سورة الفيل

مكّيّة،

وهي ستة وتسعون حرفاً،

وعشرون كلمة،

وخمس آيات

أخبرنا ناقل بن راقم قال : حدّثنا محمد بن شادة قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال حدّثنا سالم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زر عن أُبيّ قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة الفيل عافاه اللّه عزّ وجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ).

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} .

القصة وباللّه التوفيق.

قال محمد بن إسحاق : كان من قصة أصحاب الفيل فيما ذكر بعض أهل العلم عن سعيد ابن جُبير وعكرمة عن ابن عباس،

وعمّن لقي من علماء أهل اليمن وغيرهم أن ملكاً من ملوك حمير يقال له زرعة ذو نواس كان قد تهوّد واستجمعت معه حمير على ذلك،

إلاّ ما كان من أهل نجران،

فإنّهم كانوا على النصرانيّة على أصل حكم الإنجيل،

ولهم رأس يقال له عبد اللّه بن التامر،

فدعاهم إلى اليهوديّة فأبوا فخيّرهم فاختاروا القتل فخدّ له أخدوداً وصنّف لهم أصناف القتل.

فمنهم من قتل صبراً،

ومنهم من خدّ لهم فألقاه في النار إلاّ رجلا من أهل سبأ يقال له دوس بن ثعلبان،

فذهب على فرس له فركض حتى أعجزهم في الرمل،

فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره فقال : بعدت بلادك عنّا ولكنّي سأكتب لك إلى مَلِك الحبشة،

فإنّه على ديننا فينصرك،

فكتب إلى النجاشي يأمره بنصره.

فلمّا قدم على النجاشي بعث معه رجلا من أهل الحبشة يقال له : ارياط،

فلمّا بعثه قال : إنْ دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها،

واضرب ثلث بلادها وابعث إليّ بثلث سباياها،

فلمّا دخلها ناوش شيئاً من قتال فتفرّقوا عن ذي نواس وخرج به فرسه،

فاستعرض به البحر فضربه فهلكا جميعاً فكان آخر العهد،

ودخلها أرياط فعمل بما أمر به النجاشي،

فقال ذو حدر الحميري فيما أصاب أهل اليمن وترابهم :

وعيني لا أباً لك لم تُطيقي

نجاك اللّه قد أنزفت ريقي

لدى عزف القيان إذ انتشينا

وإذ نسقى من الخمر الرحيق

وشرب الخمر ليس عليّ (عاراً)

إذا لم يشكني فيها رفيقي

وغمدان الذي حدثت عنه

بنوه ممسكاً في رأس نيق

مصابيح السليط تلوح فيه

إذا يمسي كتوماضِ البروقِ

فأصبح بعد جدّتهِ رماداً

وغيّر حسنه لهب الحريق

واسلم ذو نواس مستميتاً

وحذّر قومه ضنك المضيق

قال : فأقام أرياط باليمن،

وكتب إليه النجاشي : أن اثبت بجندك ومن معك،

فأقام حيناً ثم إنّ إبرهة بن الصباح ساخطه في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين فكانت معه طائفة ومع إبرهة طائفة،

ثم تراجفا،

فلمّا دنا بعضهم من بعض أرسل إبرهة إلى أرياط : لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها بعضاً شيئاً حتى تلقاني،

ولكن اخرج إليّ فأيّنا قتل صاحبه انضمّ إليه الجند،

فأرسل إليه : إنّك قد أنصفت.

وكان أرياط جسيماً عظيماً وسيماً،

في يده حربته،

وكان إبرهة رجلا قصيراً حاذراً لحيماً،

وكان ذا دين في النصرانيّة وخلّف إبرهة (فيها غلام) يقال له : عتودة،

فلمّا دنوا رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس إبرهة فوقعت على جبينه فشرمت عينه وجبينه وأنفه وشفته فبذلك سُمّي الأشرم.

وحمل عتودة على أرياط فقتله،

فاجتمعت الحبشة لإبرهة وقال عتودة : أنا عتودة من خلفه ارده لا أب ولا أُم بحده،

وقال إبرهة : ما كان لك قبله يا عتودة ولا ديته قال : فبلغ النجاشي ما صنع إبرهة فغضب وحلف لا يدع إبرهة حتى يجرُّ ناصيته ويطأ بلاده،

وكتب إلى إبرهة : إنّك عدوت على أميري فقتلته بغير أمري.

