سورة يونس١قوله جل ذكره : { الر تِلْكَ ءَايَتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ } . الألف مفتاح اسم ( اللّه) ، واللام مفتاح اسم ( اللطيف ) والراء مفتاح اسم ( الرحيم ) ، أقسم بهذه الأسماء إن هذا الكتابَ هو الموعودُ لكم يوم الميثاق ، والإشارة فيه أنا حققْنَا لكم الميعاد ، وأَطْلنا لكم عِنان الوداد . . . وانقضى زمانُ الميعاد ، فالعَصَاةُ مُلقَاة ، والأيامُ بالسرور مُتَلْقَاة ، فبادِروا إلى شُرْبِ كاساتِ المحابِّ ، واستقيموا على نَهْجِ الأحباب . ٢قوله جلّ ذكره : { أَكَانَ لِلنَّاس عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ } . تعجبوا من ثلاثة أشياء : من جواز البعث بعد الموت ، ومن إرسال الرسل إلى الخَلْق ، ثم من تخصيص محمد صلى اللّه عليه وسلم بالرسالة مِنْ بين الخلق ، ولو عرفوا كمال مُلْكِه لم يُنْكِروا جواز البعث ، ولو علموا كمال ملكه لم يجحدوا إرسالَ الرُّسل إلى الخلْق ، ولو عرفوا أنَّ له أنْ يفعلَ ما يريد لم يتعجبوا من تخصيص محمد- صلى اللّه عليه وسلم بالنبوة مِنْ بين الخَلْق ، ولكنْ سُدَّتْ بصائرُهم فتاهوا في أودية الحيرة ، وعَثَرُوا- من الضلالة - في كل وَهْدَةٍ . وكان الأستاذ أبو علي الدَّقاق- رحمه اللّه - يقول : جَوَّزُوا أن يكون المنحوتُ من الخشب والمعمولُ من الصخر إلهاً معبوداً ، وتعجبوا أن يكون مثلُ محمد- صلى اللّه عليه وسلم - في جلالةِ قَدْرِه رسولاً . . . !!هذا هو الضلال البعيد . قوله جلّ ذكره : { وَبَشِّرِ الَّذِنَ ءَامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } . وهو ما قدَّموه لأنفسهم من طاعاتٍ أخلصوا فيها ، وفنونِ عباداتٍ صَدَقُوا في القيام بقضائها . ويقال هو ما قَّدم الحقُّ لهم يومَ القيامة ، مع مقتضى العناية بشأنهم ، وما حَكَمَ لهم من فنون إحسانه بهم ، وصنوفِ ما أفردهم به من امتنانهم . ويقال : { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } : هو ما رفعوه من أقدامهم في بدايتهم في زمان إرادتهم ، فإنّ لأقدام المريدين المرفوعِة لأَجْلِ اللّه حُرْمَةً عند اللّه ، ولأيامِهم الخاليةِ في حالِ تردُّدِهم ، وليالَيهم الماضية في طلبه وهم في حُرْقَةِ تحيّرهم . . . مقاديرَ عند اللّه . وقيل : مَنْ يَنْسَ داراً قد تخونها ... رَيْبُ الزمان فإني لست أنساكا وقيل : تلك العهودُ تشدُّها لتَحُلَّها ... عندي كما هي عقدها لم يُحللِ ٣لا يحتاج فِعْله إلى مُدّةٍ ، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فَخَلَقَ السموات والأرضَ في ستة أيام ، وتلك الأيام أيضاً من جملة ما خَلَق اللّه سبحانه وتعالى . { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أي تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت . وملوكنا إذا أرادوا التجلّي والظهورَ للحَشَم والرعية برزوا لهم على سرير مُلْكِهم في ألوان مشاهدهم . فأخبر الحقُّ- سبحانَه- بما يَقْرُب من فَهْم الخلْقِ ما ألقى إليهم من هذه الجملة : استوى على العرش ، ومعناه اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية ، تقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار ، والمعبودُ عن الحدود . { يُدّبّرُ الأَمْرَ } : أي الحادثاتُ صادرةٌ عن تقديره ، وحاصلةٌ بتدبيره ، فلا شريكَ يعضده ، وما قضى فلا أحد يردُّه . { مَا مِن شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعدِ إذْنِهِ } : هو الذي يُنْطِقُ مَنْ يخاطبه ، وهو الذي يخلق ما يشاء على من يشاء إذا التمس يُطالِبهُ . { ذَلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ } : تعريف وقوله : { فَاعْبُدُوهُ } : تكليف؛ فحصولُ التعريف بتحقيقه ، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه . ٤الرجوع يقتضي ابتداء الأرواح قبل حصولها في الأشباح ، فإن لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة ، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند مُحبِّيه وذويه ، كما قيل : أيا قداماً من سَفْرةِ الهجر مرحباً ... أناديك لا أنساك ما هبَّت الصِّبا ويقال المطيع إذا رجع إلى اللّه فله الزُّلفى ، والثواب والحسنى ، والعاصي إذا رجع إلى ربِّه فَبَنَعْتِ الإفلاس وخسران الطريق؛ فيتلقى لِباس الغفران ، وحُلَةَ الصفح والأمان ، فرحمةُ مولاه خيرٌ له من نُسْكِه وتقواه . قوله : { وَعْدَ اللّه حَقَاً } : موعودُ المطيع الفرادِيسُ العَلَى ، وموعودُ العاصي الرحمة والرِّضى . والجنَّةُ لُطْفُ الحقِّ والرَّحمةُ وصفُ الحق؛ فاللُّطفُ فِعْلٌ لم يكن ثم حصل ، والنَّعْتُ لم يزل . قوله : { إنَّهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } : مَنْ كان له في جميع عمره نَفَسٌ على وصفِ ما ابتدأَ الحقُّ سبحانه به ففي الإشارة : تكون لذلك إعادة ، وأنشدوا : كلُّ نَهْرٍ فيه ماءٌ قد جَرَى ... فإِليه الماءُ يوماً سيعودُ ٥أنوار العقول نجومٌ وهي للشياطين رجوم ، وللعلوم أقمار وهي أنوار واستبصار ، وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع ، كما قيل : إنَّ شمسَ النهار تغْرُبُ بالليل ... وشمسُ القلوب ليست تَغِيبُ وكما أَنّ في السماء كوكبين شمساً وقمراً؛ الشمسُ أبداً بضيائها ، والقمرُ في الزيادة والنقصان؛ يُسْتَرُ بمحاقه ثم يكمل حتى يصير بدراً بنعت إشراقه ، ثم يأخذ في النقص إلا أَنْ لا يبقى شيءٌ منه لتمام امتحاقه ، ثم يعود جديداً ، وكل ليلة يجد مزيداً ، فإذا صار بدراً تماماً ، لم يَجِدْ أكثر من ليلةٍ لكَمَالِه مقاماً ، ثم يأخذ في النقصان إلى أن يَخْفَى شَخْصُه ويتِمَّ نَقْصُه . كذلك مِنَ النَّاسِ مَنْ هو مُتَرَدِّدٌ بين قَبْضِه ويَسْطِه ، وصَحْوِه ومَحْوِه ، وذهابه وإيابه؛ لا فَنَاءَ فيستريح ، ولا بقاءَ له دوامٌ صحيحٌ ، وقيل : كلَّما قُلْتُ قد دنا حَلُّ قيدي ... كَبَّلوني فأوثقوا المِسْمَارا ٦اخْتُصَّ النهارُ بضيائه ، وانفرد الليلُ بظلماته ، من غير استيجاب لذلك ، ومن غير استحقاق عقاب لهذا ، وفي هذا دليلٌ على أَنَّ الردَّ والقبولَ ، والمَنْعَ والوصولَ ، ليست معلولةً ولا حاصلةً بأمرِ مُكْتَسبٍ؛ كلاَّ . . . إنها إرادةٌ ومَشِيئَةٌ ، وحُكْمٌ وقضية . النهارُ وقتُ حضور أهلِ الغفلة في أوطان كَسْبِهم ، ووقتُ أربابِ القربة والوصلة لانفرادهم بشهود ربِّهم ، قال قائلهم : هو الشمس ، إلا أنَّ للشمس غَيبةً ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيبُ والليلُ لأحدِ شخصين : أمَّا للمُحِبِّ فَوقْتُ النَّجوى ، وأَمّا للعاصي