سورة القيامةمكيّة، وهي ستمائة وإثنان وخمسون حرفاً، ومائة وتسع وتسعون كلمة، وأربعون آية أخبرني محمد بن القيم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي عن مجاهد عن عبدالواحد عن الحجاج بن عبداللّه عن أبي الخليل وعن علي ابن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زرين حبش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمناً بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قراءة العامة مقطوعة الألف مهموزة. ٢{وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} مثلها، وقرأ الحسن وعبدالرحمن الأعرج لاقسم بغير ألف موصله. {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ} بالألف مقطوعة على معنى أنه أقسم باليوم ولم يقسم بالنفس، ومثله روى القواس عن شبل عن ابن بكير، والصحيح أنه قسم بهما جميعاً ومعنى قوله لا أقسم بيوم القيامة اختلفوا فيه فقال : بعضهم {} صلة أي أقسم بيوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير وقال أبو بكر بن عباس : هو تأكيد للقسم كقولك لا واللّه، وقال الفراء في قوله {} : رد لكلام المشركين ثم ابتدأ القسم فقال أقسم بيوم القيامة، وقال : وكل يمين قبلها رد فلابد من تقديم {} قبلها ليفرّق بين اليمين التي تكون جحداً واليمين التي تستأنف، ألا ترى أنك تقول مبتدئاً : واللّه إن الرسول لحق، فإذا قلت : لا واللّه إن الرسول لحق، فكأنك أكّدت قوماً أنكروه. أخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا وكيع عن سفيان ومسعر عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال : لا يقولون القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته، وبه عن سفيان ومسعر عن أبي قيس قال : شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال : أما هذا فقد قامت قيامته. {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال : سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء. مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه وتقول لو فعلت ولو لم أفعل. قتادة : اللوامة : الفاجرة. ابن عباس : هي المذمومة، وقال الفراء : ليس من نفس برَّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت : هلاّ زدت، وإن كانت عملت سوءاً قالت : يا ليتني لم أفعل. الحسن : هي نفس المؤمن، قال : إنّ المؤمن واللّه ما تراه إلاّ يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإنّ الفاجر يمضي قُدماً لا يحاسب نفسه ولا (يعاتبها). مقاتل : هي نفس الكافر تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر اللّه في الدنيا، وقيل : لومها قوله سبحانه : {فتقول يا ليتني قدمت لحياتي} و {يا حسرتي على ما فرطت في جنب اللّه} أي في أمر اللّه. سهل : هي الإمارة بالسوء وهي قرينة الحرص والأمل. أبو بكر الورّاق : النفس كافرة في وقت منافقه في وقت مرائية على الأحوال كلّها هي كافرة؛ لأنها لا تألف الحق، وهي منافقة لأنها لا تفي بالعهد، وهي مرائية لأنها لا تحبّ أن تعمل عملاً ولا تخطو خطوة إلاّ لرؤية الخلق، فمن كانت هذه صفاته فهي حقيقة بدوام الملامة لها. ٣{أَيَحْسَبُ الإنسان} نزلت في عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس ابن شريف حليف بني زهرة وكان النبي (عليه السلام) يقول : (اللّهم اكفني جارَيّ السوء) يعني عدياً والأخنس وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي (عليه السلام) فقال : يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون، وكيف يكون أمرها وحالها فأخبره النبي (عليه السلام) بذلك، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ولم أؤمن به، أو يجمع اللّه العظام؟ فأنزل اللّه سبحانه {أَيَحْسَبُ الإنسان} يعني الكافر. {أنْ لن نجمع عظامهُ} بعد تفريقها وبلائها فنجيبه ونبعثه بعد الموت، يقال : إنّه ذكر العظام، والمراد بها نفسه كلّها لأن العظام قالب الخلق ولن يستوي الخلق إلاّ باستوائها، وقيل : هو خارج على قول المنكر أو يجمع اللّه العظام كقول الآخر : {قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ} . ٤ثم قال سبحانه : {بَلَى قَادِرِينَ} أي نقدر استقبال صرف إلى الحال، قال الفراء : {قَادِرِينَ} نصب على الخروج من {نَّجْمَعَ} كأنك قلت في الكلام : أيحسب أن لن يقوى عليك، بلى قادرين على أقوى منك، يريد بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا، وقرأ ابن أبي غيلة قادرون بالرفع، أي بلى نحن قادرون، ومجاز الآية : بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو : {عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ} أنامله فيجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحد كخف البعير، أو كظلف الخنزير، أو كحافر الحمار، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء فحسنّا خلقه. هذا قول عامة المفسرين. وقال القبيسي : ظن الكافر أن اللّه لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال اللّه سبحانه : بلى قادرين أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى نسوي البنان، ومَنْ يقدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر وهذا كرجل قلت له : أتراك تقدر على أن تؤلف من هذا الحنظل في خيط ويقول نعم وبين الخردل. ٥{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} يقول تعالى ذكره : ما يجهل إبن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه، أي يمضي قدماً في معاصي اللّه راكباً رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي، وقال سعيد بن جبير : يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله، وقال الضحاك : هو الأمل يأمل الإنسان يقول : أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس وابن زيد : يكذّب بما أمامه من البعث والحساب، وقال ابن كيسان : يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا. وأصل الفجور : الميل، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر : فاجر، لميلهم عن الحق، وقال السدي أيضاً : يعني ليظلم على قدر طاقته، وقيل : يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه. ٦{يَسْ َلُ أَيَّانَ} متى {يَوْمُ الْقِيَامَةِ} فبيّن اللّه له ذلك فقال عزّ من قال : ٧{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق : {بَرِقَ} بفتح الراء وغيرهم بالكسر. أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبدالعزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا حجاج عن هارون قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال : برق بالكسر يعني جار قال : وسألت عنها عبداللّه بن أبي إسحاق فقال : برَق بالفتح، وقال : إنّما برق الحنظل اليابس، وبرق البصر قال : فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال : إنما برق الحنظل والنار والبرق، وأما البصر فبرق عند الموت، قال : فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال : أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال : لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال : قتادة ومقاتل : شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن، وقال الفراء والخليل : برق بالكسر فزع، وأنشدا لبعض العرب : فنفسك قانع ولا تتغي وداو الكلوم ولا تبرق أي لا تفزع من الجرح الذي بك. قال ذو الرمّة : ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق وبرَق بفتح الراء : شقّ عينه وفتحها، وأنشد أبو عبيدة : لما أتاني ابن عمير راغباً أعطيته عيساً صهاباً فبرق أي فتح عينه، ويجوز أن يكون من البرق. ٨{وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أظلم وذهب ضوءه، قال ابن كيسان : ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه ف{خَسَفْنَا بِهِ الأرض} ، وقرأ (ابن أبي اسحاق وعيسى والأعرج) : وخُسف بالضم لقوله : ٩{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران، وهي في قراءة عبداللّه : وجمع بين الشمس والقمر، وقيل : وجمع بينهما في ذهاب الضياء، وقال عطاء بن يسار : يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار اللّه الكبرى، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس : يجعلان في نور الحجب. ١٠{يَقُولُ الإنسان يومئذ أَيْنَ الْمَفَرُّ} المهرب، وقرأها العامة {الْمَفَرُّ} بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لأنه مصدر، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء، قال الكسائي : هما لغتان مثل مدَب ومدِب ومصَح ومصِح، وقال الآخرون : بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع. ١١{كَلا وَزَرَ} لا حصن ولا حرز ولا ملجأ، قال السدي : لا جبل، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال اللّه سبحانه : لا جبل يومئذ يمنعهم. ١٢{إِلَى رَبِّكَ يومئذ الْمُسْتَقَرُّ} أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شي، وقال مقاتل : المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} وقال يمان : المصير والمرجع، وهو قول ابن مسعود نظيره {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} و {إلى اللّه المصير} وقوله سبحانه {أَلا إِلَى اللّه تَصِيرُ امُورُ} . ١٣{يُنْبؤُا الإنسن يومئذ بما قدّم وأخر} قال ابن مسعود وابن عباس : قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. عطية عن ابن عباس : بما قدّم من المعصية وأخّر من الطاعة. مجاهد : بأول عمل عمله وآخره. قتادة : بما قدّم من طاعة اللّه وأخّر من حقّ اللّه فضيّعه. ابن زيد : بما قدّم من عمل من خير أو شر وما أخّر من العمل بطاعة اللّه فلم يعمل به. عطاء : بما قدّم في أول عمره وما أخّر في آخر عمره. زيد بن أسلم : بما قدم من أمواله لنفسه وما أخّر خلّف للورثة، نظيره {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . سمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول : سمعت أبي يقول : سمعت أبا عثمان يقول : خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب : أوّلها : خذلان اللّه لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه. والثانية : أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه. والثالثة : أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته. والرابعة : نظر إليه وهو يعصيه. والخامسة : وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه. فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب. ١٤{بَلِ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قال عكرمة ومقاتل والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقبا يرقبونه بعمله ويشهدون عليه به وهي : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع جوارحه وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال القبسي : أقام جوارحه مقام نفسه لذلك رأت ويجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول في الكلام : ذهبت بعض أصابعه، و {بَصِيرَةٌ} مرفوعة بخبر حرف الصفة وهي قوله {عَلَى نَفْسِهِ} ، ويحتمل أن يكون معناه بل الإنسان على نفسه ببصيرة، ثم حذفت حرف الجر كقوله : {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} أي لأولادكم، ويصلح أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي بل للإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء : كأن على ذي العقل عيناً بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظره يحاذر حتّى يحسب الناس كلهم من الخوف ولا تخفى عليه سرائره قال أبو العالية وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في {بَصِيرَةٌ} للمبالغة، وقال الأخفش : هي كقولك فلان عبرة وحجة، ودليل هذا التأويل قول اللّه تعالى : {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} وقال ابن تغلب : البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد. ١٥{وَلَوْ أَلْقَى} عليه {مَعَاذِيرَهُ} يعني أنه يشهد عليه الشاهد ولو أعتذر وجادل عن نفسه. نظيره قوله سبحانه : {يَوْمَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} وقوله : {وَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية وعطا. قال الفراء : ولو اعتذر فعليه من نفسه من يكذّب عذره. مقاتل : ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. ومعنى الإلقاء : القول نظيره : {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} {وَأَلْقَوْا إِلَى اللّه يَوْمَذٍ السَّلَمَ} . الضحاك والسدي : يعني ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب، قال : وأهل اليمن يسمّون الستر المعذار، وقال بعض أهل المعاني : المعاذير إحالة بعضهم على بعض. ١٦{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} وذلك أن رسول اللّه (عليه السلام) كان لا يفتر من قراءة القرآن مخافة أن ينساه، وكان إذا نزل عليه جبرائيل بالقرآن لم يفرغ جبرائيل من الآية حتى يقرأ رسول اللّه (عليه السلام) أولها ويحرك لسانه بها في نفسه مخافة أن ينساها فأنزل اللّه سبحانه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وأنزل {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} وأنزل {تُحَرِّكْ بِهِ} أي بالوحي لسانك به أي تلاوته لتحفظه ولا تنساه ١٧{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} في صدرك حتى تحفظه {وَقُرْءَانَهُ} وقراءته عليك حتى تعيه وقيل أراد بقوله : {وَقُرْءَانَهُ} وجمعه