سورة مريم١تعريفٌ للأحباب بأسرارمعاني الخطاب ، حروف خَصَّ الحقُّ المخَاطبَ بها بفهم معانيها ، وإذا كان للأخيار سماعُها وذِكْرُها ، فللرسول ِ - عليه السلام - فَهْمُها وسِرُّها . ويقال أشار بالكاف إلى أنه الكافي في الإنعام والانتقام ، والرفع والوضع على ما سبق به القضاء والحُكْم . ويقال في الكاف تعريفٌ بكونه مع أوليائه ، وتخويفٌ بخِّفي مَكْرِه في بلائه . ويقال في الكاف إشارة إلى كتابته الرحمة على نَفْسِه قبل كتابة الملائكة الزَّلَّةَ على عباده . والهاءُ تشير إلى هدايته المؤمنين إلى عرفانه ، وتعريف خواصه باستحقاق جلال سلطانه ، وما له ن الحق بحكم إحسانه . والياء إشارة إلى يُسْر نِعَمِه بعد عُسْرِ مِحَنِه . وإلى يده المبسوطة بالرحمة للمؤمنين من عباده . والعين تشير إلى عِلْمِه بأحوالِ عَبْدِهِ في سِرَّه وجَهْرِهِ ، وقُلِّه وكُثْرِه ، وحالِه ومآلِه ، وقدْرِ طاقته وحق فاقته . وفي الصاد إلى أنه الصادق في وعده . ٢تخصيصه إياه بإجابته في سؤال وَلَدِه ، وما أراد أن يتصل بأعقابه من تخصيص القربة له ولجميع أهله . ٣وإنما ذلك لئلا يَطَّلَع أحدٌ عبى سِرِّ حاله فأخفى نداءه عن الأجانب وقد أمكنه أن يخفيه عن نفسه بالتعامي عن شهود محاسنه ، والاعتقاد بالسُّوء في نفسه ، ثم أخفى سِرَّهُ عن الخلْق لئلا يقعَ لأحدٍ إشرافٌ على حاله ، ولئلا يَشْمَتَ بمقالته أعداؤه . قوله جل ذكره : { قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ العَظْمُ مِنّىِ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } . أي لَقِيتُ بضعفي عن خدمتك ما لا أحِبُّه؛ فطعنتُ في السنِّ ، ولا قوةَ بعد المشيب؛ فهَبْ لي ولداً ينوب عني في عبادتك . ٤قوله جل ذكره : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيَاً } . أي إني أسألك واثقاً بإجابتك؛ لعلمي بأني لا أشْقَى بدعائِك فإنَّك تحِبُّ أن تُسأل . ويقال إنك عوَّدتني إجابة الدعاء ، ولم ترُدَّني في سالف أيامي إذا دعوْتُك . ٥-٦إني خِفْتُ أَنْ تذهبَ النبوة من أهل بيتي ، وتنتقل إلى بني أعمامي فهبْ لي وَلَداً يعبدك ، ويكون من نَسلِي ومن أهلي . وهو لم يرِدْ الولدَ بشهوةِ الدنيا وأَخْذِ الحظوظِ منها ، وإنما طلبَ الولدَ ليقومَ بحقِّ اللّه ، وفي قوله : { يَرِثُنِى } دليلٌ على أنه كما سأل الولدَ سأل بِقاء ولده؛ فقال : ولداً يكون وارثاً لي؛ أي يبقى بَعْدِي ، ويرث من آل يعقوب النبوةَ وتبليغ الرسالة . واجعله ربِّ رضياً : رَضِي فعيل بمعنى مفعول أي ترضى عنه فيكون مَرْضِيَّاً لك . ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل أي راضياً منك ، وراضياً بتقديرك . ٧أي استجبنا لدعائِك ، ونرزقك ولداً ذكَرَاً اسمُه يحيى؛ تحيا به عُقْرَةُ أُمِّه ، ويحيا به نَسَبُكُ ، يحيا به ذكْرُك ، وما سألَته من أن يكون نائباً عنك؛ فيحيا به محلُّ العبادة والنبوة في بيتك . { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } : انفراده - عليه السلام - بالتسمية يدل على انفراده بالفضيلة؛ أي لم يكن له سَمِيٌّ قَبْله؛ فلا أحَدَ كُفْؤٌ له في استجماع أوصاف فَضْله . ويقال لم تجعل له من قبل نظيراً؛ لأنه لم يكن أحد لا ذنبَ له قَبْلَ النبوة ولا بعدها غيره . ٨سأل الوَلدَ فلمَّا أُجِيب قال أَنَّى يكون لي غلام؟ ومعنى ذلك - على ما جاء في التفسير- أن بين سؤاله الولد وبين الإجابة مدةً طويلة؛ فكأنه سأل الولدَ في ابتداء حال سِنِّه ، واستجيبت دعوتُه بعد ما تناهى في سِنَّه ، فلذلك قال : { أَنَّى يَكُونُ لِى غُلاَمٌ } ؟ . ويقال أراد أن يعرف ممن يكون هذا الولد . . أمِنْ هذه المرأة وهي عاقر أم من امرأة أخرى أتزوج بها مملوكة أستفرشها؟ فالسؤال إنما كان لتعيين مَنْ منها يكون الولد . فقال تعالى : ٩قوله جلّ ذكره : { قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ } . معناه إجابة الولد لك فيها معجزة ودلالة في هذا الوقت الذي فيه حسب مستقرِّ العادة ولادة مثلِ هذه المرأة دلالةٌ ومعجزةٌ لك على قومك ، فتكون للإجابة بالولد مِنْ وَجْهٍ معجزةٌ؛ ومن وجهٍ راحةٌ وكرامةٌ . قوله جلّ ذكره : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } . دلَّت الآية على أن المعدومَ ليس بشيءٍ ، لأنه نفي أن يكون قبل خَلْقِه له كان شيئاً . ١٠أراد علامةً على علوق المرأة بالولد؛ ولم يُرِدْ علامةَ يَسْتَدلُّ لها على صِدْق ما يقال له . فأخبره تعالى : ( أُنْبِئُكَ علامةَ وقت إجابتك . . إِنَّ لسانَك لا ينطق معهم بالمخاطبة - ولو اجتهدت كُلَّ الجهد - ثلاثةَ أيام ، وعليكَ أن تخاطبني ، وأن تقرأ الكتب المُنَزَّلَةَ التي كانت في وقتك . فكان لا ينطق لسانه إذا أراد أن يُكلِّمَهم ، وإذا أراد أن يقرأَ الكتبَ أو يسبِّحَ اللّه انطلق مع اللّه لسانُه ) . ١١أي فلمَّا خرج عليهم عرَّفهم - من طريق الإشارة - أنَّ اللسانَ الذي كان يخاطبهم به ليس الآن منطلقاً . ١٢-١٣أي قلنا له يا يحيى خذ الكتاب بقوة مِنَّا ، خَصَصْنَاكَ بها . . . لا قوةَ يدٍ ولكن قوة قلبٍ ، وذلك خيرٌ خَصَّه اللّه تعالى به وهو النبوة . ودلَّت الآية على أنه كان من اللّه له كتاب . { وَءَاتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيّاً } أي النبوة ، بَعَثَه اللّه بها إلى قومه ، وأوحى إليه وهو صبيّ . ويقال الحُكْمُ بالصوابِ والحقِّ بين الناس . ويقال الحكم هو إحكام الفعل على وجه الأمر . قوله { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا . . . } أي آتيناه رحمةً من عندنا ، وطهارةً وتوفيقاً لمجلوبات التقوى وتحقيقاً لموهوباتها؛ فإن التقوى على قسمين : مجموع ومجلوب يتوصَّلُ إليه العبدُ بِتَكَلُّفِه وتَعَلُّمِه ، وموضعوعٍ من اللّه تعالى وموهوبٍ منه يصلُ إليه العبدُ بِبَذْله سبحانه وبفضله . ١٤{ براً بوالديه } كأمر اللّه - سبحانه - له بذلك لا لمودَّةِ البَشَرِ وموجِبِ عادة الإنسانية . ولم يكن متمرداً عن الحق ، جاحداً لربوبيته . ١٥أي له مِنَّأ أمانٌ يوم القيامة ، ويوم ولادته في البداية ، ويوم وفاته في النهاية ، وهو أن يصونَه عن الزَيْغِ والعِوَجِ في العقيدة بما يُشْهدُه على الدوام من حقيقة الإلهية . وكذلك هو في القيامة له منه - سبحانه - الأمان؛ فهو في الدنيا معصومٌ عن الزَّلَّة ، محفوظٌ عن الآفة . وفي الآخرة معصومٌ عن البلاء والمحنة . ١٦-١٧اعتزلت عنهم لتحصيلٍ يطهرها ، فاستترت عن أبصارهم . فلمَّا