سورة الإسراء

١

افتتح السورةَ بِذِكْرِ الثناء على نَفْسه فقال :{ سُبْحَانَ الَّذِي }[ الإسراء : ١ ] : الحقُّ سبَّحَ نَفْسَه بعزيزِ خطابِه ، وأخبر عن استحقاقه لجلال قَدْرِه ، وعن توحُّده بعلوِّ نُعُوتِه .

ولمَّا أراد أَنْ يَعْرفَ العبِادُ خَصَّ به رسولَه - صلى اللّه عليه وسلم - ليلةَ المعراجِ من عُلوٍّ ما رقَّاه إليه ، وعِظَمِ ما لَقَّاه به أَزالَ الأعُجوبةَ بقوله : { أَسْرَى } ، ونفى عن نبيِّه خَطَرَ الإعجاب بقوله : { بِعَبْدِهِ } ؛ لأَنَّ مَنْ عَرَفَ ألوهيته ، واستحقاقَه لكمالِ العِزِّ فلا يُتَعَجَّبُ منه أن يفعل ما يفعل ، ومَنْ عرف عبوديةَ نَفْسِه ، وأَنَّه لا يَمْلِكُ شيئاً من أمره فلا يُعْجَبُ بحاله . فالآية أوضحت شيئين اثنين : نَفَى التعجَّبِ من إظهارِ فِعْلِ اللّه عزَّ وجل ، ونفَى الإعجاب في وصف رسول اللّه عليه السلام .

ويقال أخبر عن موسى عليه السلام - حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة - فقال :{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا }[ الأعراف : ١٤٣ ] ، وأخبر عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم بأنه { أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وليس مَنْ جاءَ بنفْسِه كمنْ أَسْرَى به ربُّه ، فهذا مُحتَمَلٌ وهذا محمول ، هذا بنعت الفَرْقِ وهذا بوصف الجمع ، هذا مُرِيدٌ وهذا مُرَادٌ .

ويقال جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب ، ومن غير ميعاد ، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد ، كما قيل :

ويقال جعل المعراجَ بالليل ليُظْهرَ تصديقَ مَنْ صَدَّقَ ، وتكذيبَ مَنْ تعجَّب وكَذَّّبَ أو أنكر وجحد .

ويقال لما كان تعبُّدهُ صلى اللّه عليه وسلم وتهجُّدُه بالليل جَعَلَ الحقُّ سبحانه المعراجَ بالليلِ .

ويقال :

ليلةُ الوَصْلِ أَصْفَى ... من شهور ودهور سواها .

ويقال أرسله الحقُّ - سبحانه - ليبتعلَّم أهلُ الأرضِ منه العبادة ، ثم رَقَّاه إلى السماءِ ليتعلَّمَ الملائكةُ منه آدابَ العبادة ، قال تعالى في وصفه - صلى اللّه عليه وسلم - : { مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى }[ النجم : ١٧ ] ، فما التَفَتَ يميناً وشمالاً ، وما طمع في مقامٍ ولا في إكرام؛ تجرَّد عن كلِّ طلبٍ وأَرَبٍ .

قوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَآتِنَا } : كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كَشّفٌ بالذات . ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله - سبحانه - شيءٌ في جلالهِ وجماله ، وعِزِّه وكبريائه ، ومجده وسنائه .

ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عَرَفَ به صلوات اللّه عليه - أنه ليس أحدٌ من الخلائق مثْلَه في نبوته ورسالته وعلوِّ حالته وجلال رتبته .

٢

أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، ولكنَّ نَبِيَّنَا - صلوات اللّه عليه - كان أوفى - سماعاً -؛ فإنَّ الشمسَ في طلوعها وإشراقها تكون أقربَ ممن طلعت له من حقائقها .

٣

أي يا ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح - على النداء . . إنه كان عبداً شكوراً .

وكان يضرب في كل ( . . . ) كما في القصة - سبعين مرة ، وكان يشكر . كما أنه كان يشكر اللّه ويصبر على قومه إلى أن أوحى اللّه إليه : أنه لن يؤمن إلا من قد آمن ، وأُمِرَ حين دعا عليهم فقال :{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً }[ نوح : ٢٦ ]

ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيقِ اللّه له لِشُكْرِه ، ولا يتقاصر عن شكره لِنِعَمِه .

ويقال الشكور الذي يشكر بماله ، ينفقه في سبيل اللّه ولا يدََّخِره ، ويشكر بنفْسِه فيستعملها في طاعة اللّه ، لا يُبْقِي شيئاً من الخدمة يدخره ، ويشكر بقلبِه ربَّه فلا تأتي عليه ساعةٌ إلا وهو يذكره .

٤

القضاءُ ها هنا بمعنى الإعلام ، والإشارة في تعريفهم بما سيكون في المُسْتَأنَفِ منهم وما يستقبلهم ، ليزدادوا يقيناً إذا لقوا ما أُخْبِروا به ، وليكونَ أبلغَ في لزوم الحُجَّةِ عليهم ، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم ، وليعلموا أن ما سَبَقَ به القضاءُ فلا محالةَ يحصل وإنْ ظُنَّ التباعدُ عنه .

٥

إن اللّه سبحانه يُعِدُّ أقواماً لأحوالٍ مخصوصةٍ حتى إذا كان وقتُ إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين .

٦

يدلُّ على أنه مُقَدِّرُ أعماله العباد ، ومدبِّرُ أفعالِهم؛ فإِنَّ انتصارَهم على أعدائهم من جملة أكسابهم ، وقد أخبر الحقُّ أنه هو الذي تولاَّه بقوله : { رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } .

٧

إنْ أحسنتُم فثوابِكم كسبتم ، وإنْ أسأتم فعداءَكم جَلَبْتُم - والحقُّ أعزُّ مِنْ أَنْ يعودَ إليه من أفعال عبادِه زَيْنٌ أو يلحقه شَيْنٌ .

٨

قوله جلّ ذكره : { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } .

كلمةُ { عَسَى } فيها ترجية وإطماع ، فهو - سبحانه - وقفهم على حد الرجاء والأمل والخوف والوجل .

وقوله { عَسَى } : ليس فيه تصريح بغفرانهم ، ورحمتهم ، وإنما فيه للرجاء موجِبٌ قويٌّ؛فبلطفه وعد أن يرحمكم .

قوله جلّ ذكره : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَأ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلّكَافِرِينَ حَصِيراً } .

أي إنْ عُدْتُم إلى الزَّلَّة عُدْنا إلى العقوبة ، وإن استقمتم في التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة .

ويقال إن عُدْتُم إِلَى نَقْضِ العَهْد عُدنا إلى تشديد العذاب .

ويقال : إن عُدْتُم للاستجارة عدنا للإجارة .

ويقال إن عُدتُم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء .

ويقال إن عُدْتُمْ إلى ما يليق بكم عُدْنا إلى ما يليق بكرمنا .

{ َجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلّكَافِرِينَ حَصِيراً } لأنهم ( . . . ) وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين .

و { حَصِيراً } أي محبساً ومصيراً . فالمؤمنُ - وإنْ كان صاحبَ ذنوب وإنْ كانت كبيرة - فإنَّ مَنْ خرج من دنياه على إيمانه فلا محالةَ يصل يوماً إلى غفرانه .

٩

القرآنُ يدل على الحقِّ والصواب . و { أَقْوَمُ } : هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير؛ فالقرآن يدل على الحق والصواب ، ولكنَّ الخللَ من جهة المُسْتَدِلِّ لا الدليل ، إذ قد يكون الدليل ظاهراً ولكنَّ المستدِلَّ مُعْرِضُ ، وبآداب النظر مُخِلٌّ ، فيكون العيبُ في تقصيره لا في قصور الدليل .

