك.

أخبرنا عبداللّه بن حامد،

أخبرنا أبا مكي،

أخبرنا أحمد بن منصور المروزي،

حدّثنا علي ابن الحسن،

حدّثنا أبو حمزة عن الأعمش،

عن أبي صالح،

عن أبي هريرة قال : دخلت فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسألته خادماً فقال لها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ألا أدلك على ماهو خير لك من ذلك أن تقولي : اللّهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم،

ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان،

فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت أخذ بناصيته،

أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء،

وأنت الظاهر فليس فوقك شيء،

وأنت الباطن فليس دونك شيء،

اقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر).

٤

{هو الذي خلق السماوات في ستة أيام ثم استوى على العرش} أخبرني ابن فنجويه،

حدّثنا عمر بن الخطاب،

حدّثنا عبداللّه بن الفضل حدّثني أحمد بن وركان،

حدّثنا علي بن الحسن بن شقيق قال : قلت لعبداللّه بن المبارك : كيف نعرف ربنا عزّوجل ؟

قال : في السماء السابعة على عرشه،

ولا تقول كما قالت الجهمية : ههنا في الأرض.

وقد ذكرنا معنى الاستواء وحققنا الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} بالعلم والقدرة

٥-٨

{اينما كنتم واللّه بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى اللّه ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور آمنوا باللّه ورسوله وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} مملّكين،

معمرين فيه {فالذين آمنوا منكم وانفقوا لهم أجر كبير ومالكم لا تؤمنون باللّه والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} في ظهر آدم بان اللّه ربكم لا إله لكم سواه. قاله مجاهد.

وقيل : {أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} بأن ركّب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول.

وقراءة العامة : بفتح الهمزة والقاف.

وقرأ أبو عمرو بضمّهما على وجه ما لم يسمى فاعله. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يوماً من الأيام،

فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام على حقيقة الإسلام وصحة نبوة المصطفى (عليه السلام).

وقيل : {أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} بأن ركّب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول.

وقراءة العامة : بفتح الهمزة والقاف.

وقرأ أبو عمرو بضمّهما على وجه ما لم يسمى فاعله. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يوماً من الأيام،

فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام على حقيقة الإسلام وصحة نبوة المصطفى (عليه السلام).

٩

{هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ} اللّه بالقرآن،

وقيل : ليخرجكم الرسول بالدعوة {من الظلمات إلى النور وإن اللّه بكم لرؤوفٌ رحيم}.

١٠-١١

{ومالكم ألا تنفقوا في سبيل اللّه وللّه ميراث السماوات والأرض} ثم بيّن سبحانه فضل السابقين في الانفاق والجهاد فقال عزّ من قائل {يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ} يعني : فتح مكة في قول أكثر المفسرين.

وقال الشعبي : هو صلح الحديبية قال : وقال أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يا رسول اللّه أفتح هو؟

قال : (نعم عظيم). وقاتل مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم)

{أُولَاكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ} أي من بعد الفتح {وَقَاتَلُوا} .

أخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير حدّثني ابن البرقي،

حدّثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم).

قال : من هم يا رسول اللّه؟

قريش.

قال : (لا هم أرق أفئدة وألين قلوباً ) وأشار بيده إلى اليمن فقال : (هم أهل اليمن،

ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية)

فقلنا : يا رسول اللّه هم خير منّا؟

قال : (والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه) ثم جمع أصابعه ومدَّ خنصره فقال : (ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل).

وروى محمد بن الفضل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ح،

وفي هذه الآية دلالة واضحة وحجة بيّنة على فضل أبي بكر بتقديمه لأنه أول من أسلم.

أخبرنا عبداللّه بن حامد،

أخبرنا أبو بكر،

أخبرنا أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا محمد بن أيوب،

أخبرنا أبو الوليد الطيالسي،

حدّثنا عكرمة بن عماد،

حدّثنا شداد بن عبداللّه أبو عمار وقد كان أدرك نفراً من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : قال أبو امامة لعمرو بن عبسة بأي شيء تدّعي أنك ربع الإسلام؟

قال : إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً،

ثم سمعت عن رجل يخبرنا أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه،

فإذا قومه عليه جرآء قال : قلت : ما أنت؟

قال : أنا نبي. قلت : وما نبي؟

قال : رسول اللّه.