أبصرت جبريلَ في صورةِ إنسانٍ لم تتوقعه أَحَسَّتْ في نفسها رُعْباً ، ولم تكن لها حيلةٌ إلا تخويفه باللّه ، ورجوعها إلى اللّه . ١٨قالت مريمُ لجبريل - وهي لم تعرفه - إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت ممن يجب أن يُخَافَ ويُتَقَّى منه؛ أي إنْ كنتَ تَقْصِد السوءَ . ومعنى قولها { بالرحمن } ولم تقل : ( باللّه) - أي بالذي يرحمني فيحفظني منك . ويقال يحتمل أن يكون معناه : إن كنتَ تعرف اللّه وتكون متقياً مخالفة أمره فإنِّي أعوذ باللّه منك وأحذر عقوبته . ١٩تعرَّف جبريلُ إليها بما سكَّن رَوْعَها ، وقَرَنَ مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام . ٢٠-٢١قالت أنى يكونُ لي وَلَدٌ ولم أُلِمّ بِزلَّةٍ ولا فاحشةٍ؟ فقال جبريلُ - عليه السلام - : الأمرُ كما قلتُ لَكِ؛ فلا يتعّصى ذلك على اللّه تعالى؛ إذ هو أَقْدَرُ أَنْ يجعل هذا الوَلَدَ دلالةً على كمال قدرته ، ويكون هذا الولدُ رحمةً منه - سبحانه- لِمَنْ آمَنَ ، وسَبَبَ جهلٍِ للآخرين . ٢٢لمَّا ظهر بها الحَمْلُ ، وعَلِمَتْ أَنَّ الناسَ يستبعدون ذلك ، ولم تَثِقْ بأحدٍ تُفْشِي إليه سِرَّها . . . مَضَتْ إلى مكانٍ بعيد عن الخَلْق . ٢٣أَلَجَأَها وَجَعُ الولادةِ إلى الاعتماد إلى جِذْع النخلة . ولمَّا أَخذها الطَلْقُ ، ودَاخَلَهَا الخَجَلُ مِنْ قومِها نَطَقَتْ بلسانِ العَجزِ ، وقالت : { يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا } . ويقال يحتمل أنها قالتها إشفاقاً من قومها ، لأنها عَلِمَتْ أَنَّهم سيبسطون لسانَ الملامةِ فيها بسلانِ الفُجْر؛ وينسبونها إلى الفحشاء . ويقال قالتها شفقةً على قومها لئلا تُصِيبَهم بِسبَبَها عقوبةٌ . ويقال قالت : { يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا } حتى لم أسمع مَنْ قال في اللّه تعالى بسببي إن عيسى ابن اللّه وابن مريم ، وإن مريمَ زوجتُه . . . تعالى اللّه عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً! ويقال { يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا } : في الوقت الذي كنتُ مرفوقاً بي ، ولم تستقبلني هذه الخشونةُ في الحالةِ التي لَحِقَتْنِي . ويقال { يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا } : في الوقت الذي لم يكن قلبي متعلقاً بسبب . ٢٤في التفسير أن المَعْنِيَّ بقوله { مِن تَحْتِهَا } : جبريلُ عليه السلام ، وقيل عيسى عليه السلام . والمقصودُ منه تسكينُ ما كان بها من الوحشة ، والبشارة بعيسى عليه السلام ، أي يرزقك اللّه ولداً سرياً . ٢٥وكان جِذْعاً يابساً أخرج اللّه تعالى منه في الوقتِ الثمرةَ ، وهي الرُّطبُ الجنيُّ ، وكان في ذلك آية ودلالة لها؛ فالذي قدر على فعل مثل هذا قادر على خلق عيسى - عليه السلام - من غير أبٍ . ويقال عندما كانت مُجَرَّدَةً بلا علاقة ، فقد كان زكريا - عليه السلام - يَجِدُ عندها رزقاً من غير أن أُمِرْتْ بتكليف ، فلمَّا جاءَتْ علاقةُ الولدِ أُمِرَتْ بهزِّ النخلةِ اليابسةِ - وهي في أضعف حالها؛ زمان قرب عهدها بوضع الولد ، لِيُعْلَمَ أَنَّ العلاقةَ توجِبُ العناءَ والمشقة . ويقال بل أُمِرَتْ بهزِّ النخلة اليابسة ، وكان