فَبَثُّ الشكوى . ٧-٨أنكروا جواز الروّية فَلَمْ يرجوها ، والمؤمِنون آمنوا بِجَوَازِ الرؤية فأملوها . ويقال : لا يرجون لقاءَه لأنهم لم يشتاقوا إليه ، ولم يشتاقوا إليه لأنهم لم يُحبُّوه لأنهم لم يعرفوه ، ولم يعرفوه لأنهم لم يطلبوه لأنه أراد ألاَّ يطلبوه ، قال تعالى : { وَأَنَّ إلَى رَبِّكَ المُنْتَهَى }[ النجم : ٤٢ ] . ويقال لو أراد أن يطلبوه لطلبوه ، ولو طلبوا لعرفوا ، ولو عرفوا لأحبُّوا ، ولو أحبُّوا لاشتاقوا ، ولو اشتاقوا لرجوا ، ولو رجعوا لأمَّلوا لقاءَه ، قال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُداهَا }[ السجدة : ٣١ ] . قوله تعالى : { وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيَا وَاطمَأَنُّوا بِهَا } : أصحابُ الدنيا رضوا بالحياة الدنيا فَحُرِمُوا الجنةَ ، والزُّهَّادُ والعُبَّاد رَكَنُوا إلى الجنة ورضوا بها فبقوا عن الوصلة ، وقد عَلِمَ كلُّ أناسٍ معشْرَبهم ، ولكلُّ أحدٍ مقامٌ . ويقال إذا كانوا لا يرجون لقاءَه فمأواهم العذابُ والفرقة ، فدليلُ الخطاب أن الذي يرجو لقاءَه رآه ، ومآلُه ومنتهاه الوصلةُ واللقاء الزُّلْفة . ٩كما هداهم اليومَ إلى معرفته من غير ذريعة يهديهم غداً إلى جنته ومثوبته من غير نصيرٍ من المخلوقين ولا وسيلة . ويقال أَمَّا المطيعون فنورهم يسعى بن أيديهم وهم على مراكب طاعاتهم ، والملائكةُ تتلقَّاهم والحقُّ ، قال تعالى : { يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً }[ مريم : ٨٥ ] نحشرهم ، والعاصون يَبْقَوْن منفردين متفرقين ، لا يقف لهم العابدون ، ويتطوحون في مطاحات القيامة . والحقُّ- سبحانه- يقول لهم : عِبَادي ، إنَّ أصحابَ الجنة- اليومَ- في شُغلٍ عنكم ، إنهم في الثواب لا يتفرَّغون إليكم ، وأصحابُ النار من شدة العذابِ لا يرقبون لكم معاشِِرَ المساكين . كيف أنتم إنْ كان أشكالكم وأصحابكم سبقوكم؟ وواحدٌ متهم لا يهديكم فأنا أهديكم . لأني إنْ عاملتكم بما تستوجبون . . . فأين الكرمُ بحقنا إذا كنا في الجفاء مِثلهم وهجرناكم كما هجروكم؟ ١٠قالتُهم الثناءُ على اللّه ، وذلك في حال لقائهم . وتحيتهم في تلك الحالة من اللّه : ( سلام عليكم ) { وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الْحَمْدُ للّه } : والحمد ها هنا بمعنى المدح والثناء ، فيثنون عليه ويحمدونه بحمدِ أبديٍّ سرمديٍّ ، والحقُّ- سبحانه- يُحَييِّهم بسلامٍ أزليٍّ وكلام أبدي ، وهو عزيزٌ صمديٍّ ومجيدٌ أحديٍّ . ١١أي لو أَجبناهم إذا دعوا على أنفسهم عند غيظهم وضَجَرِهم لعَجلَّنا إهلاَكهم ، ولكن تَحَمَّلْنَا ألا نُجِيبَهم ، وبرحمتنا عليهم لا نسمع منهم دعاءَهم ، وربما يشكو العبدُ بأنّ الربَّ لا يجيب دُعاءه ، ولو عَلِمَ أنه تَرَكَ إجابَتَهُ لُطْفاً منه وأَنَّ في ذلك بلاءً لو أجابه ، كما قيل : أُنَاسً أعرضوا عنَّا ... بلا جُرْمٍ ولا معنى أساءوا ظنَّهم فينا ... فهلاَّ أحسنوا الظنَّا ١٢إذا امتُحِنَ العبدُ وأصابه الضُّرُّ أزعجته الحالُ إلى أَنْ يرومَ التخلُّصَ مما ناله ، فيعلمَ أنَّ غيْر اللّه لا يُنْجِيه ، فتحمله الضرورةَ على صِدْق الالتجاءِ إلى اللّه ، فإذا كَشَفَ اللّه عنه ما يدعو لأَجْلِهِ شَغَلَتْه راحةُ الخلاصِ عن تلك الحالة ، وزَايَلَه ذلك الالتياع ، وصار كأنه لم يكن في بلاءِ قط : كأنَّ الفتى لم يَعْرَ يوماً إذا اكتسى ... ولم يكً صُعلوكاً إذا ما تَموَّلاَّ ويقال بلاءُ يُلْجِئُك إلى الانتصاب بين يَدَيْ معبودِك أجدى من عطاءٍ ينْسِيك ويكفيك عنه . ١٣أخبر الحقُّ سبحانه بإهلاك الظالمين ، كما في الخبر : ( لو كان الظلم بيتاً في الجنَّة لسلّط اللّه عليه الخراب ) . والظلمُ وَضْعُ الشيء في غير موضعه ، فإذا وَضَعَ العبدُ قَصْدَه- عند حوائجه - في المخلوقين ، وتعلَّق قلبُه بهم في الاستعانة ، وطََلَبَ المأمول فقد وَضَعَ الشيءَ في غير موضعه ، وهو ظلم؛ فعقوبة هذا الظلم خرابُ القلب ، وهو انسداد طريق رجوع ذلك القلب إلى اللّه؛ لأنه لو رجع إلى اللّه لأعانه وكفاه ، ولكنه يُصِرُّ على تعليق قلبه بالمخلوق فيبقى عن اللّه ، ولا ترتفع حاجتُه من غيره ، وكان من فقره وحاجته في مَضَرَّةِ . فإنْ صار إلى مضرة المذلة والحاجة إلى اللئيم فتلك محنةٌ عظيمةٌ . وعلى هذا القياس إذا أحبَّ مخلوقاً فقد وَضَعَ محبته في غير موضعها ، وهذا ظلم ، وعقوبته خراب روحه لعدم صفاء ودّه ومحبته للّه ، وذهاب ما كان يجده من الأنُس باللّه ، إذا بقي عن اللّه يُذيقه الحَقُّ طعمَ المخلوقين ، فلا له مع الخْلقِ سَلْوة ، ولا من الحق إلا الجفوة ، وعدم الصفوة . ١٤عرَّفناكم بِسِرِّ مَنْ قَبْلَكُم ، وما أصابهم بسب ذنوبهم ، فإذا اعتبرتم بهم نَجْوتُم ، ومن لم يعتبرْ بما سمعه اعتبر به من تبعه . ويقال أحللنا بهم من العقوبة ما يعتريكم ، ومَنْ لم يعتبرُ بِمَنْ سَبَقَه اعتبرْ به مَنْ لَحِقه . ١٥إذا اقترحوا عليك بأَنْ تأتيهَم بما لم نأمركَ به ، أو تُرَيهُم ما لم نُظْهِرْ عليك من الآياتِ . . فأَخْبِرْهم أنَّكَ غير مُسْتَقَلٍ بِك ، ولا موكولٍ إليكَ؛ فنحن القائمُ عليكَ ، المصَّرفُ لكَ ، وأنتَ المتَّبعُ لما نُجريه عليك مُبْتَدِعٍ لِما يَحصُل منك . ١٦قد عِشْتُ فيكم زماناً ، وعرفتم أحوالي فيما تطلبون مني عليه برهاناً ، فما ألفيتموني ( . . . ) بل وجدتموني في السداد مستقيماً ، وللرشاد مستديماً ، فلولا أَنَّ اللّه تعالى أرسلني ، ولِمَا حَمَّلني مِنْ تكليفه أَهَّلَني لمَا كنتُ بهذا الشرع آتِياً ولا لهذا الكتاب تالياً . { اَفَلاَ تَعْقِلُونَ } مالكم تعترضون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟ ١٧الْكَذِبُ في الشرع قبيحٌ ، وإذا كان على اللّه فهو أقبح . ومِنَ المْفتَرين على اللّه : الذين يُظْهِرون من الأحوال ما ليسوا فيه صادقين ، وجزاؤهُم أَنْ يُحْرَمُوا ذلك أبداً ، فلا يَصلِون إلى شيء . ١٨ذَمَّهُم على عبادة ما ليس منه ضَرٌّ ولا نَفَعٌ . فدليلُ الخطاب يقتضي أَنْ يكونَ المعبودُ منه الضَّرُ والنفع ، ومِنْ فَرْطِ غباوتهم أنهم انتظروا في المآلِ الشفاعةَ ممن لا يوجَدُ منه الضَّرُّ والنَّفْعُ في الحال ، ثم أخبر أنهم يخبرون عما ليس على الوجه الذي قالوا معلوماً ، ولو كان كما قالوا لَعلِموا أنه سبحانه لا يَعْزُبُ عن علمه معلومُ . ومعنى قوله : { لاَ يَعْلَمُ } : خلافه . ومَنْ تَعَلَّقَ قلبُه بالمخلوقين في استدفاع المضَارِّ واستجلاب المسَارِّ فكالسالِك سبيلَ مَنْ عَبَدَ الأصنام؛ إذ المنْشِئُ والموجِدُ للشئِ مِنَ العَدم هو اللّه- سبحانه . ١٩وذلك