قلت : بأي شيء أرسلك؟

قال : (أوحد اللّه ولا أشرك به شيئاً وكسر الأوثان وصلة الأرحام).

قلت : من معك على هذا؟

قال : حرّ وعبد. وإذا معه أبو بكر وبلال،

فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني ربع الإسلام.

ولأنه أول من أظهر الإسلام :

أخبرنا أبو محمد الأصبهاني،

أخبرنا أبو بكر الصعي،

أخبرنا عبداللّه بن احمد بن حنبل،

أخبرنا أبي،

حدّثنا يحيى بن أبي كثير،

حدّثنا زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبداللّه ابن مسعود قال : كان أول من أظهر الإسلام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأبو بكر وعمار وأُمّه سمية وصهيب وبلال والمقداد.

ولأنه أول من قاتل على الإسلام :

أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد الجرجاني بها،

أخبرنا أبو الطاهر محمد بن الحسن المحمدآبادي وحدّثنا أبو قلابة،

حدّثنا يحيى بن أبي كثير،

حدّثنا زائدة عن عاصم عن زر عن عبداللّه بن مسعود قال : أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأبو بكر ح. ولأنه أول من أنفق على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في سبيل اللّه.

أخبرنا عبداللّه بن حامد،

أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب،

أخبرنا محمد بن يونس،

حدّثنا العلا بن عمرو الشيباني،

حدّثنا أبو إسحاق الفزاري،

حدّثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال : كنت عند النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خللّها في صدره بخلال فقال : (أنفق ماله عليَّ قبل الفتح).

قال : فإن اللّه عزّوجل يقول : إقرأ عليه السلام وتقول له : أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟

فقال أبو بكر : أأسخط ؟

إني عن ربي راض إني عن ربي راض.

ولهذا قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقروا له بالتقدم والسّبق.

وأخبرنا عبداللّه بن حامد،

أخبرنا أبو بكر بن إسحاق،

أخبرنا محمد بن يونس عقبة بن سنان،

حدّثنا أبو بشر،

حدّثنا الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن عمرو بن مرّة عن عبداللّه بن سلمة عن علي ح قال : سبق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وصلى أبو بكر وثلث عمر فلا أُوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلاّ جلدته جلد المفتري وطرح الشهادة.

{وكلا وعد اللّه الحسنى واللّه بما تعملون خبير من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم} .

١٢

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم} على الصراط {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} .

قال بعضهم : أراد جميع جوانبهم،

فعبّر بالبعض عن الكل على مذهب العرب في الإيجاز،

ومجازه : عن أيمانهم.

وقال الضحّاك : أراد {يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} كتبهم.

وقرأ سهل بن سعد الساعدي : بإيمانهم بكسر الهمزة،

والقراءة الصحيحة ما عليه العامة،

وأراد بالنور : القرآن.

قال عبداللّه بن مسعود : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يأتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً على إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة.

وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك،

حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره موضع قدميه،

وتقول لهم الملائكة : {بُشْرَ اكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا ذلك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ).

١٣

{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا} قرأة العامة : موصولة أي انتظرونا.

وقرأ يحيى والأعمش وحمزة : (أنظرونا) بفتح الألف وكسر الظاء أي أمهلونا.

وقال الفراء : تقول العرب : أنظرني أي إنتظرني،

وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم :

أبا هند فلا تعجل علينا

وانظرنا نخبرك اليقينا

قال : يعني انتظرنا.

{نَقْتَبِسْ} نستضيء {مِن نُّورِكُمْ} قال المفسرون : إذا كان يوم القيامة أعطى اللّه تعالى المؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط،

وأعطى المنافقين الضالّين كذلك خديعة لهم وهو قوله عزّوجل {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} .

وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور.

قالوا فبينما هم يمشون إذ بعث اللّه تعالى ريحاً وظلمة فأطفأ نور المنافقين،

فذلك قوله عزّ وجل {يوم يجزي اللّه النبي والذين آمنوا معه يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} مخافة أن يُسلبوا نورهم كما سلب المنافقون،

فإذا بقي المنافقون في الظلمة قالوا للمؤمنين {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ} من حيث جئتم {فَالْتَمِسُوا} فاطلبوا هناك لأنفسكم {نُورًا} فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} أي سور والباء صلة،

عن الكسائي. وهو حاجز بين الجنة والنار {لَّهُ بَابُ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني الجنة {وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ} أي من قبل ذلك الظاهر {الْعَذَابُ} وهو النار.

