سورة النحل١صيغة أتى للماضي ، والمراد منه الاستقبال لأنه بشأن ما كانوا يستعجلونه من أمر الساعة ، والمعنى ( سيأتي ) أمر القيامة ، والكائناتُ كلُّها والحادثات بأَسْرِها من جملة أمره ، أي حصل أمرُ تكوينه وهو أمر من أموره لأنه حاصلٌ بتقديره وتيسيره ، وقَضَائه وتدبيره؛ فما يحصل من خير وشرَّ ، ونفع وضرِّ ، وحلو ومُرِّ . فذلك من جملة أمره تعالى . { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } وأصحاب التوحيد لا يستعجلون شيئاً باختيارهم لأنهم قد سقطت عنهم الإرادات والمطالبات ، وهم خامدون تحت جريان تصريف الأقدار؛ فليس لهم إيثار ولا اختيار فلا يستعجلون أمراً ، وإذا أَمَّلوا شيئاً ، أو أُخْبِروا بحصول شيءٍ فلا استعجال لهم ، بل شأنهم التأنِّي والثباتُ والسكونُ ، وإذا بَدَا من التقدير حُكمٌ فلا استعجالَ لهم لما يَرِدُ عليهم ، بل يتقبلون مفاجأةَ التقدير بوجهٍ ضاحك ، ويستقبلون ما يبدو من الغيب من الردِّ والقبول ، والمنع والفتوح بوصف الرضا ، ويحمدون الحق - سبحانه وتعالى - على ذلك . { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } : تعالى عما يشركون بربهم ، والكفار لم ييسر لهم حتى أَنَّه لا سكَنَ لقلوبهم من حديثه . ٢ينزل الملائكة على الأنبياء - عليهم السلام - بالوحي والرسالة ، وبالتعريف والإلهام على أسرار أرباب التوحيد وهم المُحَدَّثًُون . وإنزالُ الملائكةِ على قلوبهم غيرُ مردودٍ لكنهم لا يُؤْمَرُون أن يتكلموا بذلك ، ولا يكملون رسالةً إلى الخَلْق . ويُراد بالروح الوحي والقرآن ، وفي الجملة الروح ما هو سبب الحياة؛ إمَّا حياة القلب أو حياة الدنيا . ٣خَلَقَها بالحق ، ويَحكُم فيها بالحق ، فهو مُحِقٌّ في خَلْقِها لأنَّ له ذلك ويدخل في ذلك أمرُه بتكليف الخَلْق ، وما يَعْقُبْ ذلك التكليفَ من الحَشْرِ والنَّشْرِ ، والثواب والعقاب . { وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } : تقديساً وتشريفاً له عن أن يكون له شريك أو معه مليك . ٤تَعرًّفَ إلى العقلاء بكمال قدرته حيث أخبر أنه ، قدر على تصوير الإنسان على ما فيه من التركيب العجيب ، والتأليف اللطيف؛ من نطفةٍ متماثلة الأجزاء ، متشاكلة في وقت الإنشاء ، مختلفة الأعضاء وقت الإظهار والإبداء ، والخروج من الخفاء . ثم رَكَّبَ فيه تمييز وعقل ، ويَسَّرَ له النقطَ والفعل ، والتدبير في الأمور والاستيلاء على الحيوانات على وجه التسخير . ٥ذكَّرهم بما تفَّضل عليهم ، وأخبرهم بما للحيوانات من النِّعم ، وما لهم فيها من وجوه الانتفاع في جميع الأحوال ، كالحْمِل وكالسفر عليها وقطع المسافات ، والتوصُّل على ظهورها إلى مآربهم ، وما لِنَسْلِها ولدرِّها من المنافع . ٦-٧الغنيُّ له جمال بماله ، والفقير له استقلال بحاله . . وشتَّان ما هما! فالأغنياء يتجملون بأنعامهم حين يريحون وحين يسرحون ، والفقراء يستقبلون بمولاهم حين يصبحون وحين يمسون . أولئك تحمل أثقالَهم جِمالُهم ، وهؤلاء يحمل الحقُّ عن قلوبِهم أثقالَهم . { لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ } : قومٌ أحوالهم مقاساة الشدائد؛ يَصلُون سيرهم بسُراهم ، وقومٌ في حمل مولاهم؛ بعيدون عن كّدِّ التدبير ، مستريحون بشهود التقدير ، راضون باختيار الحقّ في العسير واليسير . ٨فالنفوس في حَمْلها كالدواب ، والقلوب معتقة عن التغنِّي في الأسباب . { وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ } : كما أن أهل الجنة من المؤمنين يجدون في الآخرة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَرَ على قلب بَشَرٍ فكذلك أرباب الحقائق يجدون - اليومَ- ما لم يخطر قطُّ على بال ، ولا قرأوا في كتاب ، ولا تلقنوه من أستاذ ، ولا إِحاطة بما أخبر الحق أنه لا يعلم تفصيله سواه . . وكيف يعلم من أخبر الحقُّ - سبحانه - أنه لا يعلم؟ . ٩قومٌ هداهم السبيل ، وعرَّفَهم الدليل ، فصرفَ عن قلوبهم خواطر الشكِّ ، وَعصَمَهم عن الجُحْدِ والشِّرْك ، وأَطْلَعَ في قلوبهم شمسَ العرفان ، وأفردهم بنور البيان . وآخرون أضلّهم وأغواهم ، وعن شهود الحُجَجِ أعماهم ، وفي سابقُ حكْمِه من غير سببٍ أَذَلَّهم وقمعهم ، ولو شاء لعرَّفهم وهداهم . ١٠-١١أنزل المطر وجعل به سُقيا النبات ، وأجرى العادة بأن يديمَ به الحياة ، وينبت به الأشجار ، ويخرج الثمار ، ويجري الأنهار . ثم قال : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ثم قال بعده بآيات : { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، ثم قال بعده : { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ، وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة؛ فأولاً التفكر ثم العلم ثم التذكر ، أولاً يضع النظر موضعه فإذا لم يكن في نظره خَلَلٌ وجب له العلم لا محالة ، ولا فرق بين العلم والعقل في الحقيقة ، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر . ويقال إنما قال : { لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } : على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير عارفاً بربِّه آياتُ ودلائل ، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة ، فبدليل واحد يعلم وَجْهَ النظر ، وبأدلة كثيرة يصير عارفاً بربه . ١٢قوله جلّ ذكره : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ } . الليل والنهار ظرفا الفعل ، والناس في الأفعال مختلفون : فموفَّقُ ومخذول؛ قالموفَّق يجري وقته في طاعة ربه ، والمخذول يجري وقته في متابعة هواه . العابد ، يكون في فَرْضِ يقيمه أو نَفْلٍ يديمه ، والعارف في ذكره وتحصيل أوراده بما يعود على قلبه فيؤنسه ، وأما أرباب التوحيد فهم مُخْتَطَفُون عن الأحيان والأوقات بغلبة ما يَرِدُ عليهم من الأحوال كما قيل : لستُ أدري أطال لَيْلِي أم لا ... كيف يدري بذاك مَنْ يَتَقَلَّى؟ لو تَفَرَّغْتُ لاستطالة لَيْلِي ... ورعيت النجومَ كنت مُخِلاَّ قوله جلّ ذكره : { وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . هذا في الظاهر ، وفي الباطن نجوم العلم وأقمار المعرفة وشموس التوحيد . ١٣أقوامٌ خَلَقَ لهم في الأرض الرياضَ والغياض ، والدور والقصور ، والمساكن والمواطن ، وفنون النِّعم وصنوف القِسَم . . وآخرون لا يقع لهم طير على وكر ، ولا لهم في الأرض شِبْر؛ لا ديار تملكهم ، ولا علاقة تُمْسِكُهُم- أولئك ساداتُ الناس وضياء الحق . ١٤سخر البحر في الظاهر ، وسهّل ركوبه في الفُلْك ، ويَسَّر الانتفاع بما يستخرج منه من الحُلِيِّ كاللؤلؤ والدُّرِّ ، وما يقْتَاتُ به من السمك وحيوان البحر . ومن وجوه المعاني خلق صنوفاً من البحر ، فقومٌ غَرْقَى في بحار الشغل وآخرون في بحار الحزن ، وآخرون في بحار اللّهو . فالسلامةُ من بحر الشغل في ركوب سفينة التوكل ، والنجاة من بحر الحزن في ركوب سفينة الرضا ، والسلامة من بحر اللّهو في ركوب سفينة الذكر ، وأنشد بعضهم . ١٥الرواسي في الظاهر الجبال ، وفي الإشارة الأولياء الذين هم غياث الخَلْق ، بهم