وكان إبرهة رجلا مارداً،

فلمّا بلغه ما كان من قول النجاشي حلق رأسه وملأ جراباً من تراب أرضه وكتب إلى النجاشي : أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك،

اختلفنا في أمرك وكنت أعلم بالحبشة وأسوس لها،

وقد كنت أردته أن يعتزل وأكون أنا أسوسه فأبى فقتلته،

وقد بلغني الذي حلف عليه الملك،

وقد حلقت رأسي فبعثت به إليه،

وبعثت إليه بجراب من تراب أرضه؛ ليضعه تحت قدمه (ومن يهينه)،

فلمّا انتهى إليه ذلك رضي عنه فأقرّه على عمله،

وكتب إليه أن يثبت بمن معه من الجند.

ثم إن إبرهة بنى كنيسة بصنعاء يقال لها : الفليس،

وكتب إلى النجاشي : قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يُبنَ لملك مثلها قط،

ولستُ منتهياً حتى أصرف إليها حجيج العرب. فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إلى القليس فدخلها ليلا وقعد فيها،

فبلغ إبرهة ذلك،

ويقال : إنه أتاها ناظراً إليها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة،

فقال : من اجترأ عليّ؟

فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت،

سمع بالذي قلت فصنع هذا،

فحلف إبرهة عند ذلك ليسيرنّ إلى الكعبة حتى يهدمها.

فخرج سائراً في الحبشة وخرج معه بالفيل،

فسمعت بذلك العرب فأعظموه (وفظعوا به) ورأوا جهاده حقّاً عليهم،

فخرج ملك من ملوك حمير يقال له : ذو نفر بمن أطاعه من قومه،

فقابله فهزمه وأخذ ذو نفر فأتى به،

فقال : أيها الملك لا تقتلني فإنّ استبقائي خير لك من قتلي،

فاستبقاه وأوثقه.

وكان إبرهة رجلا حليماً،

ثم خرج سائراً حتى دنا من بلاد خثعم فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم شهدان وأهش ومن اجتمع إليه من قبايل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل،

فقال نفيل : أيّها الملك إني دليل بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة،

فاستبقاه،

وخرج معه يدلّه حتى (إذا) مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال : أيّها الملك إنّما نحن عبيدك ليس لك عندنا من خلاف،

وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللاّت إنما تريد البيت الذي بمكّة،

نحن نبعث من يدلّك عليه،

فبعثوا أبا رغال مولى لهم فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال،

وهو الذي يرجم قبره.

وبعث إبرهة من المغمس رجلا من الحبس يقال له : الأسود بن مقصود على مقدّمة خيله فجمع إليه أموال الحرم وأصاب لعبد المطّلب مائتي بعير،

فقال عبد اللّه بن عمر بن مخزوم :

اللّهم اخز الاسود بن مقصود

الآخذ الهجمة فيها التقليد

بين حراء وبثير فالبيد

يحبسها وهي أُولات التطريد

فضمها إلى طماطم سود

قد أجمعوا أو يكون معبود

ويهدموا البيت الحرام المعمود

والمروتين والمشاعر السود

أضفره يا رب وأنت محمود

ثم إن أبرهة بعث حائلة الحميري إلى أهل مكّة فقال : سل عن شريفها،

ثم أبلغه ما أرسلك به إليه،

أخبره أني لم آتِ لقتال وإنّما لأهدم هذا البيت،

فانطلق حتى دخل مكّة فلقي عبد المطّلب بن هاشم فقال : إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأتِ لقتال إلاّ أن تقاتلوه،

وإنّما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم.

فقال عبد المطّلب : ماله عندنا ومالنا به نزال،

سنخلّي بينه وبين ما جاء له،

فإن هذا بيت اللّه الحرام،

وبيت خليله إبراهيم (عليه السلام)،

فإن يمسّه فهو بيته وحرمه وإن يخلّ بينه وبين ذلك فواللّه ما لنا به قوّة،

قال : فانطلقْ معي إلى الملك،

فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر.

وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟

فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يُقتل بكرة وعشية،

ولكنّي سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فإنّه لي صديق فاسأله أن يصنع لك مثل الملك ما استطاع من خير،

ويعظّم خطرك ومنزلتك عنده.

قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إن هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة،

يُطعم الناس في السهل والوحوش وفي رؤوس الجبل،

وقد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه،

فإنه صديق لي أحبّ ما يوصل إليه من الخير،

فدخل أنيس على إبرهة فقال : أيّها الملك هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال،

يستأذن عليك،

وأنا أحب أن تأذن له فيكلّمك،

وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالفٌ عليك فأْذن له.

وكان عبد المطّلب جسيماً وسيماً عظيماً،

فلمّا رآه إبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته،

فهبط إلى البساط فجلس عليه،

ثم دعاه فأجلسه معه،

ثم قال لترجمانه قل له : حاجتك إلى الملك؟

فقال له الترجمان ذلك.

فقال عبد المطّلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مائتي بعير أصابها لي،

فقال إبرهة لترجمانه : أعْجَبْتَنِي حين رأيتك،

ولقد زهدت فيك. قال : لِمَ؟

قال : جئتُ إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه لم تكلّمني فيه،

وتكلّمني في مائني بعير أصبتها؟

قال عبد المطّلب : أنا ربّ هذه الإبل ولهذا البيت ربّ سَيمنَعَهُ.

قال : ما كان ليمنعه منّي،

قال : فأنت وذاك. فأمرَ بإبله فرُدّت عليه.

قال ابن إسحاق : وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب إلى إبرهة بعمر بن ناثة بن عدي بن الويل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة،

وهو يومئذ سيد بني كنانة،

وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هُذيل،

فعرضوا على إبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت،

فأبى عليه،

فلمّا رُدت الإبل على عبد المطّلب خرج فأخبر قريش الخبر،

وأخبرهم أن يتفرّقوا في الشعاب،

وتحرزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش إذا دخل،

ففعلوا وأتى عبد المطّلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :

ياربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حكاكا

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم غدواً محالك

جروا جموع بلادهم

والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم

جهلا وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكعب

تنا فأمر ما بدالك

ثم ترك عبد المطّلب الحلقة وتوجّه في بعض تلك الوجوه مع قومه،

وأصبح إبرهة بالمغمس قد تهيّأ للدخول وعبّأ جيشه وهيّأ فيله وكان اسم الفيل محمود،

وكان فيل النجاشي بعثه إلى إبرهة،

وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوّةً.

ويقال : كانت معه اثنا عشر فيلا،

فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال : ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت،

فإنك في بلد اللّه الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى،

فضربوه بالمعول على رأسه فأبى،

فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى،

فوجّهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول،

ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك،

ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك،

فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم،

وخرج الفيل يشتد حتى أُصعد في الجبل.

وأرسل اللّه طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طاير منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمّص والعدس،

فلمّا أغشين أرسلها عليهم،

فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلاّ هلك.

وليس كلّ القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلّهم على الطريق إلى اليمن،

فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل اللّه بهم من نقمته :

أين المفر والإله الطالب

والأشرم المغلوب غير الغالب؟

وقال نفيل أيضاً في ذلك :

ألا حييت عنا ياردّينا

نعمنا كم مع الإصباح عينا

ردُيّنة لو رأيت ولم تريه

لدى جنب المحصّب ما رأينا

إذاً لغذرتني وحمدت رأيي

ولم تأسي على مافات بينا

حمدت اللّه إذ عاينت طيراً

وخفت حجارةً تُلقى علينا

فكلّ القوم يسألُ عن نفيل

كأن عليَّ للحبشانِ دينا

ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وقد صرخ القوم وهاج بعضهم في بعض،

وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون على كل منهل،

وبعث على إبرهة داءً في جسده،

فجعل تتساقط أنامله،

كلّما سقطت أُنملة اتبعتها مدة من قيح ودم،

فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه،

ومامات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك.

وزعم مقاتل بن سليمان أنّ السبب الذي جرّ حديث أصحاب الفيل هو أنّ قبيلة من قريش خرجوا تجّاراً إلى أرض النجاشي،

فساروا حتى دنوا من ساحل البحر وفي حقف من أحقافها بِيْعَة النصارى يسمّيها قريش : الهيكل،

ويسمّى النجاشي وأهل أرضة : اطاسر حنان،

فبرك القوم في سدّها فجمعوا حطباً ثم أجّجوا ناراً فاشتووا،

فلمّا ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف،

فعجّت الرياح فاضطرم الهيكل ناراً،

فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فاسف عند ذلك غضباً للبيعة،

فبعث إبرهة لهدم الكعبة (وما لقيه).