مِنْ زمان آدم عليه السلام إلى أن تحاربوا ، والحق- سبحانه- سَبَق قضاؤه بتأخير حسابهم إلى الآخرة ، ولذلك لا يُجِيبُهم إلى ما يستعجلونه من قيام القيامة . وإنما اختلفوا لأنَّ اللّه خَصَّ قوماً بعنايته وقبوله ، وآخرين بإهانته وإبعاده ، ولولا ذلك لَمَا كانت بينهم هذه المخالفة . ٢٠أخبر أنه - عليه السلام- في سَتْرِ الغَيْبَة وخفاء الأمر عليه في الجملة لتقاصُرِ علمه عما سيحدث ، فهو في ذلك بمنزلتهم ، إلا في مواطن التخصيص بأنوار التعريف ، فكما أنهم في الانتظار لما يحدث في المستأنف فهو أيضاً في انتظار ما يوجِدُ- سبحانه-من المقادير . والفَرْقُ بينه- عليه السلام- وبينهم أنه يشهد ما يحصل به-سبحانه- ومنه ، وهم مُتَطَوُحون في أودية الجهالة؛ يُحيلُون الأمرَ مرةً على الدَّهْرِ ، ومرةً على النجم ، ومرةٌ على الطبع . . . وكلُّ ذلك حَيْرَةٌ وعَمى . ٢١يعني إذا أصابهم ضُرُّ ومحنة فرحمناهم وكَشْفنا عنهم ، أحالوا الأمر على غيرنا ، وتوهموه ما هو سوانا مثل قولهم : ( مُطِرْنَأ بنوء كذا ) ، ومثل قولهم إن هذه سعادة نجَمْ أو مساعدةُ دولة أو تأثيرُ فَلَكٍ أو خيراتُ دهر . فهذا كان مكرُهم أما مكر اللّه - سبحانه - بهم فهو جزاؤهم على مكرهم . والإشارة في هذا أنه ربما يكون للمريد أو للطالب حجبة أو فترة . . . فإذا جاء الحقُّ بكشفٍ أو تجلِّ أو إقبال فَمِنْ حقِّهم ألا يلاحظوها فضلاً عن أن يساكنوها ، لأنهم إذا لم يرتقوا عن ملاحظة أحوالهم إلى الغيبة بشهود الحقِّ مَكَرَ اللّه بهم بأَنْ شتَّتهم في تلك الأحوال من غير تَرَقٍّ عنها أو وجود زيادة عليها ، وهذا مَكْرُهُ بخَوَاصِّهم . ٢٢يريد أنهم يُصْبحون في النّعم يجرُّون أذيالَهُم ، ثم يُمْسُون يبكون لَيَالِيَهُم . وقد يَبِيتُون والبهجةُ مَلكَتْهُم ثم يصبحون وخفايا التقدير أهلكتْهُم ، وأنشدوا : أقمتَ زماناً والعيونُ قريرةٌ ... وأصبحتَ يوماً والجفونُ سوافِكُ فإذا رجعوا إلى اللّه بإخلاص الدعاء يجود عليهم بكَشْفِ البلاء . فلمَّا أنجاهم بالإجابة لدعائهم إذا هم إلى غيره يرجِعون ، وعلى مناهجهم- في تمردهم يسلكون . ٢٣{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم } معناه : تُمَتِّعكم أياماً قلائلَ ، ثم تَلْقَوْن غِبَّ ذلك وتبدأون تقاسون عذاباً طويلاً . ٢٤شَبّهَ الحياةَ الدنيا بالماء المُنَزَّلِ من السماء يَنْبُتُ به النباتُ وتَخْضَرُّ الأرضُ وتَظْهَرُ الثمار ، ويوطِّن أربابُها عليها نفوسَهم فتصيبهم جائحةٌ سماوية بغتةً ، وتصير كأن لم تكن . كذلك الإنسانُ بعد كمال سنَّه وتمام قُوَّتِه واستجماع الخصال المحمودة فيه تخْتَرمُه المَنِيَّة ، وكذلك أموره المنتظمةُ تبطل وتختلُّ لوفاته ، كما قيل : فَقَدْنَاه لمَّا تمَّ واختمَّ بالعُلَى ... كذاك كسوفُ البدرِ عند تمامه ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المُنَزَّلِ من السماء أن المطرَ لا ينزل بالحيلة ، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة . ثم إن المطر إن كان لا يجئ إلا بالتقدير فقد يُسْتَسْقَى . . . كذلك الرزق - وإنْ كان بالقسمة- فقد يُلْتَمَسُ من اللّه ويُسْتَعْطى . ومنها أن الماء في موضعه سببُ حياة الناس ، وفي غير موضعه سببُ خراب الموضع ، كذلك المال لمستحقه سببُ سلامته ، وانتفاع المتصلين به ، وعند مَنْ لا يستحقه سبب طغيانِه ، وسببُ بلاءِ مَنْ هو متصل به ، كما قيل : يعمُ اللّه لا تُعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان ، وكما قيل : يا دولةً ليس فيها من المعالي شظيَّةْ ... زولي فما أنتِ ألا على الكرام بَلِيَّةْ ومنها أن الماء إذا كان بمقدارٍ كان سببَ الصلاح ، وإذا جاوز الحدَّ كان سببَ الخراب . . . كذلك المال إذا كان بقَدْرِ الكفاية والكفاف فصاحبه مُنَعَّمٌ ، وإذا زاد وجاوز الحدَّ أوجب الكُفران والطغيان . ومنها أن الماءَ ما دام جارياً كان طيباً ، فإذا طال مكثه تغيَّر . . كذلك المال إذا أنفقه صاحبُه كان محموداً ، فإذا ادَّخَره وأمسكه كان معلولاً مذموماً . ومنها أن الماءً إذا كان طاهراً كان حلالاً يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى ، وإذا كان غيرَ طاهرٍ فالبعكس . . . كذلك المال إذا كان حلالاً ، وبعكسه لو كان حراماً . ويقال كما أن الربيعَ تتورد أشجارُه ، وتظهر أنوارُه ، وتخضرُّ رباعُه ، وتتزين بالنبات وهاده وتِلاعه لا يُؤْمَن أَنْ تصيبه آفة من غير ارتقاب ، وينقلب الحال بما لم يكن في الحساب . كذلك مِنَ الناسِ مَنْ تكون له أحوالٌ صافية ، وأعمالٌ بشرط الخلوص زاكية؛ غصونُ أُنسِه مُتَدَلِّية ، ورياضُ قربِه مونقةٌ . . . ثم تصيبه عَيْنٌ فيذبل عودُ وِصاله ، وأتنسدُّ أبوابُ عوائد إقباله ، كما قيل : عينٌ أصابَتْكَ إنّ العينَ صائبةٌ ... والعينُ تُسْرعُ أحياناً إلى الحَسَدِ ٢٥دعاهم إلى دار السلام ، وفي الحقيقة دعاهم إلى ما يوجب لهم الوصول إلى دار السلام؛ وهو اعتناق أوامره والانتهاء عن زواجره . والدعاء من حيث التكليف ، وتخصيص الهداية لأهلها من حيث التشريف . ويقال الدعاء تكليف والهداية تعريف؛ فالتكليف على العموم والتعريف على الخصوص . ويقال التكليف بحقّ سلطانه ، والتعريف بِحُكْمِ إحسانه . ويقال الدعاء قوْلُه والهداية طَوْلُه؛ دَخَلَ الكلُّ تحت قوله ، وانفرد الأولياءُ بتخصيص طَوْلِه . دار السلام دار اللّه لأن السلام اسم مِنْ أسمائه . ويكون السلام بمعنى السلامة فهي دار السلامة أي أهلها سالمون فيها؛ سالمون من الحُرقَة وسالمون من الفُرقة؛ سَلِموا من الحرقة فحصلوا على لذة عطائه ، وسَلِموا من الفُرْقَة فوصلوا إلى عزيز لقائه . ويقال لا يصل إلى دار السلام إلا من سَلِمَتْ نَفْسُه عن السجود للِصَنَم ، وسِلَم قلبُه عن الشِّرْكِ والظُلم . ويقال تلك الدار درجات؛ والذي سَلِمَ قلبُه عن محبة الأغيار درجتُه أعلى من درجة مَنْ سَلِمَتْ نَفْسُه من الذنوب والأوضار . ويقال قوم سلمت صدورُهم من الغِلّ والحسد والحقد؛ وسَلِمَ الخْلقُ منهم ، فليس بينهم وبين أحدٍ محاسبة ، وليس لهم على أحد شيء؛ ( فالمسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده ، والمحسنُ من سَلِمَ الخْلقُ بأجمعهم من قلبه ) . { الْصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } : طريق المسلمين ، فهذا للعوام بشرط علم اليقين ، ثم طريق المؤمنين وهو طريق الخواص بشرط عين اليقين ، ثم طريق المحسنين وهو طريق خاص الخاص بشرط حق اليقين؛ فهؤلاء بنور العقل أصحاب البرهان ، وهؤلاء بكشف العلم أصحاب البيان ، وهؤلاء بضياء