يرحمهم ، وبهم يغيثهم . . ومنهم أبدال ومنهم أوتاد ومنهم القطب . وفي الخبر : ( الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) وقال تعالى : { وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }[ الأنفال : ٣٣ ] ، كما قال تعالى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤمنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ } ، [ الفتح : ٤٥ ] وأنشد بعضهم : واحسرتا من فراق قوم ... هم المصابيح والأمن والمزن ١٦الكواكبُ نجومَ السماء ومنها رجومٌ للشياطين ، والأولياء نجومٌ في الأرضِ . وكذلك العلماء وهم أئمة في التوحيد وهم رجومٌ للكُفَّار والملحدين . ويقال فرْقٌ بين نجوم يهْتَدَى في فِجَاج الدنيا ، ونجومٍ يُهْتَدَى بهم إلى اللّه تعالى . ١٧تدل هذه الآية على نفي التشيبه بينه - سبحانه - وبين خَلْقِه . وصفاتُ القِدَم للّه مُسْتَحَقَّة ، وما هو من خصائصِ الحدثان وسِماتِ الخْلق يتقدَّس الحقُّ - سبحانه - عن جميع ذلك . ولا تُشَبّه ذاتُ القديم بذواتِ المخلوقين ، ولا صفاتُه بصافتِهم ، ولا حُكمُه بحُكمِهم ، وأصلُ كلِّ ضلالةٍ التشبيهُ ، ومِنْ قُبْحِ ذلك وفسادِه أنَّ كلَّ أحدٍ يتبرَّأْ منه وستنكِفُ من انتحاله . ١٨الموجوداتُ لا تحصوها لِتقاصُرِ علومِكم عنها ، وما هو من نِعمَ الدفع نهاية له ، وهو غفور رحيم حيث يتجاوز عنكم إذا عجزتم عن شكره ، ويرضى بمعرفتكم ( . . . . ) لكم عن شكره . ١٩ما تُسِرُّون من الإخلاص وملاحظة الأشخاص . . فلا يخفى عليه حسبان ، وما تعلنون من الوفاق والشقاق ، والإحسان والعصيان . والآيةُ توجِبُ تخويف أَربابِ الزَّلاَّت ، وتشريفَ أصحاب الطاعات . ٢٠أخبر أن الأصنامَ لا يَصحُّ منها الخُلقُ لكونها مخلوقةً ، ودلَّت الآيةُ على أنَّ من وْجِدَتْ له سِمَةُ الخْلق لا يصِحُّ منه الخْلق ، والَخْلق هو الإيجاد؛ ففي الآية دليلٌ على خْلقِ الأعمال . ٢١لأنَّ مَنْ لَحِقَهُ وصفُ التكوين لا يصِحُّ منه الإيجاد . وفي التحقيق كُلُّ مَنْ عَلقَ قلبَه بشيءٍ ، وتَوَهَّم منه خيراً أو شراً فقد أشرك باللّه بظنَّه ، وإنما التوحيد تجريدُ القلبِ عن حسبان شظيّةٍ من النفي والإثبات من جميع المخلوقين والمخلوقات . ٢٢لا قَسِيم لِذَاتِه جوازاً أو وجوباً ، ولا شبيهَ له ولا شريك . . ومَنْ لم يتحققْ بهذه الجملة قطعاً ، وبشهادة البراهين له تفصيلاً فهو في دَرَكَاتِ الشِّرك واقعٌ ، وعن حقائق التوحيج بمعزل ، قال تعالى في صفة الكفار : { قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي في أَسْرِ الشِّرْكِ وغطاء الكفر ، ثم ليس فيه اتصاف لطلب العرفان؛ لأنَّ العلةَ - لِمَنْ أراد المعرفة- مُتاحة ، وأدلة الخْلق لائحة . ٢٣قوله جلّ ذكره : { لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } . فيفضحهم ويبيِّنُ نفاقَهم ، ويُعْلِنُ للمؤمنين كفرهم وشِقاقهم . قوله جلّ ذكره : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ } . دليل الخطاب أنه يحب المتواضعين المتخاشعين ، ويكفيهم فضلاً بشارة الحق لهم بمحبته لهم . ٢٤لَحقَهم شؤمُ تكذيبهم ، فأَصروا على إعراضهم عن النظر ، وقَسَتْ قلوبُهم ولم تجنح إلى الإقرار بالحق ، فَلَبِّسُوا على من يسائلهم ، وقالوا : هذا الذي جاء به محمد من أكاذيب العجم . فَضلُّوا وأَضَلوا . ٢٥لما سَعَوْا في الدنيا لغير اللّه لم تَصْفُ أعمالُهم ، وفي الآخرة حَمَلُوا معهم أوزارهم . . أولئك الذين خَسِروا في الدنيا والآخرة . ٢٦قوله جلّ ذكره : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } . اتصفوا بالمكر فحاق بهم مَكْرُهم ، ووقعوا فيم حفروه لغيرهم ، واغتروا بطول الإمهال ، فأخذهم العذابُ من مأْمَنِهم ، واشتغلوا بِلهوهِم فَنَغَّصَ عليهم أطيب عَيْشهم : قوله جلّ ذكره : { فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وََأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } . الذي وصف نفسه به في كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة ، وذلك على عادة العرب في التوسع في الخطاب . وهو سبحانه يكشف الليلَ ببَدْره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمَكْره ، وفي معناه قالوا : وأَمِنْتُه فأَتَاحَ لي من مأْمَني ... مكْراً ، كذا مَنْ يَأْمَنُ الأياما ٢٧في الدنيا عاجلُ بلائهم ، وبين أيديهم آجِلُه . وحَسْرةُ المُفِلس تتضاعف إذا ما حُوسِبَ ، وشاهَدَ حاصِلَه . { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ . . . } : يُسْمِِعُ الكافرين قولَ المؤمنين ، ويبيِّن للكافة صِدْقَهم . ويقع الندمُ على جاهلهم . وأما اليومَ فعليهم بالصبر والتحمُّل ، وعن قريب ينكشف الغطاء ، وأنشد بعضهم : خليليَّ لو دارت على رأسِيَ الرَّحى ... من الذُّلِّ لم أَجْزَعْ ولم أَتَكلَّمِ وأطرقتُ حتى قيل لا أعرفُ الجفا ... ولكنني أفصحتُ يومَ التكلُّمِ ٢٨-٢٩{ ظَالِمِى أَنْفُسِهِمْ } : بارتكاب المعاصي وهم الكفار . { فَأَلْقُوا السَّلَمَ } : انقادوا واستسلموا لحكم اللّه . { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } : جحدوا وأنكروا ما عملوا من المخالفات . { بَلَى إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } : هكذا قالت لهم الملائكة ، ثم يقولون لهم : { فَادْخُلُوا أَبْوَابَ . . . } : وكذلك الذين تقسو نفوسُهم بإعراضهم عن الطاعات إذا نزَلَتْ بهم الوفاةُ يأخذون في الجزع وفي التضرع ، ثم لا تطيبُ نفوسهم بأن يُقِرُّوا بتفاصيل أعمالهم عند الناس ، فيما يتعلق بإرضاء خصومهم لم أَخَلُّوا من معاملاتهم ، ثم اللّه يؤاخذهم بالكبير والصغير ، والنقير والقطمير ، ثم يبقون أبداً في وبال ما أحقبوه ، لأن شؤم ذلك يلحقَهم في أُخراهم . ٣٠أما المسلمون فإذا وردوا عليهم ، وسألوهم عن أحوال محمد - صلى اللّه عليه وسلم - وعما أَنزل اللّه عليه ، قالوا : دينه حقٌّ ، واللّه أَنزل عليه الحقَّ . . والذين أحسنوا في الدنيا يجِدُون الخير في الآخرة . ويقال في هذه الدنيا حسنة ، وهي ما لهم من حلاوة الطاعة بصفاء الوقت ويصحُّ أن تكونَ تلك الحسنةُ زيادةَ التوفيق لهم في الأعمال ، وزيادةَ التوفيقِ لهم في الأحوال . ويصح أن يقال تلك الحسنة أَنْ يُوَفِّقَهم بالاستقامة على ما هم عليه من الإحسان . ويصح أن يقال تلك الحسنة أن يُبَلِّغهم منازلَ الأكابر والسادة . قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا }[ السجدة : ٢٤ ] . ويصح أن تكون تلك الحسنة ما يتعدَّى منهم إلى غيرهم من بركات إرشادهم للمريدين ، وما يجري على من اتبعهم مما أخذوه وتعلموه منهم ، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( لأن يهتدي بهداك رجل خير لك من حمر النعم ) . ثم قال : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خيْرٌ } ، لأن ما فيها يبقى ، وليس فيها خطر الزوال . ولأن في الدنيا مشاهدة وفي الآخرة معاينة . ٣١كما أن الإرادات والهمَمَ تختلف في الدنيا فكذلك في الآخرة ، وفي الخبر : ( مَنْ كان بحالةٍ لَقِيَ اللّه بها ) فَمِنْ مريدٍ يكتفي من الجنة بورودها ، ومن مريدٍ لا يكتفي من الجنة دون شهود ربِّ الجنة . ويقال إذا شاءوا أن يعودوا إلى ما فاتهم من قصورهم ، وما وجدوا في ذلك من صحبة اللَّعينِ في سائر أحوالهم وأمورهم يسلم لهم ذلك ، ومن شاء أن تدومَ رؤيتُه ، ويتأبَّدَ سماعُ خطابه فلهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ، وهو ما لم يخطر ببال أحد . ٣٢يقبض أرواحَهم طيبً . أويقال : { طَيِّبِينَ } حال . والأسباب التي تطيب بها قلوبُهم وأرواحُهم مختلفة ، فمنهم مَنْ طاب وقتُه لأنه قد غُفِرَتْ ذنوبُه ، وسُتِرتْ عيوبه ، ومنهم مَنْ طاب قلبُه لأنه سَلَّمَ عليه محبوبُه ، ومنهم من طاب قلبه لأنه لم يَفُتْه مطلوبه . ومنهم من طاب وقته لأنه يعود إلى ثوابه ، ويصل إلى حُسْنِ مآبه . ومنهم من يطيب قلبه لأنه أَمِنَ من زوال حالِه ، وحظي بسلامة مآله ، ومنهم من يطيب قلبُه لأنه وصل إلى أفضاله ، وآخر لأنه وصل إلى لطف جماله ، وثابث لأنه خُصَّ بكشف جلاله - قد عَلِمَ كلُّ أناسٍ مَشْرَبَهم . ويقال : { تَتَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ } طيبة نفوسهم أي طاهرةٌ من التدنُّس بالمخالفات ، وطاهرةً قلوبهُم عن العلاقات ، وأسرارهم عن الالتفات إلى شيء من المخلوقات . قوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيّكُمُ } إِحْظَوْا بالجنة ، منهم مَنْ يخاطبه بذلك المَلَكَ ، ومنهم مَنْ يُكَاشِفه بذلك المَلِكُ . ٣٣-٣٤القوم ينتظرون مجيءَ المَلَكِ لأنهم لم يعرفوه ولم يعتقدوا كونَه . ولكن لمَّا كانوا يستعجلون معتقدين أن الرسلَ غيرُ صادقين ، ولمَّا سلكوا مسلكَ أضرابهم من المتقدمين- عوملوا بمثل ما لَقِي أسلافُهم ، وما كان ذلك من اللّه ظلماً ، لأنه يتصرف في مُلْكه من غير حُكْم حاكم عليه . ٣٥خَبثَتْ قصودُهم فيما قالوا على وجه التكذيب والاستهزاء ، وغَلَبَتْ على نطقهم ظلمات جهلهم وجحدهم ، وانكشف عدمُ صِدْقِهم في أحوالهم . وقولهم : { لَوْ شَآءَ اللّه مَا عَبَدَنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ . . . } يشبه قولهم : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللّه أَطْعَمَهُ }[ يس : ٤٧ ] . ولا خلاف أن اللّه لو شاء أن يطعمهم لكان ذلك . ٣٦لم يُخْلِ زماناً من الشرع توضيحاً لحجته ، ولكن فرَّقهم في سابِق حُكْمِه؛ ففريقاً هداهم ، وفريقاً حَجَبَهم وأعماهم . ٣٧ألزمهم الوقوفَ على حدِّ العبودية في إرادة هدايتهم ومعرفتهم حقائق الربوبية فقال : إنك وإنْ كنتَ بأمرنا لك حريصاً على هدايتهم؛ فإن من قَسَمْتُ له الضلالَ لا يجري عليه غيرُ ما قَسمْتُ له . ويقال لمن ألبستُه صدارَ الضلال لا تنزعه وسيلةٌ ولا شفاعة . ٣٨القَسَمُ يؤكِّد الخبرَ ، ولكنَّ يمينَ الكاذب توجِب ضَعْفَ قوله؛ لأنه كلما زاد في جحد اللّه ازداد القلبُ نفرةً . ٣٩إذا بيَّن اللّه صِدْقَ ما ورد به الشرع في الآخرة بكشف الغيب زاد افتضاحُ أهل التكذيب فيكون في ذلك زيادةٌ لهم في التعذيب . ٤٠فيكون بالسمع عِلْمُ تَعَلُّقِ قَوْلِه بما يفعله ، وحَمَله قومٌ على أن معناه أنه لا يتعسَّرُ عليه فعلُ شيءٍ أراده ، فالآية على القولين جميعاً . والذي لا يحتاج في فعله إلى مادة يخلق منها لا يفتقر إلى مدةٍ يقع الفعل فيها . وتدل الآيةُ على أنَّ قولَه ليس بمخلوق؛ إذ لو كان مخلوقاً لكان مقولاً له : كن ، وذلك القول يجب أن يكون مقولاً له بقولٍ آخر . . . وهذا يؤدي إلى أن يتسلسل ما يحصل إلى ما لا نهاية له . ٤١مَنْ هَاجَرَ عن أوطان السوء- في اللّه- أبدل له اللّه في جوار أوليائه ما يكون له في جوارهم معونَةٌ على الزيادة في صفاء وقته ، ومَنْ هَجَرَ أوطانَ الغفلة مَكَّنَهُ اللّه مِنْ مشاهدِ الوصلة . ومَنْ فَارقَ مجالسة المخلوقين ، وانقطع بقلبه إليه - سبحانه - باستدامة ذكره - فكما في الخبر : ( أنا جليس من ذكرني ) وبدايةُ هؤلاء القوم نهايةُ أهل الجنة؛ ففي الخبر ( الفقراء الصابرون جلساءُ اللّه يوم القيامة ) ويقال القلبُ مطلومٌ من جهة النَّفْس لما تدعوه إليه من شهواتها ، فإذا هجرها أورث اللّه القلبَ أوطانَ النَّفْس حتى تنقادَ لما يطالِبُ به القلبُ من الطاعة؛ فبعد ما تكون أوطان الزَّلَّةِ بدواعي الشهوة تصير أوطانَ الطاعة لسهولة أدائها . ٤٢الصبرُ الوقوفُ بحسب جريان القضاء ، والتوكل التوقي باللّه بُحُسْن الرجاء . ويقال صبروا في الحال ، وتوكلوا على اللّه في تحقيق الآمال . ويقال الصبر تحسِّي كاساتِ المقدور ، والتوكل الثقة في اللّه في استدفاع المحذور . ويقال الصبرُ تجرُّعُ ما يُسْقَى ، والتوكل الثقة بما يرجو . ويقال إنما يقوَوْن على الصبر بما حققوا من التوكل . ٤٣تعجبوا أن يكون من البَشَرِ رُسلاً ، فأخبر أنَّ الرسلَ كلّهم كانوا من البشر ، وأَنَّ فيمن سبق مَنْ أَقَرَّ بذلك . { أَهْلَ الذِّكْرِ } هم العلماء؛ والعلماء مختلفون : فالعلماءُ بالأحكام إليهم الرجوعُ في الاستفتاء من قِبَل العوام فَمَنْ أُشْكِل عليه شيءٌ من أحكام الأمر والنهي يرجع إلى الفقهاء في أحكام اللّه ، ومن اشتبه عليه شيءٌ من علم السلوك في طريق اللّه يرجع إلى العارفين باللّه ، فالفقيه يوقِّع عن اللّه ، والعارف ينطق- في آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها - عن اللّه ، فهو كما قيل : أليس حقاً نطقت بين الورى فاشتهرت ، كاشفها يعلم ما منَّ عليها فجرت ، فهي عناء به عينيه قد طهرت . ٤٤أي إن البيانَ إليك ، فأنت الواسطة بيننا وبينهم ، وأنت الأمين على وحينا . ٤٥-٤٧العبدُ في جميع أحواله عُرْضَةٌ لِسِهام التقدير ، فينبغي أن يستشعر الخَوفَ في كلِّ نَفَسِ من الإصابة بها ، وألاَّ يأمنَ مَكْرَ اللّه في أي وقت ، وأكثر الأسنة تعمل في الموطأةِ نفوسُهم وقلوبُهم على ما عَوَّدهم الحقُّ من عوائد المِنَّة ، ولكن كما قيل : يا راقدَ الليل مسروراً بأَوَّلِه ... إن الحوادثَ قد يَطْرُقْنَ أسحارا ٤٨كل مخلوقٍ من عين أو أثر ، مِنْ حَجَر أو مَدَرٍ أو غَبَرٍ فللّه- من حيث البرهان - ساجد ، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد . ٤٩ذلك سجود شهادة لا سجود عبادة ، فإذا امتَنَعَتْ عن إقامة الشهادة لقوم قالةٌ ، فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة . ٥٠يخافون اللّه أن يُنزلَ عليهم عذاباً من فوق رؤوسهم . { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرَونَ } لا يعصونه ولا يحيدون عن طاعته . ويقال خيرُ شيء للعبد في الدنيا والآخرة الخوفُ؛ إذ يمنعه من الزَّلة ويحمله على الطاعة . ٥١-٥٢قوله جلّ ذكره : { وَقَالَ اللّه لاَ تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَينِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } . الحاجة إلى إثبات صانعٍ واحد داعية ، وما زاد على الواحد ( فالا . . . . ) فيه متساوية . ويقال إثبات الواحد ضرورة ، وقُدْرَةُ الاثنين محصورة . قوله جلّ ذكره { وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّه تَتَّقُونَ } . له الدين خالصاً وله الدين دائماً ، وله الدينُ ثابتاً ، فاطاعة له واجبة ، فلا تتقوا غيره ، وأطيعوا شَرْعَه بخلاف هواكم ، واعبدوه وَحْدَه ، واستجيبوا له في المَسَرَّةِ والمَضَرَّة . ٥٣قوله جلّ ذكره : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه } . النْعمة ما يُقَرِّبُ العبدَ من الحق ، فأمَّا ما لا يوجِب النسيانَ والطغيان ، والغفلةَ والعصيانَ فأَوْلَى أن يكون محبة . ويقال ما للعبد فيه نفع ، أو يحصل به للشر منع فهو على أصح القولين نعمة؛ سواء كان دينياً أو دنيوياً ، فالعبد مأمورٌ بالشكر على كل حال . وأكثر الناس يشكرون على نعم الإحسان ، { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ }[ سبأ : ١٣ ] على كل حال . وفائدةُ الآيةِ قَطْعُ الأسرارِ عن الأغيار في حالتي اليُسْر والعُسْر ، والثقة بأن الخير والشر ، والنفع والضر كلاهما من اللّه تعالى . قوله جلّ ذكره : { ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } . إذ ليس لكم سواه؛ فإذا أَظَلَّتْ العبدَ هواجمُ الاضطرار التجأَ إلى اللّه في استدفاع ما مَسَّه من البلاء ثم إذا مَنَّ الحقُّ عليه ، وجاد عليه بكشف بلائه صار كَأَنْ لم يمسه سوءٌ أو أصابه همٌّ كما قيل : كأنَّ الفتى لم يَعْرَ يوماً إذا اكتسى ... ولم يَكُ صعلوكاً إذا ما تَمَوَّلاَ ٥٤الخطاب عام ، وقوله : { مِّنكُم } : لأنَّ القومَ منهم . ٥٥في هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامةٌ ، ويعتذرون حين لا يُقْبَلُ لهم عُذْرٌ . . ومَنْ زَرَعَ شراً فلن يَحْصُدَ إلا جزاءَ عَمَلهِ . ٥٦أي يجعلون لما لا يعلمون وهي أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم نصيباً من أرزاقهم؛ فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا . { تَاللّه } أقسم إنهم سيلْقَوْن عقوبةَ فِعْلِهم . ٥٧من فَرْطِ جهلهم وصفوا المعبودَ بالولد ، ثم زاد اللّه في خذلانهم حتى قالوا : الملائكة بنات اللّه . وكانوا يكرهون البنات ، فرضوا للّه بما لم يرضوا لأنفسهم . ويلتحق بهؤلاء في استحقاق الذمِّ كلُّ مَنْ آثر حَظَّ نَفْسِه على حقِّ مولاه ، فإِذا فعل مَالُه فيه نصيبٌ وغرضٌ كان مذمومَ الوصف ، ملوماً على ما اختاره من الفعل . ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه وتصفون به من كراهةِ أَنْ تُولَد لهم الإناثُ . ٥٨-٥٩استولت عليهم رؤية الَخْلق ، وملكتهم الحيرة ، فَلحَقُّوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البَعْلِ فيهن . . . وهذه نتائج الإقامة في أوطان التفرقة ، والغيبة عن شهود الحقيقة . ثم قال : { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } أي يحبس المولودَ إذا كان أنثى على مَذَلَّة ، { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ } ليموت؟ وتلك الجفوةُ في أحوالهم جعلَتْ - من قساوة قلوبهم في أحوالهم - العقُوبةَ أشدَّ مما كانت بتعجيلها لهم . وجَعَلَهُم فرطُ غيظهم ، وفَقْدُ رضائهم ، وشدة حنقهم على من لا ذنبَ له من أولادهم - من أهل النار في دَرَكَاتِ جهنم ، وتكدَّر عليهم الوقتُ ، واستولت الوحشةُ . . . ونعوذ باللّه من المَثَلِ السوء! ٦٠-٦١مَثَلُ السوءِ للكفار الذين جحدوا توحيدَه فلهم صفة السوء . وللّه صفات الجلال ونعوت العِزِّ ، ومَنْ عَرَفَه بنعت الإلهية تَمَّتْ سعادتُه في الدارين ، وتعجلت راحته ، وتنَّزه سِرُّه على الدوام في رياضِ عرفانه ، وطَرِبَتْ روحُه أبداً في هيجان وَجْدِه . أمَّا الذين وُسِمُوا بالشِّركِ ففي عقوبة مُعَجَّلة وهموم مُحَصَّلة . { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه . . . } أي لو عاملهم بما استحقوا عاجلاً لَحَلَّ الاستئصالُ بهم ، ولكنَّ الحُكْمَ سَبَقَ بإمهالهم ، وسَيَلْقَوْن غِبَّ أعمالِهم في مآلهم . ٦٢انخدعوا لمَّا لانَ لهم العيشُ ، فظنوا أنهم ينجون ، وبما يُؤَمِّلونه يحيطون؛ فَحسُنَتْ في أعينهم مقابحُ صفاتهم ، ويومَ يُكْشَفَ الغطاءُ عنهم يعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة ، فلا تسْمَعُ منهم دعوة ، ولا تتعلق بأحدهم رحمة . ٦٣أنزل هذه الآية على جهة التسلية للنبي - صلى اللّه عليه وسلم - وذلك أنه أخبر أن مَنْ تَقدَّمَه من الأمم كانوا في سلوك الضلالة ، والانخراط في سِلْكِ الجهالة كما كان من قومه ، ولكن اللّه - سبحانه - لم يعجز عنهم . وكما سَوَّلَ الشيطانُ لأُمَّتِه ، وكان ولياً لهم ، فهو وليُّ هؤلاء . وأمَّا المؤمنون فاللّه وليُّهم ، والكافرون لا مَوْلى لهم . ٦٤أنت الواسطة بيننا وبين أوليائنا ، ولك البرهان الأعلى والنور الأوفى؛ تُبَلِّغُ عنَّا وتؤدِّي مِنَّا ، فأنت رحمةٌ أرسلناك لأوليائنا . . . فَمَنْ تَبِعَكَ اهتدى ، ومَنْ عصاك ففي هلاكه سعى . ٦٥أحياء بماء التوفيق قلوبَ العابدين فَجَنَحَتْ إلى جانب الوفاق ، وأحيا بماء التحقيق أرواح العارفين فاستروحت على بساط الوصال ، وأحيا بماء التجريد أسرار الموحدين فتحررت من رِقُ الآثار ، وانفردت بحقائق الاتصال . ٦٦سَخَّرَها لكم ، وهيأها للانتفاع بلحمها وشحمها ، وجِلْدِها وشَعْرِها ودَرِّها ، وأصلها ونَسْلِها . ثم عجيبٌ ما أظهر من قدرته من إخراج اللبن- مع صفائه وطعمه ونَفْعِه- من بين الروث والدم ، وذلك تقدير العزيز العليم . والذي يقدر على حفظ اللبن بين الروث والدم يقدر على حفظ المعرفة بين وحشة الزَّلَّةِ من وجوهها المختلفة . ٦٧مَنَّ على العباد بما خَلَقَ لهم من فنون الانتفاع بثمرات النخيل كالتمر والرطب واليابس . . وغير ذلك . والرزق الحسن ما كان حلالاً . ويقال هو ما أتاك من حيث لا تحتسب ، ويقال هو الذي لا مِنَّة لمخلوقٍ فيه ولا تَبِعَةَ عليه . ويقال هو ما لا يعصي اللّه مكتسبُه في حال اكتسابه . ويقال هو ما لا يَنْسَى اللّه فيه مُكْتَسِبُه . ٦٨-٦٩أوحى إلى النحل : أراد به وحي إلهام . . ولما حَفِظَ الأمر وأكل حلالاً ، طَابَ مأكلُه وجعل ما يخرج منه شفاءً للناس . ثم إن اللّه - سبحانه- عَرَّفَ الخَلْقَ أَنَّ التفصيل ليس من جهة القياس والاستحقاق؛ إذ أن النحلَ ليس له خصوصية في القامة أو الصورة أو الزينة ، ومع ذلك جعل منه العَسَلَ الذي هو شفاء للناس . والإنسان مع كمال صورته ، وتمام عقله وفطنته ، وما اختص به الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى . . . فأيُّ فضيلةٍ للنحل؟ وأيُّ ذنبٍ لإنسان؟ ليس ذلك إلا إختياره - سبحانه . ويقال إن اللّه - سبحانه - أجرى سُنَّتَه أَنْ يُخْفِيَ كلَّ شيء عزيز في شيءٍ حقير؛ فجعل الإبْرَيَسْمَ في الدود وهو اضعف الحيوانات وجعل العسل في النحل وهو أضعف الطيور ، وجعل الدُّرَّ في الصدف وهو أوحش حيوان من حيوانات البحر ، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج في الحجر . . . كذلك أودع المعرفة به والمحبة له في قلوب المؤمنين وفيهم من يعصي وفيهم من يخطئ . ٧٠خَلَق الإنسانَ في أحسن تركيب ، وأملح ترتيب ، في الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة ، والنور والضياء ، والفهم الذكاء ، ورَزَقَه من العقل والتفكر ، والعلم والتبصر ، وفنون المناقب التي خُصَّ بها من الرأي والتدبير ، ثم في آخر عمره يجعله إلى أرذل العمر مردوداً ، ويرى في كل يوم أَلَماً جديداً . ويقال : { وَمِنكُم مَّن يُرّدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ } : وهو أن يرد إلى الخذلان بعد التوفيق؛ فهو يكون في أول أحوال عمره مطيعاً ثم يصير في آخر عمره عاصياً . ويقال أرذل العمر أن يرغب في عنفوان شبابه في الإرادة ، ويسلك طريق اللّه مدةً ، ثم تقع له فترةٌ فيفسخ عقد إرادته ، ويرجع إلى طلب الدنيا . وعند القوم وهذه رِدَّةٌ في هذا الطريق . ويقال أرذلُ العمر رغبةُ الشيخ في طلبٍ . ويقال أرذلُ العمر حُبُّ المرءِ للرياسة . ويقال أرذلُ العمر اجتماع المظالم على الرجل وألا يُرْضِيَ خصومَه . ٧١أرزاق المخلوقات مختلفة؛ فَمِنْ مضَيَّقٍ عليه رزقُه ، ومَنْ مُوَسَّع عليه رزقه ، ومِنْ أرزاق هي أرزاق النفوس ، وأرزاقٍ للقلوب وأرزاق للأرواح ، وأرزاق للأسرار؛ فأرزاقُ النفوسِ لقوم بتوفيق الطاعات ، ولآخرين بخذلان المعاصي . وأرزاق القلوب لقومٍ حضورُ القلب باستدامة الفكر ، ولآخرين باستيلاء الغفلة ودوام القسوة . وأرزاق الأرواح لقوم صفاء المحبة ، ولآخرين اشتغال أرواحهم بالعلاقة بينهم وبين أشكالهم ، فيكون بلاؤهم في محبتهم لأمثالهم . وأرزاق الأسرار لا تكون إلا بمشاهدة الحقِّ ، فأمَّا من لم يكن من هذه الجملة فليس من أصحاب الأسرار . ٧٢قوله جلّ ذكره : { وَاللّه جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } . شَغَلَ الخَلْقَ لأنَّ الجنس أَوْلَى بالجنس . ولمَّا أراد الحقُّ- سبحانه - بقاء الجنس هَيَّأَ سبب التناسب والتناسل لاستيفاء مثل الأصل ، ثم مَنَّ على البعض بخلْق البنين ، وابتلى قوماً بالبنات - كلُّ بتقديره على ما يشاء . قوله جلّ ذكره : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّه هُمْ يَكْفُرُونَ } . والرزق الطيب لعبدٍ ما تستطيبه نَفْسُه ، ولآخر ما يستطيبه سِرُّه . فمنهم من يستطيب مأكولاً ومشروباً ، ومنهم من يستطيب خلوةً وصفوة . . . إلى غير ذلك من الأرزاق . { أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } ، وهو حسبان حصول شيءٍ من الأغيار ، وتعلُّق القلبِ بهم استكفاءً منهم أو استدفاعاً لمحذور أو استجلاباً لمحبوب . { وَبِنِعْمَتِ اللّه هُمْ يَكْفُرُونَ } والنعمة التي كفروا بها هي الثقةُ باللّه ، وانتظارُ الفَرَجِ منه ، وحسنُ التوكل عليه . ٧٣ومَنْ يَتَعَلَّقُ بشخص أو بسببٍ مُضَاهٍ لعُبَّاد الأصنام من حيث إنه يضيِّعُ وقتَه فيما لا يُعِينُه ، فالرزقُ ، من اللّه - في التحقيق - مُقَدَّرٌ . ٧٤كيف تُضْرَبُ ألأمثالُ لمن لا يساويه أحدٌ في الذات والصفات وأحكام الأفعال؟ ومَنْ نَظَرَ إلى الحقِّ من حيث الخَلْق وقع في ظلمات التشبيه ، وبقي عن معرفة المعبود . ٧٥شبَّهَ الكافرَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ولا مِلْكَ له في الشرع ، والمؤمنَ المخلصَ بمَنْ رَزَقَه الخيراتِ ووفقه إلى الطاعات ثم وعده الثوابَ وحُسْنَ المآبِ على ما أنفقه . ثم نفى عنهما المساواة إذ ليس مَنْ كان بنفْسِه ، ملاحظاً لأبناء جِنْسِه ، متمادياً في حسبان مغاليطه كمَنْ كان مُدْرِكاَ بربِّه مصْطَلماً عن شاهده ، غائباً عن غيره ، والمُجرِي عليه ربُّه ولا حَوْلَ له إلا به . ٧٦هذا المَثلُ أيضاً للمؤمن والكفار؛ فالكافر كالجاهل الأبكم الذي لا يجيء منه شيءٌ ، ولا يحصل منه نفع ، والمؤمن على الصراط المستقيم يتبرأ عن حَوْلِه وقُوَّتِه ، ولا يعْترف إلا بطوْلِه- سبحانه - ومِنَّتِه . ٧٧استأثر الحقُّ- سبحانه - بعلم الغيبيات ، وسَتَرهَا على الخلْق؛ فيخرِجُ قوماً في الضلالة ثم ينقلهم إلى صفة الولاية ، ويقيم قوماً برقم العداوة ثم يردهم إلى وصف الولاية . . فالعواقبُ مستورة ، والخواتيم مبهمة ، والخَلْقُ في غفلة عما يُرَادُ بهم . ٧٨خلَقهُم مِنْ غير أَنْ شاورهم ، وأثبتهم - على الوصف الذي أراده- دون أن خَيَّرهم ، ولم يعلموا بماذا سبق حُكْمُهم . . أبا لسعادة خلقهم أم على الشقاوة من العدَم أخرجهم من بطون أمهاتهم؟ فلا صلاحَ أَنْفُسِهِمْ عَلِمُوا ، ولا صفةَ ربِّهم عَرفوا . ثمَّ بحُكْم الإلهام هداهم حتى قَبِّلَ الصبيُّ ثدي أمه وإن لم يكن قد تقدمه تعريف أو تخويف أو تكليف أو تعنيف . { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ } : لتسمعوا خطابه ، { وَالأَبْصَارَ } لتُبصِروا أفعالَه ، { وَالأَفْئدَةَ } لِتَعْرِفُوا حقَّه ، ثم لتَشكروا عظيم إنعامه عليكم بهذه الحواس . ٧٩الطائر إذا حَلّقَ في الهواء يبقى كالواقف ولا يسقط ، وقد قامت الدلالة على أن الحقَّ- سبحانه - متفرِّدٌ بالإيجاد ، ولا يَخْرُجُ حادثٌ عن قدرته ، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته سبحانه . ٨٠للنفوس وطن ، وللقلوب وطن . والناس على قسمين مستوطنٌ ومسافر : فكما أن الناس بنفوسهم مختلفون فكذلك بقلوبهم؛ فالمريد أو الطالب مسافِرٌ بقلبه لأنه يَتَلَوَّنُ ، ويرتقي من درجة إلى درجة ، والعارف مقيمٌ ومستوطِنٌ لأنه واصل متمكن . والطريق منازلُ ومراحلُ ، ولا تقطع تلك المنازل بالنفوس وإنما تقطع بالقلوب ، والمريد سالِكُ والعارف واصِلٌ . ٨١في الظاهر جعل لكم من الأشجار والسقوف ونحوها ظلالاً . . . كذلك جعل في ظل عنايته لأوليائه مثوًى وقراراً . وكما سَتَرَ ظواهركم بسرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأس عدوكم - كذلك ألبس سرائركم لباساً يلفكم به في السراء والضراء ، ولباسَ العصمة يحميكم من مخالفته ، وأظلكم بظلال التوفيق مما يحملكم على ملازمة عبادته ، وكساكم بحُلَلِ الوصل مما يؤهلكم لقربته وصحبته . قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ . . . } ، إتمام النعمة بأنتكون عاقبتُهم مختومة بالخير ، ويكفيهم أمورَ الدين والدنيا ، ويصونهم عن اتباع الهوى ، ويُسَدِّدُهم حتى يؤثروا ما يوجِبُ من اللّه الرضاء . ٨٢إذا بَلَّغْتَ الرسالة فما جعلنا إليك حكم الهداية والضلالة . ٨٣يَسْتَوْفِقُونَ إلى الطاعةِ ، فإذا فعلوا أُعجِبُوا بها . ويقال يستغيثون ، فإذا أجابهم قَصَّروا في شُكْرِه . ويقال إذا وَقَعَتْ لهم محنةٌ استجاروا بربهم ، فإذا أزال عنهم تلك المحن نسوا ما كانوا فيه من الشدة ، وعادوا إلى قبيح ما أسلفوه من أعمالهم التي أوجبت لهم تلك الحالة . ويقال يعرفون في حال توبتهم قُبْحَ ما كانوا فيه حال زلتهم ، فإذا نقضوا توبتهم صاروا كأنهم لم يعرفوا تلك الحالة . ٨٤إذا كان يومُ الحشر سأل الرسلُ عن أحوال أُمَمِهم ، فمن نَطَقَ بحجةٍ أُكْرِمَ ، ومَنْ لم يُدْلِ بحجةٍ لا تُراعى له حُرْمةٌ . ٨٥أي يُشَدَّد عليهم الأمرُ ولا يُسَهَّل . ٨٦تمنوا أن يَنْقُموا من إخوانهم الذين عاشروهم ، وحملوهم على الزَّلَّة ، فيتبرأون من شركائهم ، ويلعن بعضهم بعضاً ، وتضيق صدورهم من بعض . ٨٧-٨٨قوله جلّ ذكره : { وَأَلْقَوْا إِلَى اللّه يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } واستسلمو لأمر اللّه وحُكْمه ، ويؤمئذ لا تضرُّع منهم يُرَى ، ولا مِحْنَةَ- يصرخون من ويلها - عنهم تُكْشَف . ٨٩تأتي - يومَ القيامة - كلُّ أمة مع رسولها ، فلا أُمةَ كهذه الأمةِ فضلاً ، ولا رسولَ كرسولنا صلى اللّه عليه وسلم - رتبةً وقَدْرَاً . { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ } أي القرآن تبياناً لكل شيء ، فيه للمؤمنين شفاء ، وهو لهم ضياء ، وعلىلكافرين بلاء ، وهو لهم سبب محنة وشقاء . ٩٠العدل ما هو صواب وحسن ، وهو نقيض الجور والظلم . أمر اللّه الإنسانَ بالعدل فيما بينه وبين نفسه ، وفيما بينه وبين ربه ، وفيما بينه وبين الخَلْق؛ فالعدلُ الذي بينه وبين نفسه مَنْعُها عما فيه هلاكُها ، قال تعالى : { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى }[ النازعات : ٤٠ ] ، وكمالُ عدلِه مع نفسه كيُّ عُروقِ طمعِه . والعدلُ الذي بينه وبين ربِّه إيثارُ حقِّه تعالى على حظِّ نفسه ، وتقديمُ رضا مولاه على ما سواه ، والتجرد عن جميع المزاجر ، وملازمة جميع الأوامر . أو العدل الذي بينه وبين الخَلْق يكون ببذل النصيحة وترك الخيانة فيما قل أو كثر ، والإنصاف بكل وجه وألا تَشِيَ إلى أحد بالقول أو بالفعل ، ولا بِالهَمِّ أو العزم . وإذا كان نصيبُ العوام بَذْلَ الإنصافَ وكَفِّ الأذى فإِنَّ صفةَ الخواص تَرْكُ الانتصاف ، وإسداءُ الإِنْعَام ، وترك الانتقام ، والصبرُ ، على تَحَمُّلِ ، ما يُصيبُكَ من البلوى . وأما الإحسان فيكون بمعنى العلم - والعلمُ مأمورٌ به - أي العلم بحدوثِ نَفْسه ، وإثباتِ مُحْدِثه بصفات جلاله ، ثم العلم بالأمور الدينية على حسب مراتبها . وأما الإحسانُ في الفعل فالحَسَنُ منه ما أمر اللّه به ، وأَذِنَ لنا فيه ، وحَكَمَ بمدح فاعله . ويقال الإحسان أن تقوم بكل حقِّ وَجَبَ عليك حتى لو كان لطيرٍ في مِلكِك ، فلا تقصر في شأنه . ويقال أن تَقْضِيَ ما عليك من الحقوق وألا تقتضِيَ لك حقاً من أحد . ويقال الإحسان أن تتركَ كل ما لَكَ عند أحد ، فأما غير ذلك فلا يكون إحساناً . وجاء في الخبر : ( الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ) وهذه حال المشاهدة التي أشار إليها القوم . قوله : { وَإِيِتَآئِ ذِى القُرْبَى } إعطاء ذي القرابة ، وهو صلةُ الرَّحِمِ ، مع مُقاساةِ ما منهم من الجَوْرِ والجفاءِ والحَسَدِ . { وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَآءِ وَالمُنْكَرِ } : وذلك كلُّ قبيح مزجورٍ عنه في الشريعة . ٩١يُفْرَضُ على كافةِ المسلمين بعهد اللّه في قبول الإسلام والإيمان ، فتجبُ عليهم استدامةُ الإيمان . ثم لكلِّ قوم منهم عهدٌ مخصوص عاهدوا اللّه عليه ، فهم مُطَالَبُون بالوفاء به؛ فالزاهدُ عَهْده ألا يرجعَ إلى الدنيا ، فإذا رجع إلى ما تركه منها فقد نَقضَ عهده ولم يفِ به . والعابد عاهده في تَرِكِ الهوى . والمريدُ عَاهَدَه في ترك العادة ، وآثره بكل وجه . والعارف عهده التجرد له ، وإنكار ما سواه . والمحب عهده تركُ نَفْسِهِ معه بكل وجه والموحّضد عهده الامتحاء عنه ، وإفراده إياه بجميع الوجوه والعبد مَنْهِيٌّ عن تقصير عهده ، مأمورٌ بالوفاء به . ٩٢قوله جلّ ذكره : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } مَنْ نَقَضَ عهده أفسد بآخِرِ أمرِه أَوَّلَه ، وهَدَمَ بِفِعْلِهِ ما أَسَّسَه ، وقَلَعَ بيده ما غَرَسَه ، وكان كمن نقضت غَزْلَها من بعد قوة أنكاثاً أي من بعد ما أبرمت فَتْلَه . وإنَّ السالكَ إذا وقعت له فترة ، والمريدََ إذا حصلت له في الطريق وقفةٌ ، والعارف إذا حصلت له حجَبَةٌ ، والمحبِّ إذا استقبلته فرقةٌ- فهذه مِحَنٌ عظيمةٌ ومصائِبُ فجيعةٌ ، فكما قيل : فَلأَبْكِيَنَّ على الهلالِ تأسُّفاً ... خوفَ الكسوفِ عليه قبل تمامه فما هو إلا أَنْ تُكْشَفُ شَمْسهُم ، وينطفِئَ- في الليلة الظلماءِ- سِرجُهم ، ويتشتَّتَ من السماء نجومِهم ، ويصيبَ أزهارَ أنْسِهم وربيعَ وَصْلِهم إعصارٌ فيه بلاءٌ شديدٌ ، وعذابٌ أليم ، فإنَّ الحقَّ - سبحانه إذا أراد بقوم بلاءً فكما يقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئَدَتَهُم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }[ الأنعام : ١٠ ] فإِنَّ آثارَ سُخْطِ الملوكِ مُوجِعةُ ، وقصةَ إعراضِ السلطانِ مُوحِشَةٌ وكما قيل : والصبر يَحْسُنُ في المواطن كلها ... إلا عليكَ - فإنَّه مذمومٌ هنالك تنسكب العَبَرَاتُ ، وتُشَق الجيوب ، وتُلْطَم الخدود ، وتُعطَّلُ العِشار ، وتخَرَّبُ المنازلُ ، وتسودُّ الأبواب ، وينوح النائح : وأتى الرسول فأخ ... بر أنهم رحلوا قريبا رجعوا إلى أوطانهم ... فجرى لهم دمعي صبيبا وتركن ناراً في الضلوع ... وزرعن في رأسي مشيبا قوله جلّ ذكره : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّه بِهِ وَلَيُبَيِّنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . بلاءُ كلِّ واحدٍ على ما يليق بحاله؛ فمن كان بلاؤه بحديث النَّفْسِ أو ببقائه عن هواه ، وبحرمانه لكرائمه في عُقْباه فاسمُ البلاءِ في صفته مَجَازٌ ، وإنما هذا بلاء العوام . ولكنَّ بلاَءَ هذا غيرُ الكرامِ فهو كما قيل : مَنْ لم يَبِتَ- والحبُّ مِلْءُ قؤادِه ... لم يَدْرِ كيف تَفَتُّتُ الأكبادِ ٩٣ليست واقعةُ القوم بخسرانٍ يُصيبهم في أموالهم ، أو من جهة تقصيرهم في أعمالهم ولِمَا صنيَّعوه من أحوالهم . . فهذه - لعمري - وجوهٌ وأسبابٌ ، ولكنَّ سِرَّ القصةِ كما قيل : أنَا صَبٌّ لِمَنْ هَوَيْتُ ولكن ... ما احتيالي بسوء رأي الموالي؟ قوله : { وَلَوْ شَآءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } : لو شاء اللّه سَعَادَتَهمُ لَرَحِمَهُم ، وعن المعاصي عَصَمَهُم ، وبدوامِ الذكر- بَدَلَ الغفلة - ألهمهم . . . ولكن سَبَقَتْ القسمةُ في ذلك ، وما أحسن ما قالوا : شكا إليك ما وَجَدْ ... مَنْ خانه فيك الجَلَدْ حيرانُ . . لو شِئْتَ اهتدى ... ظمآنُ . . لو شِئْتَ وَرَدْ ٩٤أَبعَدَكُم عَدَمُ صِدْقِكم في إيمانِكم عن تحقُّقكم ببرهانكم ، لأنكم وقفتم على حَدِّ التردد دون القطع والتعيين ، فأفضى بكم تردُّدُكم إلى أوطانِ شِرْككُم ، إذ الشكُّ في اللّه والشِّركُ به قرينان في الحُكْم . ٩٥لا تختاروا على القيام بحقِّ اللّه والوفاءِ بعهده عِوَضَاً يسيراً مما تنتفعون به من حُطام دنياكم من حلالكم وحرامكم ، فإنَّ ما أعدَّ اللّه لكم في جناته - بشرط وفائكم لإيمانكم - يوفي ويربو على ما تتعجلون به من حظوظكم . ٩٦الذي عندكم عَرَضٌ حادث فانٍ ، والذي عند اللّه من ثوابكم في مآلِكُم نِعَمٌ مجموعةٌ ، لا مقطعوعةٌ ولا ممنوعة . ويقال ما عندكم أو ما منكم أو مالكم أفعالٌ معلولة وأحوالٌ مدخولة ، وما عند اللّه فثوابٌ مقيمٌ ونعيمٌ عظيمٌ . ويقال ما منكم من معارفكم ومحابكم آثارٌ متعاقبةٌ ، وأصناف متناوبة ، أعيانُها غيرُ باقية وإنكات أحكامُها غير باطلة والذي يتصف الحقُّ به من