وكان بمكّة يومئذ أبو مسعود الثقفي،

وكان مكفوف البصر يصيّف بالطائف ويشتو بمكّة،

وكان رجلا نبيهاً نبيلا يستسقم الأمور برأيه،

وهو أول راتق وأول فاتق،

وكان خليلا لعبد المطّلب،

فقال عبد المطلب : يا أبا مسعود ماذا عندك ؟

هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك.

فقال أبو مسعود لعبد المطّلب : اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرماً للّه،

وقلّدها نعلا ثم أثبتها في الحرم لعلّ بعض هذه السودان تعقُر منها فيغضب ربُّ هذا البيت فيأخذهم،

ففعل ذلك عبد المطّلب،

فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو.

فقال أبو مسعود : (قال عبد المطلب) : إنّ لهذا البيت لربّاً يمنعه،

فقد نزل تبع ملك اليمن بصخر هذا البيت وأراد هدمه،

فمنعه اللّه وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام،

فلمّا رأى ذلك تبّع كساه القباطي البيض وعظّمه ونحر له جزراً،

فانظر نحو البيت.

فنظر عبد المطّلب فقال : أرى طيراً بيضاً نشأت من شاطئ البحر قال : ارمقها ببصرك أين قرارها؟

قال : أراها قد أزرّت على رؤوسنا. قال : هل تعرفها ؟

قال : واللّه ما أعرفها ما هي نجديّة ولا تهاميّة ولا عربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة.

قال : ما قدّها؟

قال : أشباه اليعاسيب في منقارها حصى كأنها حصى الحذق قد أقبلت كاليلل تكسع بعضها بعضاً،

أمام كل طير،

يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق،

فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم.

فلمّا توافت الرعال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها،

مكتوب في كلّ حجر اسم صاحبه،

ثم إنها انصاعت من حيث جاءت،

فلمّا أصبحا انحطّا من ذروة الجبل،

فمشيا رتوة فلم يؤنسا أحداً ثم دنيا رتوة فلم يسمعا حسّاً فقالا : بات القوم سامدين فاصبحوا نياماً،

فلمّا دنيا من عسكر القوم فإذا هم خامدون.

وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه،

فعمد عبد المطّلب فأخذ فأساً من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيّد،

وحفر لصاحبه فملأه ثم قال لأبي مسعود : هات خاتمك فاختر،

إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت أخذت حفرتك وإن شئت فهما لك معاً.

فقال ابن مسعود : اخترتني على نفسك،

فقال عبد المطّلب : إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك،

وجلس كل واحد منهم على حفرته ونادى عبد المطّلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً،

وساد عبد المطّلب بذلك قريش،

وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطّلب وأبو مسعود في أهلهما في غنًى من ذلك المال،

ودفع اللّه عن كعبته وقبلته،

فسلّط جنوداً لا قبَلَ لهم بها.

وقال الواقدي بأسانيده : وجّه إبرهة أرياط أبا ضخمة في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها؛ فأكرم الملوك واستذلّ الفقراء،

فقام رجل من الحبشة يقال له : إبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه،

فقتل أرياط وغلب على اليمن،

فرأى الناس يتجهّزون للحجّ فقال : أين يذهب الناس؟

قال : يحجّون بيت اللّه بمكّة.

قال مما هو؟

قال : من حجارة. قال فما كسوته؟

قال مما يأتي من هنا وهناك.

قال : والمسيح لأبنينّ لكم خيراً منه فبنى لهم بيتاً عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود،

وحلاّه بالذهب والفضة،

وحفّه بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة،

وجعل له حُجّاباً،

وكان يوقد بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسودها حتى تغيب الجواهر،

وأمر الناس بحجّه،

فحجّه كثير من قبائل العرب سنين،

ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ونسكوا له.