المعرفة بالوصف كالعيان ، وهم الذين قال صلى اللّه عليه وسلم فيهم : ( الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ) . ٢٦قوله جلّ ذكره : { لِّلَّذِينَ أحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } { أَحْسَنُوا } : أي عَمِلُوا وأحسنوا إذ كانت أفعالُهم على مقتضى الإذن . ويقال : ( أحسنوا ) : لم يُقَصِّروا في الواجبات ، ولم يُخِلُّوا بالمندوبات . ويقال : ( أحسنوا ) : أي لم يَبْقَ عليهم حقٌّ إلا قاموا به؛ إن كان حقَّ الحقِّ فَمِنْ غير تقصير ، وإن كان من حقِّ الخَلْق فأداءٌ من غير تأخير . ويقال : ( أحسنوا ) : في المآل كما أحسنوا في الحال؛ فاستداموا بما فيه واستقاموا ، والحسنى التي لهم هي الجنة وما فيها من صنوف النِّعم . ويقال : الحسنى في الدنيا توفيق بدوام ، وتحقيق بتمام ، وفي الآخرة غفران مُعَجَّل ، وعيان على التأبيد مُحصَّل . قوله : { وَزِيَادَةٌ } : فعلى موجِب الخبر وإجماع السلف النظرُ إلى اللّه ، ويحتمل أن تكون ( الحسنى ) : الرُّؤية ، ( والزيادة ) : دوامُها ، ويحتمل أن تكون ( الحسنى ) : اللقاء ، ( والزيادةُ ) : البقاء في حال اللقاء . ويقال الحسنى عنهم لا مقطوعة ولا ممنوعة ، والزيادة لهم لا عنهم محجوبة ولا مسلوبة . قوله جلّ ذكره : { وَلاَ يَرْهَقُ وَجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَةٌ أُولَئكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . لا يقع عليهم غبارُ الحجاب ، وبعكسه حديث الكفار حيث قال : { وَوُجُوهٌ يَومَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : ٤٠ ] . ( والذلة ) التي لا تصيبهم أي لا يُرَدُّوا مِنْ غير شهودٍ إلى رؤية غيره ، فهم فيها خالدون في فنون أفضالهم ، وفي جميع أحوالهم . ٢٧والذين كسبوا السيئاتِ وعملوا الزَّلاتِ لهم جزاء سيئة مثلها ، والباء في ( بمثلها ) : صلة أي للواحد واحد . { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } : هو تأبيد العقوبة . { مَّا لَهُ مِنّ اللّه مِنْ عَاصِمٍ } أي ما لهم من عذابه من عاصم ، سِيمُوا ذُلَّ الحجاب ، ومُنُوا بتأبيد العذاب ، وأصابهم هوان البعاد ، وآثارُ الحجاب على وجوههم لائحة فإنَّ الأَسِرَّةَ تدلُّ على السريرة . ٢٨-٢٩يجمع بين الكفار والأصنام التي عبدوها من دون اللّه ، فتقول الأصنام : ما أمرناكم بعبادتنا . فيدعون على الشياطين التي أطاعوها ، وعلى الأصنام التي أمرتهم أن يعبدوها ، وتقول الأصنام : كفى باللّه شهيداً ، على أنَّا لم نأمركم بذلك؛ إذ كُنَّا جماداً . وذلك لأنَّ اللّه يُحْيِيها يوم القيامة ويُنْطِقها . وفي الجملة . . يتبرأ بعضُهم مِنْ بعض ، ويذوقُ كلُّ وبالَ فِعْلِه . وفائدةُ هذا التعريف أنه ما ليس للّه فهو وبالٌ عليهم؛ فاشتغالُهم - اليوم- بذلك مُحَالٌ ، ولهم في المآلِ- مِنْ ذلك - وبالُ . ٣٠إنما يقفون على خسرانهم إذا ذاقوا طَعْمَ هوانِهم؛ فإذا رُدُّوا إلى اللّه لم يجدوا إلا البعدَ عن اللّه ، والطرْدَ من قِبَل اللّه ، وذلك جزاءُ مَنْ آثَرَ على اللّه غيرَ اللّه . ٣١كما تَوَحَّد الحقُّ- سبحانه- بكونه خالقاً تَفَرَّدَ بكونه رازقاً ، وكما لا خالِقَ سواه فلا رازقَ سواه . ثم الرزق على أقسام : فللأشباح رزق : وهو لقوم توفيق الطاعات ، ولآخرين خذلان الزَّلات . وللأرواح رزق : وهو لقومٍ حقائق الوصلة ، ولآخرين - في الدنيا- الغفلة وفي الآخرة العذاب والمهلة . { أَمَّن يَمْلِكُ الْسَّمَعَ وَالأَبْصَارَ } : فيكمل بعض الأبصار بالتوحيد ، وبعضها يعميها عن التحقيق . { وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ } : يخرج المؤمنَ من الكافر ، والكافرَ من المؤمن . { فَسَيَقُولُونَ اللّه } : ولكنْ ظَنَّا . . . لا عن بصيرة ، ونَطْقاً . . لا عن تصديق سريرة . ٣٢ما يكون من موضوعات الحق ، ومتعلقاتِ الإرادة ، ومتناولاتِ المشيئة ، ومُجنَّساتِ التقدير ، ومُصَرِّفاتِ القدرة- فهي أشباحٌ خاوية ، وأحكامُ التقديرِ عليها جارية . ٣٣سَبَق لهم الحُكْمُ ، وصَدَقَ فيهم القولُ؛ فلا لِحُكْمِه تحويل ولا لقوله تبديل ، فإنَّ العلَلَ لا تُغَيِّر الأزل . ٣٤كَشف قبيحَ ما انطوت عليه عقائدُهم من عبادتهم ما لا يصحُّ منه الخْلقُ والإعادة ، وأثبت أن المعبودَ مَنْ منه الخَلْقُ والإعادة . قومٌ جعلوا له في الإيجاد شركاءَ بدعوى القَدَرِ ، وقوم منعوا جواز قدرته على الإعادة . وكل هذا جنوحٌ إلى الْكفْرِ وذهابٌ عن الدِّين . ٣٥الحقُّ اسمٌ من أسمائه سبحانه ، ومعناه أنه موجود ، وأنه ذو الحق ، وأنه مُحِقُ الحقِّ . والحقُّ من أوصاف الخَلْق ما حَسُنَ فعله وصحُّ اعتقاده وجاز النطق به . و { اللّه يَهْدِى لِلْحَقِّ } : أي إلى الحق هدايته . وهداه له وهداه إليه بمعنىً؛ فَمَنْ هداه الحقُّ للحقِّ وَقَفَه على الحقِّ ، وعزيزٌ منْ هداه الحقُّ إلى الحقِّ للحقِّ ، فماله نصيبٌ وماله حَظٌ . ٣٦الظَّنُّ يُنافي اليقين ، فإنه ترجيح أحد طَرَفَيْ الحكم على الآخر من غر قَطْعِ . وأربابُ الحقائق على بصيرة وقطع؛ فالظنُّ في أوصاف الحقِّ معلولٌ ، والقطع- في أوصاف النَّفُس- لكل أحدٍ معلول . والعَبْدُ يجب أن يكون في الحال خالياً عن الظن إذّ لا يَعْرفُ أحدٌ غيْبَ نَفْسه في مآلِه . وفي صفة الحقِّ يجب أن يكونَ العبدُ على قطع وبصيرة؛ فالظنُّ في اللّه معلول ، والظن فيما مِنَ اللّه غير محمود . ولا يجوز بوجهٍ من الوجوه أن يكون أهلُ المعرفةِ به سبحانه- فيما يعود إلى صفته - على الظن ، كيف وقد قال اللّه تعالى فيما أمر نبيِّه- عليه السلام- أَنْ يقول : { أَدْعُوا إلَى اللّه عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَبَعَنِى }[ يوسف : ١٠٨ ] ؟ وكما قلنا : طَلَعَ الصباحُ فلات حين سراج ... وأتى اليقين فلات حين حجاج حصل الذي كُنَّا نؤمِّل نَيْلَه ... من عَقْد ألويةٍ وحلِّ رتاج والبعد قَوْضَ بالدَّنو خيامه ... والوصلُ وَكَّدَ سَجْلَه بِعاج قَدْ حَانَ عَهْدٌ للسرور فحيهلا ... لهواجم الأحزان بالإزعاج ٣٧انسدَّتْ بصائرهم فلا يزدادون بكثرة سماع القرآن إلا عمى على عمى ، كما أن أهل الحقيقة ما ازدادوا إلا هُدىً على هدى ، فسبحان مَنْ جعل سماعَ خطابه لقومٍ سببَ تحَيُّرهم ، ولآخرين موجِبَ تَبصُّرِهم . ٣٨كلَّتْ القرائح ، وخَمَدَتْ نيرانُ الفصاحة ، واعترف كلُّ خطيب مصقْعٍ بالعجز عن معارضة هذا الكتاب ، فلم يتعرَّض لمعارضته إلا مَنْ افتضخ في قالته . ٣٩قابلوا الحقَّ بالتكذيب لِتَقاصُر علومهم عن التحقيق ، فالتحقيقُ من شرط التصديق ، وإنما يؤمن بالغيب مَنْ لوَّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان ، وصَرَفَ عنه دواعي الرِّيَب . ٤٠فأمَّا الذين آمنوا فهم الذين كَحَلَ الحقُّ أبصارَ قلوبهم بنور اليقين ، والذين لم يؤمنوا فهم الذين وَسَمَ قلوبَهم بالعمي فزلُّوا - بالضلالة - عن الهُدَى . . تلك سُنَّةُ اللّه في الطائفتين ، ولن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تحويلاً . ٤١بَرِحَ الخفاءُ ، واستبانت الحقائق ، وامتاز الطريقان ، فلا المحسنُ بِجُرْمِ المسئِ مُعَاقَبٌ ، ولا المسئُ بِجُرْمِ المحسن مُعاتَب ، كُلُّ على حِدَةٍ بما يعملون وعلى ما يفعله مُحَاسَب . ٤٢من استمع بتكلفه ازداد في تَخَلُّفِه بزيادة تصرفه ، ومَنْ استمع الحقَّ بتَفَضُّلِه- سبحانه- استغنى في إدراكه عن تَعَمُّلِه . والحقُّ - سبحانه - يُسْمِعُ أولياءَه ما يناجيهم به في أسرارهم ، فإذا سمعوا دعاء الواسطة قابلوه بالقبول لِمَا سَبَقَ لهم من استماع الحقِّ . ومَنْ عَدِمَ استماعَ الحقِّ إياه من حيث التفهيم لم يَزِدْه سماعُ الخَلْقِ إلا جحَداً على جحد ، ولم يحْظَ به إلا بُعْداً على بُعْد . ٤٣مَنْ سُدَّتْ بصيرتُه بالغفلة والغيبة لم يَزدْه إدراكُ البَصَرِ إلا حجبةً على حجية ، ومَنْ لم ينظر إلى اللّه باللّه ، ولم يسمع من اللّه باللّه ، فقصاراه العمى والصمم ، { فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ } [ الحج : ٤٦ ] وقال عليه السلام فيما أخبر عن اللّه : ( فبي يسمع وبي يبصر ) وأنشد قائلهم : تأمَّلْ بعين الحقِّ إنْ كنتَ ناظراً ... إلى منظرٍ منه إليه يعود ٤٤نَفَى عن نَفْسِه ما يستحيل تقديره في نعته ، وكيف يوصَفُ بالظلم وكلُّ ما يُتَوهَّمُ أَنْ لو فَعَلَه كان له ذلك؟ إذ الحقُّ حقُّه والمُلْكُ مُلْكَه . وَمَنْ لا يَصِحُّ تقديرُ قبيحٍ منه- أَنَّى يوصف بالظلم جوازاً أو وجوباً؟! ٤٥الأيامُ والشهور ، والأعوام والدهور بعد مُضيها في حُكْمِ اللحظة لمن تفكَّرَ فيها ، ومتى يكون لها أثر بعد تقضيها؟ والآتي من الوقت قريب ، وكَأنَّ قَدْرَ الماضي من الدهر لم يُعْهَدْ . ٤٦معناه أن خبره صدق ، ووعده ووعيده حق ، وبعد النَّشْرِ حَشْرٌ ، وفي ذلك الوقت مُطَالَبَةٌ وحسابٌ ، ثم على الأعمال ثواب وعقاب ، وما أسرع ما يكون المعلومُ مُشَاهَداً موجوداً! ٤٧لم يُخْلِ زماناَ مِنْ شَرِعٍ ، ولم يُخْلِ شرعاً مِنْ حُكْم ، ولم يُخْلِ حُكْماً مما يُعْقُبُه من ثواب وعقاب . ٤٨الاستعجال بهجوم الموعود من أمارات أصحاب التكذيب ، فأمَّا أهل التحقيق فليس لهم لواردٍ يرَدُ عليهم اشتغالٌ قبل وجوده ، أو استعجالٌ على حين كَوْنِه ، ولا إذا وَرَدَ استقالٌ لما تضمنه حُكْمُه؛ فهم مطروحون في أسْرِ الحُكْم ، لا يتحرك منهم - باختيارهم- عِرْقٌ . ٤٩المملوكُ متى يكون له مِلْك؟! وإذا كان سيِّدُ البرايا- عليه الصلاة والسلام - لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً . . فَمَنْ نَزَلَتْ رُتْبَتُه ، وتقاصرَتْ حالتُه متى يملك ذرةُ أو تكون باختياره وإيثاره شمةٌ؟ طاح الذي لم يكن - في التحقيق ، وتفرَّدَ الجبارُ بنعت الملكوت . ٥٠مَنْ عَرَفَ كمالَ القدرة لم يأمَنْ فجأةَ الأخذِ بالشدة ، ومن خاف البيات لم يستلذ السُّبات . ويقال مَنْ توسَّدَ الغفلة أيقظْته فجاءةُ العقوبة ، ومَنْ استوطن مركب الزَّلَّة عَثَرَ في وَهْدَةِ المحنة . ٥١بعد انتهاك سِتْرِ الغيب لا يُقْبَلُ تضرعُ المعاذير . ويقال لا حُجَّة بعد إزاحة العلة ، ولا عذْرَ بعد وضوح الحجة . ٥٢لا تُكَلَفُ نَفْسٌ إلا تجرع ما منه سَقَتْ ، ولا يحصد زارعٌ غَلَّةً ما منه زرع ، وفي معناه قالوا : سَنَنْتِ فينا سَنَناً ... قَذَفَ البلايا عقبه يصبر على أهوالها ... مَنْ برَّ يوماً رَبَّه ٥٣صرِّحْ بالإخبار عند استخبارهم ، وأَعْلِمْ بما يزيل الشُّبْهَةَ عمَّا التَبس على جُهَّالِهم ، وأَكِّدْ إخبارَكَ بما تذكره مِنَ القَسَم واليمين ، مضافاً ذلك إلى ما تُسْلِفُه من التَّبيين . على أنه لا ينفَعهم نُصحُك ، ولا يُؤثّر فيهم وعظُكَ . . كيف لا؟ وقد جُرِّعوا شرابَ الحُجبة ، وَوِسُمُوا بَكِيَّ الفُرقة؛ فلا بصيرة لهم ولا ( . . . ) ولا فهمَ ولا حصافة . ٥٤لا يُقْبَلُ منهم عَدْلٌ ولا سَرَفٌ ، ولا يحصل فيما سَبَقَ لهم من الوعيد خَلَفَ . ولا ندامة تنفعهم وإنْ صَدَقوها ، ولا كرامة تنالهم وإنْ طلبوهَا ، ولا ظُلْمَ يجري عليهم ولا حيف ، كلا . . . بل هو اللّه العَدْلُ في قضائه ، الفَرْدُ في علائه بنعت كبريائه . ٥٥الحادثات بأسْرِها له مِلْكاً ، وبه ظهوراً ، ومنه ابتداءً ، وإليه انتهاء؛ فقولُه حقٌّ ، ووعدهُ صِدْقُ ، وأمره حَتْمٌ وقضاؤه باتٌ . وهو العَلِيُّ ، وعلى ما يشاء قويٌّ . ٥٦يحيي القلوبَ بأنوار المشاهدة ، ويميت النفوسَ بأنواع المجاهدة فنفوسُ العابدين تَلَفُها فنون المجاهدات ، وقلوب العارفين شَرفُها عيون المشاهدات . ويقال يحيي مَنْ أقبل عليه ، ويميتَ مَنْ أعرض عنه . ويقال يحيي قلوب قوم بجميل الرجاء ، ويميت قلوبَ قوم بِوَسْم القنوط . ٥٧الموعظة للكافة . . . ولكنها لا تنجع في أقوام ، وتنفع في آخرين؛ فَمَنْ أصغى إليها بَسْمعِ سِرَّه اتضح نورُ التحقيق في قلبه ، ومَنْ استمع إليها بنعت غَيْبَته ما اتصف إلا بدوام حجبته . ويقال الموعظة لأربابِ الغيبة لِيَؤوبُوا ، والشِّفاء لأصحاب الحضور ليطيبوا . ويقال ( الموعظة ) : للعوام ، ( والشفاء ) : للخواص ، ( والهُدى ) لخاص الخاص ، ( الرحمة ) لجميعهم ، وبرحمته وصَلوا إلى ذلك . ويقال شفاءُ كلِّ أحدٍ على حَسَبِ دائه ، فشفاءُ المذنبين بوجود الرحمة ، وشفاء المطيعين بوجود النعمة ، وشفاء العارفين بوجود القربة ، وشفاء الواجدين بشهود الحقيقة . ويقال شفاء العاصين بوجود النجاة ، وشفاء المطيعين بوجود الدرجات ، وشفاءُ العارفين بالقرب والمناجاة . ٥٨( الفضل ) : الإحسانُ الذي ليس بواجبٍ على فاعله ( والرحمة ) إرادة النعمة وقيل هي النعمة . والإحسان على أقسام كذلك النعمة ، ونِعَمُ اللّه أكثر من أَنْ تحْصَى . ويقال الفضل ما أتاح لهم من الخيرات ، والرحمة ما أزاحَ عنهم من الآفات . ويقال فضل اللّه ما أكرمهم من إجراء الطاعات ، ورحمته ما عَصَمَهم به من ارتكاب الزَّلات . ويقال فضل اللّه دوام التوفيق ورحمته تمام التحقيق . ويقال فضل اللّه ما يًُخصُّ به أهل الطاعات من صنوف إحسانه ، ورحمته يخصُّ به أهلَ الزلاَّت من وجوه غفرانه . ويقال فضل اللّه الرؤية ، ورحمته إبقاؤهم في حالة الرؤية . ويقال فضل اللّه المعرفة في البداية ، ورحمته المغفرةُ في النهاية . ويقال فضل