والقرآنُ نورٌ؛ مَنْ استضاء به خَلَصَ من ظُلُماتِ جَهْلِه ، وخرج من غمار شَكِّه . ومَنْ رَمَدَتُ عيونُ نظرِه التبس رُشْدُه .

ويقال الحَوَلُ ضَرَرُه أشدُّ من العَمَى؛ لأَنَّ الأعمى يعلم أنه ليس يُبْصِر فَيَتْبَعُ قائدَه ، ولكن الأحول يتوهَّمُ الشيء شيئين نفهو بتخيُّلِه وحسبانه يماري مَنْ كان سليماً . . كذلك المبتدِعُ إذا سَلَكَ طريقَ الجَدَل ، ولم يضع النظر موضعهه بَقِيَ في ظُلُماتِ جَهْلِه ، وصال بباطل دعواه على خَصْمِه ، كما قيل :

بأطرافِ المسائلِ كيف يأتي ... - ولا أَدْرِي لَعَمْرُكَ - مُبْطِلُوها؟

١١

من الأدب في الدعاء أََلاَّ يسألَ العبدُ إلاَّ عند الحاجة ، ثم ينظر فإنْ كان شيءٌ لا يعنيه ألا يتعرَّضَ له؛ فإنَّ في الخبر : ( مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) ثم من آداب الداعي إذا سأل من اللّه حاجَته ورأى تأخيراً في الإجابة إلا يَتَّهَم الحقَّ - سبحانه - ويجب أن يعلم أن الخير في ألا يجيبَه ، والاستعجالُ- فيما يختاره العبد- غيرُ محمود ، وأوْلى الأشياءِ السكونُ والرضا بحُكْمِه سبحانه ، إن لم يساعدْه الصبر وسَأَلَ فالواجبُ تَرْكُ الاستعجال ، والثقةُ بأنَّ المقسومَ لا يفوته ، وأَنَّ اختيارَ الحقِّ للعبد خيرٌ له من اختياره لنفسه .

١٢

جعل الليلَ والنهارَ علامةً على كمال قدرته ، ودلالةً على وجوب وحدانيته؛ في تعاقبهما وتناوبهما ، وفي زيادتهما ونقصانهما .

ثم جعلهما وقتاً صالحاً لإقامة العبادة ، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته؛ فالعبادةُ شرطُها الدوامُ والاتصال ، والوظائف حقُّها التوفيق والاختصاص .

ولو وقع في بعض العبادات تقصيرٌ أو حَصَلَ في أداءِ بعضِها تأخيرٌ تَدَارَكَه بالقضاءِ حتى يَتَلاَفَى التقصير .

ويقال من وجوه الآيات في الليل والنهار إفرادُ النهار بالضياء من غير سبب ، وتخصيصُ الليل بالظلام بغير أمرٍ مكتسب ، ومن ذلك قوله تعالى : { فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } : وهو اختلاف أحوال القمر في إشراقه ومحاقة ، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة ، بل هو في كل ليلة في منزل آخر ، إما بزيادة أو بنقصان .

وأمَّا الشمس فحالها الدوام . . والناس كذلك أوصافهم؛ فأربابُ التمكين الدوامُ شرطُهم ، وأصحابُ التلوينِ التنقلُ حَقُّهم ، قال قائلهم :

ما زلت أنزل من ودادك منزلاً ... تتحير الألبابُ دون نزوله .

١٣

ألزم كلَّ أحدٍ ما لَبِسَ بجِيدِه . فالذين هم أهلُ السعادة أسرج لهم مركبَ التوفيقَ ، فيسير بهم إلى ساحات النجاة ، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مَطِيَّةَ الخذلان فأَقْعَدَتْهم عن النهوض نحو منهج الخلاص ، فوقعوا في وَهْدَةِ الهلاك .

١٤

مَنْ ساعَدَتْه العنايةُ الأزليةُ حِفظَ عند معاملاته مما يكون وبالاً عليه يوم حسابه ، ومَنْ أبلاه بحْكْمِه رَدَّه وأهمْهَلَه ، ثم تركه وعَمَلَه ، فإذا استوفى أَجَلَه عرف ما ضيَّعَه وأهمله ، ويومئذ يُحْكُمِه في حالِ نفسه ، وهو لا محالةَ يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عندما يتحقق من قبيح أعماله . . . فكم من حسرةٍ يتجرَّعُها ، وكم من خيبةٍ يتلقَّاها!

ويقال مَنْ حَاسَبَه بكتابه فكتابةُ مُلازِمُه في حسابه فيقول : رَبِّ : لا تحاسبني بكتابي . . ولكن حاسِبْنِي بما قلتَ : إِنَّكَ غافرُ الذَّنْبِ وقابلُ التوبِ . . لا تعاملني بمقتضى كتابي : ففيه بواري وهلاكي .

١٥

قوله جلّ ذكره : { مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } .

قضايا أعمال العبد مقصورةٌ عليه؛ إنْ كانت طاعةً ففضياؤها لأصحابها ، وإنْ كانت زَلَّةً فبلاؤها لأربابها . والحقُّ غنيٌّ مُقَدَّسٌ ، أَحَدِيٌّ مُنَزَّهٌ .

قوله جلّ ذكره : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .

كُلُّ مُطَالَبٌ بجريرته . وكلُّ نَفْسٍ تحمل أوزارها لا وِزْرَ نَفْسٍ أخرى . . . { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } : دلَّ ذلك على أن الواجبات إنما تَتَوَجَّهُ من حيث السمع .

١٦

إذا كَثُرَ أهلُ الفسادِ غَلَبُوا ، وقَلَّ أهل الصلاح وفقدوا : فعند ذلك يغمر اللّه الخَلْقَ ببلائه ، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا في بابهم ، ولا فيهم من يبتهل إلى اله فَيُسْمَعُ دعاؤه ، فَيَخْتَرِمُ أولياءَه ، ويُبْقِي أربابَ الفساد ، وعند ذلك يشتدُّ البلاءُ وتَعْظُمُ المِحَنُ إلى أن ينظرَ اللّه تعالى إلى الخَلْق نَظَرَ الرحمةِ والمِنَّة .

١٧

في الآية تسليةٌ للمظلومين إذا استبطأوا هلاكَ الظالمين ، و ( . . ) قِصَرِ أيديهم عنهم . فإذا فَكَّروا فيما مضى من الأُمم أمثالِهم وكيف بَنَوْا مَشِيداً ، وأَمَّلُوا بعيداً . . فبادوا جميعاً ، يعلمون أَنَّ الآخرين - عن قريب- سينخرطون في سلكهم ، ويُمْتَحَنُون بمثل شأنهم . وإذا أظَلّتْهُم سُحُبُ الوحشة فاءوا إلى ظل ِّ شهود التقدير ، فتزول عنهم الوحشة ، وتطيب لهم الحياةُ ، وتحصل الهيبة .

١٨

مَنْ رَضِيَ بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بَقِيَ عن نفيس الآخرة ، ثم لا يحظى إلا بِقَدْر ما اشْتَمَّهُ ، ثم يكون آنسَ ما به قلباً وأشدَّ ما يكون به سكوناً . . . ثم يُخْتَطَفُ عن نعمته ، ولا يخصه بشيءٍ مما جمع من كرائمه ، ويمنعه من قربه في الآخرة . . ولقد قيل :

يا غافلاً عن سماع الصوتْ ... إنْ لم تبادِرْ فهو الفوتْ

مَنْ لم تَزُلْ نعمته عاجلاً ... أزاله عن نعمته الموتْ

١٩

علامة مَنْ أراد الآخرةَ - على الحقيقة - أن يسعى لها سَعْيْها؛ فإرادةُ الآخرة إذا تجرَّدَتْ عن العمل لها كانت مجرَّد إرادة ، ولا يكون السعيُ مشكوراً . قوله : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } : أي من المآلِ كما أنه مؤمِنٌ في الحال . ويقال وهو مؤمن أنَّ نجاته بفضله لا بسببه .

{ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } أي مقبولاً ، ومع القبول بكون التضعيف والتكثير؛ فكما أن الصدقة يُرْبِيها كذلك طاعةُ العبدِ يُكْثِّرُها ويُنَمِّيها .

٢٠

يجازي كلاً بِقَدْرِهِ؛ فَلِقَوْمٍ نجاة ولقومٍ درجات ، ولقوم سلامة ولقومٍ كرامة ، ولقومٍ مثوبتُه ، ولقومٍ قربتُه .

٢١

التفضيلُ على أقسام ، فالعُبَّاد فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في زكاء أعمالهم ، والعارفون فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في صفاء أحوالهم ، وزكاء الأعمال بالإخلاص ، وصفاء الأحوال بالاستخلاص؛ فقومٌ تفاضلوا بصدق القَدَمِ ، وقوم تفاضلوا بعلوِّ الهِمَم . والتفضيل في الآخرة أكبر : فالعُبَّادُ تفاضلهم بالدرجات ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( إنكم لَتَرَوْنَ أهلَ عِلَّيين كما ترون الكوكبَ الدريَّ في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم ) .

وأهلُ الحضرةِ تفاضلُهم بلطائفهم من الأُنْس بنسيم القربة بما لا بيانَ يصفه ولا عبارة ، ولا رمز يدركه ولا إشارة . منهم من يشهده ويراه مرةً في الأسبوع ، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة ، فهم يجتمعون في الرؤية ويتفاوتون في نصيبِ كلِّ أحد ، وليس كلُّ مَنْ يراه بالعين التي بها يراه صاحبه ، وأنشد بعضهم :

لو يسمعون - كما سمعتُ حديثها ... خَرَّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسجودا

٢٢

الذي أشرك باللّه أصبح مذموماً من قِبَلِ اللّه ، ومخذولاً من قِبَلِ مَنْ عَبَدَه من دون اللّه .

٢٣

أمَرَ بإفراده- سبحانه - بالعبادة ، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبدُ منها ، وأن يكون مغلوباً باسيلاء سلطانِ الحقيقةِ عليه بما يَحْفَظُه عن شهودِ عبادته .

وأَمَرَ بالإحسان إلى الوالدين ومراعاةِ حقِّهما ، والوقوفِ عند إشارتهما ، والقيام بخدمتهما ، وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحُسْنِ عشرتهما ورعاية حُرْمَتهما ، وألا يبديَ شواهدَ الكسلِ عند أوامرهما ، وأن يَبْذُل المُكْنَةَ فيما يعود إلى حفظ قلوبهما . . . هذا في حال حياتهما ، فأمَّا بعد وفاتهما فبِصِدْقِ الدعاء لهما ، وأداءِ الصَدَقَةِ عنهما ، وحِفْظِ وصيتهما على الوجه الذي فَعَلاَه ، والإحسان إلى مَنْ كان مِنْ أهلِ ودِّهما ومعارفهما .

ويقال إِنَّ الحقَّ أَمَرَ العبادَ بمراعاة حقِّ الوالدين وهما من جنس العبد . . فَمَنْ عجز عن القيام بحِّق جنسه أَنَّى له أن يقومَ بحقِّ ربه؟

٢٤

{ وَاخْفِضْْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } بحسن المداراة ولين المنطق ، والبدار إلى الخدمة ، وسرعة الإجابة ، وترك البَرَمَ بمطالبهما ، والصبر على أمرهما ، وألا تَدَّخِرَ عنهما ميسوراً .

٢٥

إذا عَلِمَ اللّه صِدْقَ قلبِ عبدٍ أَمَدَّه بحسن الأمجاد ، وأكرمه بجميل الامتداد ، ويَسَّر عليه العسيرَ من الأمور ، وحفظه عن الشرور ، وعطف عليه قلوب الجمهور .

٢٦

إيتاءُ الحقِّ يكون من المال ومن النَّفْس ومن القول ومن الفعل ، ومَنْ نَزَل على اقتضاء حقِّه ، وبذل الكُلَّ لأجل ما طالبه به من حقوق . فهو القائم بما ألزمه الحقُّ سبحانه بأمره .

والتبذيرُ مجاوزةُ الحدِّ عمَّا قدَّره الأمرُ والإذنُ . وما يكون لحظِّ النَّفْسِ- وإن كان سمسمة - فهو تبذيرٌ ، وما كان له - وإن كان الوفاءَ بالنَّفْس - فهو تقصيرٌ .

٢٧

إنما كانوا إخوانَ الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم ، وجَرَوْا في طريقهم على دواعي الشياطين ووساوسهم ، ولمَّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوانَ الشياطين .

٢٨

إن لم يُسَاعِدْكَ الإمكانُ على ما طالبوكَ من الإحسان فاصْرِفْهم عنكَ بوعدٍ جميلٍ إن لم تُسْعِفهم بنقدٍ جزيل . . وإنَّ وَعْدَ الكرام أَهْنأُ من نقد اللئام .

٢٩

لا تُمْسِكْ عن الإعطاء فَتُكْدِي ، ولا تُسْرِفْ في البذلِ بكثرة ما تُسْدِي ، واسْلُكْ بين الأمرين طريقاً وَسَطاً .

٣٠

إذا بَسَطَ لا تَبْقَى فاقة ، وإذ قبض استنفد كلَّ طاقة .

٣١

مَنْ عَرَفَ أَنَّ الرازقَ هو اللّه خفَّ عن قلبه همُّ العيال - وإنْ كَثُروا ، ومن خفي عليه أنه قَسَّمَ - قبل الخَلْقِ - أرزاقَهم تطوح في متاهات مغاليطه ، فيقع فيها بالقلب والبَدَنِ ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير .

٣٢

ترَّجحَ الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييعَ حُرْمَةِ الحقِّ ، وهتكَ حُرْمَةِ الخلْق ، ثم لِمَا فيه من الإخلال بالنَّسَبِ ، وإفسادِ ذات البين من مقتضى الأَنَفَةِ والغضب .

٣٣

لا يجوز قَتْلُ نَفْسِ الغير بغير الحق ، ولا للمرء أن يقتل نَفْسَه أيضاً بغير الحق . وكما أنَّ قتلَ النَّفْس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات مُحَرَّمٌ فكذلك القَصْدُ إلى هلاكِ المرءِ مُحَرَّمٌ .

ومن انهمك في مخالفة ربه فقد سعى في هلاك نفسه . { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانَاً } : أي تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه ، وعلى معنى الإشارة :

إلى النصرة مِنْ قِبَلِ اللّه : ومنصورُ الحقِّ لا تنكسر سِنَانُه ، ولا تطيشُ سِهَامُه .

٣٤

لمَّا لم يكن لليتيم مَنْ يهتم بشأنه أَمَرَ - سبحانه - الأجنبيَّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سَبَبٌ أَنْ يتولَّى أمرَه ، ويقومَ بشأنِ ، وأوصاه في بابه؛ فالصبيُّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى ، والوليُّ ساع بمقاساة العَنَا .

فأَمْرُ الحقِّ - سبحانه - للوليِّ أَحْظَى للصبيِّ مِنْ شفقةِ آلِه عليه في حال حياتهم .