تمكنُها من ذلك أوضحَ دلالة على صدقها في حالها . ويقال لمّا لم يكن لها في هذه الحالة مَنْ يقوم بتعهدها تولَّى اللّه تعالى كفايتها؛ لِيَعْلَمَ العالمون أنه لا يضيع خواصَّ عِبادِه في وقت حاجتهم . ٢٦كفاها أسبابَ ما احتاجت إليه مِنْ أَكْلِهَا وشُرْبِها ، وسَكَّنَ من خوفها ، وطيَّبَ قلبَها . { فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ البَشَرِ أَحَدا } : فلا تخاطبيهم وعرِّفيهم - بالإشارة - أَنَّكِ نَذَرْتِ للرحمن الصمتَ مع الخَلْق ، وتَرْكَ المخاطبةِ معهم . ٢٧-٢٨بسط قومُها فيها لسانَ الملامةِ لما رَأَوْها قد وَلَدَتْ - وظاهرُ الحالِ كان معهم - فقالوا لها على سبيل الملامة : يا مَنْ كنا نَعُدُّكِ في الصلاح بمنزلة هارون المعروف بالسداد والصلاح . . . مِنْ أين لكِ هذه الحالة الشنعاء؟ ويقال كان أخوها اسمه هارون . ويقال كان هارون رجلاً فاسقاً في قومهم ، فقالوا : يا شبيهته في الفساد . . ما هذا الولد؟ ويقال كان هارون رجلاً صالحاً فيهم فقالوا : يا أخت هارون ، ويا مَن في حسابنا وظَنَنَّا ما كان أبواكِ فيهما سوء ولا فساد . . . كيف أتيتِ بهذه الكبيرة الفظيمعة؟! ٢٩في الظاهر أشارت إلى الولد ، وفي الباطن أشارت إلى اللّه ، فأخذهم ما قرب وما بعد وقالوا : كيف نكلِّم مَنْ هو أهل بأن يُنَوَّم في المهد؟! ف ( كان ) ها هنا في اللفظ صلة . . . وحملوا ذلك منها على الاستهانة بفعلتها . ٣٠لما قالوا ذلك أنطق اللّه عيسى حتى قال : { إِنِّى عَبْدُ اللّه } ، فظهرت براءةُ ساحتها بكلام عيسى قبل أن يتكلم مثلُه . وجرى على لسانه حتى قال : { إِنِّى عَبْدُ اللّه } ؛ ليُقَال للنصارى إِنْ صَدَقَ عيسى أنه عبدُ اللّه بطل قولُكم إِنه ثالث ثلاثة ، وإِن كذب فالذي يكذب لا يكون ابناً للّه ، وإنما يكون عبداً للّه ، وإذا لم يكن عَبْدَ هواه ، ولا في أسْْرِ شيءِ سواه فَمَنْ تحرر مِنْ غيره فهو في الحقيقة عَبْدُه . { ءَاتِانِىَ الكِتَابَ } أي سيؤتيني الكتاب أو آتاني في سابق حكمه . { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } بفضله . وفي الآية ردٌّ على من يقول إن النبوة تُسْتَحقُّ بكثرة الطاعة لأنه قال ذلك في حال ولادته؛ لم تَكُنْ منه بَعْدُ عبادةٌ وأخبر أن اللّه جعله نبياً . ٣١أي نافعاً للخلْق يرشدهم إلى أمور دينهم ، ويمنعهم من ارتكاب الزَّلّةِ التي فيها هلاكهم ، ومَنْ استضاء بنوره نجا . . فهذه بركاتُه التي كانت تصل إلى الخلْق . ومَنْ بركاتِه إغاثةُ الملهوف ، وإعانةُ الضعيف ، ونصرة المظلوم ، ومواساة الفقير ، وإرشاد الضال ، والنصيحة للخَلْق ، وكفُّ الأذى عنهم وحَمْلُ الأذى منهم . ٣٢{ وَبَرَّا بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً } أي لم يجعلني غيرَ قابلٍ للنصيحة . ويقال { شَقِيّاً } : أي متكبراً متجبراً . ويقال مختوماً بكُفْرٍ . ٣٣قال عيسى عليه السلام : { وَالسَّلاَمُ عَلَىَّ } وقال لنبينا عليه السلام ليلة المعراج : ( السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ) . . فشتان ما هما! والسلام بمعنى السلامة ، أي سلامة لي يوم الولادة مما نسبوا إِليَّ من قول النصارى في مجاوزة الحدِّ في المدح ، ومما وصفني به اليهود من الذمِّ ، فَلَسْتُ كما قالت الطائفتان جميعاً . وسلام عليَّ يوم أموت؛ ففي ذلك اليوم تكون لي سلامةٌ حتى تكون بالسعادة وفاتي . وسلام عليّ يو أُبْعَثُ؛ أي سلامةٌ لي في الأحوالِ مِمَّا يُبْتَلَى به غيرُ أهل الوصال . ٣٤أي الذي قال ما أخبر اللّه عنه هو عيسى ابن مريم . . . أيكون بقول إله؟ وقد شكَّ فيه أكثر الخَلْق فَرَدَّه قومٌ وَقِبَله قومٌ ، والفَرق بينهم افي استحقاقه . وقوله : { قَوْلَ الحَقِّ } أي يكون بقوله الحق وهو : ٣٥لا يجوز أن يكون له وَلَدٌ على الحقيقة؛ لأنه واحد ، والوَلَدُ بعضُ والده . ولأنه لا داعي له إلى صحبة زوجة فيكون له ولد على الحقيقة . ولا يجوز عليه التبني لأحدٍ لَعَدَمِ الجنسية بينهما . وقوله : { إِذَا قَضَى أَمْراً . . . } إذا أراد إحداثَ شيءٍ خَلَقَه بقدرته ، وخاطَبَه بأمر التكوين ، ولا يتعصَّى عليه - في التحقيق - مقدور . ٣٦{ وَإِنَّ اللّه رَبِّى وَرَبُّكُمْ } أي أمرني بأن تعلموا ذلك؛ وأمرني بتبليغ رسالتي ، واتباع ما شَرَعَ اللّه من العبادات . ٣٧فَمَنْ عُجِنَتْ بِماءِ السعادةِ طينتُه أَطَاعَ في عاجله وما ضاع في آجله ، ومَنْ أَقْصَتْه القِسْمة السابقة لم تُدْنِه الخِدْمَةُ اللاحقة ، وسَيَلْقَوْْنَ غِبَّ هذا الأمر . ٣٨تصير معارفهم ضروريةً ، وأحوالُهم كلُّها معكوسةًَ ، الحُجَّة تتأكَّد عليهم ، والحاجةُ لا تُسْمَعُ منهم ، والرحمةُ لا تتعلَّق بهم ، فلا تُرْحَم شكاتُهم ، ولا يُسْمَعُ نِداؤُهم . ٣٩تقوم الساعةُ بغتةً ، وتصادفهم القيامةُ وهم غيرُ مستعدين لها فيتحسَّرون على ما فاتهم . ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سَبَقَتْ لقوم الشقاوةُ- وهم في محو العَدَم ، ولآخرين السعادة - وهم بنعت العدم - ولم يكن من أُولئك جُرْم بَعْدُ ، ولا مِنْ هؤلاء وِفَاقٌ بعدُ . ٤٠يريد به إذا قَبَضَ أرواحَ بني آدم بجملتهم ، ولم يبقَ على وجه الأرض منهم واحدٌ ، وليس يريد به استحداث مُلْكِه ، وهو اليومَ مالِكُ الأرض ومَنْ عليها ، ومالكُ الكونِ وما فيه . ويقال إن زكريا قال - لمَّا سأل الولد : { يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ }[ مريم : ٦ ] وقال تعالى في صفة بني إسرائيل : { كّذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرآءِيلَ }[ الشعراء : ٥٩ ] وقال : { إِنَّ الأَرْضَ للّه يُررِثُهُا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ }[ الأعراف : ١٢٨ ] ، ولما انتهى إلى هذه الأمة قال : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمنْ عَلَيْهَا } . . فشتان بين مَنْ وارِثُه الوَلَدُ وبين مَن ْ وارِثُه الأَحَدُ! ويقال هان على العبد المسلم إِذل مات إذا كان الحقُّ وارثَه . . . . وهذا مخلوق يقول في صفه مخلوق : فإِنْ يكُ عتَّابٌ مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مِثْلُ خالدِ . وقال تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءُ }[ آل عمران : ١٦٨ ] لماذا؟ لأَِنَّ وارثَهم اللّه . ٤١الصِذِّيق الكثير الصدق ، الذي لا يمازج صِدْقَه شوبٌ . ويقال هو الصادق في أقواله وأعماله وأحواله . ويقال الصِدِّيق لا يناقِضُ سِرُّهُ عَلَنَه . ويقال هو الذي لا يشهد غيرَ اللّه مُثْبِتَاً ولا نافياً . ويقال هو المستجيب لِمَا يُطَالَب به جملةً وتفصيلاً . ويقال هو الواقفُ مع اللّه في عموم الأوقات على حدِّ الصدق . ٤٢دلَّت الآيةُ على استحقاقِ المعبودِ الوصفَ بالسمع والبصرِ على الكمال دون نُقْصانٍ فيه ، وكذلك القول في القدرة على الضَّرِّ والنفع . وإذا رجع العبدُ إلى التحقيق عَلِمَ أن كلَّ الخَلْق لا تَصْلُحُ قدرةُ واحدٍ منهم للإبداع والإحداث ، فمن عَلََّق قلبه بمخلوق ، وأو تَوَهَّمَ شظية منه من النفي والإثبات فَقَدْ ضَاهَى عَبَدةَ الأصنام . ٤٣أَمَرَه باتباعه لمَّا ترجح عليه جانبُه في كَوْنِ الحقِّ معه - وإِنْ كان أكبرَ منه سِنَّاً ، وبيَّن أن الخلاص في اتباع أهل الحقِّ ، وأَنَّ الهلاكَ في الابتداع والتطوع في مغاليط الطرق . ٤٤بيَّن أَنَّ العلةَ في منعه من عبادة الشيطان عصيانه للرحمن فَبَانَ أنه لا ينبغي أَنْ تكون طاعةٌ لِمَنْ يَعْصِي اللّه بحالٍ . ويقال أساسُ الدَّين هِجْرَانُ أَرباب العصيان . ٤٥لم يغادِرْ الخليل شيئاً من الشفقة على أبيه ، ولم ينفعه جميل وعظه ، ولم تنجع فيه كثْرَةُ نُصْحه؛ فإِنَّ مَنْ اَقْصَتْه سوابِقٌ التقدير لم تُخَلِّصْه لواحقُ التدبير . ٤٦قوله جلّ ذكره : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَآإبْرَاهِيمُ } . منَّاه إبراهيمُ بجميل العُقْبَى ، فقابلَه بتوعدُّ العقوبة فقال : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مِليّاً } . فأجابه الخليل بمقتضى سكون البصيرة . ٤٧وهذا قبل أن ييأسَ من إيمانه ، إذا كانت لديه بعدُ بقيةٌ من الرجاء في شأنه ، فلمَّا تحقق أنه مختومٌ له بالشقاوة . ٤٨{ وَمَا تَدْعُونَ } : أي ما تعبدون ، { وَأَدْعُوا رَبِىّ } : أي أعبده . ٤٩-٥٠لما أَيِسَ من أصلِه آنسَه اللّه بما أكرمه من نَسْلِه ، فأنبتهم نباتاً حسناً ، ورزقهم النبوةَ ، ولسان الصدق بالذكر لهم على الدوام فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } . ٥١مُخْلَصاً خالصاً للّه ، ولم يكن لغيرِه بوجهٍ؛ فلم تأخذه في اللّه لومةُ لائم ، ولم يستفزه طمع نحو إيثار حظٍ ، ولم يُغْض في اللّه على شيءٍ . ٥٢للنجوى مزية على النداء ، فجمع له الوصفَيْن : النداءَ في بدايته ، والسماعَ والنجوى في نهايته؛ فوقَفَه الحقُّ وناداه ، وفي جميع الحالين تولاّه . { مِن جَانِبِ الطُّورِ } : ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور . ٥٣من خصائص موسى أنه وهب له أخاه هارون نبيَّاً . ٥٤-٥٥كان صادق الوعد إذ وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه ، وصبر على ذلك إلى أن ظهر الفِداء . وصدق الوعد لأنه حفظ العهد . وكان يأمر أهله بالصلاة - بأمر اللّه أياه - وبالزكاة ، ويشتمل هذه على أمره إياهم بالعيادة البدنية والمالية حيثما وكيفما كان . { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } وكان هذا أشرفَ خِصاله وأَجلَّ صفاته . ٥٦الصِّدِّيق كثير الصدق ، لا يشوب صدقه مَذْقٌ ، ويكون قائماً بالحقِّ للحق ، ولا يكون فيه نَفَسٌ لغيراللّه . ٥٧{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } : درجة