أخبرني ابن فنجويه،

حدّثنا أحمد بن ماجة القزويني،

حدّثنا محمد بن أيوب الرازي،

حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : وأخبرني ابن حمدان،

حدّثنا ابن ماهان،

حدّثنا موسى بن إسماعيل حماد عن أبي سنان قال : كنت مع علي بن عبداللّه بن عباس عند وادي جهنم فحدّث عن أبيه وقرأ {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابُ} الآية ثم قال : أي هذا موضع السور،

يعني وادي جهنم.

وأخبرني ابن فنجويه،

حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرني أحمد بن عمير بن يوسف،

حدّثنا عبدالسلام بن عتيق،

حدّثنا أبو مسهر،

حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز عن عطية بن قيس حدّثني أبو العوام مؤذن أهل بيت المقدس عن عبداللّه بن عمرو قال : إن السور الذي ذكر اللّه عزّوجل في القرآن {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابُ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} سور مسجد بيت المقدس الشرقي باطنه من المسجد وظاهره من قبله {الْعَذَابُ} الوادي : وادي جهنم.

وأخبرني ابن فنجويه،

حدّثنا السني،

حدّثنا أبو يعلي الموصلي حدّثنا أبو نصر التمار،

حدّثنا سعيد بن عبدالعزيز،

عن زياد بن أبي سودة أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى. فقال بعضهم : ما يبكيك يا أبا الوليد؟

فقال : من هاهنا أخبرنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه رأى جهنم.

وأخبرني عقيل أن أبا الفرج حدثهم عن محمد بن جرير حدّثني محمد بن عوف،

حدّثنا أبو المغيرة،

حدّثنا صفوان،

حدّثنا شريح أن كعباً يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال اللّه عزّوجل {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} الآية.

١٤

{يُنَادُونَهُمْ} يعني ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور،

فبقوا في الظلمة والعذاب،

وصار المؤمنون في النور والرحمة {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} في الدنيا نصوم ونصلي ونناكحكم ونوارثكم؟

{قَالُوا بَلَى وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ} أهلكتم {أَنفُسِكُمْ} بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالأيمان.

وقال مقاتل : بل تربّصتم بمحمد الموت وقلتم : يوشك أن يموت محمد فتستريح {وَارْتَبْتُمْ} شككتم في التوحيد والنبوة {وَغرَّتْكُمُ امَانِىُّ} للأباطيل.

وقال أبو بكر الورّاق : طول الأمل.

أخبرني الحسين،

حدّثنا ابن حمدان،

حدّثنا يوسف بن عبداللّه،

حدّثنا مسلم بن أدهم حدّثنا همام بن يحيى،

حدّثنا إسحاق بن عبداللّه بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خط خطوطاً وخط خطاً منها ناحية فقال : (تدرون ما هذا؟

هذا مثل ابن آدم ومثل التمني،

وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت).

وأخبرنا الحسين،

حدّثنا الكندي،

حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر،

حدّثنا يحيى بن عبد الباقي،

حدّثنا عمرو بن عثمان،

حدّثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال : ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرّة.

{حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللّه} يعني الموت {وَغَرَّكُم بِاللّه الْغَرُورُ} أي الشيطان. وقرأ سماك بن حرب : بضم الغين يعني الأباطيل.

قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان وما زالوا عليها حتى قذفهم اللّه في النار.

١٥

{فَالْيَوْمَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} بدل وعوض.

قراءة العامة يؤخذ بالياء.

وقرأ ابن عامر والحسن وأبو جعفر ويعقوب بالتاء واختاره أبو حاتم.

{وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني المشركين {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي صاحبتكم وأولى بكم وأحق بإن تكون مسكناً لكم.