وكان نفيل الخثعمي يورّض له ما يكره فأمهل،

فلمّا كان ليلة من الليالي لم يَر أحداً يتحرّك،

فقام فجاء بعذرة فلطّخ بها جبهته،

وجمع جيفاً وألقاها فيه،

فأُخبر إبرهة بذلك فغضب غضباً شديد وقال : إنما فعلت العرب غضباً لبيتهم،

لأنقضنّه حجراً حجراً،

وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود،

وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوةً،

فبعث به إليه.

فلمّا قدم عليه الفيل سار إبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي،

فلمّا دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نِعَم الناس،

فأصابوا إبلا لعبد المطّلب،

وكان نفيل صديقاً لعبد المطّلب فكلّمه في إبله،

فكلّم نفيل إبرهة فقال : أيّها الملك قد أتاك سيّد العرب وأفضلهم قدراً وأقدمهم شرفاً،

يحمل على الجياد،

ويعطي الأموال،

ويُطعم الناس،

فأدخله على إبرهة،

فقال : حاجتك؟

قال : تردُّ عليّ إبلي. فقال ما أرى ما بلغني عنك إلاّ الغرور،

وقد ظننت أن تكلّمني في بيتكم الذي هو شرفكم. فقال عبد المطّلب : اردد عليَّ إبلي ودونك البيت فإن له ربّاً سيمنعه.

فأمر بردّ إبله عليه،

فلمّا قبضها قلّدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وثبتها في الحرم لكي يصاب منها شيء،

فيغضب ربّ الحرم،

وأوفى عبد المطّلب على خيل ومعه عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن مطعم بن عدي،

وأبو مسعود الثقفي،

فقال عبد المطّلب : اللّهم إن المرء يمنع رحله وحلاله فامنع حلالك.

قال : فأقبلت الطير من البحر أبابيل،

مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره،

وقذفت الحجارة عليهم،

لا تصيب شيئاً إلاّ هشمته إلاّ فقط ذلك الموضع،

فكان ذلك أوّل ما رؤي من الجدري والحصبة والأشجار المرّة فأهمدتهم الحجارة،

وبعث اللّه سيلا عاتياً فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه،

وولّى إبرهة ومن بقي معه هرابا،

فجعل إبرهة يسقط عضواً عضواً.

وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا،

وأمّا الفيل الآخر فشجع فحصب،

ويقال : كانت اثني عشر فيلا.

قال ابن إسحاق : ولمّا ردّ اللّه الحبشة عن مكّة عظمت العرب قريشاً وقالوا : أهل اللّه،

قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم،

وقال عبد اللّه بن عمر بن مخزوم في قصة أصحاب الفيل :

أنت الجليل ربنا لم تدنسِ

أنت حبست الفيل بالمغمَّس

من بعد ما هم بشر مبلس

حبسته في هيئة المكركس

وما لهم من فرج ومنفس

والمكركس : المنكوس المطروح. وقال أبو الصلت بن أُميّة بن مسعود في ذلك أيضاً :

إن آيات ربنا باقياتٌ

ما يُماري فيهنّ إلاّ الكفورُ

حبس الفيل بالمغمس حتى

ظلّ يحبو كأنه معقور

حوله من ملوك كندة (أبطال)

ملاويث في الحروب صقور

غادروه ثم انذعروا سراعاً

كلّهم عظم ساقه مكسور

وقال الكلبي ومقاتل : كان صاحب الجيش إبرهة،

وكان أبو يكسوم من وزرائه وندمائه،

فلمّا أهلكهم اللّه سبحانه بالحجارة لم يفلت منهم إلاّ أبو يكسوم،

فسار وطاير يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم،

فلمّا استتمّ كلامه رماه الطائر فسقط فمات،

فأرى اللّه النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.

وقال الآخرون : أبو يكسوم هو إبرهة بن الصباح. وقال الواقدي : كان إبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم)

واختلفوا في تاريخ عام الفيل،

فقال مقاتل : كان أمر الفيل قبل مولد رسول اللّه (عليه السلام) بأربعين سنة،

وقال الكلبي وعبيد بن عمير : كان قبل مولد النبي (عليه السلام) بثلاث وعشرين سنة.

وروي أنّه كان في العام الذي ولد فيه رسول اللّه (عليه السلام)،

وعليه أكثر العلماء،

يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر الخورقي قال : أخبرنا أبو العباس الدعولي قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة،

قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجراحي قال : حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت قال : حدّثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال : سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي : يا قباث،

أنت أكبر أم رسول اللّه؟

قال : رسول اللّه أكبر منّي،

وأنا أسنّ منه،

ولد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عام الفيل،

ووقفتْ بي أمّي على روث الفيل.

