سورة الأنفال١قوله جلّ ذكره : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ للّه وَالرَّسُولِ } . الأنفال ها هنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين ، وكان سؤالهم عن حكمها ، ف قال اللّه تعالى : قُلْ لهم إنها للّه مِلْكاً ، ولرسوله - عليه السلام - الحُكْمُ فيها بما يقضى به أمراً وشرعاً . قوله جلّ ذكره : { فَاتَّقُوا اللّه وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } . أي أجيبوا لأمر اللّه ، ولا تطيعوا دَوَاعِيَ مناكم والحكمَ بمقتضى أحوالحم ، وابتغوا إيثارَ رضاء الحقِّ على مراد النَّفْس ، وأصلحوا ذات بَيْنِكم ، وذلك بالانسلاخ عن شُحِّ النَّفْس ، وإيثار حقِّ الغير على مَالَكُم من النصيب والحظِّ ، وتنقية القلوب عن خفايا الحَسَد والحقد . قوله جلّ ذكره : { وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ } . أي في الإجابة إلى ما يأتيكم من الإرشاد . قوله جلّ ذكره : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } . أي سبيلُ المؤمنِ ألا يخالِفَ هذه الجملة . ٢الوَجَل شِدَّة الخوف ، ومعناه ها هنا أَن يُخْرِجَهم الوَجَلُ عن أوطان الغفلة ، ويزعجهم عن مساكن الغيبة . فإذا انفصلوا عن أوْدية التفرقة وفاؤوا إلى مَشَاهِدِ الذكر نالوا السكون إلى اللّه - عز وجل؛ فيزيدُهم ما يُتْلَى عليهم من آياته تصديقاً على تصديق ، وتحقيقاً على تحقيق . فإذا طالعوا جلال قَدْرِهِ ، وأيقنوا قصورَهم عن إدراكه ، توكلوا عليه في إمدادهم بالرعاية في نهايتهم ، كما استخلصهم بالعناية في بدايتهم . ويقال سُنَّة الحقِّ - سبحانه مع أهل العرفان أن يُرَدِّدَهم بين كَشْفِ جلالٍ ولُطْف جمال ، فإذا كاشفهم بجلاله وَجِلَتْ قلوبُهم ، وإذا لاطفهم بجماله سَكَنَتْ قلوبهم ، قال اللّه تعالى :{ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّه }[ الرعد : ٢٨ ] . ويقال وجلت قلوبهم بخوف فراقه ، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروْح وصاله . وذكر الفراق يُفْنيهم وذكر الوصال يُصْحيهم ويُحْييهم . ويقال الطالبون في نَوْحِ رهبتهم ، والواصلون في روْح قربتهم ، والموحِّدون في محو غيبتهم؛ استولت عليهم الحقائق فلا لهم تطلع لوقتٍ مستأنف فيستفزهم خوف أو يجرفهم طمع ، ولا لهم إحساس فَتَمْلِكُهم لذة؛ إذ لمَّا اصْطُلِمُوا ببوادهِ ما مَلَكَهُمْ فَهُمْ عنهم مَحْوٌ ، والغالبُ عليهم سواهم . ٣-٤لا يرضَوْن في أعمالهم بإخلال ، ولا يتصفون بجمْعِ مال من غير حلال ، ولا يُعَرِّجون في أوطان التقصير بحال ، أولئك الذين صفتهم ألا يكون للشريعة عليهم نكير ، ولا لهم عن أحكام الحقيقة مقيل . { هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا } أي حققوا حقاً وصدقوا صدقاً . ويقال حق لهم ذلك حقاً . قوله : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } على حسب ما أَهَّلَهُمْ له من الرُّتَبِ؛ فَبِسَابقِ قِسْمَتِه لهم استوجبوها ، ثم بصادقِ خِدْمَتِهِم - حين وفَّقَهم لها - بلغوها . ولهم مغفرةٌ في المآل ، والسَّتْرُ في الحال لأكابرهم ، فالمغفرة الستر ، والحق سبحانه يستر مثالِبَ العاصين ولا يفضحهم لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم ، ويستر مناقِبَ العارفين عليهم لئلا يُعْجَبُوا بأعمالهم وأحوالهم ، و فَرْقٌ بين سَتْرٍ وَسَتْرٍ ، وشَتَّان ما هما! وأَمَّا الرزق الكريم فيحتمل أنه الذي يعطيه من حيث لا يُحْتَسَبُ ، ويحتمل أنه الذي لا يَنْقُصُ بإجرامهم ، ويحتمل أنه ما لا يشغلهم بوجوده عن شهود الرزاق ، ويحتمل أنه رزق الأسرار بما يكون استقلالها به من المكاشفات . ٥بَيَّنَ - سبحانه - أن الجِدَالَ منهم عادةٌ وسَجِيَّة ، ففي كل شيء لهم جدال واختيار؛ فكرهُوا خروجَه إلى بَدْرٍ ، كما جادلوا في حديث الغنيمة ، قال تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقربَ إلى الصفح عنه والتجاوز ، فأمَّا إذا صار ذلك عادةً فهو أصعب . ويقال ما لم تباشر خلاصةُ الإيمان القلبَ يوجد كمالُ التسليم وترك الاختيار ، وما دام يتحرك من العبد عِرْقٌ في الاختيار فهو بعيدٌ عن راحة الإيمان . ولقد أجرى اللّه سُنَّتَه مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمالَ النُّعْمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان ، والتجرد عن مساكنة ما فيه حظ ونصيب مِنْ كل معهود . ويقال إن في هجرة الأنبياء - عليهم السلام - عن أوطانهم أماناً لهم من عادية الأعادي ، وإحياءً لقلوب قوم تقاصرت أقْدَامُهم عن المسير إليهم . وكذلك هجرة الأولياء من خواصه؛ فيها لهم خلاصٌ من البلايا ، واستخلاصٌ للكثيرين من البلايا . ٦جحودُ الحقِّ بعد وضوح برهانه عَلَمٌ لاستكبار صاحبه ، وهو - في الحال - في وحشة غَيِّه ، مُعَاقَبٌ بالصِّد وتَنعُّص العَيْشِ ، يَملُّ حياتَه ويتمنى وفاتَه؛ { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } . ٧التعريجُ في أوطان الكسل ، ومساكنة مألوفات الراحة من خصائص أحكام النَّفْس ، فهي بطبعها تؤثِر في كل حالٍ نصيبها ، وتتعجل لذَّةَ حظِّها . ولا يصل أحدٌ إلى جلائل النِّعم إلا بتجرُّع كاسات الشدائد ، والانسلاخ عن معهودات النصيب . { وَيُرِيدُ اللّه أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي إذا أراد اللّه - سبحانه - تخصيصَ عبدٍ بولايته قضى على طوارقِ نفسه بالأفُول ، وحكم لبعض شهواته بالذبول ، وإلى طوالع الحقائق بإشراقها ، ولجامع الموانع باستحقاقها . ٨ليحق الحقَّ بالتوفيق فيما يحصل ببذل المجهود ، والتحقيق لما يظهر من عين الجود . ويقال لِيُحِقَّ الحقّ بنشر أعلام الوصل ، ويُبْطِلَ الباطلَ بقهر أقسام الهزل . ٩-١٠الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة . والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسيرٌ للمسؤول وتحقيق للمأمول . فإذا صدقت الاستغاثة بتَعَجُّل الإجابة حَصُلَتْ الآمالُ وقُضِيَتْ الحاجة . . بذلك جَرَتْ سُنَّتُه الكريمة . ويقال بَشَرَّهم بالإمداد بالمَلَك ، ثم رقَّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من المَلِكِ ، ولم يَذرْهم في المساكنة إلى الإمداد بالمَلَك فقال :{ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّه } ثم قال : { إنَّ اللّه عَزِيزٌ } فالنجاة من البلاء حاصلة ، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة ، والدعوات مسموعة ، والإجابة غير ممنوعة ، وزوائد الإحسان مُتَاحة ، ولكن اللّه عزيز . الطالبُ واجدٌ ولكن بعطائه ، والراغب واصل ولكن إلى مبارِّه . والسبيلُ سهلٌ ولكن إلى وجدان لطفه ، فأمّا الحقُّ فهو عزيز وراء كل وصل وفصل ، وقُرْبٍ وبُعْد ، وما وَصَلَ أحدٌ إلا إلى نصيبه ، وما بقي أحدٌ إلا عن حظه ، وفي معناه أنشدوا : وقُلْنَ لنا نحن الأهِلَّةُ إنما ... نضيءُ لمن يسري بليلٍ ولا نُقْرِي فلا بَذْلَ إلا ما تزوَّدَ ناظرٌ ... ولا وصلَ إلا بالجمال الذي يسري ١١قوله جلّ ذكره : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَِكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } . غَشيَهم