قال لبيد :

فعذب كلا الفريقين بحسب أنه

مولى المخافة خَلَقَها وإمامها

١٦

{وبئس المصير ألم يأن للذين آمنوا} الآية. قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة،

وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدّثنا عمّا في التوراة فإن فيها العجائب،

فنزلت الآية {تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فخبّرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم،

فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء اللّه ثم (عادوا) فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت {اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية. فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء اللّه ثم (عادوا) أيضاً فسألوا فقالوا : حدّثنا عن التوراة فإن فيها العجائب،

ونزلت هذه الآية.

فعلى هذا القول يكون تأويل الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} في العلانية واللسان.

وقال غيرهما : نزلت في المؤمنين.

قال عبداللّه بن مسعود : مَلَّ أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : يا رسول اللّه لو حدّثتنا فأنزل اللّه عزّوجل {اللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية.

فقالوا : يا رسول اللّه لو قصصت علينا فأنزل اللّه عزّوجل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية.

فقالوا : يا رسول اللّه لو ذكّرتنا ووعظتنا. فأنزل اللّه عزّوجل هذه الآية.

وقال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلاّ أربع سنين،

فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً.

وقال ابن عباس : إن اللّه تعالى استبطأ قلوب المؤمنين،

فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن،

فقال {أَلَمْ يَأْنِ} يحن {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ} ترق وتلين وتخضع {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه وَمَا نَزَلَ} .

قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص : خفيفة الزاي،

غيرهم : مشددة.

{مِنَ الْحَقِّ} وهو القرآن،

قال مجاهد : نزلت هذه الآية في المتعرّبين بعد الهجرة.

أخبرنا عبداللّه بن حامد،

حدّثنا محمد بن خالد،

حدّثنا سليمان بن داود،

حدّثنا عبد بن حميد،

حدّثنا يزيد بن هارون،

حدّثنا الحسام بن المصك عن الحسن عن شداد بن أوس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أول ما يرفع من الناس الخشوع).

{وَلا يَكُونُوا} يعني وألاّ يكونوا،

محله نصب بالعطف على {تَخْشَعَ} قال الأخفش : وإن شئت جعلته نهياً فيكون مجازه : ولا يكونن،

ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ : (ولا تكونوا) بالتاء.

{كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ} وهم اليهود والنصارى. {فَطَالَ عَلَيْهِمُ امَدُ} الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} .

روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عُميلة،

حدّثنا عبداللّه حدّثنا،

ما سمعت حدّثنا هو أحسن منه إلاّ كتاب اللّه عزّوجل أو رواية عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم،

وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون،

فقالوا : إعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم،

وإن خالفوكم فاقتلوهم،

ثم قالوا : لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فإقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد.

فأرسلوا إليه،

فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب اللّه عزّوجل ثم جعلها في قَرن ثم علّقها في عنقه،

ثم لبس عليه الثياب،

ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا : أتؤمن بهذا؟

فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا،

ومالي لا أومن بهذا؟

يعني الكتاب الذي في القَرن،

فخلّوا سبيله.

وكان له أصحاب يغشونه،

فلما مات نبشوه فوجدوا القَرن ووجدوا فيه الكتاب،

فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا،

ومالي لا أوُمن بهذا؟

إنما عني هذا الكتاب؟

فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة،

وخير مللّهم أصحاب ذي القَرن.

قال عبداللّه : وإن من بقي منكم سيرى منكراً،

وبحسب أمرى يرى منكراً لا تستطيع أن يغيره أن يعلم اللّه من قلبه أنه له كاره.

وقال مقاتل بن حيان : إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) {طال عليهم الأمد} يعني خروج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع،

ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وآمنوا به،

ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد (عليه السلام).

وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين،

فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه،

فقست قلوبهم،

فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيماناً ويقيناً وإخلاصاً في طول صحبة الكتاب.

أنبأني عبداللّه بن حامد،

أخبرنا أبو عبداللّه محمد بن العباس الضبّي،

أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبداللّه النيّري،

حدّثنا أبو سعيد الأشج،

حدّثنا أبو خالد الأحمر،

عن ابن عجلان،

عن وائل بن بكر قال : قال عيسى (عليه السلام) : (لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فَتقسوَ قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من اللّه ولكن لا تعلمون،

ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب،

وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى،

فارحموا أهل البلاء واحمدوا اللّه على العافية).

أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى،

حدّثنا أبو عبداللّه المقرىء قال : سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول : سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول : كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا،

فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه} فرجع القهقرى.