٣٥

كما تدين تدان ، وكما تعامِلُ تُجازَى ، وكما تكيل يُكَالُ لكَ ، وكما تكونون يكون عليكم ، ومَنْ وَفَى وفَوْا له ، ومَنْ خان خانوا معه ، وأنشدوا :

أسَأْنا فساءوا . . عَدْلٌ بلا حيفٍ ... ولو عَدَلْنا لَخُلِّصْنا من المِحَنِ

٣٦

إذا غَلَبتْ عليكَ مُجوّزَاتُ الظنونِ ، ولم يُطْلِعْكَ الحقُّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان ، وإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ من أحكام الوقت فارجعْ إلى اللّه ، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من الدليل على حَدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى اللّه ، وِقفْ حيثما وقفت .

ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أَنَّ العلماءَ يعرفون الشيءَ أولاً ثم يعلمون بعلمهم ، وأصحابُ الحقِّ يجْرِي عليهم يحكم التصريف شيءٌ لا علِمَ لهم به على التفصيل ، وبعد ذلك يُكشَف لهم وجهُه ، وربما يجري على ألسنتهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه ، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه ، ودليلُ ما نطقوا به من شواهد العلم .

قوله : { إِنَّ السَّمَعَ وَالبَصَرَ } هذه أمانة الحق - سبحانه - عند العبد ، وقد تقدم في بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة .

ومَنْ استعمل هذه الجوارح في الطاعات ، وصانها عن استعمالها في المخالفات فقد سَلَّم الأمانة علة وصف السلامة ، واستحق المدحَ والكرامة . مَنْ دَنَّسَها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة ، واستوجب الملامة .

٣٧

الخُيَلاءُ والتجبُّر ، والمدح والتكّبُر - كل ذلك نتائجُ الغيبة عن الذكر ، والحجبة عن شهود الحقِّ؛ ( فإنَّ اللّه إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له ) بذلك وَرَدَ الخبر . فأمَّا في حال حضورِ القلبِ واستيلاءِ الذكر وسلطان الشهود . قالقلبُ مُطْرِقٌ ، وحُكْمُ الهيبة غالِبٌ . ونعتُ المدحِ وصفةُ الزَّهْوِ وأسبابُ التفرقة- كل ذلك ساقط .

والناسُ - في الخلاص من صفة التكبر- أصنافٌ : فأصحابُ الاعتبار إِذْ عرفوا أنهم مخلوقونَ من نطلفةٍ أمشاج ، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم . . تعلو هِمَمُهم عن التضييق والتدنيق ، ويَبْعُدُ عن قلوبهم قيامُ أَخْطارٍ للأشياء ، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر ، وينزع عنهم لباس التجبُّر .

وأمَّا أرباب الحضور فليس في طلوع الحق إلا انخناس النَّفْس ، وفي معناه قالوا :

إذا ما بدا لي تَعاظَمْتُه ... فأصدر في حال من لم يرد

٣٨

إذا سَعِدَتْ الأقدامُ بحضور ساحاتِ الشهود ، وعَطِرَتْ الأسرارُ بنسيم القُُرْب تجرَّدَتْ الأوقاتُ عن الحجبة ، واستولى سلطان الحقيقة ، فيحصل التنفِّي من هذه الأوصاف المذمومة .

٣٩

وقال تعالى لنبيِّه : { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ } : بالوحي والإعلام ، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام .

٤٠

جَوَّزوا أن يكون للّه - سبحانه - ولدٌ ، وفكَّروا في ذلك ، ثم لم يَرْضَوْا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم ، فما زادوا في تَمَرُّدِهم إلا عُتُوَّا ، وفي طغيانهم إلا غَلُوَّاً ، وعن قبول الحق ِّ إلا نُبُوَّاً .

٤٢-٤٣

بيَّن أنه لو كان الصانعُ أكثرَ من واحدٍ لَجَرَى بينهم تَضَادٌ وتمانُعٌ ، وصحَّ عند ذلك في صفتهم العجزُ ، وذلك من سِمات المحدثات .

ثم قال سبحانه - تنزيهاً له عن الشَّريك والظهير ، والمعين والنظير .

٤٤

الأحياءُ من أهل السموات والأرض يُسَبِّحون له تسبيحَ قالة ، وغير الأحياء يسبح من حيث البرهان والدلالة . وما من جزءٍ من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية ، ولكنهم إذا استمعوا توحيداً للأله تعجبوا - لجهلهم وتَعَسُّر إدراكهم - وأنكروا .

٤٥

أي أدخلناك في إيواءِ حفِظْنَا ، وضربنا عليك سرادقاتِ عصمتنا ، ومنعنا الأيدي الخاطئةَ عنك بلطفنا .

٤٦

صَرَّح بأنه خالقُ ضلالتهم ، وهو المبيت في قلوبهم ما استكنَّ فيها من فرط غوايتهم . { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى القُرْءَانِ وَحْدَهُ } أحبوا أن تذكر آلهتهم ، قد ختم اللّه على قلوبهم فلا حديثَ يُعْجِبُهُم إلاَّ مِمَّنْ لهم شَكْلٌ ومِثْلٌ .

٤٧

لَبِّسُوا على رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - أحوالَهم ، وأظهروا الوفاقَ من أنفسهم ، فَفَضَحَهم اللّه تعالى ، وكَشَفَ أسرارَهم ، وبَيَّنَ مقابِحَهم ، وهَتَكَ أستارهم ، فما تنطوي عليه السريرة لا بُدَّ أن يَظْهَر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسِرَّة .

٤٨

عابوه بما ليس بنقيصةٍ في نفسه حيث قالوا : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } أي ذا سِحْرٍ . وأيُّ نقيصة كانت له إذا كان صلى اللّه عليه وسلم - من جملة البَشَر؟ والحقُّ سبحانه وتعالى متولٍٍ نصرته ، ولم يكن تخصيصه ببنْيَة ، ولا بصورة ، ولا بِحِرْفةٍ ، ولم يكن منه شيء بسببه وإنما بَانَ شرفُه لجملة ما تعلَّقه به لُطْفُه القديم - سبحانه- ورحمتهُ .

٤٩

أقَرُّوا بأنَّ اللّه خَلَقَهم ، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عَدَمِهم ، ولكن . . كما جاز أن يوجِدَهم أولاً وهم في كتم العَدِمِ ولم يكن لهم عين ولا أثر ، ولكنهم كانوا في متناول القدرة ومتعلق الإرادة ، فَمِنْ حَقِّ صاحبِ القدرة والإرادة أن يعيدَهم إلى الوجود مرة أخرى . . . وهكذا إذا رَمَدَت عينُ قلبٍ لم يستبصر صاحبه .

٥٠-٥١

أخبر - سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصَّى عليه مقدورٌ لأنه موصوف بقدرة أزلية ، وقُدْرَتُه عامَّةُ التعلق : فلا المشقة تجوز في صفته ولا الرفاهية . فالخلْقُ الأول والإعادة عليه سِيَّان؛ لا مِنْ هذا عائدٌ إليه ولا من ذاك ، لأن قِدَمَه يمنع تأثير الحدوث فيه .

٥٢

يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون . فالحمد بمعنى الشكر ، وإنما يشكر العبدُ على النعمة والآية تدل على أنهم - وهم في قبورهم- في نعمته .

٥٣

القولُ الحسنُ ما يكون للقائل أن يقوله . ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحَسَنِ ، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركُه . ويقالالأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه . ويقال الأحسن من القول إقرار المُحِبَّ بعبودية محبوبه .