اللّه أَنْ أَقَامَكَ بشهود الطلب ، ورحمته أن أشهدك حقَّه بحكم البيان إلى أنْ تراه غداً بكشف العيان . قوله جلّ ذكره : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } أي بما أهَّلَهم له ، لا بما يتكلَّفون من حَرَكاتهم وسَكَنَاتهم ، أو يَصِلُونَ إليه بنوعٍ من تكلفهم وتعملهم . { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } : أي ما تُتْحَفُونَ به من الأحوال الزاكية خيرٌ مِمَّا تجمعون من الأموال الوافية . ويقال الذي لَكَ منه- في سابق القسمة- خيرٌ مما تتكلَّفُه من صنوف الطاعة والخدمة . ٥٩يعَنِّفُهم ويُقَرِّعهُم على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم ، ويُظْهِر كذبهم فيما تقوَّلُوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع . ٦٠هذا على جهة التهويل والتعظيم لما أسلفوه من الكذب . ثم قال : { إنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } في إمهال مَنْ أجْرَم ، والعصْمِة لَمِنْ لم يُجْرِمْ . ٦١خوَّفَهم بما عرفَّهم من اطلاعه عليهم في جميع أحوالهم ، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم . والعلْمَ بأنه يراهم يوجِبُ استحياءَهم منه ، وهذه الحال المراقبة ، والعبد إذا عَلمَ أن مولاه يراه استحي منه ، وتَركَ متابعة هواه ، ولا يحُوِّم حَوْلَ ما نهاه ، وفي معناه أنشدوا : كأنَّ رقيباً منك حَالُّ بمهجتي ... إذا رُمتُ تسهيلاً عليَّ تَصعَّبَا وأنشدوا : أُعاتِبُ عَنْكَ النَّفُسَ في كلِّ خَصْلَةٍ ... تعاتبني فيها وأنت مقيم { وما يعزُبُ عن ربك من مثقال ذرة } : وكيف يخفى ذلك عليه ، أو يتقاصر علمه عنه ، وهو منشئُه وموجِدُه؟ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة ، وإنما قال : { إلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } : ردَّهم إلى كتابته ذلك عليهم- لعدم اكتفائهم في الامتناع عمَّا نُهُوا عنه - برؤيته وعلمه . ٦٢قوله جلّ ذكره : { ألاَ إنًّ أَوْلِيَاءَ اللّه لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِم } الوليُّ على وزن فعيل مبالغة من الفاعل ، وهو مَنْ تَوَالَت طاعاته ، من غير أن يتخللّها عصيان . ويجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول؛ فيكون الوليُّ مَنْ يتوالى عليه إحسانُ اللّه وأفضاله ، ويكون بمعنى كونه محفوظاً في عامة أحواله من المحن . وأشدُّ المحن ارتكابُ المعاصي فيعصمه الحقُّ- سبحانه- على دوام أوقاته من الزلاَّت . وكما أن النبيَّ لا يكون إلا معصوماً فالوليُّ لا يكون إلا محفوظاً . والفَرْقُ بين المحفوظ والمعصوم أن المعصوم لا يُلِمُّ بِذَنْبٍ ألْبَتَّةَ ، والمحفوظُ قد تحصُل منه هَنَات ، وقد يكون له - في الندرة- زَلاَّتٌ ، ولكن لا يكون له إصرار : { أولئك الذين يتوبون من قريب }[ النساء : ١٧ ] . قوله جلّ ذكره : { أَلاَ إنَّ أوْلِيَاءَ اللّه لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . حسنٌ ما قيل إنه { لا خوف عليهم } : في الدنيا ، { ولا هم يحزنون } : في العاقبة . ولكن الأوْلى أَنْ يقال إن الخواص منهم لا خوفٌ عليهم في الحال - لأنَّ حقيقةَ الخوفِ توقُّع محذورٍ في المستقبل ، أو ترقُّب محبوب يزول في المستأنف . . وهم بِحُكْمِ الوقت؛ ليس لهم تطلّعُ إلى المستقبل . والحزن هو أن تنالهم حُزُونة في الحال ، وهم في رَوْحِ الرضا بكلِّ ما يجري فلا تكون لهم حزونة الوقت . فالولىُّ لا خوفٌ عليه في الوقت ، ولا له حزن بحال ، فهو بحكم الوقت . ولا يكون وليَّاً إلا إذا كان موفَّقاً لجميع ما يلزمه من الطاعات ، معصوماً بكل وجه عن جميع الزلات . وكلُّ خصْلَةٍ حميدة يمكن أن يُعْتَبَرَ بها فيقال هي صفة الأولياء . ويقال الوليُّ مَنْ فيه هذه الخصلة . ويقال الوليُّ من يُقَصِّر في حقِّ الحق ، ولا يؤخِّر القيام بحق الخَلق؛ يطيع لا لخوف عقاب ، ولا على ملاحظةِ حسن مآب ، أو تطلع لعاجلٍ اقتراب ، ويقضي لكلِّ أحدٍ حقاً يراه واجباً ، ولا يقتضي من أحدٍ حقاً له ، ولا ينتقم ، ولا ينتصف ولا يشمت ولا يحقد ، ولا يقلد أحداً مِنّةً ، ولا يرى لنفسه ولا لما يعمله قَدْرَاً ولا قيمة . ٦٣هذه صفة الأولياء؛ آمنوا في الحال ، واتقوا الشّرْكَ في المآل . ويقال { ءَامَنُوا } أي قاموا بقلوبهم من حيث المعارف . { وَكَانُوا يَتَّقُونَ } : استقاموا بنفوسهم بأداء الوظائف . ويقال ( آمنوا ) بتلقي التعريف . ( واتقوا ) : بالتقوى عن المحرمات بالتكليف . ٦٤القيام بالأمر يدل على الصحة؛ فإذا قاموا بما أُمِروا به ، واستقاموا بِتَرْكِ ما زُجروا عنه بَشَّرَتْهُم الشريعة بالخروج عن عهدة الإلزام ، وبشَّرتهم الحقيقة باستجياب الإكرام ، بما كوشِفوا به من الإعلام . . . وهذه هي البشرى في عاجلهم . وأما البُشرى في آجلِهم : فالحقُّ- سبحانه- يتولَّى ذلك التعريف ، قال تعالى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ }[ التوبة : ٢١ ] . ويقال البشارة العُظْمَى ما يجدون في قلوبهم مِنْ ظَفَرِهم بنفوسهم بسقوط مآربهم ، وأيُّ مُلْكٍ أتمُّ من سقوط المآرب ، والرضا بالكائن؟ هذه هي النعمة العظمى ، ووجدانُ هذه الحالة هو البشرى الكبرى . ويقال الفرق بين هذه البشارة التي لهم وبين البشارة التي للخلْق أنَّ للخلْق عِدَةٌ بالجميل ، والذي له نَقْدٌ ومحصول . ٦٥العبدُ ما دام متفرقاً يضيقُ صدرُه ويستوحش قلبُه بما يسمع ويشهد من الأغيار والكفارِ ما تَتَقدَّسُ عنه صفةُ الحقّ ، فإنْ صار عارفاً زالَتْ عنه تلك الصفة لتحققه بأنَّ الحقَّ سبحانه وراء كلّ طاعةٍ وزَلَّةٍ ، فلا له - سبحانه - من هذا استيحاش ، ولا بذلك استئناس . ثم يتحقق العارفُ بأنَّ المُجَرِيَ لطاعةِ أربابِ الوفاق- اللّه ، والمُنشِئُ لأحوال أهل الشِّقاقِ - اللّه . لا يبالي الحقُّ بما يجري ولا يبالي العبد بشهود ما يجري ، كما قيل : بنو حقٍّ قضوا بالحقٍّ صِرْفا ... فَنَعْتُ الخَلْقِ فيهم مستعار ٦٦للّه مَنْ في السموات ومَنْ في الأرض مِلْكاً ، ويبدي عليهم ما يريد ، حكما جَزْماً؛ فلا لقبوله عِلَّة ، ولا موجِبَ لردِّه زَلَّة ، كلا . . . إنها أحكامٌ سابقة ، لم تُوجِبْها أجرامٌ لاحقة ، ولا طاعاتً وعباداتٌ صادقة . ٦٧الليل لأهل الغفلة بُعْدٌ وغيبة ، ولأهل الندم توبة وأوبة ، وللمحبين زُلفَةٌ وقربة؛ فالليل بصورته غير مُؤْنِسٍ ، لكنه وقت القربة لأهل الوصلة كما قيل : وكم لظلام الليل عندي من يَدٍ ... تُخَبِّر أن المانوية تكذب ٦٨قوله جلّ ذكره : { قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِىُّ لَهُ مَا فِى الْسّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانِ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لاَ تَعْمَلُونَ } . الوَلَدُ بعض الوالد ، والصمدية تَجِلُّ عن البغيضة ، فَنَزَّهَ اللّه نَفْسَه عن ذلك بقوله { سبحانه } . ثم إنه لم يعجِّلْ لهم العقوبة - مع قبيح قالتهم ومع قدرته على ذلك - تنبيهاً على طريق الحكمة لعبادة . ولا تجوز في وصفه الولادة لِتَوَحُّده ، فلا قسيمَ له ، ولا يجوز في نعته التبني أيضاً لِتَفَردِه وأنه لا شبيهَ له . قوله : { هٌوَ الْغَنِىُّ } : الغِنَى نَفْيُ الحاجة ، وشهوةُ المباشرةِ حاجة ، ويتعالى عنها سبحانه . ٦٩-٧٠قوله جل ّ ذكره : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكّذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } . ليس لهم بما هم فيه استمتاع ، إنما هو أيامٌ قليلة ثم تتبعها آلامٌ طويلة ، فلا قَدَمٌ لهم بعد ذلك تُرْفَع ، ولا نَدَمٌ ينفع . ٧١أنزل اللّه هذه الآية على وجه التسلية لنبيِّه - صلى اللّه عليه وسلم - لِمَا كان يمسُّه من مقاساة الشِّدَّة من قومه ، فإنَّ أيامَ نوحٍ- وأنْ طالَت- فما لَبِثَتْ كثيراً إلا وقد زالت ، كما قيل : وأحْسَن شيءٍ في النوائب أنها ... إذا هي نابت لم تكن خلدا ثم بيَّنَ أنه كان يتوكل على ربِّه مهما فعلوا . ولم يحتشم عبدٌ - ما وَثِقَ بربِّه- منْ كلِّ ما نَزَلَ به . ثم إن نوحاً - عليه السلام- قال : ( إني توكلت على اللّه) وهذا عين التفرقة ، وقال لنبيِّه صلى اللّه عليه وسلم : { يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللّه }[ الأنفال : ٦٤ ] وهذا عين الجمع فبانت المزية وظهرت الخصوصية . ٧٢إذا كان عملِه للّه لم يَطْلُبْ الأجْرَ عليه من غير اللّه ، وهكذا سنَّته في جميع أولياء اللّه . ٧٣أغرق قومَه بأمواج القَطْرة ، وفي الحقيقة أغرقهم بأمواج الأجكام والقدرة ، وحفظ نوحاً- عليه السلام - وقومه في السفينة ، وفي الحقيقة نَجَّاهم في سفينة السلامة . وكان نوحٌ في سابق حكمه من المحروسين ، وكان قومُه في قديم قضائه من جملة المُغْرِقين ، فَجرَتْ الأحوال على ما جرَتْ به القسمةُ في الأزل . ٧٤-٧٥قصَّ عليه - صلوات اللّه عليه وسلامه- أنباءَ الأولين ، وشرح له جميع أحوال الغابرين ، ثم فضَّلَه على كافتهم أجمعين ، فكانوا نجوماً وهو البدر ، وكانوا أنهاراً وهو البحر ، ثم به انتظم عِقْدُهم ، وبنورِه أَشْرَقَ نهارُهم ، وبظهوره خُتِم عددُهم ، كما قيل : يومٌ وحَسْبُ الدهرِ من أَجْلِه ... حيَّا غدٌ والتفت الأمسُ ٧٦ما زَادَهم الحقُّ سبحانه بياناً إلا ازدادوا طغياناً ، وذلك أنه تعالى أجرى سُنَتَّه في المردودين عن معرفته أنه لا يزيد في الحجج هدًى إلا ويزيد في قلوبهم عَمَىً ، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات اللّه عليهم أجمعين . { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ }[ الشعراء : ٣٥ ] : نظروا من حيث كانوا لم يعرفوا طعماً غير ما ذاقوا ، وكذا صفةُ مَنْ أَقصتْه السوابقُ ، وردَّته المشيئة . ٧٨ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا ، واستحبُّوا استدامة ما عليه كانوا . . . فلحقهم شؤمُ العقيدةِ وسوءُ الطريقة حتى توهموا أن الأنبياءَ عليهم السلام إنما دَعَوْهم إلى اللّه لتكونَ لهم الكبرياءُ على عباد اللّه ، ولم يعلموا أنهم إنما دَعَوْهم إلى اللّه بأمر اللّه . ٧٩لما استعان في استدفاع ما استقبله بغير اللّه لم يلبث إلا يسيراً حتى تَبَرَّأَ منهم وتَوَعدَّهم بقوله : لأفعلنَّ ولأصنعنَّ ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت في غير اللّه فإنها تؤول إلى العداوة والبغضة ، قال تعالى : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ }[ الزخرف : ٦٧ ] . ٨٠-٨١أمَرَهُم أمراً يُظْهِرُ به بُطْلاَنَهم ليُدخل الحقَّ على ما أتوا به من التموية ، فلذلك قال موسى عليه السلام : ( إن اللّه سيبطله )؛ فلمَّا التقمت عصا موسى - جميع ما جاءوا به من حِبَالِهم وعِصِيَّهِم - حين قَلَبَها اللّه حيَّةً . . عَلِمُوا أنَّ اللّه أبطل تلك الأعيان وأفناها . ٨٢قوله جلَّ ذكره : { وَيُحِقُّ اللّه الْحَقَّ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ } . من جملة ما أَحقَّه أن السَّحَرَةَ كان عندهم أنهم يَنْصُرون فرعون ويجيبونه فكانوا يُقْسِمون بِعِزَّته حيث قالوا ( بِعِزَّةِ فرعونَ إنا لنحن الغالبون ) وقال الحقُّ- سبحانه : بعزتي إنكم لمغلوبون ، فكان على ما قال تعالى : دون ما قالوه ، وفي معناه قالوا : كم رَمَتْني بِأَسْهُم صائباتٍ ... وتَعَمَّدْتُها بِسَهْمٍ فطاشا ٨٣أهل الحقيقة في كل وقتٍ قليلٌ عَدَدُهم ، كبيرٌ عند اللّه خَطَرُهم . ٨٤بيَّن أن الإيمان ليس من حيث الأقوال . . بل لا بد فيه صدق الأحوال قصداً . وحقيقةُ التوكل تَوَسُّلٌ تقديمُه مُتَّصِلٌ ، ثم يعلم أنه بفضله- سبحانه- تَحْصُلُ نجاتُه ، لا بما يأتي به من التكلُّف- هذه هي حقيقة التوكل . ٨٥تبرأنا مما مِنَّا ِنَ الحوْل والمُنَّة ، وتحققنا بما منك من الطوْل والمِنَّة . فلا تجعلنا عرضةً لسهام أحكامك في عقوبتك بانتقامك ، وارحمنا بلطفك وإكرامك ، ونجِّنا مِمَّنْ غَضِبْتَ عليهم فَأَذْللْتَهم ، وبِكَيَّ فراقك وسَمْتَهُم . ٨٧مَهِّدْ إليهم لعبادتنا مَحَالَّ وهي نفوسهم ، ولمعارفنا منازلَ وهي قلوبهم ، ولمحبتنا مواضعَ وهي أرواحهم ، ولمشاهدتنا معاهِدَ وهي أسرارهم؛ فنفوس العابدين بيوت الخدمة ، وقلوب العارفين أوطان الحشمة ، وأرواح المهيمين مشاهد المحبة ، وأسار الموحدين منازل الهيبة . ٨٨لما يَئِس من إجابتهم حين دعاهم إلى اللّه دعا عليهم بإنزال السُّخْطَة وإذاقة الفرقة . ومن المعلوم أنّ الأنبياء- عليهم السلام- مِنْ حقهم العصمة ، فإذا دعا موسى عليهم بمثل هذه الجملة لم يكن ذلك إلا بإذن من قِبَل اللّه تعالى في الحقيقة . ٨٩الاستقامةُ في الدعاء تَرْكُ الاستعجال في حصول المقصود ، ولا يَسْقُطُ الاستعجالُ من القلب إلا بوجدان السكينة فيه ، ولا تكون تلك السكينة إلا بِحُسْن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب . ويقال ينبغي للعبد أن يستقلَّ باللّه ما أمكنه فعند هذا يقلُّ دعاؤه . ثم إذا دعاه بإشارة من الغيب - في جوازه- فالواجب ألا يستعجل ، وأن يكون ساكِنَ الجأشِ . ويقال من شرط الدعاء صِدْقُ الافتقار في الابتداء ، ثم حُسْنُ الانتظار في الانتهاء ، وكمال هذا الرضا بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار . ويقال الاستقامة في