١٥٤

قال تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ } : فأهل التحقيق والتوحيد يصلون بعد فتراتهم إلى القول بتَرْكِ أنفسهم ، وغَسلِ أيديهم منهم ، ورفع قلوبهم عنهم فيعيشون باللّهللّه ، بلا ملاحظة طمع وطلبة ، بل على عقيدة اليأس عن كل شيء . عليه أكّدُوا العهد ، وبدَّلُوا اللحظ ، وتركوا كل نصيب وحظ ، وهذه صفة مَنْ أنزل عليه الأمَنةَ .

فأمَّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم - فبقوا في وحشة نفوسهم ، ومِنْ عاجل عقوبتهم سوءُ عقيدتهم في الطريقة بعد إيمانهم بها؛ قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }[ الأنعام : ١١٠ ] .

والإشارة في قوله تعالى : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ شَىءٍ } لهؤلاء أنهم يتحيَّرون في أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة ، ولا إعراض بالكلية ، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم ، ويضيفون صفوة - لو كانت لقلوبهم - إلى اجتهادهم ، وينسَوْن ربَّهم في الحالين ، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه . قال تعالى :

{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للّه } : فَمَنْ عَرَفَ أن المنشئ اللّه انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشَّعْرِ عن العجين ، وسَلَّمَ أموره إلى اللّه بالكلية . وأمارة مَنْ تحقق بذلك أن يستريح من كدِّ تدبيره ، ويعيش في سعة شهود تقديره .

وقوله : { يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } : لم يُخْلِصُوا في عقائدهم ، وأضمروا خلاف ما أظهروا وأعلنوا غير ما ستروا ، وأحالوا الكائنات على أسبابٍ توهموها .

قال تعالى : { قُلْ لَّوْ كُنتُم فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } .

أخبر أن التقدير لا يُزَاحَم ، والقَدَر لا يُكابَرَ ، وأن الكائناتِ محتومة ، وأن اللّه غالب على أمره .

وقوله : { وَلِيَبْتَلِىَ اللّه مَا فِى صُدُورِكُمْ } : فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفةٍ وحجبة ، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة ، فتصبح قلوبهم خالصةً من الشوائب ، صافيةً عن العلائق ، منفردةً للحق ، مجرَّدَةً عن الخلق ، مُحَرَّرة عن الحظِّ والنَّفْس ، ظاهرةً عليها آثارُ الإقبال ، غالباً عليها حُسْنُ التَوَلِّي ، باديةً فيها أنوارُ التجلي .

﴿ ١٥٤