ويقال أحسنُ قولٍ من المذنبين الإقرارُ بالجُرْم ، وأحسنُ قولٍ من العارفين الإقرارُ بالعجز عن المعرفة ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( سبحانك لا أُحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك ) .

٥٤-٥٥

قوله جلّ ذكره : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ وََكِيلاً } .

سَدَّ على كلِّ أحدٍ طريقَ معرفته بنفسه ليتعلَّق كُلُّ قلبه بربه . وجَعَلَ العواقبَ على أربابها مشتبهةً ، فقال { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } ثم قدَّمَ حديثَ الرحمةِ على حديث العذاب ، فقال :{ إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } وفي ذلك تَرَجِّ للأمل أَنْ يَقْوى .

ويوصف العبدُ بالعلم ويوصف الربُّ بالعلم ، ولكن العبدَ يعلم ظاهرَ حاله ، وعِلْمُ الرب يكون بحاله وبمآله ولهذا فالواجب على العبد أن يقول : أنا مؤمن إن شاء اللّه تعالى وهذا معنى : { إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } بعد قوله : { أَعْلَمُ بِكُمْ } .

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّنَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً } .

فَضَّل بعضَ الأنبياءِ على بعضِ في النبوةِ والدرجة ، وفي الرسالة واللطائف والخصائص . وجعل نبيَّنا - صلى اللّه عليه وسلم - أَفضلهم؛ فهم كالنجوم وهو بينهم بَدْرٌ ، وهم كالبدور وهو بينهم شمس ، وهم شموسٌ وهو شمسُ الشموس .

٥٦

استعينوا فيما يستقبلكم بالأصنام التي عبدتموها من دون اللّه حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادةُ شيءٍ من دون اللّه ، ولا يضركم تَرْكُ ذلك ، ولقد قيل في الخبر : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) .

٥٧

يعني الذين يعبدونهم ويدعونهم - كالمسيح وعُزَيز والملائكة - لا يملكون نَفْعَاً لأنفسهم ولا ضَرَّاً ، وهم يطلبون الوسيلةَ إلى اللّهأيْ يتقربون إلى اللّه بطاعتهم رجاءَ إحسانَ اللّه ، وطمعاً في رحمته ، ويخافون العذاب من اللّه . . . فكيف يرفعون عنكم البَلاءَ وهم يرجون اللّه ويخافونه في أحوال أنفسهم؟

ويقال في المَثَلِ : تعلُّقُ الخَلْقِ بالخَلْق تعلُّقُ مسجونٍ بمسجون .

ويقال : إذا انضمَّ الفقيرُ إلى الفقيرِ ازداد فاقةً .

ويقال إذا قاد الضريرُ ضريراً سقطا معاً في البئر ، وفي معناه أنشدوا :

إذا التقى في حَدَبٍ واحدٍ ... سبعون أعمى بمقادير

وسَيَّروا بعضَهم قائداً ... فكُلُّهم يسقط في البير

٥٨

العذاب على أقسام : فالألم الذي يَرِدُ على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى مَا يَرِدُ على القلوب والسرائر؛ قعذابُ القلوبُ لأصحابِ الحقائقِ أَحَدُّ في الشِّدَّةِ مِما يُصيب أصحابَ الفقر والقلة .

ثم إن الحقَّ سبحانه أجرى سُنَّتَه بأن مَنْ وصلت منه إلى غيره راحةٌ انعكست الراحةُ إلى موصلها ، وبخلاف ذلك مَنْ وصلت منه إلى غيره وَحْشَةٌ عادت الوحشةُ إلى موصلها . ومَنْ سام الناس ظُلْماً وخَسْفَاً فَبِقَدْرِ ظُلْمِه يَعذِّبُه اللّه - سبحانه وتعالى- في الوقت بتنغيص العَيْشِ ، واستيلاءِ الغضب مِنْ كلِّ أحدٍ عليه ، وتَتَرَجَّمُ ظنونُه وتتقسَّمُ أفكاره في أحواله وأشغاله ، ولو ذاق من راحة الفراغ حلاوة الخلوة شظية لَعَلِمَ ما طعم الحياة . . ولكنْ حُرِموا النِّعَم ، وما علموا ما مُنُوا به من النِّقَم .

٥٩

قوله جلّ ذكره : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالأَيَاتِ إِلاَّ أَن كّذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } .

أجرى اللّه سُنَّتَه أنه إذا أظهر آية اقْتَرَحَتْها أُمَّةٌ من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أَنْ يُعَجِّلَ لها العقوبة ، وكان المعلومُ والمحكومُ به ألا يجتاحَ العذابُ القومَ الذين كانوا في وقت الرسول - عليه السلام - لأَجْلِ مَنْ في أصلابهم مِنَ الذين عَلِمَ أنهم يؤمِنُون؛ فلذلك أَجَّرَ عنهم العذاب الذي تعجّلوه .

قوله جلّ ذكره : { وَمَا نُرْسِلُ بِالأَيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } .

التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله؛ فإنْ لم يخافوا وَقَعَ عليهم العذاب ثم إنه عَلِمَ أنه لا يفوته شيءٌ بتأخير العقوبة عنهم فَأَخَّر العذابَ . وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حُكْمِه وعِلْمه .

٦٠

الإيمانُ بما خَصَصْنَاكَ به امتحان لهم وتكليفٌ ، ليتميزَ الصادقُ من المنافقِ ، والمؤمنُ من الجاحد؛ فالذين تَدَارَكَتْهُم الحمايةُ وقفوا وثبتوا ، وصَدَّقوا بما قيل لهم وحققوا . وأما الذين خَامَر الشكُّ قلوبهم ، ولم تباشِرْ خلاصةُ التوحيد أسرارَهم ، فما إزدادوا بما امتُحِنُوا به إلا تحيُّراً وضلالاً وَتَبَلُّداً .

٦١

امتنع الشقيُّ وقال : لا أسجد لغيرك بوجهٍ سَجَدْتُ لَكَ به ، وكان ذلك جهلاً منه ، ولو كان باللّه عارفاً لكان لأمره مؤثِراً ، ولمحيط نفسه تاركاً .

٦٢

لو علقت به ذرَّةٌ من المعرفة والتوحيد لم يحطب على نفسه بالإضلال والإغواء ، لكنَّه أقامه الحقُّ بذلك المقام ، وأنطقه بماهو لقلوبِ أهلِ التحقيق مُتَّضِح .

٦٣

هذا غاية التهديد ، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويتٍ ، ولو أَخرَّ عقوبةَ قومٍ فإن ذلك إمهالُ لا إهمال ، ومكرٌ واستدراجٌ لا إنعامٌ وإكرامٌ .

٦٤

{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصًوْتِكَ } : أي افعل ما أمكنكَ ، فلا تأثيرَ لفعلك في أحد ، فإنَّ المنشئَ والمُبْدِعَ هو اللّه . . وهذا غاية التهديد .

٦٥

السلطان الحجة ، فالآية تدل على العموم ، ولا حجة للعذر على أحد ، بل الحجة للّه وحده .

ويقال السلطان هو التَّسَلُّط ، وليس لإبليس على أحدٍ تسلط؛ إذ المقدور بالقدرة ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير في أحد ، وعلى هذا أيضاً فالآية للعموم .

ويقال أراد بقوله : { عِبَادِى } الخواصَ من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قِبَلَ اللّه ، فإن وساوسَ الشيطان لا تضرُّهم لالتجائهم إلى اللّه ، ودوام استجارتهم باللّه ، ولهذا فإن الشيطان إذا قَرُبَ من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم .

ويقال إنّ فرار الشيطان من المؤمنين أشدُّ من فرار المؤمنين من الشيطان .