الدعاء سقوط التقاضي على الغيب والخمود عن الاستعجال بحسن الثقة وجميل الظن . ويقال في الآية تنبيهٌ على أنَّ للأمورِ آجالاً معلومة ، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم في الوقت المعلوم . ٩٠حَمَلَتْ العِزَّةُ فِرعونَ على تَقَحُّمِ البحر على إثرهم ، فلمَّا تحقَّقَ الهلاكُ حَمَلَتْه ضرورةُ الحِيلةِ على الاستعاذة ، فلم ينفَعه ذلك لفوات وقت الاختيار . ويقال لما شهد صوْلَةَ التقدير أفاق من سُكْرِ الغلطة ، لكن : ( بعد شهود البَاسْ لا ينفع التخاشعُ والابتئاسْ ) . ٩١أَبْعَدَ طولِ الإمهال ، والاصرار على ذميم الأفعال ، والرَّكْضِ في ميدان الاغترار ، وانقضاء وقت الاعتذار؟! هيهات! لقد استوجَبْتَ أن تُرَدَّ في وجهك ، فلا لِعُذْرِك قَبُولٌ ، ولا لَكَ إلى ما ترومه وصولٌ . ٩٢لَنُشْهِرَنَّ تعذيبَكَ ، ونُظْهِرَنَّ- لَمِنْ استبصر- تأديبَك ، لِتكونَ لِمَنْ خَلْفَكَ عِبْرة ، وتزدادَ حين أَفَقْتَ أَسَفَاً وحسرةً . ٩٣أذْلَلْنَا لهم الأيام ، وأكثرنا لديهم الإنعامَ ، وأكرمنا لهم المقامَ ، وأتَحْنَا لهم فنونَ الحسناتِ ، وأدَمْنَا لهم جميع الخيراتِ . . . فلمَّا قابلوا النعمة بالكفران ، وأصَرُّوا على البَغْيِ والعدوان أذقناهم سوءَ العذاب ، وسَدَدْنا عليهم أبوابَ ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب ، وذلك جزاءُ مَنْ حَادَ عن طريق الوفاق ، وجَنَحَ إلى جانب الشَّقِاق . ٩٤ما شكَّ- صلى اللّه عليه وسلم - فيما عليه أُنْزِل ، ولا عن أحدٍ منهم ساءَل ، وإنما هذا الخطابُ على جهة التهويل ، والمقصود منه تنبيهُ القوم على ملازمة نهج السبيل . ويقال صفة أهل الخصوص ملاحظة أنفسهم وأحوالهم بعين الاستصغار . ويقال فإنْ تَنَزَّلْتَ منزلةَ أهلِ الأدب في تَرْكِ الملاحظات فَسَلْ عَمَّن أرسلنَا قَبْلَكَ فهل بَلَّغْنَا أحداً من منزلتك؟ وهل خَصَصْنَا أحداً بمثل تخصيصك؟ ٩٥ما كان منهياً عنه ، وكان قبيحاً فبالشرع كان قبيحاً ، فلا بدّ من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة . وإنما لم يَجُزْ في صفته - صلى اللّه عليه وسلم - التكذيبُ بآياتِ اللّه؛ لأنه نُهِيَ لا لكونه قبيحاً بالعقل حتى يقال كيف نُهِيَ عنه وكان ذلك بعيداً منه؟ ٩٦فالأعداء حقَّتْ عليهم كلمةٌ بالعقاب ، والأولياء حقت عليهم كلمةٌ بالثوابِ؛ فالكلمة أزليَّة ، والأحكام سابقة ، والأفعال في المستأنف على ممر الأوقات على موجب القضية لاحقة ، فالذين نصيبهم من القسمة الشِقْوةُ لا يؤمِنون وإن شاهدوا كل دلالة ، وعاينوا كل معجزة . ٩٨قومُ يونس تداركتْهم الرحمةُ أزليةُ فيما أجرى من توفيقِ التضرع ، فَكَشَفَ عنهم العذابَ ، وصَرَفَ عنهم ما أظلَّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب؛ فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم ، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته . ٩٩كيف يعتصي عليه سبحانه مرادٌ- والذي يبقي شيءٌ عن مراده ساهٍ أو مغلوبٌ؟ والذي يستحق جلالَ العِزَّةِ لا يفوته مطلوب . ١٠٠لا يمكن حَمْل الإذن في هذه الآية إلا على معنى المشيئة؛ لأنه للكافة بالإيمان ، والذي هو مأمورٌ بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه . ولا يجوز حملُ هذه الآية على معنى أنه لا يُؤْمِنُ أحدٌ إلا إذا ألجأه الحقُّ إلى الإيمان واضطره- لأنَّ موجِبَ ذلك ألا يكون أحدٌ في العَالَم مؤمناً بالاختيار ، وذلك خطأ ، فدلَّ على أنه أراد به إلا أنْ يشاءَ اللّه أنْ يُؤمِنَ هو طوَعاً . ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحدٍ أن يؤمِن طوعاً ثم لا يؤمِن؛ لأنه يُبْطِلُ فائدةَ الآية ، فَصَحَّ قولُ أهل السُّنَّة بأنَّ ما شاءَ اللّه كان وما لم يشأ لم يكن . ١٠١الأدلة- وإنْ كانت ظاهرة- فما تغْنِي إذا كانت البصائر مسدودةً ، كما أن الشموسَ- وإن كانت طالعة- فما تُغْنِي إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة ، كما قيل : وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته ... إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُلَمُ؟ ١٠٢تَمَنِّي الطاف أنوارِ الحقيقةِ تَعَنِّ في تسويل ، واستنادٌ إلى غير تحصيل ، وتمادٍ في تضليل . ١٠٣حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض فقوله تعالى : { عَلَيْنَا } ها هنا معناها ( منَّا ) فلا شيء يجب على اللّه لكونه إلهاً مَلِكاً ، فيجب الشيءُ من اللّه -لصدقه- ولا يجب عليه - لِعِزَّتِه . وكما لا يجوز أن يَدْخُلَ نبيٌّ من الأنبياء- عليهم السلام- في النار لا يجوز أن يُخلَّدَ واحدٌ من المؤمنين في النار لأنه أخبر أنه يُنَجِّي الرسلَ والمؤمنين جميعاً . ١٠٤إن كنتم غطاء الرَّيْبِ فأنا في ضياءِ مِنَ الغيبِ ، إِنْ كنتم في ظلمة الجهل فأنا في شموس الوَصْلِ ، إن كنتم في سدفة الضَّلالة فأنا في خلعة الرسالة وعلى أنوار الدلالة . ويقال قد تميزنا على مفرق الطريق : فأنتم وقعتم في وهدة العِوَجِ ، وأنَا ثابِتٌ على سَوَاء النَّهَجْ . ١٠٥أي أَخْلِصْ قلبَك للدّين ، وجَرِّدْ قلبَكَ عن إثبات كلِّ ما لَحِقَه قهرُ التكوين ، وكنْ مائلاً عن الزيغ والبدع ، وداخِلاً في جُمْلَةٍ مَنْ أخلص في الحقيقة . ١٠٦لا تعبدْ ما لا تنفعكَ عِبَادتُه ولا تَضُرُّك عبادتُه ، وتلك صفة كل ما يعبْد من دون اللّه . واستعانة الخْلق بالخَلْق تمحيقٌ للوقتِ بلا طائلٍ؛ فَمَنْ لا يَمْلكُ لِنَفْسِه ضَرَّاً ولا نَفْعَاً كيف يستعين به مَنْ هو في مثل حاله؟ وإذا انضاف الضعيفُ إلى الضعيف ازدادَ الضعفُ . ١٠٧كما تفرَّد بإبداع الضُرِّ واختراعه فلا شريكَ يُعْضِّدُه . . . كذلك توحَّدَ بكشف الضُرِّ وصَرْفِه فَلا نصيرَ يُنْجِدُه . ويقال هوَّنَ على المؤمِن الضرِّ إليه بقوله : { وَإِن يَمْسسْكَ اللّه بِضُرٍ } حيث أضافه إلى نفسه ، والحنظلُ يُسْتَلذُّ مِنْ كفَّ مَنْ تحبه . وفَرَّقَ بين الضُرِّ والخير بإضافة الضرِّ إليه فقال :{ وَإن يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍ } ولم يقل : وإنْ يُرِدْكَ بضرٍ- وإنْ كان ذلك الضرُّ صادراً عن إرادته- وفي ذلك من حيث اللفظ دِقّة . ويقال : عَذُبَ الضرّ حيث كان نفعه؛ فلمَّا أوجب مقاساة الضُّرِّ من الحرَبَ أبدل مكانَه السرورَ والطَّرَب . ١٠٨مَنْ استبصر رَبحَ رُشْدَ نفسِه ، ومَنْ ضلَّ فقد زاغ عن قَصْدِه؛ فهذا بلاءٌ اكتسب ، وذلك ضياء وشِفاء اجتلب . ١٠٩قِفْ عند جريان أحكامنا ، وانسلِخْ عن مرادِك بالكلية ، ليُجْرِيَ عليك ما يريد ، واللّه أعلم بالصواب . |
﴿ ٠ ﴾