وهو يقول : بلى فلان بلى واللّه فلان. فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة،

وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية : فضيل بدر أهست در ما راه بُرّذ.

فقال الفضيل في نفسه : الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني؟

اللّهم إني قد تبت إليك،

وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.

ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية : منم فضيل كناه كار أز من ترسيد يدأكنون مترسيد.

قال الفضل بن موسى : ثم خرج فجاور.

وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد،

أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة،

حدّثنا أبو يعقوب البزاز،

حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي،

حدّثنا أحمد بن زيد،

حدّثنا حسين ابن الحسن قال : سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال : إني كنت في بستان،

وأنا شاب مع جماعة من أترابي،

وذلك في وقت الفواكه،

فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فقمت في بعض الليل،

فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه} قال : فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شُغلت عن اللّه،

وجاء التوفيق من اللّه عزّ وجل فكان ما سُهل لنا من الخير بفضل اللّه.

١٧-١٨

{اعلموا أن اللّه يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون إن المصدقين والمصدقات}. قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه : إن المؤمنين والمؤمنات.

وقرأ الباقون : بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات،

فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر،

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتباراً لقراءة أُبي : (إن المتصدقين والمتصدقات واقرضوا اللّه قرضاً حسناً) بالصدقة والنفقة في سبيله.

قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل،

مجازه : إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها.

قراءة العامة : بالألف وفتح العين. وقرأ الأعمش : (يضاعفه) بكسر العين وزيادة هاء.

وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر (يضعّف) بالتشديد.

{وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة

١٩

{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ أُولَاكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} واحدهم : صديق وهو الكثير الصدق.

قال الضحاك : هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبدالمطلب،

تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه اللّه بهم لما عرف من صدق نبيّه.

{وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ} اختلف العلماء فى نظم هذه الآية وحكمها،

فقال قوم : تمام الكلام عند قوله : {الصِّدِّيقُونَ} ثم ابتدأ فقال : {وَالشُّهَدَآءُ} وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة،

والواو فيه واو الاستثناء،

وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء. وقال الآخرون : هي متصلة بما قبلها،

والواو فيه واو النسق.

ثم اختلفوا في معناها،

فقال الضحّاك : نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين،

وكانوا كلّهم شهداء،

وقد مرّ ذكرهم.

وقال غيره : نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم.

أخبرني عبد اللّه بن حامد إجازة قال : أخبرنا أحمد بن عبد اللّه المزني قال : حدّثنا عبد اللّه ابن غنام النخعي قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا عبيد بن سعيد،

عن شعبة،

عن أبي قيس،

عن الهرمل،

عن عبد اللّه قال : إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه،

وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا،

وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه اللّه،

وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيداً،

ثم قرأ : {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ أُولَاكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ} .

وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان بن ليث،

عن مجاهد قال : كلّ مؤمن صدّيق شهيد،

ثم قرأ هذه الآية،

يعني موصولة.

وقال ابن عباس في بعض الروايات : أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة.

{لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} في ظلمة القيامة.

٢٠

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَآ أُولَاكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : {مَآ} صلة مجازه {اعْلَمُوا} .

{لَعِبٌ} باطل لا حاصل له {وَلَهْوٌ} : فرح ثم ينقضي {وَزِينَةٌ} منظر يتزيّنون به،

{وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ} : يفخر به بعضكم على بعض،

{وَتَكَاثُرٌ فِى امْوَالِ وَاوْلْادِ} أي يُتاه بكثرة الأموال والأولاد.

وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين : لعب كلعب الصبيان،

ولهو كلهو الفتيان،

وزينة كزينة النسوان،

وتفاخر كتفاخر الأقران،

وتكاثر كتكاثر الدهقان.

وقال عليّ بن ابي طالب لعمار بن ياسر : (لا تحزن على الدنيا،

فإن الدنيا ستّة أشياء : مطعوم،

ومشروب،

وملبوس،

ومشموم،

ومركوب،

ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة،

وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان،

وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود،

وأكبر المشموم المسك،

وهي دم فأرة ظبية،

وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال،

وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. واللّه إن المرأة ليزيَّن أحسنها يراد به أقبحها).

ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل : {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي الزّرّاع {نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فيبلى ويفنى {وَفى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ} ،

يعني : أو مغفرة {من اللّه ورضوان وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور }

٢١

{سابقوا} : سارعوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا} : سعتها {كعرض السماوات والأرض} لوصل بعضها ببعض.

وقال ابن كيسان : عنى به جنّة واحدة من الجنان.

{أعدّت للذين آمنوا باللّه ورسله ذلك فضل اللّه يوتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم}

٢٢

{ما أصاب من مصيبة في الأرض} بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر {وَلا فِى أَنفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام.

وقال الشعبي : المصيبة : ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ.

٢٣

ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : {لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} فذكر الحالتين جميعاً : {إِلا فِى كِتَابٍ} يعني : اللوح المحفوظ {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} : من قبل أن نخلق الأرض والأنفس.

وقال ابن عباس : يعني المصيبة.

وقال أبو العالية : يعني النسَمَة

{إِنَّ ذلك عَلَى اللّه يَسِيرٌ} إن خلق ذلك وحفظه على اللّه هيّن.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن مخلد قال : أخبرنا داود قال : حدّثنا عبيد قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال : دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم،

فقال : ما يبكيك؟

قال : أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال : فلا تبكِ،

فإنّه كان في علم اللّه سبحانه أن يكون،

ألم تسمع إلى قول اللّه عزّ وجلّ : {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأرض وَلا فِى أَنفُسِكُمْ} الآية.

{لكيلا اتأسوا} : تحزنوا {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا،

{وَلا تَفْرَحُوا} : تبطروا {لِّكَيْ تَأْسَوْا} . قراءة العامّة بمدّ الألف،

أي (أعطاكم)،

واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي : (جاءكم)،

واختاره أبو عبيد،

قال : لقوله سبحانه : {فَاتَكُمْ} ولم يقل : (أفاتكم) فجعل له،

فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضاً.

قال عكرمة : ما من أحد إلاّ وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكراً وللحزن صبراً.

{وَاللّه يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} : متكبّر بما أُوتي من الدنيا،

فخور به على الناس.

وقال ابن مسعود : لأن ألحسَ جمرة أحرقت ما أحرقت،

وأبقت ما أبقت،

أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن،

أو لشيء لم يكن : ليته كان.

وقال جعفر الصادق : (يا بن آدم،

مالك تأسّف على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟

ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟).

وقيل لبزرجمهر : ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟

فقال : لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة،

والآتي لا يستدام بالحبرة.

وقال الفضيل في هذا المعنى : الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له،

وما أفاد فقد أذن بالرحيل.

وقال الحسين بن الفضل : حمل اللّه سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت،

وترك الفرح بالآتي،

والرضا بقضائه في الحالتين جميعاً.

وقال قتيبة بن سعيد : دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أُحصي عددها،

فسألت عجوزاً : لمن كانت هذه الإبل؟

فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفاً،

فقلت له : يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟

قال : كانت باسمي. قلت : فما أصابها؟

قال : ارتجعها الذي أعطاها. قلت : وهل قلت في ذلك شيئاً؟

قال : نعم :

لا والذي أخذ (...) من خلائقه

والمرء في الدهر نصب الرزء والمحنِ

ما سرّني أنّ إبْلي في مباركها

وما جرى في قضاء اللّه لم يكنِ

وقال سلم الخوّاص : من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين؛ ليضع اللّه سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل : وما مذهبكم؟

قال : الرضا بالقضا،

ومخالفة الهوى. وأنشد :

لا تطل الحزن على فائت

فقلّما يجدي عليك الحزنْ

سيّان محزون على ما مضى

ومظهرٌ حزناً لما لم يكنْ

٢٤

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ،

قيل : هو في محل الخفض على نعت (المختال)،

وقيل : هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّه هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ} قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط {هُوَ} وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته.

٢٥

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} يعني له يعدل. وقال ابن زيد : ما يوزن به. {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} : ليعمل الناس بينهم بالعدل {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ} ،

قال ابن عباس : نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد : السندان،

والكلبتان،

والمنقعة،

والمطرقة،

والأُبرة.

وقال أهل المعاني : يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن،

وعلمهم صنيعته بوحيه.

