١٨

قوله جلّ ذكره : { شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } .

أي عَلِمَ اللّه وأخبر اللّه وحَكَمَ اللّه بأنه لا إله إلا هو ، فهو شهادة الحق للحق بأنه الحق ، وأوَّلُ مَنْ شهد بأنه اللّه - اللّه ، فشهد في آزاله بقوله وكلامه وخطابه الأزلي ، وأخبر عن وجوده الأحدي ، وكونه الصمدي ، وعونه القيومي ، وذاته الديمومي ، وجلاله السرمدي ، وجماله الأبدي . فقال :{ شَهِدَ اللّه } ثم في آباده ، ( شهد اللّه) أي بيَّنَ اللّه بما نَصَبَ من البراهين ، وأثبت من دلائل اليقين ، وأوضح من الآيات ، وأبدى من البينات . فكلُّ جزءٍ من جميع ما خلق وفطر ، ومن كتم العدم أظهر ، وعلى ما شاء من الصفة الذاتية حصل ، من أعيان مستقلة ، وآثار في ( ثاني ) وجودها مضمحلة ، وذوات للملاقاة قابلة ، وصفات في المَحَالِّ متعاقبة - فهو لوجوده مُفْصِح ، ولربوبيته موضَّح ، وعلى قِدَمِه شاهد ، وللعقول مُخْبِر بأنه واحد ، عزيز ماجد ، شهد سبحانه بجلال قَدْره ، وكمال عزه ، حين لا جحد ولا جهود ولا عرفان لمخلوق ولا عقل ، ولا وفاق ، ولا كفر ، ولا حدثان ، ولا غير ، ولا إلحاد ، ولا شِرْك ، ولا فهم ولا فكر ، ولا سماء ولا فضاء ، ولا ظلام ولا ضياء ، ولا وصول للمزدوجات ، ولا فضول باختلاف الآفات .

قوله جلّ ذكره : { وَالمَلاَئِكَةِ } .

لم يؤيِّد شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيَّدُهم ، حين وفَّقَهم بشهادة وسدَّدهم ، وإلى معرفة وحدانيته أرشدهم .

قوله جلّ ذكره : { وَأُولُوا العِلْمِ } .

وهم أولياء بني آدم إذ علموا قدرته ، وعرفوا نعت عزته فأكرمهم حيث قرن شهادته بشهادتهم ، فشهدوا عن شهود وتعيين ، لا عن ظن وتخمين ، إن لم يدركوه - اليوم - ضرورة وحِسَّاً ، لم يعتقدوه ظنّاً وحَدْساً؛ تعرَّف إليهم فعرفوه ، وأشهدهم فلذلك شهدوا ، ولو لم يقُلْ لهم إنه مَنْ هو لَمَا عرفوا مَنْ هو .

ولكنَّ العلماء يشهدون بصحو عقولهم ، والمُوَحِّدُون يشهدون بعد خمودهم؛ فهم كما قيل :

مُسْتَهْلَكُون بقهر الحق قد هَمَدُوا ... واستُنْطِقُوا بعد افتنائهمُ بتوحيد

فالمُجْرِي عليهم ما يبدو منهم - سواهم ، والقائمُ عنهم بما هم عليه وبه - غيرُهم ، ولقد كانوا لكنهم بانوا ، قال قائلهم :

كتابي إليكم بعد موتي بليلة ... ولم أدرِ أنِّي بعد موتي أكتب

وأولو العلم علىمراتب : فَمِنْ عالِم نَعْتُه وفاق ورهبانية ، ومن عالم وصفه فناء وربانية ، وعالم يعرف أحكام حلاله وحرامه ، وعالم يعلم أخباره وسننه وآثاره ، وعالم يعلم كتابه ويعرف تفسيره وتأويله ، ومحكمه وتنزيله ، وعالم يعلم صفاته ونعوته ويستقوي حججه وتوحيده بحديث يخرجه ( . . . . ) ، وعالم لاطفه حتى أحضره ثم كاشفه فقهره ، فالاسم باقٍ ، والعين محو ، والحكم طارق والعبد محق ، قال قائلهم :

بنو حق غدوا بالحق صِرفاً ... فنعت الخلْق فيهمو مستورُ

وليست الإشارة من هذا إلا إلى فنائهم عن إحساسهم ، وعند عِلْمِهم بأنفسهم ، فأما أعمالهم أعيانهم فمخلوقة ، وما يفهم بذواتهم من أحوالهم فمسبوقة ، وذات الحق لا توصف بقبول حدثان ، وصفات ذاته لا تقبل اتصالاً بالغير ولا انفصالاً عن الذات ، تقدَّس الحق عن كل ضدِّ وندِّ ، ووصل وفصل ، وجمع وفرق ، وعين وخلق ، وملك وفلك ، ورسم وأثر ، وعبد وبشر ، وشمس وقمر ، وشخص وغَبَر .

﴿ ١٨