والخواص من عباده هم الذين لا يكونون في أَسْرِ غيره ،

وأَمَّا مَنْ استعبده هواه . واستمكنت منه الأطماع ، واستَرقته كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه . . . وفي الخبر ( تَعِسَ عبد الدرهم تعس عبد الدينار ) . ويقال في { عِبَادِى } هم المُتَفَيِّئُون في ظلال عنايته ، المُتَبَرُّون عن حَوْلهِم وقُوَّتِهم ، المتفرِّدُون باللّه بحسن التوكل عليه ودوام التعلُّق به .

٦٦

تعرَّف إلى عباده بخَلْقِه وإنعامه ، فما من حادثٍ من عينٍ أو أثرٍ أو طَلَلٍ أو غََبَرٍ إلا وهو شاهِدٌ على وحدانيته ، دالٌّ على ربوبيته .

٦٧

وجُبِلَ الإنسانُ على أنه إذا أصابته نقمةٌ ، أو مَسَّتْه محنة فَزْعَ إلى اللّه لاستدفاعها ، وقد يُعْتَقَدُ أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء اللّه ، فإذا أزال اللّه تلك النقمة وكَشَفَ تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا ، كأنهم لم يكونوا في ضُرِّ مَسَّهم ، وفي معناه أنشدوا :

فكم قد جهلتم ثم عُدْنا بِحِلْمِنا ... أحباءَنا كم تجهلون! وَتَحْلمُ!

٦٨-٦٩

الخوفُ ترقُّبُ العقوبات مع مجاري الأنفاس - كذلك قال الشيوخ . وأعرفُهم باللّه أخوفُهم من اللّه . وصنوفُ العذابِ كثيرة؛ فكم من مسرورٍ أَوَّل ليْلهِ أصبح في شِدَّة! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النِّعم! وفي معناه قالوا : إِن من خاف البيان لا يأخذه السُّبات . ووصفوا أهل المعرفة فقالوا :

مستوفزون على رِجْلٍ كأنهمو ... يريدون أن يمضوا ويرتحلوا

٧٠

المراد من قوله : { بَنِى ءَادَمَ } هنا المؤمنون لأنه قال في صفة الكفار : { وَمَن يُهِنِ اللّه فَمَا لَهُ مِّن مُّكْرِمٍ }[ الحج : ١٨ ] والتكريم التكثير من الإكرام ، فإذا حَرَمَ الكافرَ الإكرامَ . . . فمتى يكون له التكريم؟

ويقال إنما قال : { كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد توضيحاً بأن التكريم لا يكون مقابلَ فِعْلِ ، أو مُعَلَّلاً بِعِلةٍ ، أو مُسَبّباً باستحقاقٍ يوجب ذلك التكريم .

ومن التكريم أ ، هم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة .

ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خَاطَبَه ، وإذا أراد أن يسأل شيئاً سأله .

ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته ، فلو تكرر منه جُرْمُه ثم توبته يضاعف له قبولَه التوبة وعفوَه .

ومن التكريم أنه إذا شَرَعَ في التوبة أَخَذَ بيده ، وإذا قال : لا أعود - يقبل قولَه وإِنْ عَلِمَ أنه ينقض توبته .

ومن التكريم أنه زَيَّنَ ظاهرَهم بتوفيق المجاهدة ، وحَسَّنَ باطنَهم بتحقيق المشاهدة .

ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم ، وغفر لهم قبل استغفارهم ، كذا في الأثر : ( أعطيكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ) .

ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم : { فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ }[ البقرة : ١٥٢ ] ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن .

وكما خَصّ بني آدم بالتكريم خصَّ أمة محمد - صلى اللّه عليه وسلم - منهم بتكريم مخصوص ، فمن ذلك قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[ المائدة : ٥٤ ] و { رَّضِىَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }[ المائدة : ١١٩ ] وقوله { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للّه }[ البقرة : ١٦٥ ] .

ومن التكريم قوله :

{ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفوراً رحيماً }[ النساء : ١١٠ ]

ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه .

ومن التكريم لقوم توفيقُ صِدْق القَدَم ، ولقوم تحقيقُ علوِّ الهِمَم . قوله : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَّرِ وَالبَحْرِ } : سَّخر البحر لهم حتى ركبوا في السفن ، وسَّخر البرَّ لهم حتى قال : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ }[ فصلت : ٣٧ ] .

ويقال محمولُ الكرامِ لا يقع ، فإنْ وَقَعَ وَجَدَ مَنْ يأخذ بيده .

ويقال الإشارة في حملهم في البرِّ ما أوصل إليهم جهراً ، والإشارة بحديث البحر . ما أفردهم به من لطائف الأحوال سِرَّا .

ويقال لمّا حَمَلَ بنو آدم الأمانة حملناهم في البر ، فَحَمْلٌ هو جزاءُ حَمْلٍ ، حَمْلٌ هو فِعْلُ مَنْ لم يكن وحَمْلٌ هو فَضْلُ من لم يَزَل .

قوله : { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِيَاتِ } : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق؛ فَمَنْ لم يكن غائباً بقلبه ولا غافلاً عن ربَّه استطاب كُلَّ رزقٍ ، وأنشدوا :

يا عاشقي إني سَعِدْتُ شراباً ... لو كان حتى علقماً أو صابا

قوله : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلْقْنَا تَفْضِيلاً } : أي الذين فضلناهم على خلقِ كثير ، وليس يريد أن قوماً بقوا لم يفضلهم عليهم ، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلِّ مَنْ خَلَقْنا ، وذلك التفضيل في الخِلْقة . ثم فَاضَلَ بين بني آدم في شيء آخر هو الخُلق الحسن ، فَجَمَعهم في الخُلقة - التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومَايَزَ بينهم في الخُلق .

ويقال : { كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } : هذا للفظ للعموم ، والمراد منه الخصوص ، وهم المؤمنون ، وبذلك يفضل قومٌ على الباقين ، ففَضَّل أولياءَه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاقَ الولاية .

ويقال فضَّلهم بألاَّ ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار ، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار .

٧١

إمامُ كلِّ أحدٍ مَنْ يَقْتَدِي به ، ولكن . . . مِنْ إمامٍ يهتدي به مُقْتَدِيه ، وما إمام يتردَّى به مقتديه .

{ فَمَنْ أُوتَىَ كِتَابَهُ بِيَمِنِهِ فَأَوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } : لكمالِ صحوهم وقيادة عقلهم ، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفِهم وتَرَدّدِهم لا يقرأون كتابهم .

٧٢

في الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته . في الآخرة عذابُه الفُرقة وتضاف إليها الحُرْقَة- لهذا فهو { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } .

٧٣

ضربنا عليك سرادقاتِ العصمة ، وآويناكَ في كنف الرعاية ، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك ، فالزَّلَّةُ منك محال ، والافتراءُ في نعتك لايجوز . . . ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ تشديداتُ البلاء ، لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك؛ فإنَّ مَنْ كان أعلى درجةً فَذَنْبُه - لو حصل - أشدُّ تأثيراً .

٧٤

لو وكلناكَ ونَْفسَكَ ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة لأَلَمَمْتَ بشيءٍ مما لا يجوز من مخالفة أمرنا ، ولكننا أفردناكَ بالحفظ ، فلا تتقاصر عنكَ آثارُه ، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنوارُه .

٧٥

قوله : { إِذاً لأَذَقْنَاكَ . . . } الآية هبوطُ الأكابر على حسب صغودهم ، ومِحَنُ الأَحِبَّةِ وإِنْ قَلَّتْ جَلَّتْ ، وفي معناه أنشدوا :

أنت عيني وليس من حقِّ عيني ... غضٌّ أجفانها على الإقذاء

٧٦

مَنْ ظنَّ أنه يستمتع بحياته بعد مضيّ الأَعِزَّة والأكابر غَلِطَ في حسابه ، وإن الحسودَ لا يسود :

وفي تعبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشمسَ ضوءَها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب

والأرض كلها مِلْكٌ لنا ، ونُقَلِّب أولياءَنا في ترددهم في البلاد وتطوافهم في الأقطار ، ترداً على بساطنا ، وتقلباً في ديارنا؛ فالبقاع لهم سواء ، وأنشدوا :

فَسِرْ أو أَقِمْ وَقْفٌ عليكَ محبتي ... مكانُكَ من قلبي عليك مصونُ .

٧٧

الحقُّ أمضى سُنَّتَه مع الأولياء بالإنعام ، ومع أعدائه بالإدغام ، فلا لهذه أو

هذه تحويل .

٧٨

الصلاةُ قَرْعُ باب الرزق . والصلاةُ الوقوفُ في محل المناجاة .

والصلاةُ اعتكافُ القلبِ في مشاهد التقدير .

ويقال هي الوقوف على بساط النجوى . وفَرَّقَ أوقات الصلاة ليكون للعبد عَوْدٌ إلى البساط في اليوم والليلة مراتٍ .

{ إِنَّ قُرْءَانَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } : تشهده ملائكة الليل والنهار- على لسان العلم .

وأَمَّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح- الذي هو وقت إتيانه - يُبْعِدُ منَ النومِ وكَسَلِ النفس فله هذه المزية .

٧٩

الليل لأحدِ أقوام : لطالبي النجاة وهم العاصون مَنْ جَنَح منهم إلى التوبة ، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يَجِدُّون في الطاعات ، ويسارعون في الخيرات ، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عندما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة .

ويقال الليل لأحد رجلين : للمطيع والعاصي : هذا في احتيال أعماله ، وهذا في اعتذاره عن قبيح أفعاله .

والمقام المحمود هو المخاطبة في حال الشهود ، ويقال الشهود .

ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر . ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خُصَّ به - صلى اللّه عليه وسلم - بما لا يشاركه فيه أحد .

٨٠

أي أدخلني إدخالَ صدقٍ وأَخرجني إخراجَ صدقٍ . والصدق أن يكون دخولُه في الأشياء باللّهللّه لا لغيره ، وخروجه عن الأشياء باللّه صلى اللّه عليه وسلم لا لغيره .

{ وَاجْعَل لِىّ مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } : فلا ألاحظ دخولي ولا خروجي .

٨١

أرد بالحقِّ ها هنا الإسلام والدين ، وأراد بالباطل الكفر والشِّرْك ، والحقُّ المطلق هو الموجود الحق ، والحق المقيد ما كان حسناً في الاعتقاد والفعل والنطق ، والباطل نقيض الحق . واللّه حقٌّ : على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه مُحِقُّ الحق .

ويقال الحقُّ ماكان للّه ، والباطل ما كان لغير اللّه .

ويقال الحقُّ من الخواطر ما دعا إلى اللّه ، والباطلُ ما دعا إلى غير اللّه .

٨٢

القرآن شفاءٌ من داء الجهل للعلماء ، وشفاءٌ من داء الشِّرْكِ للمؤمنين ، وشفاءٌ من داء النكرة للعارفين ، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين ، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين ، وأنشدوا :

وكُتْبُكَ حَوْلِي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ

قوله : { وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً } : الخطاب خطابٌ واحد ، الكتابُ كتابٌ واحد ، ولكنه لقوم رحمةٌ وشفاء ، ولقوم سخطٌ وشقاء ، قومٌ أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء ، وقوم أغشي على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء .

٨٣

إذا نزعنا عنه موجباتِ الخوفِ ، وأرخينا له حَبْلَ الإمهال ، وهَيَّأْ له أسبابَ الرفاهية اعترته مغاليطُ النسيانِ ، واستولت عليه دواعي العصيان ، فأعرض عن الشكر ، وتباعد عن بساط الوفاق .

ويقال إعراضُه في هذا الموضوع نسيانُه ، ورؤية الفضل منه لا من الحقِّ ، وتوهمه أنَّ ما به من النِّعم فباستحقاق طاعةٍ أخلصها أو شدةٍ قاساها . . وهذا في التحقيقق شِرْكٌ .

٨٤

كُلٌّ يترشح بمُودَع باطنه ، فالأَسِرَّةُ تدل على السريرة ، وما تُكِنُّه الضمائرُ يلوح على السرائر ، فَمَنْ صفا مِنَ الكدورة جوهرهُ لا يفوح منه إلا نَشْرُ مناقبه ، ومنْ طبِعَتْ على الكدورِة طينتُه فلا يشمُّ مَنْ يحوم حوله إلا ريحَ مثالبه .

ويقال حركات الظواهر تدُلُّ وتُخْبِرُ عن بواطنِ السرائر .

ويقال حَبُّ ( . . . ) لا يُنْبِتُ غضَّ العود .

ويقال من عُجِنَتْ بماء الشِّقْوةِ طينتُه ، وطُبِعَتْ على النَكرَةِ جِبِلَّتُه لا تسمح بالتوحيد قريحتُه ، ولا تنطِقُ بالتوحيد عبارتُه .

٨٥

أرادوا أن يجادلوه ويُغَلِّطُوه فَأَمَرَه أن ينطق بلفظٍ يُفْصِحُ عن أقسام الروح؛ لأَنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظُ { الرُّوحِ } يدخل تحت قوله تعالى :

{ قل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبّىَ } .

ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها اللّه سبحانه في القالب ، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة ، ( وكما يصح أن يكون البَصَرُ محلَّ الرؤية والأذنُ محلَّ السمع . . إلى آخره ، والبصير والسامع إنما هو الجملة - وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح ، ومحل الأوصاف المذمومة النَّفْس ، والحكُم أو الاسمُ راجعٌ إلى الجملة ) .

وفي الجملة الروح مخلوقة ، والحق أجرى العادة بأنيخلق الحياة للعبد ما دام الروح في جسده .

والروح لطيفة تقررت للكافة طهارتها ولطافتها ، وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين .

وقيل إنه أدركها التكليف ، وإن لها صفاء التسبيح ، وصفاء المواصلات ، والتعريف من الحق .

{ وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } : لأن أحداً لم يشاهد الروح ببصره .

٨٦

سُنَّةُ الحقِّ- سبحانه - مع أحبائه وخواص عباده أن يُدِيمُ لهم افتقارهم إليه ، ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين لجريانِ حُكْمِه ، وألا يتحركَ فيهم عِرقٌ بخلافِ اختياره ، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبَه- صلوات اللّه عليه - بقوله : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } : فمن كان استقلاله باللّه يقدِّم مرادَ سيده - في العزل والولاية - على مراد نفسه .

٨٧

والمقصودُ من هذا إدامةُ تَفَرُّدِ سِرَّهِ صلى اللّه عليه وسلم به - سبحانه - دونَ غيره .

٨٨

سائر الأنبياء معجزاتُهم باقيةٌ حُكْماً ، ونبيُّنا - صلى اللّه عليه وسلم - معجزته باقيةٌ عيناً ، وهي القرآن الذي نتلوه ، والذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا مِنْ خَلْفِه .