النُّعاسُ تلك الليلة فأزال عن ظواهرهم ونفوسهم كَدَّ الأغيار والكلال ، وأنزل على قلوبهم رَوْحَ الأمن ، وأمطرت السماءُ فاغتسلوا بعدما لزمتهم الطهارة الكبرى بسبب الاحتلام ، واشتدت الأرض بالمطر فلم ترسب الأقدام في رَملِها ، وانتفى عن قلوبهم ما كانت الشياطين توسوس به إليهم أنه سيصيبهم العناءُ بسلوك رَمْلِها وبالانتفاء عن الغُسْل ، فلمَّا ( . . . ) الإحساسِ ، واستمكن منهم النُّعاس ، وتداركتهم الكفاية والنصرة استيقنوا بأن الإعانة من قِبَل اللّه لا بسكونهم وحركتهم ، وأشهدهم صرف التأييد وإتمام الكفاية . وكما طَهَّرَ ظواهرهم بماء المساء طهَّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلِّ غير وكلِّ عِلَّة ، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس ، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجري الحقُّ من فنون التصريف . قوله جلّ ذكره : { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } . أقدامَ الظاهر في مَشَاهِدِ القتال ، وأقدامَ السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجاري التقدير . ١٢قوله جلّ ذكره : { إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى المَلاَئِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِتُّوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } . عَرَّفَنَا أنَّ الملائكة محتاجون إلى تعريف الحق إياهم قضايا التوحيد . وتثبيتُ الملائكة للمؤمنين : قيل كانوا يَظْهَرُون للمسلمين في صور الرجال يخاطبونهم بالإخبار عن قلة عدد المشركين واستيلاء المسلمين عليهم ، وهم لا يعرفون أنهم ملائكة . وقيل تثبيتهم إياهم بأن كانوا يلقون في قلوبهم ذلك مِنْ جهة الخواطر ، ثم إن اللّه يخلق لهم فيها ذلك ، فكما يُوَصِّلُ الحق سبحانه - وساوسَ الشيطان إلى القلوب يوصل خواطرَ المَلَكِ ، وأَيَّدَهم بإلقاء الخوف والرعب في قلوب الكفار . قوله جلّ ذكره : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّه وَرَسُولَهُ } . وذلك بأمر اللّه وتعريفه من جهة الوحي والكتاب ، ويكون معناه إباحة ضربهم ونيلهم على أي وجه كان كيفما أصابوا أسافلهم وأعاليهم . ويحتمل فاضربوا فوق الأعناق ضرباً يوجِبُ قَتْلَهم؛ لأنه لا حياةَ بعد ضَرْبِ العُنُقِ . ولفظُ فوق يكون صلة . { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي ضرباً يعجزهم عن الضرب ومقاتلة المسلمين؛ لأنه لا مقاتلة تحصل بعد فوات الأطراف . ١٣{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّه وَرَسُولَهُ } بين أنهم في مغاليط حسبانهم وأكاذيب ظنونهم والمُنْشِئُ - بكلِّ وجهٍ - اللّه؛ لانفراده بقدرة الإيجاد . قوله جلّ ذكره : { وَمَن يُشَاقِقِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ العِقَابِ } . يُمْهِلُ المجرمَ أياماً ثم لا يهمله ، بل يُذِيقه بأْسَ فِعله ، ويزيل عنه شُبْهةَ ظنِّه . ١٤قوله جلّ ذكره : { ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } . ذلك العذاب فذوقوه - أيها المشركون - مُعَجَّلاً ، واعلموا أن للكافرين عذاباً مُؤجَّلاً ، فللعاصين عقوبتان مُحَصَّلٌ بنقد ومؤخَّرٌ بوعد . ١٥-١٦يقول إذا لقيتم الكفار في المعركة زحفاً مجتمعين فأثبتوا لقتالهم ، ولا تنهزموا فالشجاعة ثبات القلوب ، وكما قيل الشجاعة صبر على الطاعة وفي الجهاد مع العدو ، فالواجب الثبات عند الصولة - هذا في الظاهر ، وفي الباطن جهاد مع الشيطان ، والواجب فيه الوقوف عن دواعيه إلى الزَّلة؛ فَمَنْ وقف على حدِّ الإمساك عن إجابته ، بلا إنجازٍ لما يدعوه بوساوسه فَقَدْ وفَّى الجهاد حقَّه . وكذلك في مجاهدة النَّفس ، فإذا وقف العبدُ عن إجابة النَّفْس فيما تدعوه بهواجسها ، ولم يُطِعْ شهوتَه فيها تحمله النفسُ عليه من البلاء إلى ابتغاء حظِّه فقد وفَّى الجهادَ حقَّه . والإشارة في قوله : { إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ } بإيثار بعض الرُّخص ليتقوَّى على ما هو أشد؛ كأكْله مثلاً ما يُقِيم صُلْبَه ليقوى على السَّهر ، وكترفقه بنفسه بإيثار بعض الراحة من إزالة عطش ، أو نفي مقاساة جوع أو بَرْدٍ أو غيره لئلا يبقى عن مراعاة قلبه ، ولاستدامة اتصال قلبه به ، فإنْ تَرَكَ بعضَ أورادِ الظاهر لئلا يبقى به عن الاستقامة في أحكام واردات السرائر أَخَذَ في حقِّ الجهاد بحزم . والإشارة في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } إلى اعتضاد المريد بصحبة أقرانه فيما يساعدونه في المجاهدة ، ويُبْقِي شهودُ ما هم فيه من المكابدة من إقامته على مجاهدته . ثم باستمداده من همم الشيوخ؛ فإن المريدَ ربيب هُمَّةِ شيخه ، فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم ، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هِمَمِهم ، يجبرون كَسْرَهم ، ويتوبون منهم ، ويساعدونهم بحسن إرشادهم . ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه ، أو خالَفَ شيخاً وهو يعرف فضلَه وحَقَّه فقد باءَ من اللّه بسخطٍ ، واللّه تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه . ١٧قوله جلّ ذكره : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ } . الذي نَفَى عنهم من القتل ، هو إماتة الروح وإثبات الموت ، وهو من خصائص قدرته - سبحانه ، والذي يُوصَفُ به الخلق من القتل هو ما يفعلونه في أنفسهم ، ويحصل ذهاب الروح عقيبه . وفائدة الآية قطع دعاواهم في قول كل واحد على جهة التفاخر قتلتُ فلاناً ، فقال :{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبدئ هو اللّه عزَّ وجل . وصَانَهم بهذه الآية وصان نَبِيَّه - عليه السلام - عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم . قوله جلّ ذكره : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى } . أي ما رَمَيْتَ بنفسك ولكنك رميْت بنا ، فكان منه ( صلوات اللّه عليه ) قبضُ التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب ، وكَسْبَهُ مُوجَدٌ من اللّه بقدرته ، وكان التبليغ والإصابة مِن قِبَل اللّه خَلْقاً وإبداعاً ، وليس الذي أثبت ما نفي ولا نفي ما أثبت إلا هو ، والفعلُ فِعْلُ واحدٍ ولكن التغاير في جهة الفعل لا في عينه . فقوله : { إِذْ رَمَيْتَ } فَرْقٌ ، وقوله : { وَلَكِنَّ اللّه رَمَى } جمع . والفرق صفة العبودية ، والجمع نعت الربوبية ، وكلُّ فرقٍ لم يكن مُضَمَّناً بجمعٍ وكلُّ جمع لم يكن - في صفة العبد - مُؤَيَّداً بفرق فصاحبُه غير سديد الوتيرة . وإن الحقَّ - سبحانه - يَكِلُ الأغيار إلى ظنونهم ، فيتيهون في أودية الحسبان ويتوهمون أنهم منفردون بإجراءٍ ما منهم ، وذلك منه مكرٌ بهم . قال اللّه تعالى :{ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }[ الكهف : ١٠٤ ] وأما أرباب التوحيد فَيُشْهِدهم مطالِعَ التقدير ، ويعرِّفهم جريان الحُكمْ ، ويُريهم أَنْفُسَهم في أَسْرِ التصريف ، وقهر الحكمْ . وأمَّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيُجرِي عليهم ما يُجْرِي و ( ما ) لهم إحساس بذلك ، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير ، ويتولَّى حفظهم عن مخالفة الشرع . قوله جلّ ذكره : { وَلِيُبْلِىَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا } . البلاء الاختبار ، فيختبرهم مرة بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم ، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم ، أو ذِكْرَهم أو نسيانهم . ( البلاء الحسن ) : توفيق الشكر في المِنْحة ، وتحقيق الصبر في المحبة ، وكل ما يفعله الحقُّ فهو حَسَنٌ من الحقِّ لأنَّ له أَنْ يفعلَه . وهذه حقيقة الحَسَن : وهو ما للفاعل أن يفعله . ويقال حَسُنَ البلاءُ لأنه منه و ( . . . ) البلاء لأنه فيه . ويقال البلاء الحسن أن تَشْهَدَ المُبْلِي في عين البلاء . ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إنْ كان نعمة ، ولا شكوى إن كان محنة . ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إنْ كان عُسْراً ، ولا بطر إن كان يسراً . ويقال بلاءُ كلِّ أحدٍ على حسبِ حاله ومقامه؛ فأصفاهم ولاءً ، قال عليه السلام : ( أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) . قوله جلّ ذكره : { إِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . تنفيسٌ لقوم وتهديدٌ لقوم؛ أصحابُ الرِّفق يقول لهم إن اللّه ( سميعٌ ) لأنينكم؛ فَيُرَوِّح عليهم بهذا ، وَقْتَهم ، ويحمل عنهم ولاءهم ، وأنشدوا : إذا ما تمنَّى الناسُ روْحاً وراحةً ... تمنيتُ أَنْ أشكو إليك فتسمعا وقالوا : قُلْ لي بألسنةَ التَّنفُّس ... كيف أنت وكيف حالك؟ وأمَّا الأكابر فلا يُؤْذَنُ لهم في التَّنَفُّس ، وتكون المطالبةُ متوجِّهةً عليهم بالصبر ، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهارٍ ولا شكوى ، فيقول : لو ترشح منك ما كُلِّفْتَ بِشُرْبِه تَوَجَّهَتْ عليك الملامةُ ، فإِن لم يكن منك بيانٌ فإِنِّي لقالتك ، عليمٌ بحالتك . ويقال في قوله ( عليم ) تسلية لأرباب البلاء؛ لأنَّ من عَلِم أنَّ مقصودَه يعلم حالَه سَهُل عليه ما يقاسيه فيه ، قال - سبحانه - لنبيَّه صلى اللّه عليه وسلم : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ }[ الحجر : ٩٧ ] . ١٨موهن كدهم : بتقوية قلوب المؤمنين بنور اليقين ، والثبات على انتظار الفضل من قِبَلِ اللّه ، وموهن كيدهم : بأن يأخذَ الكافرين من حيث لا يشعرون ، ويظفر جندُ المسلمين عليهم . ١٩قوله جلّ ذكره : { إن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الفَتْحُ } . قال المشركون - يوم بدر - اللّهم انصرْ أََحَبَّ الفِئتين إليك ، فاستجابَ دعاءَهم ونصر أحبَّ الفئتين إليه . . وهم المسلمون ، فسألوا بألسنتهم هلاكَ أنفسِهم ، وذلك لانجرارهم في مغاليط ما يُعَلِّقون من ظنونهم ، فهم توهَّموا استحقاق القربة ، وكانوا في عين الفرقة وحُكْمِ الشِّقْوَةِ ، موسومين باستيجاب اللعنة بدعائهم ، والوقوع في شقائهم؛ فاختيارهم مُنُوا ببَوارِهم . ويقال ظنوا أنهم من أهل الرحمة فَزَلُّوا ، فلما كُشِفَ السترُ خابوا وذَلُّوا ، فعند ذلك علموا أنهم زاغوا في ظنهم وضلوا . قوله جلّ ذكره : { وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } . فيغفر لكم ما قد سَلَفَ من خلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم . { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ليس المراد منه المبالغة؛ لأنه يقال هذا خير لك من هذا إذا كان الثاني ليس في شر ، وترك موافقتهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم - بكل وجهٍ - هو شرٌّ لهم ، ولكنه أراد به في الأحوال الدنيوية ، وعلى موجب ظنِّهم . قوله جلّ ذكره : { وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ } . يعني إنْ عُدْتُم إلى الجميل من السيرة عُدْنا عليكم بجميل المِنَّة ، وإنْ عاودتم الإقدام على الشَّرِّ أَعَدْنا عليكم ما أذقناكم من الضُّرِّ . قوله جلّ ذكره : { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّه مَعَ المُؤْمِنِينَ } . مَنْ غَلَبَتْهُ قدْرُة الأحد لم تغْنِ عنه كثرة العدد . ٢٠قوله جلّ ذكره : { يَأَيُّهَأ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ } . الناس في طاعة اللّه على أقسام : فمطيعٌ لخوفِ عقوبتِه ، ومطيعٌ طمعاً في مثوبته ، وآخر تحققاً بعبوديته ، وآخر تشرفاً بربوبيته . وكم بين مطيعٍ ومطيعٍ! وأنشدوا : أحبك يا شمسَ النهارِ وبَدْرَه ... وإنْ لامني فيك السُّها والفراقد وذاك لأنَّ الفضلَ عندك زاخِرٌ ... وذاك لأنَّ العَيْشَ عندك بارِدُ قال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ } ولم يقل أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول ، وفي ذلك نوع تخصيص ، وحزب تفضيل يَلْطُفُ عن العبارة ويَبْعُد عن الإشارة . قوله جلّ ذكره : { وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } . أي تسمعون دعاءه إياكم ، وتسمعون ما أُنزِلَ عليه من دعائي إياكم . ٢١لا تكونوا ممن يشهد جهراً ، ويجحد سِرًّا . ويقال لا تُقِرُّوا بلسانكم ، وتصِرُّوا على كفرانكم . ويقال مَنْ نطق بتلبيسِه تشهد الخِبرة بتكذيبه . ٢٢دواعي الحق بحسن البيان ناطقة ، وألسنة البرهان فيما ورد به التكليف صادقة ، وخواطر الغيب بكشف ظُلَمِ الريْبِ مُفْصِحة ، وزواجر التحقيق عن متابعة التمويه للقلوب ملازمة . فَمنْ صُمَّ عن إدراك ما خوطب به سرُّه ، وعمِيَ عن شهود ما كوشف به قلبه ، وخَرِسَ - عن إجابة ما أُرْشِدَ إليه من حجة - فَهْمُه وعقله فَدُونَ رُتْبةِ البهائم قدْرُه ، وفوق كل ( . . . ) من حكم اللّه ذُلُّه وصغره . ٢٣مَنْ أَقْصتْه سوابقُ القسمة لم تُدْنِه لواحقُ الخدمة ، ومنْ عَلِمه اللّه بنعت الشِّقوة حَرَمَه ما يوجبُ عَفْوَه . ويقال لو كانوا في متناولات الرحمة لألبسهم صدارَ العصمة ، ولكن سبَق بالحرمان حكمُهم ، فختم بالضلالةِ أمرُهم . ٢٤قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } . أجاب واستجاب بمعنى مثل أوقد واستوقد ، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية بأنها تكون طوعاً لا كرهاً ، وفَرْقٌ بين من يجيب لخوفٍ أو طمع وبين من يستجيب لا بِعِوَضٍ ولا على ملاحظة غَرَضٍ . وحقُّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أَنْ تَذَرَ من المستطاع بقية . والمستجيبُ لربه محوٌ عن كلِّه باستيلاء الحقيقة ، والمستجيب للرسول - صلى اللّه عليه وسلم وعلى آله - قائم بشريعته من غير إخلال بشيء من أحكامها . وقد أمر اللّه سبحانه وتعالى بالاستجابة له - سبحانه ، وبالاستجابة للرسول؛ فالعبدُ المستجيبُ - على الحقيقة - من قام باللّه سرَّاً ، واتصف بالشرع جهراً فيُفْرِده الحقُّ - سبحانه - بحقائق الجمع و ( . . . ) في مشاهدة الفرق ، فلا يكون للحدثان في مشرب حقائقه تكدير ، ولا لمطالبات الشرع على أحواله نكير . قوله جلّ ذكره : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } . إذْ لمَّا أفناهم عنهم أحياهم به . ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته ، وأما العالِمون فأحياهم بدلائل ربوبيته ، بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم . وأمَّا الموَحِّدونَ فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير ، والملاحظة لكل حدثان . قوله جلّ ذكره : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . يصون القلب عن تقليب أربابها فيُقلِّبها كما يشاء هو ، من بيان هداية وضلال ، وغَيبةٍ ووصالٍ ، وحُجْبةٍ وقُرْبة ، ويقينٍ ومرية ، وأُنْسٍ ووحشة . ويقال صان قلوب العُبَّادِ عن الجنوح إلى الكسل ، فجدُّوا في معاملاتهم ، وصان قلوب المريدين عن التعريج في أوطان الفشل فصدقوا في منازلاتهم ، وصان قلوب العارفين - على حدِّ الاستقامة - عن الميْل فتحققوا بدوام مواصلاتهم . ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوعٌ إلا إلى اللّه ، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلا الأغيار سبيل ، ولا على قلوبهم تعويل . وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدي إلى شيء إلا إلى ربِّه! كما قيل : لا يهتدي قلبي إلى غيركم ... لأنه سُدَّ عليه الطريق ويقال العلماء هم الذين وجدوا قلوبهم ، قال تعالى : { إنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ }[ ق : ٣٧ ] والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم . ٢٥احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها ، بل يعمُّ شؤمُها من تعاطاها ومن لم بتعاطها . وغير المجرم لا يُؤْخَذ بِجُرْم من أذنب ، ولكن قد ينفرِد أحدٌ بجرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم ، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحال بل إنها تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه ، ورضاه به ، و هذا معنى التفسير من حيث الظاهر . فأمَّا من جهة الإشارة : فإن العبدَ إذا باشر زَلّةً بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة وهي العقوبة المعجلة ، وتصيب النَّفْس منها العقوبة المؤجلة ، والقلبُ إذا حصلت منه فتنة الزلة - عندما بهم بما لا يجوز - تَعدَّتْ فتنته إلى السِّر وهي الحُجْبَةُ . والمُقَدَّمُ في شأنه إذا فعل ما لا يجوز انقطعت البركاتُ التي كانت تتعدى منه إلى مُتَّبِعِيه وتلامذته ، وكان لهم نصيبهم من الفتنة وهم لم يعملوا ذنباً . ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تَرْكِهِم الأذكار أصابتهم فتنةُ ما فعلوه؛ فلقد قيل إنَّ السفيه إذا لم يُنْهَ مأمورُ . فعلى هذا تصيب فتنةُ الزَّلةِ مرتكبَها ومَنْ تَرَكَ النَّهي عن المنكر - مثل مَنْ ترك الأمر بالمعروف - يؤخذ بِجُرمه . ويقال إنَّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع في أخذ الزيادة من الدنيا مما فوق الكفاية - وإن كان من وجهٍ حلال - تؤدي فتنته إلى من يخرج به من المبتدئين ، فبجملة ما أبدى من الرغبة في الدنيا ، وتَرْكِ التقلل يؤدي إلى الانهماك في أودية الغفلة والأشغال الدنيوية . والعابد إذا جَنَحَ عن الأَشَقِّ وتَرَكَ الأوْلى تعدَّى ذلك إلى من كان ينشط في المجاهدة؛ فيستوطنون الكسل ، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل : إن الشبابَ والفراغ والجدة ... مَفْسَدةٌ للمرء أي مفسدة وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة . والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظٌّ له ، نَظَرَ إليه المريدُ ، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة ، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف . وفي الجملة إذا غفل المَلِكُ ، وتَشَاغَل عن سياسة رعيته تَعَطَّلَ الجندُ والرعية ، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة ، وفي معناه أنشدوا : رُعَاتُك ضيَّعوا - بالجهل منهم - ... غُنَيْمَاتٍ فَاسَتْها ذِئابُ { اللّه شَدِيدُ العِقَابِ } بتعجيله ذلك ، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبداً ليُعَاقِبَه لا يُمَكِّنه من تلافي موجب تلك العقوبة . ٢٦قوله جلّ ذكره : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَئَاوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصّرِهِ } . يُذَكرهم ما كانوا فيه من القِلَّة والذِّلة وصنوف ( . . . ) ثم ما نَقَلَهم إليه من الإِمْكان والبَسْطَة ، ووجوه الأمان والحيطة ، وقَرَّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القِسَم ، وإدامة الحمد على جميل تلك النِّعم ، فمهَّد لهم في ظل أبوابه مقيلاً ، ولم يجعل للعدوِّ إليهم - بيُمْنِ رعايته - سبيلاً . قوله جلّ ذكره : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . رَزَقَ الأشباحَ والظواهرَ من طيبات الغذاء ، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء . وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق في شهود المُنْعم . ٢٧الخيانة الاستبطان بخلاف ما يُؤَمَّل منك بحق التعويل ، فخيانةُ اللّه بتضييع ما ائتمنك عليه ، وذلك بمخالفة النُّصح في دينه ، وخيانة الرسولِ بالاتصاف بمخالفة ما تبدي من مشايعته . والخيانة في الأمانات بترك الإنصاف ، والاتصاف بغير الصدق . وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة ، فمن اؤتمِنَ في مالٍ فتصرَّفَ فيه بغير إذن صاحبه - خيانة ، ومن اؤتمن على الحُرَم فملاحظته إياهن - خيانة . فعلى هذا : الخيانةُ في الأعمال الدعوى فيها بأنها من قِبَلَك دون التحقيق بأنَّ مُنْشِئها اللّه . والخيانة في الأحوال ملاحظتُك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك في شهود الحق ، إن لم يكن استهلاكك في وجود الحق . وإذا أَخْلَلْتَ بِسُنَّةٍ من السُّنَنِ أو أدبِ من آداب الشَّرع فتلك خيانة الرسول صلى اللّه عليه وسلم . والخيانة في الأمانات - بينك وبين الخلْق - تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين ، بإرادة القلب فضلاً عن المعاملة بالفعل . ٢٨أموالكم وأولادكم سبب فتنتكم لأن المرءَ - لأجل جمع ماله ولأجل أولاده - يرتكب ما هو خلاف الأمر ، فيورثه فتنة العقوبة . ويقال الفتنةُ الاختبارُ؛ فيختبرك بالأموال . . هل تؤثرها على حق اللّه؟ وبالأولاد . . هل تتركُ لأجلهم ما فيه رضاء اللّه؟ فإنْ آثرتم حقَّه على حقِّكم ظهرت به فضيلتُكم ، وإنْ اتصفتم بضدِّه عوملتم بما يوجِبه العكس من محبوبكم . ويقال المالُ فتنةٌ إذا كان عن اللّه يشغلكم ، والأولادُ فتنةٌ إذا لأَجْلِهم قَصَّرْتُم في حقِّ اللّهأو فَرَّطتُم . ويقال المال - ما للكفافِ والعفافِ - نِعْمَةٌ ، وما للتقاصِر والتفاخرِ فتنةٌ ، وفي الجملة ما يشغلكَ عن اللّه فهو فتنة . ٢٩الفرقان ما به يفرق بين الحق والباطل مِنْ عِلْمٍ وافر وإلهام قاهر ، فالعلماء فرقانُهم مجلوبُ برهانِهم ، والعارفون فرقانهم موهوب عرفانهم؛ فأولئك مع مجهود أنفسهم ، وهؤلاء بمقتضى جُودِ ربِّهم . والعرفانُ تعريفٌ من اللّه ، والتكفيرُ تخفيفٌ من اللّه ، والغفرانُ تشريفٌ للعبد من اللّه . ٣٠ذكره عظيم مِنَّتِه عليه حيث خَلَّصَه من أعدائه حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة ، وهمَّوا بقتله ، وحاولوا أن يمكروا به في السِّر ، فأعلمه اللّه ذلك . والمكرُ إظهارُ الإحسانِ مع قَصْدِ الإساءةِ في السِّر ، والمكرُ من اللّه الجزاءُ على المكر ، ويكون المكرُ بهم أَنْ يُلْقِيَ في قلوبهم أنه مُحْسِنٌ إليهم ثم - في التحقيق - يُعذِّبهم ، وإذا شَغَلَ قوماً بالدنيا صَرَفَ همومَهم إليها حتى يَنْسَوْا أمر الآخرة ، وذلك مكرٌ بهم ، إذ يُوظِّنُون نفوسهم عليها ، فيتيح لهم من مأمنهِم سوءاً ، ويأخذهم بغتةً . ومن جملة مكره اغترارُ قومٍ بما يرزقهم من الصيت الجميل بين الناس ، وإجراءِ كثير من الطعات عليهم ، فأسرارهم تكون بالأغيار منوطةً ، وهم عن اللّه غافلون ، وعند الناس أنهم مُكْرَمُون ، وفي معناه قيل : وقد حسدوني في قرب داري منكم ... وكم من قريب الدار وهو بعيد ٣١فَرْطُ جهلهم ، وشؤم جحدهم سَتَرَ على عقولهم قُبْحَ دعاويهم في القدرة على معارضة القرآن فافتضحوا عند الامتحان بعدم البرهان ، والعجز عما وصفوا به أَنفسهم من الفصاحة والبيان ، وقديماً قيل : مَنْ تحلَّى بغير ما هو فيه ... فَضَحَ الامتحان ما يدَّعيه ويقال لمَّا لاحظوا القرآن بعين الاستصغار حُرِموا بركات الفهم فعدُّوه من جملة أساطير الأولين ، وكذلك منْ لا يراعي على حرمة الأولياء ، يعَاقَبُ بأَنْ تُسْتَرَ عليه أحوالُهم ، فيظنهم مثله في استحقاق مثالبه ، فيطلق فيهم لسان الوقيعة ، وهو بذلك أَحَقُّ ، كما قيل :( رَمَتْنِي بدائِها وانْسَلَّتْ ) . ٣٢دَلَّ سؤالهم العذابَ على تصميم عقدهم على تكذيب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، واستيقنوا عند أنفسهم بأنه لا يُسْتَجَابُ فيهم ما يدعونه على أنفسهم . وفي هذا أظهر دليل على أن سكون النفس إلى الشيء ليس بعلم؛ لأنه كما يوجد مع العلم يوجد مع الجهل . ٣٣قوله جلّ ذكره : { وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } . ما كان اللّه معذبهم وأنت فيهم ، وما كان اللّه ليعذِّبَ أسلافَهم وأنت في أصلابهم ، وليس يعذبهم اليوم وأنت فيما بينهم إجلالاً لقَدْرِك ، وإكراماً لمحلِّك ، وإذا خرجتَ من بينهم فلا يعذبهم وفيهم خدمك الذين يستغفرون ، فالآية تجل على تشريف قَدْر الرسول - صلى اللّه عليه وسلم . ويقال للجوَارِ حُرْمةٌ ، فَجَارُ الكرام في ظل إنعامهم؛ فالكفار إن لم يَنْعَموا بقرب الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - منهم فقد اندفع العذاب - بمجاورته - عنهم : وأحبُها وأحبُّ منزلَها الذي ... نَزَلَتْ به وأُحِبُّ أهلَ المنزِل ويقال إذا كان كون الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - في الكفار يمنع العذاب عنهم فكون المعرفة في القلوب أوْلى بدفع العذاب عنها . ويقال إن العذاب - وإنْ تأَخَّر عنهم مدة مقامهم في الدنيا ما دام هو عليه السلام فيهم - فلا محالة يصيبهم العذابُ في الآخرة ، إذ الاعتبار بالعواقب لا بالأوقات والطوارق . قوله جلّ ذكره : { وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } . علم أنه - عليه السلام - لا يتَأَبَّد مُكْثُه في أمته إذا قال له : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ }[ الأنبياء : ٣٤ ] ، فقال إني لا أضيع أمَّتَه وإن قضى فيهم مُدَّتَه ، فما دامت ألسنتهم بالاستغفار مُتَطَلِّعةً فصنوف العذاب عنهم مرتفعة . ٣٤قوله جلّ ذكره : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّه وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ } . نَفَى العذابَ عنهم في آية ، وأَثْبَتَه في آية ، فالمنفيُّ في الدنيا والمثْبَتُ في الآخرة . ثم بيَّنَ إيصالَ العذاب إليهم في الآخرة بقوله تعالى . { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ } دليل الخطاب أن إعانة المسلمين على ما فيه قيام بحق الدين يوجب استحقاق القربة والثواب . وفي الآية دليلٌ على أنه لا يعذِّب أولياءه بقوله : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ } فإذا عذَّبَ مَنْ يكونوا أولياءَه دلَّ على أنه يعذِّب من كان من جملة أوليائه . والمؤمنون كلُّهم أولياءُ اللّه لأنه قال : { اللّه وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا }[ البقرة : ٢٥٧ ] . والمؤمِنَ - وإنْ عذِّب بمقدار جُرْمِه زماناً فإنه لا يُخَلَّد في دار العقوبة ، فما يُقاسون بالإضافة إلى تأبيد الخَلاصِ جَلَلٌ ، وقيل : إذا سَلِمَ العهدُ الذي كان بيننا ... فوُدِّي وإنْ شطَّ المزار سليمُ قوله جلّ ذكره : { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } . وليس أولياؤه إلا المتقون ، وهم الذين اتقوا الشِّرك . ٣٥قوله جلّ ذكره : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصَدِيَةً } . تجردت أعمالهم بظواهرهم عن خلوص عقائدهم ، فلم يوجِدْ - سبحانه وتعالى - لها احتساباً؛ فزكاءُ القالة لا يكون إلا مع صفاء الحالة ، وعناء الظاهر لا يُقْبَلُ إلا مع ضياء السرائر . قوله جلّ ذكره : { فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } . كان العذابُ مُعَجَّلا وهو حسبانهم أنهم على شيء ، قال اللّه تعالى . { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }[ الكهف : ١٠٤ ] ، ومؤجَّلاً وهو كما قال اللّه تعالى :{ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ }[ الرعد : ٣٤ ] . ٣٦يرومون بإنفاقهم صنوفَ أموالهم صلاحاً ونظاماً لأحوالهم ، ثم لا يَحْظَوْن إلا بخسران ، ولا يحصلون إلا على نقصان . خَسِروا وهم لا يشعرون ، وخابوا وسوف يعلمون : سوف ترى إذا انجلى الغبارُ ... أَفَرَسٌ تحتك أم حِمارُ؟ قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهُنَّمَ يُحْشَرُونَ } إنَّهم وإن أَلْهَتْهُم أموالُهم فإلى الهوان والذِّلة مآلُهم ، لم تُغْنِ عنهم أموالهُم ، ولم تنفعهم أعمالُهم ، بل خُتِمَتْ بالشقاوة أحوالُهم . ٣٧الخبيث ما لا يصلح للّه ، والطيب ما يصلح للّه . الخبيث ما حكم الشرعُ بقبحه وفساده ، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه . ويقال الخبيث الكافرُ ، والطيِّبُ المؤمِنُ . الخبيثُ ما شَغَل صاحبَه عن اللّه ، والطيِّبُ ما أوصل صاحبه إلى اللّه . الخبيثُ ما يأخذه المرءُ وينفقه لحظِّ نفسه ، والطيب ما ينفقه بأمر ربه . الخبيث عملُ الكافرِ يُصَوَّر له ويُعَذَّب بإِلقائه عليه ، والطيِّبُ عملُ المؤمن يُصَورُ له في صورةٍ جميلة فيحمل المؤمن عليه . ٣٨إنْ كبحوا لجام التمرد ، وأقلعوا عن الركض في ميدان العناد والتَّجَبُّر أَزَلْنا عنهم صَغَارَ الهوان ، وأَوْجَبْنا لهم رَوْحَ الأمان . ويقال إن حلُّوا نطاق العناد أطلقنا عنهم عقال البعاد . ويقال إن أبصروا قُبْحَ فِعالهم جُدْنا عليهم بإصلاح أحوالهم . ويقال إنْ جنحوا للاعتذار ألقينا عليهم حالة الاغتفار . ويقال إن عادوا إلى التَّنّصُّل أبحنا لهم حُسْنَ التَّفَضُّل : أناسٌ أعرضوا عنّا ... بلا جُرْمٍ ولا معنى أساءوا ظَنَّهم فينا ... فهلاَّ أحسنوا الظنَّا فإن كانوا لنا - كُنَّا ، ... وإنْ عادوا لنا عُدْنا وإن