وقال قطرب : هذا من النُزُل كما تقول : أنزل الأمر على فلان نزلا حسناً،

فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم،

ومثله قوله : {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} .

ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد اللّه الدهقان قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال : حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال : حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال : حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد (ابن أخت سفيان الثوري) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد اللّه بن خليفة عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : فأنزل الحديد،

والنّار،

والماء والملح).

{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ،

قوّة شديدة،

يعني : السلاح والكراع،

{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم؛ إذ هو آلة لكلّ صنعة. {وَلِيَعْلَمَ اللّه} ،

يعني : أرسلنا رسلنا،

وأنزلنا معهم هذه الأشياء؛ ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه {مَن يَنصُرُهُ} أي دينه {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّه قَوِىٌّ عَزِيزٌ} .

٢٦-٢٧

{ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفّينا على آثارهم برسلنا وقفّينا بعيسى بن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتّبعوه} على دينه {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} والرأفة أشد الرقّة {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا} من قبل أنفسهم {مَا كَتَبْنَاهَا} فرضناها وأوجبناها {عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَآءَ} يعني : ولكنهم ابتغوا {رِضْوَانِ اللّه} بتلك الرهبانية {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا} ،

وهم أهل الرأفة والرحمة والرهبانية التي ابتدعوها طلباً لرضا اللّه {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وكفروا بدين عيسى وتهوّدوا وتنصّروا. وبنحو ما فسّرنا ورد فيه الآثار.

وقال ابن مسعود : كنت رديف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على حمار،

فقال لي : (يابن أمّ عبد،

هل تدري من أين اتّخذت بنو اسرائيل الرهبانية؟).

قلت : اللّه ورسوله أعلم.

قال : (ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السلام) يعملون بمعاصي اللّه سبحانه،

فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبقَ منهم إلاّ القليل،

فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحد يدعو إليه،

فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث اللّه النبي الذي وعدنا عيسى يعنون محمّداً فتفرّقوا في غيران الجبال،

وأحدثوا الرهبانية،

فمنهم من تمسّك بدينه ومنهم من كفر). ثم تلا هذه الآية {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} الآية.

{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم} يعني : من ثبتوا عليها {أَجْرَهُمْ} ،

ثم قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يابن أم عبد،

أتدري ما رهبانية أُمتي؟)

قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال : (الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع).

وأنبأني عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد اللّه المزني قال : حدّثنا محمّد بن عبد اللّه ابن سليمان قال : حدّثنا شيبان بن فرّوخ قال : حدّثنا الصعق بن حزن،

عن عقيل الجعدي،

عن أبي إسحاق،

عن سويد بن غفلة،

عن ابن مسعود قال : دخلت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (يابن مسعود،

اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاث وهلك سائرهن،

فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم،

وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم تدعوهم إلى دين اللّه سبحانه ودين عيسى،

فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الذين قال اللّه سبحانه : {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ).

قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها حقّ رعايتها،

ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون).

وروى الضحّاك وعطّية عن ابن عباس قال : كتب اللّه سبحانه عليهم القتال قبل أن يبعث محمّداً (صلى اللّه عليه وسلم) فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبقَ منهم إلاّ قليل وكثر أهل الشرك،

وذهبت الرسل وقهروا،

اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم،

وتركوا أمر اللّه ودينه،

وأخذوا بالبدعة وبالنصرانيّة وباليهودية،

ولم يرعوها حقّ رعايتها،

وثبتت طائفة على دين عيسى حتى جاءهم البيّنات،

وبعث اللّه سبحانه محمّداً (صلى اللّه عليه وسلم) وهم كذلك. فذلك قوله عزّ وجلّ : {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله} إلى قوله : {وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا عليّ بن حرب قال : حدّثنا ابن فضيل قال : حدّثنا عطاء،

عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس.