في صدرك وهو مصدر كالرجحان والنقصان. ١٨{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} عليك {فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ} أي ما فيه من الأحكام ١٩{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بما فيه من الحدود والحلال والحرام. ٢٠-٢١{كلاّ بل تحبّون العاجلة وتذرون الآخرة} قرأهما أهل المدينة والكوفة بالتاء وغيرهم بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى نظيرها في سورة الإنسان {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا} . ٢٢{وُجُوهٌ يَوْمَذٍ} يعني يوم القيامة {نَّاضِرَةٌ} . قال ابن عباس : حسنة. قال الحسن : حسّنها اللّه بالنظر إلى ربها. مجاهد : مسرورة. ابن زيد : ناعمة. مقاتلان : بيض يعلوها النور. السدي : مضيئة. يمان : مسفرة. الفراء : مشرقة بالنعيم. الكسائي : بهجة. قال الفراء والأخفش : يقال نضر اللّه وجه فلان فلا يتنضر نضيراً فنضر وجهه ننضّرُ نضّرة ونضارة قال اللّه سبحانه : {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (نضّر اللّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها)، ونظر في هذه الآية قوله سبحانه : {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة} . ٢٣{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وأكثر الناس تنظر إلى ربّها عياناً. قال الحسين بن واقد : أخبرني يزيد بن عكرمة وإسماعيل بن أبي خالد وأشياخ من أهل الكوفة قالوا : تنظر إلى ربّها نظراً، وقال الحسن : تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقال عطية العوفي : ينظرون إلى اللّه لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم، فذلك قوله سبحانه : {لا تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ ابْصَارَ} ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسن بن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجه قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن مندة الأصفهاني قال : حدّثنا الحسين بن حفص قال : حدّثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير بن أبي ناختة قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام، وإن أكرمهم على اللّه لمن ينظر إلى وجهه تبارك وتعالى غدوة وعشية ثم قرأ رسول اللّه (عليه السلام) {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربّها ناظرة} ). وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو النفخ محمد بن الحسن الأزدي الموصلي قال : حدّثني أحمد بن عيسى بن السكين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي قال : حدّثنا قال : أخبرنا رباح بن زيد الصنعاني قال : أخبرني ابن جريح قال : أخبرني زياد بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يتجلّى ربّنا عزّوجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرّون له سجداً فيقول : إرفعوا رؤسكم فليس هذا بيوم عبادة). وروى الحسن عن عمار بن ياسر قال : كان من دعاء النبي (عليه السلام) : (اللّهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة) يعني أنّها تنتظر الثواب من ربّها ولا تراه من خلفه شي. قلت : وهذا تأويل مدخول؛ لأنّ العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته، كما قال اللّه سبحانه : {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ} هل ينظرون إلاّ نار اللّه؟ و{مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وإذا أردت به التفكّر والتدبير قالوا : نظرت فيه فأمّا إذا كان النظر مقروناً بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلاّ بمعنى الرؤية والعيان. ٢٤{وَوُجُوهٌ يَوْمَ ذ بَاسِرَةٌ} عابسة كالحة متغيّرة مسودة ٢٥{تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} قال مجاهد : داهية، سعيد بن المسيب : قاصمة الظهر وأصلها الفقرة والفقار، يقال : فقره إذا كسر فقاره، كما يقال : رأسه إذا ضرب رأسه، وقال قتادة : الفاقرة : الشرّ، وقال ابن زيد : تعلم أنها ستدخل النار، وقال أبو عبيدة : الفاقرة : الداهية يقال : عمل بها الفاقرة وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو بنار حتى يخلص إلى العظم، وقال الكلبي : منكرة من العذاب وهي الحجاب. ٢٦{كَلا إِذَا بَلَغَتِ} يعني النفس كناية عن غير مذكور {التَّرَاقِىَ} فيحشرج بها عند الموت، والتراقي : العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال دريد بن الصمة : ورُبَّ عظيمة دافعت عنهم وقد بلغت نفوسهم التراقي ٢٧{وَقِيلَ} وقال من حضره {مَنْ رَاقٍ} هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه. قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء شيئاً. أخبرني الحسين قال : حدّثنا السني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال : حدّثنا مسدّد بن مسرهد عن خالد بن عبداللّه عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه كوى غلاماً له فقلت أتكوى قال : نعم هوّدوا العرب. أخبرنا ابن مسعود أن رسول اللّه (عليه السلام) قال : (إن اللّه سبحانه لم ينزل داء إلاّ وقد أنزل معه دواء جهله من جهله وعلمه من علمه)، وقال سليمان التيمي ومقاتل بن سليمان : هذا من قول الملائكة يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه فيصعد بها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذه رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال أبو العالية : يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يترقّى بروحه. ٢٨{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق. أخبرنا الربيع بن محمد الخاتمي ومحمد بن عقيل الخزاعي قالا : أخبرنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال : أخبرنا الخضر بن أبان القرشي قال : حدّثنا ابن ميثم بن هدية عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (عليه السلام) : (إنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة). ٢٩{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} قال الربيع بن أنس : الدنيا بالآخرة، وهي رواية أبي الجوزاء وعطية عن ابن عباس، ورواية عوف ومنصور عن الحسن، وروى الوالي وبادان عن ابن عباس قال : أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال : إسماعيل ابن أبي خالد : عمل الدنيا بعمل الآخرة، وقال الضحاك : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه، وروى سفيان عن رجل عن الحسن عن مجاهد قالا : اجتمع فيه الحياة والموت. قتادة : الشدّة بالشدّة. بشر بن المهاجر عن الحسن قال : هما ساقاك إذا لفّتا في الكفن، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب. وأخبرنا عبداللّه بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا مطين قال : حدّثنا نصر بن علي فقال : حدّثنا خالد بن قيس عن قتادة عن الحسن قال : ماتت رجلاه ولم تحملاه وكان عليهما جوّالا، وروى شعبة عن قتادة قال : أمر أتاه إذا ضرب برجله الأخرى. أبو مالك : يلبسهما عند الموت. عكرمة : خروج من الدنيا إلى الآخرة. أبو يحيى عن مجاهد : بلاء ببلاء. القرطبي : الأمر بالأمر. زيد بن أسلم : ساق الكفن بساق الميت. سعيد بن جبير : تتابعت عليه الشدائد. السدي : لا يخرج من كرب إلاّ جاءه أشدّ منه، والعرب لا تذكر الساق إلاّ في المحن والشدائد، ومنه مثلهم السائر : (لا يرسل الساق إلاّ ممسكاً ساقاً)، وقال أميّه بن أبي الصلّت : وقد أرقت لهمَ بات يطرقني والنفس ذات حزازات وطرّاق مستجذ بالقراة حين آرقني ليل التمام أقاسيه على ساق أي على تعب وشدة. وقال ابن عطاء : اجتمع عليه شدّة مفارقة الوطن من الدنيا والأهل والولد وشدّة القدوم على ربّه لا يدري بماذا يقدم عليه لذلك قال عثمان بن عفان : ما رأيت منظراً إلاّ والقبر أفضع منه؛ لأنّه آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة، وقال يحيى بن معاذ : إذا دخل الميت القبر قام على شفير قبره أربعة أملاك واحد عند رأسه والثاني عند رجليه والثالث عن يمينه والرابع عن يساره، فيقول الذي عند رأسه : يا ابن آدم انفضّت الآجال وانقطعت الآمال، ويقول الذي عن يمينه : ذهبت الأموال وبقيت الأعمال، ويقول الذي عن يساره : ذهب الأشغال وبقي الوبال، ويقول الذي عند رجليه : طوبى لك من كسبك إن كان كسبك من الحلال وكنت مشتغلاً بخدمة ذي الجلال. ٣٠{إِلَى رَبِّكَ يَوْمَذٍ الْمَسَاقُ} المنتهى والمرجع تسوق الملائكة روحه حيث أمرهم اللّه سبحانه وتعالى. ٣١{فَلا صَدَّقَ} يعني أبا جهل ٣٢-٣٣{ولا صلّى ولكن كذّب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطّى} يتبختر، قال زيد بن أسلم : هي مشية بني مخزوم وأصله من المطا وهو الظهر أي يلوي مطاه تبختراً، وقيل : أصله يتمطط أي يتمدد، والمط هو المد فجعلت أحدى الطاءت يا، وقد مضت هذه المسألة وتمطى الإنسان إذا قام من منامه فتمدّد. أخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسين الهمداني قال : حدّثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال : حدّثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال : حدّثنا سفيان بن عتبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع شيخاً قديماً يقال له بجنس مولى الزبير يقول : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض) قال سفيان : فأخبرت بهذا الحديث ابن أبي نجيح فقال هل تدرون ما المطيطاء؟ هو مثل قوله سبحانه : {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} يتبختر. ٣٤-٣٥{أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} هذا وعيد من اللّه سبحانه على وعيد أبي جهل وهي كلمة موضوعة للتهدّد والوعيد قالت الخنساء : هممت بنفسي كل الهموم فأولى لنفسي أولى لها وأنشدني أبو القيّم السدوسي قال : أنشدني أبو محمد عبداللّه بن محمد البلوي الأدبي قال : أنشدنا أحمد بن يحيى بن تغلب : يا أوس لو نالتك أرماحنا كنت كمن تهوى به الهاويه القيتا عيناك عند القفا أولى فأولى لك ذا واقيه وقال بعض العلماء : معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحقّ وأولى، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه، وقيل : هو كلمة يقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من الولي وهو القرب، قال اللّه سبحانه : {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم} ويقال ثمّ الذي يليه أي يقرب منه. قال الشاعر : فصالوا صولة فيمن يليهم وصلنا صولة فيمن يلينا وقال آخر : هجرت غضوب وحب من يتجنّب وَعَدَتْ عواد دون وليك تشعب وحكى لنا الإستاذ أبو القيم الحلبي أنه سمع أبا الهيثم الجمي وكان عارفاً بالمعاني يقول حاكياً عن بعض العلماء : أن قوله {أَوْلَى} من المقلوب مجازه : أويل من الويل، كما يقال : ما أطيبه وأيطبه وعاقني وعقاني وأيم وأيامي وأصله أيايم وقوس وقسي وأصله قؤوس، ومعنى الآية كأنه يقول لأبي جهل : الويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار وتخلد فيها. وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي (عليه السلام) لمّا نزلت هذه الآية اخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له : {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} فقال أبو جهل : اتوعدني يا محمد واللّه ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً وأني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلمّا كان يوم بدر أشرف عليهم وقال : لا نعبد اللّه بعد اليوم، فصرعه اللّه شرّ مصرع، وقتله أسوأ قتلة، أقعصه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود، قال : وذكر لنا أن أبا جهل كان يقول : لو علمت أن محمداً رسول اللّه ما أتبعت غلاماً من قريش قال : وذكر لنا أن نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يقول : (إنّ لكل أمّة فرعوناً وأن فرعون هذه الأمة أبو جهل). ٣٦{أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى} هملا لا يؤمر ولا ينهى يقال : أسديت حاجتي أي ضيّعتها، وأبل سدى ترعى حيث شاءت بلا راع. ٣٧{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى} قرأ الحسن وابن محيص وأبو عمرو ويعقوب وسلام بالياء وهي رواية المفضل وحفص عن عاصم واختيار أبي عبيد لأجل المنى، وقرأ الباقون بالتاء لأجل النطفة وهو اختيار أبي حاتم. ٣٨{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} خلقه ٣٩-٤٠{فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك} الذي فعل هذا {بقادرٍ على أن يحيي الموتى} . أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا سعيد بن بنان الصفار قال : حدّثنا شعبة قال : حدّثني يونس الطويل جليس لأبي إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية {أَلَيْسَ ذلك بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحِْ ىَ الْمَوْتَى} قال رسول اللّه (عليه السلام) : (سبحانك وبلى). وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبداللّه ابن أيوب المخزومي قال : حدّثنا صالح بن مالك قال : حدّثنا أبو نوفل علي بن سليمان قال : حدّثنا أبو إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن عبداللّه بن عباس قال : من قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعلى} إماماً كان أو غيره فليقل : سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ : {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فإذا انتهى إلى آخرها فليقل : سبحانك اللّهم بلى، إماماً كان أو غيره. |
﴿ ٠ ﴾