كانوا قد اسْتَغْنَوْا ... فإنَّا عنهمُ أغنى ٣٩أمرهم بمقاتلة الكفار والإبلاغ فيها حتى تُسْتأصل شأفتُهم بحيث يأَمَن المسلمون مَضَرَّتَهم ، ويكفَونُ بالكلية فتنتهم . . وحَيَّةُ الوادي لا تُؤْمَنُ ما دامت تبقى فيها حركة؛ كذلك العدو إذا قُهِر فحقُّه أن تُقْتلعَ جميعُ عروقه ، وتُنَقَّى رِبَاعُ الإسلام من كل شكيرة تنبت من الشرك . ٤٠فإن أَبَوْا عُتُوَّا ، وعن الإيمان إلا نُبُوَّأ ، فَلاَ على قلوبكم ظِلُّ مخافةٍ منهم؛ فإن اللّه - سبحانه - وليُّ نصرتكم ، ومتولِّي كفايتكم؛ إنْ لم تكونوا بحيث نِعْمَ العبيد فهو نِعْم المولى لكم ونِعْمَ الناصر لكم . ويقال نِعمَ المولى لكم يوم قسمة العرفان ، ونِعْم الناصرُ لكم يوم نعمة الغفران ويقال نِعْم المولى لك حين لم تكن ، ونِعْمَ الناصر لك حين كنتَ . ويقال نعم المولى بالتعريف قَبْلَ التكليف ، ونِعْم الناصر لكم بالتخفيف والتضعيف؛ يُخَفِّفُ عنكم السيئات ويضاعف الحسنات : وهواكِ أولُ ما عَرَفْتُ مِنَ الهوى ... والقلبُ لا ينسى الحبيبَ الأَوَّلا ٤١الغنيمةُ ما أخذه المؤمنون من أموال الكفار إذا ظَفِروا عند المجاهدة والقتال معهم . فإذا لم يكن قتال - أو ما في معناه - فهو فَيْءٌ . والجهاد قسمان : جهاد الظاهر مع الكفار ، وجهاد الباطن مع النَّفْس والشيطان وهو الجهاد الأكبر - كما في الخبر . وكما أن في الجهاد الأصغر غنيمةً عند الظَّفَرِ ، ففي الجهاد الأكبر غنيمة ، وهو يملك العبدُ نَفْسَه التي كانت في يد العدو : الهوى والشيطان . فبعد ما كانت ظواهرُه مقَرًّا للأعمال الذميمة ، وباطنُه مستقراً للأحوال الدَّنِيَّة يصير محلُّ الهوى مَسْكَنَ الرِّضا ، ومَقَرُّ الشهواتِ والمُنَى مُسَلَّماً لِمَا يَرِدُ عليه من مطالبات المولى ، وتصير النَّفْسُ مُسْتَلَبةً مِنْ أَسْرِ الشهوات ، والقلبُ مُخْتَطَفاً من وصف الغفلات ، والرُّوحُ مُنْتَزَعَةٌ من أيدي العلاقات ، والسِّرُّ مصُونًا عن الملاحظات . وتصبح غاغةُ النَّفْسِ مُنْهَزِمةً ، ورياسةُ الحقوقِ بالاستجابة للّه خافِقةً . وكما أن من جملة الغنيمة سَهْماً للّه وللرسول ، وهو الخُمْسُ فمما هو غنيمة - على لسان الإشارة - سهمٌ خالِصٌ للّه؛ وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب ، لا من كرائم العُقْبى ، ولا من ثمرات التقريب ، ولا من خصائص الإقبال ، فيكون العبدُ عند ذلك مُحَرَّراً عن رِقِّ كل نصيب ، خالصاً للّه باللّه ، كما قيل : مَنْ لم يكن بِك فانياً عن حظِّه ... وعن الهوى والإنْس والأحبابِ فكأنه - بين المراتب - واقِفٌ ... لمنَالِ حظٍّ أو لِحُسْنِ ثواب ٤٢قوله جلّ ذكره : { إِذْ أَنتُم بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالعُدْوَةِ القُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِى المِيِعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِىَ اللّه أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } . يخبر - سبحانه - أنَّ ما جرى يَومَ بدرٍ من القتال ، وما حَصَلَ من فنون الأحوال كان بحكم التقدير ، لا بما يحصل من الخَلْق من التدبير ، أو بحكم تقتضيه رَوِيَّةُ التفكير . بل لو كان ذلك على اختيار وتَوَاعُد ، كنتم عن تلك الجملة على استكراه وتَبَاعدُ ، فجرى على ما جرى ليقضِيَ اللّه أمراً كان مقضيًّا ، وحصل من الأمور ما سَبَقَ به التقدير . قوله جلّ ذكره : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّه لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } . أي ليُضِلَّ منْ زاغ عن الحقِّ بعد لزومه الحجبة ، ويهتديَ مَنْ أقام على الحقِّ بعد وضوح الحُجَّة . ويقال الحقُّ أوْضَحَ السبيلَ ونَصَبَ الدليلَ ، ولكن سَدَّ بصائرَ قومٍ عن شهود الرشد ، وَفَتح بصائرَ آخرين لإدراك طرق الحق . الهالك من وقع في أودية التفرقة ، والحيُّ مَنْ حَيِيَ بنور التعريف . ويقال الهالك من كان بحظِّه مربوطاً ، والحيُّ من كان من أسْرِ كلِّ نصيبٍ مُسْتَلَباً مجذوباً . ٤٣-٤٤قيل أراه إياهم في نومه صلى اللّه عليه وسلم - بوصف القِلَّة ، وأخبر أصحابه بذلك فازدادوا جسارة عليهم . وقيل أراه في منامه أي في محل نومه أي في عينيه ، فمعناه قللّهم في عينيه؛ لأنهم لو استكثروهم لفشلوا في قتالهم ، ولانكسرت بذلك قلوبُ المسلمين . وفي الجملة أراد اللّه جريانَ ما حصل بينهم من القتال يومَ بدر ، وإنَّ اللّه إذا أراد أمراً هَيَّأ أسبابَه؛ فقلَّلَ الكفارَ في أعين المسلمين فزادوا جسارةً ، وقلَّلَ المسلمين في أعين الكفار فازدادوا - عند نشاطهم إلى القتال - صغراً في حكم اللّه وخسارةً . { واللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }[ آل عمران : ١٥٤ ] : وكيف لا؟ ومنه تصدُرُ المقاديرُ ، وإليه تُرْجَع الأمور . ويقال إذا أراد اللّه نصرة عبدٍ فلو كَادَ له جميعُ البشر ، وأراده الكافةُ بكل ضَرَرٍ ، لا ينفع مَنْ شاءَ مَضَرَّتَه كَدٌّ ، ويحصل بينه وبين متاح لطفه به سَدٌّ . وإذا أراد بعبدٍ سوءاً فليس له رَدٌّ ، ولا ينفعه كَدٌّ ، ولا ينعشه بعد ما سقط في حكمه جَهْدٌ . ٤٥أراد إذا لقيتم فئةً من المشركين فاثبتوا . والثباتُ إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين ، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة ، والتحقق باللّه ، وشهود الحادثات كلها مِنْهُ ، فعند ذلك يستسلم اللّه ، ويرضى بحكمه ، ويتوقع منه حُسْنَ الإعانة ، ولهذا أحالَهم على الذكر فقال :{ وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا } . ويقال إنَّ جميعَ الخيراتِ في ثبات القلب ، وبه تَبِينُ أقدارُ الرجالِ ، فإذا وَرَدَ على الإنسان خاطرٌ يزعجه أو هاجِسٌ في نفسه يهيجه . . . فَمَنْ كان صاحبَ بصيرةٍ تَوَقفَ ريثما تَتَبَيَّنُ له حقيقةُ الوارد ، فيثبُتُ لكونه رابطَ الجأش ، ساكنَ القلب ، صافيَ اللُّب . . وهذا نعت الأكابر . ٤٦الموافقة بين المسلمين أصلُ الدِّين . وأولُ الفساد ورأسُ الزَّلَلِ الاختلافُ . وكما تجب الموافقة في الدين والعقيدة تجب الموافقة في الرأي والعزيمة . قال تعالى في صفة الكفَّار : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى }[ الحشر : ١٤ ] ، وإنما تتحد عزائم المسلم لأنهم كلَّهم يجمعهم التبرِّي مِنْ حوْلِهم وقُوَّتهم ، ويتمحضون في رجوعهم إلى اللّه ، وشهودهم التقدير ، فيتحدون في هذه الحالة الواحدة . وأمَّا الذين تَوهَّمُوا الحادثاتِ من أنفسهم فَضَلُّوا في ساحات حسبانهم ، وأجْرَوْا الأمور على ما يسنح لرأيهم ، فكلٌّ يبني على ما يقع له ويختار ، فإذا تنازعوا تَشَعَّبَتْ بهم الآراءُ ، وافترقت بهم الطرقُ ، فيضعفون ، وتختلف طُرُقُهم . وكما تجب في الدين طاعةُ رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - تجب طاعة أولي الأمر ، ولهذا يجب في كل وقت نَصْبُ إمام للمسلمين ، ثم لا تجوز مخالفته ، قال النبي - صلى اللّه عليه وسلم - : ( أطيعوه ولو كان عبداً مجده ) وكان الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - إذا بعث سرِيَّةً أمَّر عليهم أميراً وقال : ( عليكم بالسواد