وحدّثت عن محمّد بن جرير،

قال : حدّثنا أبو عمّار الحسين بن حريث قال : حدّثنا الفضل ابن موسى عن سفيان،

عن عطاء بن السائب،

عن سعيد بن جبير،

عن ابن عباس قال : كانت ملوك بعد عيسى (عليه السلام) بدّلوا التوراة والإنجيل. وكان فيهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين اللّه ويأمرونهم بتقوى اللّه سبحانه،

فقيل لملكهم : لو جمعت هؤلاء الذين شقّوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم،

أقرّوا بما نقرّ به،

ودخلوا فيما نحن فيه. فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل. إلاّ ما بدّلوا فيها،

فقالوا : ما تريد منّا؟

نحن نكفيكم أنفسنا. فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم اعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نردّ عليكم. وقالت طائفة أخرى : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا. وقالت طائفة منهم : ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرِد عليكم ولا نمرّ بكم. وليس أحد من أولئك إلاّ له حميم منهم،

ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى،

وخلف قوم من بعدهم ممّن قد غيّر الكتاب،

فجعل الرجل يقول : نكون في مكان فلان فنتعبّد كما تعبّد فلان،

ونسيح كما ساح فلان،

ونتّخذ دوراً كما اتّخذ فلان،

وهم على شركهم،

ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم،

فذلك قوله سبحانه : {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللّه} . قال : ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حقّ رعايتها،

يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم،

{وآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني الذين : ابتدعوها {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} : الذين جاؤوا من

بعدهم. قال : فلمّا بعث النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (عليه السلام) ولم يبق منهم إلاّ قليل،

انحطّ رجل من صومعته،

وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره،

وآمنوا به وصدّقوه فقال اللّه عزّ وجلّ : {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله} محمّد (عليه السلام) {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} قال : أجرين؛ لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمّد والقرآن،

{وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يعني : القرآن {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين يتشبّهون بهم {أن لا يقدرون على شيء من فضل اللّه} إلى آخرها.

وقال قوم : انقطع الكلام عند قوله : {وَرَحْمَةً} ثم قال : {وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ؛ وذلك أنّهم تركوا الحقّ،

وأكلوا لحم الخنزير،

وشربوا الخمر،

ولم يتوضّؤوا ولم يغتسلوا من جنابة،

وتركوا الختان،

{فَمَا رَعَوْهَا} يعني : الطاعة والملّة {حَقَّ رِعَايَتِهَا} . كناية عن غير مذكور. {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَارِهِم بِرُسُلِنَا} ،

وهم أهل الرأفة والرحمة {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ،

وهم أهل الرهبانية والبدعة،

وإليه ذهب مجاهد.

ومعنى قوله : {إِلا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللّه} : وما أمرناهم إلاّ بذلك وما أمرناهم إلاّ بالترهّب،

أو يكون وجهه : إلاّ ابتغاء رضوان اللّه بزعمهم وعَنَدهم،

واللّه أعلم.

٢٨

{يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللّه وآمنوا برسوله} محمّد (عليه السلام) {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} : نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ} ؛ لإيمانكم بالأوّل وإيمانكم بالآخر.

وقال أبو موسى الأشعري : كفلين : ضعفين بلسان الحبشة.

قال ابن جبير : وأصله ما يكتفل به الراكب من الثياب والمتاع فيحبسه ويحفظه من السقوط،

يقول : يحصنكم هذا الكفل من العذاب كما يحصن الراكب الكفل من السقوط. ومنه الكفالة؛ لأنّها تحصن الحقّ.

{وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} في الناس،

وعلى الصراط أحسن.

وقال ابن عباس : النور القرآن.

وقال مجاهد : الهدى والبيان،

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

قال سعيد بن جبير : بعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) جعفراً ح في سبعين راكباً للنجاشي يدعوه،

فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به،

فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا : ايذن لنا فنأتي هذا النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فنلمّ به ونجدّف بهؤلاء في البحر؛ فإنا أعلم بالبحر منهم. فقدموا مع جعفر على النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وقد تهيأ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (عليه السلام) لوقعة أحد،

فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدّة الحال استأذنوا النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (عليه السلام) فقالوا : يا رسول اللّه إنّ لنا أموالا،

ونحن نرى ما بالمسلمين من خصاصة،

فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها.. فأذن لهم فانصرفوا وأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين،

فأنزل اللّه سبحانه فيهم {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن قوله : {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} ،

فجروا على المسلمين فقالوا : يا معشر المسلمين،

أما من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟

فأنزل اللّه سبحانه : {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته} فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال :

٢٩

{لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} ،

وهكذا قرأها سعيد بن جبير {أن لايقدرون} الآية.

﴿ ٠