رحمته بكم ومحبته لكم وثباته عليكم فصفاتُ أزلية ونعوتٌ سرمدية . ويقال ما عندكم من اشتياقكم إلى لقائنا فَمُعرَّضُ للزوال ، وقابلٌ للانقضاء ، وما وَصَفْنَا به أَنْفُسَا من الإقبال لا يتناهي وأفضال لا تفْنى ، كما قيل : ألا طال شوقُ الأبرار الى لقائي ... وإني للقائهم لأَشَدُّ شوقا قوله : { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا . . . } : جزاءُ الصبر الفوزُ بالطِّلْبَةِ ، والظَّفَرُ بالبُغية . ومآلهم في الطلبات يختلف : فَمَنْ صَبَرَ على مقاساة مشقةٍ في اللّه . فعِوضُه وثوابُه عظيمٌ من قِبَل اللّه ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ }[ الزمر : ١٠ ] . ومَنْ صبر عن اتباع شهوةٍ لأَِجْل اللّه ، وعن ارتكاب هفوةٍ مخافةً للّه فجزاؤه كما قال تعالى : { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقًّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً }[ الفرقان : ٥٧ ] . ومَنْ صبر تحت جريان حُكْمِ اللّه ، متحققاً بأنه بِمَرْآةٍ من اللّه فقد قال تعالى : { إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ }[ البقرة : ١٥٣ ] . ٩٧الصالح ما يصلح للقبول ، والذي يصلح للقبول ما كان علىلوجه الذي أمر اللّه به . وقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً } : في الحال ، { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } : في المآل؛ فصفَاءُ الحالِ يستوجِبُ وفاءَ المآلِ ، والعملُ الصالحُ لا يكون من غير إيمان ، ولذا قال : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . ويقال { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي مصدِّقٌ بأن إيمانه من فضل اللّه لا بعمله الصالح . ويقال { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي مصدِّقٌ بأن عمله بتوفيق اللّه وإنشائه وإبدائه . قوله : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } : الفاء للتعقيب ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ . . . } الواو للعطف ففي الأولى مُعَجَّل ، وفي الثانية مؤجَّل ، ثم ما تلك الحياة الطيبة فإنه لا يُعْرَف بالنطق ، وإنما يعرف ذلك بالذوق؛ فقوم قالوا إنه حلاوة الطاعة ، وقوم قالوا إنه القناعة ، وقوم قالوا إنه الرضا ، وقوم قالوا إنه النجوى ، وقوم قالوا إنه نسيم القرب . . . والكل صحيحٌ ولكلِّ واحدٍ أهل . ويقال الحياة الطيبة مايكون مع المحبوب ، وفي معناه قالوا : نحن في أكمل السرور ولكنْ ... ليس إلا بكم يَتِمُّ السرورُ عَيْبُ ما نحن فيه يا أهلَ ودِّي ... أنكم غُيِّبٌ ونحن حُضُورُ ويقال الحياة الطيبة للأَولياء ألا تكون لهم حاجةٌ ولا سؤالٌ ولا أَرَبٌ ولا مُطَالَبَةٌ وفرقٌ بين من له إرادة فتُرْفَع وبين من لا إرادةَ له فلا يريد شيئاً ، الأولون قائمون بشرط العبودية ، والآخرون مُعْتَقُون بشرط الحرية . ٩٨شيطانُ كُلِّ واحدٍ ما يشغله عن ربه ، فمن تَسَلَّطَتْ عليه نَفْسُه حتى شَغَلَتْه عن ربه ولو بشهود طاعةٍ أو استحلاءِ عبادة أو ملاحظةِ حال - فذلك شيطانُه . والواجبُ عليه أن يستعيذَ باللّه من شرِّ نَفْسِه ، وشرِّ كل ذي شر . ٩٩أنَّى يكون للشيطانِ سلطانُ على العبد والحقُّ - سبحانه - متفرِّدٌ بالإبداع ، متوحِّدٌ بالاختراع؟ ١٠٠إنما سلطانُه على الذين هم في غطاء غفلتهم ، وستر ظنونهم ومشتبهاتهم . فأمَّا أصحاب التوحيد فإنهم يرون الحادثاتِ باللّه ظهورُها ، ومن اللّه ابتداؤها ، وإلى اللّه مآلها وانتهاؤها . ١٠١ما زادوا في طول مدتهم إلا شكاً على شكٍ ، وجحدوا على جحدٍ ، وجرَوْا على منهاجهم في التكذيب ، فلم يُصَدِّقوه صلى اللّه عليه وسلم ، وما زادوا في ولايته إلا شكاً ومُرْية : وكذا الملولُ إذا أَرَادَ قطيعةً ... مَلَّ الوصال وقال كان وكانا ١٠٢قوله : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالحَقِّ } : ردٌّ على فرط جهلهم بربهم ، وبُعْدِ رتبتهم عن التحصيل ، فلمَّا كانوا متفرقين في شهود المَلِكِ رُدُّوا في حين التعريف إليهم بِذِكْرِ المَلَكِ . ١٠٣لم يستوحش الرسولُ - صلى اللّه عليه وسلم - من تكذيبهم ، وخفاءِ حاله وقَدْرِه عليهم . . وأيُّ ضررِ يلحق مَنْ كانت مع السلطان مُجَالَسَتُه إذا خَفِيَتَ على الأَخسِّ مِنَ ابرعيةِ حالتُه؟ ثم إنه أقام الحجةَ في الردِّ عليهم حيث قال : { لِسَانُ الذِّى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } : فَمِن فَرْطِ جهلهم توهموا أنَّ القرآنَ- الذي عجز كافةُ الخَلْق عن معارضته في فصاحته بلاغته - مقولٌ وحاصلٌ باتصاله بِمَنْ هو أعجمي النطق . ١٠٤إنَّ منْ سَبَقَتْ بالشقاوة قسمتُه لم تتعلق من الحق - سبحانه - به رحمتُه ، ومَنْ لم يَهْدِهِ اللّه في عاجله إلى معرفِته لا يهديه اللّه في آجِلِه إلى جنته . ١٠٥هذا من لطائف المعاريض؛ إذ لمَّا وصفوه - عليه السلام - بالافتراء أنار الحقُّ - سبحانه - في الجواب ، فقال : لستَ أَنت المفترِي إنما المفترِي مَنْ كذَّبَ معبودَه وجَهِلَ توحيدَه . ١٠٦إذا عَلِمَ اللّه صِدْقَ عبده بقلبه ، وإخلاصَه في عَقْدِه ، ولحقته ضرورة في حاله خَفَّفَ عنه حُكْمَه ، ودَفَع عنه عناءَه فلا يَلْفِظُ بكلمة الكفر إلا مُكْرَهاً - وهو مُوَحِّدٌ ، وهو مستحقٌ العُذْرَ فيما بينه وبين اللّه تعالى . . . وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ، وتجردوا لسلوكِ طريق اللّه ثم عَرَضَتْ لهم أسبابٌ ، واتفقت لهم أعذارٌ ، كأن يكون لهم ببعض الأسباب اشتغالٌ أو إلى شيءٍ من العلوم رجوعٌ . . . لم يكن ذلك قادحاً في صحة إرادتهم ، ولا يُعَدُّ ذلك فسخاً لعهودهم ، ولا ينفي بذلك عنهم سِمَةَ القَصْدِ إلى اللّه تعالى . أَمَّا { مَّن شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً } : فرجع باختياره ، ووضع قَدَماً- كان قد رَفَعَه في طريق اللّه - بِحُكْمِ هواه فقد نَقَضَ عهْدَ إرادته ، وفَسَخَ عقده ، وهو مستوجب ( . . . . ) إلى ( . . . ) تتداركه الرحمة . ١٠٨إذا تمادى في غفلته ، ولم يتدارك حالَه بملازمةِ حَسْرَتِه ، ازداد قسوةً على قسوة ، ولم يستمتع بما هو فيه من قوة ، وكما قال جل ذكره : ١٠٩هم في الآخرة محجوبون ، وبِذُلِّ البعد موسومون . ١١٠ومَنْ صَبَرَ حين عزم الأمر ، ولم يجنح إلى جانب الرُّخَصِ ، وأخذ في الأمور بالأشَقِّ أكرم اللّه حَقِّه ، وقرَّب مكانَه ، ولَقَّاه في كل حالةِ بالزيادة ، وربحت صفقتُه حين خسِرَ أشكالُه ، وتَقَدَّم على الجملة وإِنْ قَلَّ احتيالُه . ١١١غداً كلٌّ مشغولٌ بنْفسه ، ليس له فراغ إلى غيره . وعزيزٌ لا يشتغل بنفسه ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( من كان بحالٍ لقي اللّه بها ) إنما يكون الفارغ غداً من كان اليوم فارغاً ، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمامٌ بنفسه . والمؤمن لا نَفْسَ له؛ قال تعالى : { إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ }[ التوبة : ١١١ ] اشتراها الحقُّ منهم ، وأودعها عندهم ، فليس