الأعظم ) . وإجماعُ المسلمين حُجَّةٌ ، وصلاة الجماعة سُنَّةٌ مؤكَّدة ، والاتِّباعُ محمودٌ والابتداع ضلالة . قوله { واصْبِروا } الصبر حَبْسُ النَّفْس على الشيء ، والمأمور به من الصبر ما يكون على خلاف هواك . { إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ } يتولى بالكافية إذا حصل منهم الثباتُ وحَسُنَ التفويضُ . ٤٧يريد أنَّ أهل مكة لما خرجوا من مكة عام بدر لنصرة العير مَلَكَتْهُم العِزَّةُ ، واستمكن منهم البَطَرُ ، وداخَلَهم رياءُ الناس ، فارتكبوا في شِبَاكِ غَلَطِهم ، وحصلوا على ما لم يحتسبوه . وأمَّا المؤمنون فَنَصَرَهم نَصْراً عزيزاً ، وأزال عن نبيِّه - عليه السلام - ما أظَلَّه من الخوف وبِصِدْقِ تبريه عن حوله ومُنَّتِه - حين قال : ( لا تكلني إلى نفسي ) - كفاه بحسن التولِّي فقال { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى } . ٤٨الشيطان إذا زيَّن للإنسان بوساوسه أمراً ، والنَّفْسُ إذا سوَّلت له شيئاً عَمِيَتْ بصائرُ أرباب الغفلة عن شهود صواب الرُّشد ، فيبقى الغافل في قِياد وساوسه ، ثم تلحقه هواجمُ التقدير من كوامن المكر من حيث لا يرتقب ، فلا الشيطان يفي بما يَعِدُه ، ولا النفس شيئاً مما تتمنَّاه تجده ، وكما قال القائل : أحسنتَ ظنَّك بالأيام إذ حَسُنَتْ ... ولم تَخَفْ سوءَ ما يأتي به القَدَرُ وسالمتْكَ الليالي فاغتَررْتَ بها ... وعند صفوِ الليالي يَحْدُثُ الكَدرُ ٤٩إن أصحابَ الغفلة وأرباب الغِرَّة إذا هبَّتَ رياحْ صَوْلَتهِم في زمان غفلتهم يلاحظون أهلَ الحقيقة بعينِ الاستحقار ، ويَحْكمُون عليهم بضعف الحال ، وينسبونهم إلى الضلال ، ويعدونهم من جملة الجهَّال ، وذلك في زمان الفترة ومدة مُهْلةِ أهل الغيبة . والذين لهم قوة اليقين ونور البصيرة ساكنون تحت جريان الحكم ، يَرَوْن الغائبات عن الحواس بعيون البصيرة من وراء ستر رقيق؛ فلا الطوارقُ تهزمهم ، ولا هواجم الوقت تستفزهم ، وعن قريب يلوح عَلَمُ اليُسْرِ ، وتنجلي سحائبُ العُسْر ، ويمحق اللّه كيد الكائدين . ٥٠يُسَلِّيهم عندما يُقاسُون من اختبارات التقدير بما يُذَكِّرهم زوالَ المحنة ، ووَشْكَ رَوْح اليسر ، وسرعةَ حصول النصر ، وحلولَ النِّقَم بمرتكبي الظلم . والمؤمنُ كثيرُ الظَّفَرِ؛ فإذا شاهد بأرباب الجرائم حلولَ الانتقام رَقَّ قلبُه لهم ، فلا ينخرط في سِلْكِ الشماتة؛ إذ يخلو قلبه من شهوة الانتقام ، بل يجب أن يكون كل أحد بحُسْنِ الصفة ، وكما قيل : قومٌ إذا ظَفِروا بنا ... جادوا بعتق رقابنا ٥١يُعرِّفهم أنَّ ما أصابهم مِنْ شِدَّةِ الوَطْأَةِ جَزَاءٌ لهم على ما أسلفوه من قبيح الزَّلةَ ، كما قيل : سَنَنْتَ فينا سننا ... قذف البلايا عُقْبَه يصير على أهوالها ... مَنْ بَرَّ يوم ربَّه { وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } أي كيفما يعاملهم في السَّراء والضرَّاء فذلك منه حَسَن وعَدْلٌ ، إذ المُلْكُ مُلْكُه ، والخلْقُ خَلْقُه ، والحكمْ حُكْمُه . ٥٢لمَّا سلكوا مسلكَ أَهلِ فرعون في الضلال ، سَلَكْنا بهم مسلكهم فيما أذقناهم من العذاب وسوء الحال ، وسُنَّةُ اللّه ألا تغيير في الإنعام ، وعادته ألا تبديلَ في الانتقام ، ومَنْ لم يَعْتَبِرْ بما يشهد اعْتَبَرَ بما يصنعه به . ٥٣إذا أَنْعَمَ الحقُّ - سبحانه - على قوم نِعمةً وأراد إمهالهم أكرمهم بتوفيق الشكر ، فإذا شكروا نعمته فبقدر الشكر دامت فيهم . وإذا أراد - سبحانه - إزالةَ نعمةٍ عن عبدٍ أَذَلَّه بخذلان الكفر ، فإذا حَالَ عن طريق الشكر عرَّض النِّعمة للزوال . فما دام العبدُ يشكر النعمة مقيماً كان الحقُّ في إنعامه عليه مُديماً ، فإذا قابل النعمة بالكفر انتثر سِلْكُ نظامه ، فبقدر ما يزيد في إصراره يزول الأمر عن قراره . ٥٤تنوَّعَتْ من آل فرعون الذنوب فَنَوَّعَ لهم العقوبة ، وكذلك هؤلاء : عُوقِبوا بأنواعٍ من العقوبة لَمَّا ارتكبوا أنواعاً من الزَّلة . وفائدةُ تكرارِ ذِكْرِهم تأكيدٌ في التعريف أنه لا يهمل المُكَلَّفَ أصلاً ، وإنْ أهمله حيناً ودهراً . ٥٥{ عِنْدِ اللّه } : في سابق علمه وصادق حكمه؛ فإذا كانوا في عِلْمهِ شَرَّ الخلائق فكيف يسعدون باختلاف السعايات وصنوف الطوارق؟ هيهات أن تتبدل الحقائق! . وإذا قال : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } - وكلامه صِدقٌ وقولُه حقٌّ - فلم يبقَ للرجاء فيهم مساغ ، ولا ينجع فيهم نُصْحٌ وإبلاغ . ٥٦أي الذين صار نقضُ العهد لهم سجيةً؛ فلم يَذَروا من استفراغ الوسع في جهلهم بقية . وإن من الكبائر التي لا غفران لها من هذه الطريق أن ينقض العبدُ عهداً ، أو يترك عقداً التزمه بقلبه مع اللّه . أولئك الذين سقطوا عن ( . . . . ) اللّه ، فرفع عنهم ظلَّ العناية والعصمة . ٥٧يريد إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقضُ العهد فاجعلهم عِبْرَةً لمن يأتي بعدهم لئلا يسلكوا طريقَهم فيستوجبوا عُقُوبَتَهُم . كذلك مَنْ فَسَخَ عقده مع اللّه بقلبه برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات ، وتزوله إلى السكون مع العادات يجعله اللّه نكالاً لمن بعده ، بحرمانه ما كان خوَّلَه ، وتنغيصه عليه ما من حظوظه أَمَّلَه ، فيفوته حق اللّه ، ولا يكون له امتناع عما آثره على حق اللّه : تبدَّلت وتبدَّلنا واحسرتا لمن ... ابتغى عِوضاً لليلى فلم يجد ٥٨يريد إذا تحقَّقْتَ بخيانة قوم منهم فَصَرِّح بأنه لا عهدَ بينك وبينهم ، فإذا حصلت الخيانةُ زال سَمَتُ الأمانة ، وخيانةُ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله ، ومَنْ ضَنَّ بميسورٍ له فقد خانَ في عهده ، وزاغ عن جده ، وعقوبته مُعَجَّلة ، فهو لا يحبُّه اللّه ، وتكون عقوبته بإذلاله وإهانته . ٥٩كيف يعارِضُ الحقَّ أو ينازعه مَنْ في قَبْضَتِه تَقَلُّبُه ، وبقدرته تَصرُّفه ، وبتصريفه إياه عَدَمه وثبوتُه . ٦٠قوله جلّ ذكره : { وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الخَيْلِ } . أعدوا لقتالِ الأعداءِ ما يبلغ وسعكم ذلك من قوة ، وأَتَمُّهَا قوةٌ القلبِ باللّه ، والناسُ فيها مختلفون : فواحِدٌ يَقْوَى قلبُه بموعود نَصْرِه ، وآخرُ يَقْوى قَلْبُه بأنَّ الحقَّ عالِمٌ بحاله ، وآخر يقوى قلبه لتحققه بأن يشهد من ربه ، قال تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }[ الطور : ٤٨ ] ، وآخر يقوى قلبُه بإيثار رضاء اللّه تعالى على مراد نفسه ، وآخر يقوى قلبه برضاه بما يفعله مولاه به . ويقال أقوى محبة للعبد في مجاهدة العبد وتبرِّيه عن حاله وقوَّتِه . قوله جلّ ذكره : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّه يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَئٍ فِى سَبِيلِ اللّه يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } . الإشارة فيه أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها ، أو لاشتفاء صدره من قضية حقد ، بل قصده أن تكون كلمة اللّه هي العليا . ٦١بعث اللّه نبيه - صلى اللّه عليه وسلم - بالرحمة والشفقة على الخلْق ، وبمسالمة الكفار رَجَاء أن يُؤمِنوا في المُسْتَأنف