وقالت عائشة : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة عميين مقعدين يستطعمان.

التفسير :

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} قال مقاتل : كان معهم فيل واحد،

وقال الضّحاك : كانت ثمانية،

وإنّما وجد على هذا التأويل لوفاق رؤوس الآي،

أو يقال : نسبهم إلى الفيل الأعظم واسمه محمود.

٢

{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} عما أرادوا من تخريب الكعبة : وقيل : في بطلان وأباطيل،

وقال مقاتل : في خسار.

٣

{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ} من البحر {طَيْرًا أَبَابِيلَ} كثيرة متفرقة،

يتبع بعضها بعضاً.

قال عبد الرحمن بن ايزي : أقاطيع كالابل المقبلة. قال الأعشى :

طريق وجبار رواء أصوله

عليه أبابيل من الطير تنعب

وقال امرؤ القيس :

تراهم إلى الداعي سراعاً كأنهم

أبابيل طير تحت دجن مسخن

وقال آخر :

كادت تُهدُّ من الأصوات راحلتي

أنْ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

واختلفوا في واحدها،

فقال الفرّاء : لا واحد لها مثل الشماطيط والعباديد والشعارير،

كل هذا لا يفرد له واجد،

قال : وزعم أبو الرواسي وكان ثقة مأموناً أنه سمع واحدها إبالة ولقد سمعتُ من العرب من يقول : ضغث على إبالة يُريدون خصب على خصب.

قال : ولو قال قائلٌ : واحدها إبالة كان صواباً مثل دينار ودنانير،

ويقال : للفضلة التي تكون على حمل الحمار أو علف البعير إبالة،

وقال الكسائي : كنت أسمع النحويين يقولون : واحدها أبوَّل مثل عجوَّل وعجاجيل. وحكى محمد بن جرير عن بعض النحويين أن واحدها أبيل،

يُقال : جاءت الخيلُ أبابيل من ههنا وههنا.

قال ابن عباس : لها خراطيم كخراطيم الطير وأكفٌ كأكفّ الكلاب.

عكرمة : لها رؤوس كرؤس السباع لم تُر قبل ذلك ولا بعده.

ربيع : لها أنياب كأنياب السباع،

وقالت عائشة : أشبه شيء بالخطاطيف.

سعيد بن جبير : طيرٌ خضر لها مناقير صفر،

قال أبو الجوزاء : أنشأها اللّه سبحانه في الهواء في ذلك الوقت.

٤

{تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ} قراءة العامة بالتاء للطير،

وقرأ طلحة وأشهب العقيلي يرميهم بالياء،

وهو اختيار أبي حنيفة،

يعنون اللّه سبحانه،

كقوله : {وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى} ويجوز أن يكون راجعاً إلى الطير لخلوّها من علامات التأنيث.

{مِّن سِجِّيلٍ} قال ابن مسعود : صاحب الطير وترميهم بالحجارة،

وبعث اللّه سبحانه ريحاً فضربت الحجارة فزادتها شدّة،

فما وقع منها حجر على رجل إلاّ خرج من الجانب الآخر،

وإنْ وقع على رأسه خرج من دبره.

٥

{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول} كزرع أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرّقت أجزاؤه،

شبّه تقطّع أوصالهم يفرق أجزاء الروث.

قال مجاهد : العصف : ورق الحنطة. قتادة : هو التبن،

قال الحسن : كنا ونحن غلمان بالمدينة نأكل الشعير إذا قصّب وكان يُسمّى العصف. سعيد بن جبير : هو الشعير النابت الذي يؤكل ورقه.

الفرّاء : أطراف الزرع قبل أن يُسنبل ويُبتك. عكرمة : كالجبل إذا أُكل فصار أجوف. ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة كهيئة الغلاف له.

المؤرّخ : هو ما يقصف من الزرع فسقطت أطرافه،

وقال ابن السكّيت : هو العصف والعصيفة والجل،

وقيل : كزرع قد أكل حبّه وبقي تبنه،

وقال الضحّاك : كطعام مطعوم.

﴿ ٠