لهم فيها حق ، وإنما يراعون فيها أمرَ الحق . ١١٢فراغ القلبِ من الاشغال نعمة عظيمة ، فإذا كفر عبدٌ بهذه النعمة بأَن فتح على نَفْسِه بابَ الهوى ، وانجرف ففي فساد الشهوة ، شَوَّشَ اللّه عليه قلبه ، وسَلَبَه ما كان يَجِدُه من صفاء وقته؛ لأنَّ طوارقَ النفسِ تُوجِبْ غروبَ شوارقِ القلب ، وفي الخبر : ( إذا أقبل الليلُ من ها هنا أدبر النهارُ من ها هنا ) وكذلك القلبُ إذا انقطع عنه معهودُ ما كان الحقُّ أتاحه له أصابه عطَشٌ شديد ولهبٌ عظيم . ١١٣كما جاءهم الرسولُ جهراً فإنه تتأدَّى إليهم منْ قِبَل خواطرهم إشاراتٌ تترى ، فمَنْ لم يستجِبْ لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق أخذه العذابُ من حيث لا يشعر . ١١٤الحلالُ الطيبُ ما يتناوله العبدُ على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب في ترك الشبهة ، وحقيقةُ الشكر على النعمةِ الغيبةُ عن شهودِ النعمة بالاستغراق في شهود المنعِم . ١١٥يُبَاحُ تناولُ المحرماتِ عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع ، ولا يُرَخَّصُ في ذلك إلا على أوصاف مخصوصة ، وبِقَدْرِ ما يَسُدُّ الرَّمق ، كذلك عند استهلاكِ العبدِ بغلبات الحقيقة لا بدّ من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه ، صم لا يُمكّن من التعريج في أَوْطان التفرقة والتمييز بعد مضي أوقات الصحو من أجل أداء الشرع ، كما قيل : فإنْ تَكُ منه غيبة بعد غيبةٍ ... فإنَّ إليه بالوجود إيابي ١١٦-١١٧الصدق في كل شيء أَوْلَى من الكذب ، وكثيرٌ من أقوالهم في الاعتراض عَيِّناتُ من الكذب . والصِّدِّيق لا يكذب صريحاً ، ولا يتداول أقوال كاذب مهين . وصاحبُ الكذبِ تظهر عليه المذَلَّةُ لما هو فيه من الزّلَّةِ ، وله في الآخرة عذاب أليم . ١١٨بيَّن أنه أوضح لِمَنْ تَقَدَّمَ الحلالَ والحرامَ ، فمنهم مَنْ أتى بما أُمِرَ به ومنهم مَنْ خالف . . وكلٌّ عُومِل بما استوجبه؛ فمن أطاع قلبُه قرَّبَه ، ومَنْ عَصَى رَدَّه وحَجَبَه . ١١٩إذا نَدِمُوا على قبيح ما قَدَّمُوا ، وأَسِفُوا على كثيرٍ مما أسلفوا وفيه أسرقوا ، ومَحَا صِدْقُ عَبْرَتِهم آثارَ عَثْرَتِهم - نظَرَ اللّه إليهم بالرحمة ، فتابَ عليهم إذا أصلحوا ، ونجَّاهم إذا تضرَّعوا . ١٢٠قيل آمن باللّه وحدَه فقام مقام الأمة ، وفي التفسير : كان معلِّماً - للخير- لأمةٍ . ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون في أمةٍ متفرقاً . ويقال لمَّا قال إبراهيمُ لكلِّ ما رآه : { هَذَا رَبِّى }[ الأنعام : ٧٧ ] ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هي بل كان مُسْتَهْلَكاً في شهودِ الحقِّ ، ورأى الكوْنَ كُلَّه باللّه ، وما ذكر حين ذكر غيرَ اللّه . . كذلك كان جزاء الحق فقال : أنت الذي تقوم مقام الكلِّي ، ففي القيامِ بحق اللّه منك على الدوام غُنْيةٌ عن الجميع . و ( الحنيف ) : المستقيم في الدِّين ، أو المائل إلى الحق بالكلية . ١٢١الشاكرُ في الحقيقة - مَنْ يرى عَجْزَه عن شكره ، ويرى شُكْرَهُ من اللّه عزَّ وجل ، لِتَحَقُّقِه أنه هو الذي خَلَقَه ، وهو الذي وَفَقَّه لشكره ، وهو الذي رزقه الشكرَ ، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له - سبحانه . { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي تحقَّق بأنه عَبْدُه ، وأنه رقَّاه إلى محلِّ الأكابر . ١٢٢قوله جلّ ذكره : { وَءَاتَيْنَاهُ فِى الدَّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } . الحسنةُ التي آتاه اللّه هي دوامُ ما آتاه حتى لم تنقطِعْ عنه . ويقال هي الخلة . ويقال هي النبوة والرسالة . ويقال آتيناه في الدنيا حسنةً حتى كان لنا بالكلية ، ولم تكن فيه لغير بقية . ١٢٣{ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي الكون بالحق ، والامتحاء عن شاهد نفسه؛ فكان نبينا- صلى اللّه عليه وسلم - في اتباعه إبراهيم مؤْتَمِرَاً بأمر اللّه . وكانت ملةُ إبراهيم - عليه السلام - الخُلُقَ والسخاءَ والإيثارَ والوفاءَ ، فاتبعه الرسول صلى اللّه عليه وسلم وزاد عليه ، فقد زاد على الكافة شأنه ، وبانت مَزِيَّتُه . ١٢٤قومٌ حرَّموا العملَ فيه وقومٌ حللوه معصيةً منهم ، وقيل جعل الجمعةَ لهم فقالوا : لا نريد إلا يومَ السبت . . فهذا اختلافهم فيه . والإشارة من ذلك أنهم حادوا عن موجب الأمر ، ومالوا إلى جانب هواهم . ثم إنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم . ١٢٥الدعاءُ إلى سبيل اللّه بحثِّ الناسِ على طاعةِ اللّه ، وزجرهم عن مخالفة أمر اللّه . والدعاءُ بالحكمة ألا يخالفَ بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق . والموعظة الحسنة ما يكون صادراً عن علمٍ وصوابٍ ، ولا يكون فيها تعنيف . { وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } : بالحجة الأقوى ، والطريقة الأوضح . قال تعالى : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }[ هود : ٨٨ ] : فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به ، والانتهاء عما تنهي عنه . ١٢٦إذا جرى عليكم ظُلُمٌ من غيرَكم وأردتم الانتقامَ . . فلا تتجاوزُوا حَدَّ الإذنِ بما هو في حكم الشرع . { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } : فتركتم الانتصافَ لأِجْلِ مولاكم فهو خيرُ لكم إِنْ فَعَلْتُمْ ذلك . والأسبابُ التي قد يترك لأجلها المرءُ الانتصافَ مختلفة؛ فمنهم من يترك ذلك طمعاً في الثواب غداً فإنه أوفر وأكثر ، ومنهم من يترك ذلك طمعاً في أن يتكفَّل اللّه بخصومه ، ومنهم من يترك ذلك لأنه مُكْتَفٍ بعلم اللّه تعالى بما يجري عليه ، ومنهم من يترك ذلك لِكَرَم نَفسِه ، وتَحرُّرِه عن الأخطار ولاستحبابه العفوَ عند الظَّفَرِ ، ومنهم مَنْ لا يرى لنفسه حقاً ، ولا يعتقد أَنَّ لأحدٍ هذا الحق فهو على عقد إرادته بِتَرْكِ نَفْسِه؛ فمِلْكُه مُبَاحٌ ودَمَهُ هَدَر . ومنهم من ينظرإلى خصمه - أي المتسلط عليه- على أنَّ فِعْلَه جزاءٌ على ما عمله هو من مخالفة أمر اللّه ، قال تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فِبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ }[ الشورى : ٣٠ ] فاشتغاله باستغفاره عن جُرْمِه يمنعه عن انتصافه من خصمه . ١٢٧( واصبر ) تكليف ، ( وما صبرك إلا باللّه) : تعريف . ( واصبر ) تحققٌ بالعبودية ، ( وما صبرك إلا باللّه) إخبارٌ عن الربوبية . ( ولا تحزن عليهم . . ) أي طالِعْ التقدير ، فما لا نجعلُ له خطراً عندنا لا ينبغي أن يوجِبَ أثراً فيك ، فمَنْ أَسْقَطْنا قَدْرَه فاستَصْغِر أَمْرَه . وإذا عرفتَ انفرادَنا بالإيجادِ فلا يضيق قلبُك بشدّة عداوتهم ، فإِنَّا ضَمَنَّا كِفايتَك ، وألا نُشْمِتَهم بك ، وألا نجعلَ لهم سبيلاً إليك . ١٢٨إن اللّه معهم بالنصرة ، ويحيطهم بالإحسان والبسطة . ( الذين اتقوا ) رؤيَةَ النصْرةِ مِنْ غيره ، والذين هم أصحاب التبري من الحَوْلِ والقوة . والمحسن الذي يعبد اللّه كأنه يراه ، وهذه حال المشاهدة . |
﴿ ٠ ﴾