فإِنْ أَبَوْا فليس يخرج أَحدٌ عن قبضة العِزَّة . ويقال العبوديةُ الوقوفُ حيثما وقفت؛ إنْ أُمِرْتَ بالقتال فلا تُقَصِّرْ ، وإنْ أُمَرْتَ بالمواعَدةِ فمرحباً بالمُسَالَمةِ ، { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه } في الحالين فإنه يختار لك ما فيه الخيرة ، فيوفِّقُك لِمَا فيه الأَوْلى ، ويختار لك ما فيه من قِسمي الأمر - في الحربِ وفي الصُّلحِ - ما هو الأعلى . ٦٢-٦٣أي إنْ لَبَّسُوا عليك ، وراموا خِداعَك بطلب الصُّلح منك - وهم يستبطنون لك بخلاف ما يظهرونه - فإنَّ اللّه كافِيكَ ، فلا تَشْغلْ قلبَك بغفلتك عن شرِّ ما يكيدونك؛ فإني أعْلَمُ ما لا تعلم ، وأقْدِر على ما لا تقدر . هو الذي بنصره أفْردَكَ ، وبلطفِه أيَّدَكَ ، وعن كل سوءٍ ونصيبٍ طَهَّرَك ، وعن رقِّ الأشياء جَرَّدَكَ ، وفي جميع الأحوال كان لك . هو الذي أيَّدك بمن آمن بك من المؤمنين ، وهو الذي ألَّف بين قلوبهم المختلفة فجَمَعَها على الدَّينِ ، وإيثارِ رضاء الحق . ولو كان ذلك بِحَيلِ الخلْق ما انتَظمَتْ هذه الجملة ، ولو أبلغتَ بكلِّ ميسورٍ من الأفعال ، وبذلتَ كُلَّ مُستطاعٍ من المال - لَمَا وَصَلَتْ إليه . ٦٤أحسنُ التأويلات في هذه الآية أن تكون ( مَنْ ) في محل النَّصب؛ أي ومَنْ اتبعك من المؤمنين يَكفيهم اللّه . ومن التأويلات في العربية أن تكون ( مَنْ ) في محل الرفع أي حسبُك مَنْ اتبعك من المؤمنين . وقد عُلِمَ أن استقلال الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - كان باللّه لا بمن سوى اللّه ، وكلُّ مَنْ هو سوى اللّه فمحتاجٌ إلى نصرة اللّه ، كما أن رسول اللّه محتاج إلى نصرة اللّه . ٦٥قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ المُؤْمِنينَ عَلَى القِتَالِ } . المؤمن لا يزداد بنفسه ضعفاً إلاَّ ازداد بقلبه قوةً ، لأن الاستقلال بقوة النَّفس نتيجةُ الغفلة ، وقوةُ القلب باللّه - سبحانه - على الحقيقة . قوله جلّ ذكره : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ الآنَ خَفَّفَ اللّه عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّه وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ } . هذا لهم ، فأمَّا النبي - صلى اللّه عليه وسلم - فهو بتوحيده كان مُؤمِّلاً بأَنْ يَثْبُتَ لجميع الكفار لكمال قوَّته باللّه تعالى ، قال عليه السلام : ( بِكَ أصول ) ، وفي تحريضه للمؤمنين على القتال كانت لهم قوة ، وبأمر اللّه كانت لهم قوة؛ فقوة الصحابة كانت بالنبي - عليه الصلاة والسلام ، وتحريضه إياهم وقوتهم بذلك كانت باللّه وبأمره إياه . . . وشتَّان ما هما! ٦٦قوله : { الآنَ خَفَّفَ اللّه عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } : والضَّعْفُ الذي علم فيهم كان ضَعْفَ الأشباح فخفَّفَ عنهم ، أما القلوبُ فلم يتداخلها الضعف فحُمِلَ من ممارسة القتال بالعذر المذكور في الكتاب . والعوام يحملون المشاقَّ بنفوسهم وجسومهم ، والخواص بقلوبهم وهممهم ، وقالوا : ( والقلبُ يحْمِلُ مَا لاَ يَحْمِلُ البَدَنُ ) وقال آخر . وإنْ تَرَوْني أُعاديها فلا عَجَبٌ ... على النفوسِ جناياتٌ من الهِمَم ٦٧أي لا ينبغي لنبي من الأنبياء - عليهم السلام- أن يأخذ أسارى من أعدائه ثم يرضى بأن يأخذ منهم الفِداء ، بل الواجب عليه أن يُثْخِنَ في الأرض أي يبالغ في قتل أعدائه - إذ يُقال أثخنه المرضُ إذا اشتدَّ عليه . وقد أَخذ النبي - صلى اللّه عليه وسلم - يوم بدرٍ منهم الفِداء ، وكان ذلك جائزاً لوجوب القول بعصمته ، ولكن لو قاتلتم كان أوْلى . وأراد ( بعَرَضِ الدنيا ) أخذ الفداء ، واللّه جعل الفداء ، واللّه جعل رضاه في أن يقاتلوهم ، وحرمة الشرع خلاف رحمة الطبع؛ فشرطُ العبودية أن يؤثر العبدُ اللّه ، وإذا كان الأمر بالغِلظة فكما قال تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللّه }[ النور : ٢ ] . { وَاللّه عَزِيزٌ } : بالانتقام من أعدائه ( حكيمُ ) : في جميع ما يصنع من التمليك والإملاك ، والتيسير والتدبير . ٦٨لولا أن حكم في آزاله بإحلال الغنيمة لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته لَمَسَّكُم - لأَجْلِ ما أخذتُم من الفداء منهم يومَ بدر - عذابٌ عظيم ، ولكن اللّه أباح لكم الغنيمة فأَزال عنكم العقوبة . ٦٩الحلال ما كان مأذوناً فيه ، والحلالُ الطيِّبُ أنْ تعلم أن ذلك مِنْ قَبلِ اللّه فضلاً ، وليس لَكَ مِنْ قَبْلِكَ استحقاقاً . ويقال الحلال الصافي ما لم يَنْسَ صاحبُه فيه معبوده . ويقال هو الذي لا يكون صاحبُه عن شهود ربِّه - عند أخذه - غافلاً . ٧٠الذي يعْطَوْنه خيرٌ مما أُخِذَ منهم . ويحتمل أن يكون ما في الآخرة من حسن الثواب ، ويحتمل أن يكون ما في الدنيا من جميل العِوَض . ويقال هو ما يوصلهم إليه من توفيق الطاعات ، وحلاوة الإيمان ، وهو خيرٌ مما أُخِذَ منهم . ويقال ما أعطاهم من الرضاء بما هم فيه من الفقر ، بعدما كانوا أغنياءَ في حال الشِّرْك . ٧١يريد إنْ عادوا إلى قتالك بعدما مَنَنْتَ عليهم بالإطلاق وخانوا عَهْدَكَ ، فالخيانة لهم دأب وطريقة ، ثم إنَّا نُمَكِّنُكَ منهم ثانياً كما أمْكَنَّاكَ من أسْرهم أولاً ، وقيل : إنْ عَادَتْ العَقْربُ عُدنا لها ... وكانت النَّعْلُ لها حاضرة ٧٢ذَكَرَ صفةَ المهاجرين مع الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وصفتهم أنهم آمنوا ثم هاجروا مع الرسول صلوات اللّه عليه وسلامه ، ثم { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } هؤلاء هم المهاجرون . أما الذين آووا فهم الأنصار؛ أووا الرسول - عليه السلام - والمؤمنين . فهذان الفريقان بعضهم أولياء بعض في النصرة والدين . وأما الذين آمنوا ولكن لم يهاجروا فليست لهم هذه الموالاة إلى أن يهاجروا ، وإنْ استعانوا بكم فعليكم نصرهم . { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ } وهم المُعاهِدون معكم . وكمالُ الهجرةِ مفارقَةُ الأخلاق الذميمة ، وهجران النَّفْس في تَرْكِ إجابتها إلى ما تدعو إليه من شهواتها . ومن ذلك هجران إخوان السوء ، والتباعد عن الأوطان التي باشر العبدُ فيها الزَّلة ، ثم الهجرة من أوطان الحظوظ إلى أوطان رضاء الحق . وأما قوله { وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوا } فهم الذين يؤثرون إخوانَهم على أَنْفُسِهم ولو كان بهم خصاصة ، عَوَامُّ هؤلاء في الأمور الدنيوية ، وخواصُّهم في الكرائم في الآخرة ، وخاصُّ الخاصِّ في كل ما يصحُّ به الإثبات من سنِّي الأحوال إلى ما لا يدرك الوهم . ٧٣-٧٤قَطَعَ العصمةَ بينهم وبين المؤمنين ، فالمؤمنِ للأجانبِ مُجَانِبٌ ، وللأقارب مقارِبٌ . والكفَّارُ بعضهم لبعضهم ، كما قيل :( طيرُ السماءِ على أُلاَّفِها تقعُ ) . ٧٥يريد مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهم في الحال ، ومَنْ سيلحق بهم في الاستقبال وآتى الأحوال فالألْفَةُ تجمعهم ، والولاية تشملهم ، فلهم من اللّه في العقبى جزيلُ الثواب ، والنجاةُ من العذابِ . ولهم في الدنيا الولايةُ والتناصُر ، والمودة والتقارب ، واللّه أعلم . |
﴿ ٠ ﴾