٨٩

لا شيءَ أَحْظَى عند الأحباب من كتاب الأحباب ، فهو شفاء من داء الضنى ، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البَلاَ ، وفي معناه أنشدوا :

وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم

٩٠-٩٣

اقترحوا الآيات تعد إزاحة العِلَة وزوالِ الحاجة ، فَرَكَضُوا في مضمارِ سوءِ الأدب ، وحُرِموا الوُصْلة والقُربة . ولو أُجِيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جُحْدَاً ونَكرَةٌ ، وقد قيل :

إنَّ الكريمَ إذا حباك بودِّه ... سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا

وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً ... مَلَّ الوصال وقال كان وكانا

{ قُلْ سُبْحَانَ رَبّىِ هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } : قل يا محمد : سبحان ربي! مِنْ أين لي الإتيان بما سألتم من جهتي؟ فهل وَصْفِي إلا العبودية؟ وهل أنا إلا بَشَر؟ قال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّه }[ النساء : ١٧٢ ] .

٩٤

تعجَّبوا مما ليس بمحلِّ شُبهة ، ولكن حَمَلَهم على ذلك فَرْطُ جَهْلِهم ، ثم أصَرُّوا على تكذيبهِم وجحدهم .

٩٥

الجنسُ إلى الجنسِ أميلُ ، والشكلُ بالشكلِ آنَسُ ، فقال سبحانه لو كان سكانُ

الأرضِ ملائكةُ لَجَعَلْنا الرسولَ إليهم مَلَكاً ، فلمَّا كانوا بَشَرَاً فلا ينبغي أن يُسْتَبَعدَ إرسالُ

البشرِ إلى البشرِ .

٩٦

الحقُّ - سبحانه - هو الحاكم وهو الشاهد ، ولا يُقَاسُ حُكْمَه على حُكْم الخَلْق ، ولا يجوز في صفةِ المخلوقِ أَن يكونَ الحاكمُ هو الشاهد ، فكما لا تشبه ذاته ذات الخَلْقِ لا تشبه صفتُه صفةَ الخَلْق .

٩٧

مَنْ أراده بالسعادةِ في آزاله استخلصه في آباده بأفضاله ، ومَنْ عَلِمَه في الأزل بالشقاء وَسمَه وفي أيده بِسِمةِ الأعداء . فلا لِحُكْمِه تحويل ، ولا لِقَوْلِهِ تبديل .

٩٨

لمَّا أَصَرُّوا على تكذبيهم جازاهم الحقُّ بإدامة تعذيبهم ، ولو ساعدهم التوفيقُ لَوُجِدَ منهم التحقيق ، لكنهم عَدِمُوا التأييد فحُرِموا التوحيد .

٩٩

مَهَّدَ بهذه الآية طريق إثبات القياس ، فلم يغادر في الكتاب شيئاً من أحكام الدَّين لم يؤيده بالدليل والبيان ، فَعَلِمَ الكُلُّ أن الركونَ إلى التقليد عينُ الخطأ والضلال .

١٠٠

إذ البُخْلُ غريزةُ الإنسان ، والشحُّ سجيته [ ( . . . . ) المعروف لا يعرف الخلقة ] .

١٠١-١٠٢

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ } هي أمارات كرامته وعلامات محبته .

قوله جلّ ذكره { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُوراً قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلآءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ بَصآئِرَ وإني لأَظُّنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً } .

أنت - يا فرعون - سلكتَ طريق الاستدلال فَعِلمْتَ أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا منْ قِبَلِ اللّه ، ولكنَّكََ رَكَنْتَ إلى الغفلةِ في ظلمات الجهل .

١٠٣

أراد فرعونْ إهلاكَ بني إسرائيل واستئصالهم ، وأراد الحقُّ - سبحانه - نصرتهم وبقاءهم ، فكان ما أراد الحقُّ لا ما كاد اللعين .

١٠٤

أورثهم منازلَ أعدائهم ، ومكَّنهم من ذخائرهم ومساكنهم ، واستوصى بهم شُكرَ نعمته ، وعرَّفَهم أنهم إِنْ سلكوا في العصيان مَسْلَكَ مَنْ تَقَدَّمَهم ذاقوا من العقوبة مثلَ عقوبتهم .

١٠٥-١٠٦

القرآن حقٌ ، ونزوله بحق ، ومُنَزِّلهُ حق ، والمُنَزَّلُ عليه حق ، فالقرآن بحقِّ أنزل ومِنْ حقِِّ نزل وعلى حقِّ نزل . وقد فَرَّق القرآنَ القرآنَ لِيُهَوِّنَ عيه - صلوات اللّه عليه - حِفَْظَه ، وليكثر تردد الرسول من ربِّه عليه ، وليكون نزوله في كل وقت وفي كل حادثة وواقعة دليلاً على أنه ليس مما أعان عليه غيره .

١٠٧-١٠٨

إنْ آمنتم حَصَلَ النفعُ لكم ، وإنْ جَحَدْتُم ففي إيمان مَنْ آمن مِنْ أوليائنا عنكم خَلَفٌ ، وإنَّ الضَّرَرَ عائدٌ عليكم .

وإنَّ مَنْ أَضأْنَا عليهم شموس إقبالنا لتُشْرِقُ أنوار معارفهم؛ فإذا تُليت عليهم آياتُنا سَجَدُوا بَدَل جحْدِهم ، واستجابوا بدل تمردهم ، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم .

١٠٩

تأثيره في قلوب قوم يختلف؛ فتأثير السماع في قلوب العلماء بالتبصُّر ، وتأثير السماع في أنوار الموحِّدين بالتحير؛ تبصُّر العلماء بصحة الاستدلال ، وتحيُّر الموحدين في شهود الجمال والجلال .

وبكاء كل واحدٍ على حسب حاله : فالتائب يبكي لخوف عقوبته لما أَسْلَفَهُ من زَلَّته وحَوْبته ، والمطيعُ يبكي لتقصيره في طاعته ، ولكيلا يفوته ما يأمله من مِنَّتِه .

وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم .

وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين . وآخرون يبكون تحسراً على مايفوتهم من الحق .

والبكاء عند الأكابر معلول ، وهو في الجملة يدل على ضعف حال الرجل ، وفي معناه أنشدوا :

خُلِقْنا رجالاً للتجلدِ والأَسَى ... وتلك الغواني للبُكا والمآتِم

١١٠

قوله جلّ ذكره : { قلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاًمَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَآءُ } .

مِنْ عظيم نعمته - سبحانه - على أوليائه تَنَزُّهُهم بأسرارهم في رِياض ذِكْرِه بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة ، ومن مَأَنَسٍ إلى مأنس .

ويقال الأغنياءُ ترددهم في بساتينهم ، والأولياءُ تنزههم في مشاهد تسبيحهم ، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله .

قوله جلّ ذكره : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } .

لا تجهر بجميعها ، ولا تخافت بكُلِّها ، وارفع صوتك في بعضها دون بعض .

ويقال ولا تجهر بها جهراً يَسْمَعهُ الأعداءُ ، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء .

{ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً } : يكون للأحباب مسموعاً ، وعن الأجانب ممنوعاً .

ويقال : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } : بالنهار ، { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } : بالليل .

١١١

احْمَدْه بذكر تقدسه عن الولد ، وأنه لا شريك له؛ ولا ولي له من الذل؛ إما على أنه لم يَذَلَّ فيحتاج إلى ولي ، أو على أنه لم يوالِ أحداً من أجل مذلة به فيدفعها بموالاته . ويقال اشكره على نعمته العظيمة حيث عرَّفك بذلك .

ويقال له الأولياءُ ولكن لا يعتريهم بِذُلِّهم ، إذ يصيرون بعبادته أَعِزَّةً .

{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } بأَنْ تَعْلَمَ أَنَّك تصل إليه به لا بتكبيرك .

﴿ ٠