عظيمة في التربية لم يُسَاوِه فيها أَحَدٌ . ٥٨أقامهم بشواهد الجمع ، وأخبر أن مِنَّتَه كامِنَةٌ في تخصيصِهم بأحوالهم ، وتأهيلهم لِمَا رقَّاهم إليه من المآل ، وأنه بفضله اختارهم واجتباهم . ومما أنعم به عليهم من الخصائص رِقَّةُ قلوبِهم؛ فهم إذ تُتْلَى عليهم الآياتُ سجدوا ، وسجوُد ظواهرِهم يدل على سجدود سرائرهم بما حقَّقَ لهم من شواهد الجمع ، وأمارة صحته ما وفقهم إليه من عين الفرق؛ فبوصف التفرقة قاموا بحق آداب العبودية ، وبِنعَت الجمع تحققوا بحقائق الربوبية . ٥٩الذين حادوا عن طريقهم ، وضيعَّوا حقَّ الشرع ، وتخطوا واجبَ الأمر ، وزاغوا عن طريق الرشد ، وأخلوا بآداب الشرع ، وانخرطوا في سِلْكِ متابعة الشهوات - سيلقون عن قريبٍ ما يستوجبونه ، ويُعَامَلُون بما يستحقونه ، ويُعَاملون بما يستحقونه . ٦٠-٦١قوله جلّ ذكره : { إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } . فأولئك الذين تداركتهْم الرحمةُ الأزليةُ ، وسيبقون في النعم السرمدية . يستنجز الحقُّ لهم عِدَاتِهِم ، ويُوَصِّلُهم إلى درجاتهم ، ويُحَقِّق لهم ما وعدهم . { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } : لأن ما أُتِيتَه فقد أتاك أو ما أَتَاكَ فقد أتيته . ٦٢{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } : فإِن أسماعَهم مصونةٌ عن سماعِ الأغيارِ ، لا يسمعون إلا من اللّه وباللّه ، فإن لم يكن ذلك فلا يسمعون إلا اللّه . قوله جلّ ذكره : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } . كانوا يعدون مَنْ عنده طعام البكرة والعشية مِنْ جملة المياسيرِ والأغنياءِ لكونهم فقراءَ؛ إنْ وجدوا غَداءَهم ففي الغالب يَعْدِمُونَ عشاءَهم ، وإِنْ وجدوا عشاءَهم فَقَلَّما كانوا يجدون غداءَهم . ويقال في : { وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ فيها }[ النحل : ٥٧ ] : بمقدار الغدو والعشي من الزمان في الجنة أي كالوقت . ثم إن الأرزاق تختلف في الجنة؛ فللأشباحِ رِزْقٌ من مطعومِ ومشروب ، وللأرواحِ رزقٌ من سماعٍ وشهود ، ولكلٍ - على قَدْرِ استحقاقه - قِسْطٌ معلوم . ٦٣فالجنة للأتقياء من هذه الأمة مُعَدّةٌ له ، والرحمةُ لُعصاةِ المسلمين مُدَّخرةٌ لهم ، الجنةُ لُطْفٌ من اللّه تعالى ، والرحمةُ وَصْفٌ للّه تعالى . وقوله : { مِنْ عِبَادِنَا } : فَعَبْدُه على الخصوصية مَنْ كان اليومَ في قيد أمره . وقوله : { مَن كَانَ تَقِيّاً } : قوم يتقون المعاصي والمخالفات ، وقوم يتقون الشهواتِ ، وآخرون يتقون الغفلاتِ ، وآخرون يتقون شهود كُلَّ غيره . ٦٤إن الملائكةَ - عليهم السلام - أبداً يَنْزِلون بإِذن الحقِّ تعالى ، فبعضهم بإنجاد المظلومين ، وبعضهم بإِغاثة الملهوفين ، وبعضهم بتدمير الجاحدين ، وبعضهم بنصرة المؤمنين ، وبعضهم إلى ما لا يحصى من أمور الناس أجميعن . واللّه - سبحانه - لا يترك جاحداً ولا عابداً من حِفْظٍ وإنعامٍ ، أو إمهالٍ ونكَال . . . . ٦٥بحق الإظهار يجب أن يكون هو ربَّها ، ويكون مالَكها ، ويكون قادراً عليها . وإذا وجدت فهو فاعلها ، فمعنى كون فعل الشيء لفاعله أنه في مقدوره وجوده . ويقال إذا كان ربَّ الأكابرِ من الأقوياء فهو أيضاً ربُّ الأصاغر من الضعفاء ، وقيمةُ العَبْدِ بمالِكِه وقَدْرِه ، لا بثمنه في نَفْسِه وَخَطَره . قوله : { فَاعْبُدْهُ } أي قِفْ حيثما أمرك ، ودَعْ ما يقع لك ، وخَلِّ رأيك وتدبيرك . قوله { وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } : الاصطبار غاية الصبر . قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } : أي كفواً ونظيراً . ويقال هل تعرف أحداً يسمى ( اللّه) غيرَ اللّه؟ ويقال أَنَّي بالنظير . . . وهو بالقِدَمِ متوحد! والتشبيه يقتضي التسوية بين المتشابهين ، ولا مِثْلَ له . . . لا موجوداً ولا موهوماً . ٦٦-٦٧أنكروا حديثَ البعثِ غاية الإنكار ، فأقام الحّجَة عليهم بالنشأة الأولى؛ فقال : إن الذي قدر على خَلْقِ في الابتداء وهم نُطَفٌ ضعفاء ، وقَبْلُ كانوا في أصلابِ الآباءِ وأرحامِ الأمهاتِ فَفَطَرَهمُ ، وعلى ما صَوَّرَهم ، وفي الوقت الذي أراد - عن بطون أمهاتهم أَخْرَجَهُم . قوله : { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } فيه دليل على صحة أهل البصائر أَنّ المعدومَ لم يك شيئاً في حال عَدَمِه . ويقال أبطل لهم كلَّ دعوى حيث ذَكَّرَهم نَسبَهم وكَوْنَهم مِنَ العَدَمِ . ٦٨نحشرهم جميعاً فيجتمعون في العَرْصَةِ ثم يختلف مُنْقَلَبُهم؛ فيصير قومٌ إلى النار ثم إلى دَرَكاتٍ بعضها أسفل من بعض - واسمُ جهنم يجمع أماكنهم . ويصير قومٌ إلى الجنة ثم هي دَرَجَاتٌ بعضها أعلى رتبةً ودرجةً من بعض - واسمُ الجنة يشتمل على جميع مساكنهم . ويقال التفاوتُ في الجنةِ بين الدرجاتِ أكثرُ من التفاوت بين أهل الدارين . ٦٩مَنْ تَقدَّمَ عليهم في الإضلال والضلال ضوعف عليه غداً العذاب والأغلال . ٧٠ينزل في كل دَرَكَةٍ من دركاتها من هو أهل لها ، فمن كان عتوُّه اليومَ أشدَّ غلوا كان في النار أبعدَ من اللّه وأشدَّ عقوبةً وإذلالاً . ٧١كلٌّ يَرِدُ النارَ ولكن لا ضيْرَ منها ولا احتباسَ بها لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من ( . . . ) والزلل؛ فأشدُّهم انهماكاً أشدهم بالنار اشتعالاً واحتراقاً . وقوم يردونها - كما في الخبر : ( إن للنار عند مرورهم عليها إذوابةً كإذوابةِ اللَّبَن ، فيدخلونها ولا يحسون بها ، فإذا عبروها قالوا : أو ليس وعدنا جهنم على طريق؟ فيقال لهم . عبرتم وما شعرتم ) ٧٢يُنَجِّي مَنْ كان مؤمناً ، بعضهم قَبْلَ بعض ، وبعضهم بَعْدَ بعض ، ولكن لا يبقى من المؤمنين مَنْ لا ينجيهم . ويترك الكفار فيها بنعت الخيبة عن الخروج منها ، وعند ذلك يشتدُّ عليهم البلاء ، وتُطْبقُ عليهم أبوابُ جهنم ، وينقطع منهم الرجاء والأمل . وإنما ينجو القوم بحسب تقواهم؛ فزيادة التقوى توجِب لهم التعجيل في النجاة؛ فمن سابقٍ ومن لاحقٍ ، ومن منقطع ، ومن محترق . . . إلى كثيرٍ من الأصناف والألوان . ٧٣يعني إذا قُرِئَتْ عليهم آياتُ القرآن قابلوها بالردِّ والجحد والعتو والزيغ ، ويَدَّعُون أنهم على حقٍ ، ولا يعتمدون في ذلك إلا على الحَدْسِ والظَّنِّ . ٧٤أي إن هؤلاء ينخرطون في سِلْكِ مَنْ تَقَدَّمهم ، كما سلكوا في الريب منهاجهم ، وسَيَلْقَوْن ما يستوجبونه على سوء أعمالهم . ٧٥إن اللّه تعالى يُمْهِلُ الكفارَ ليركنوا إلى أباطيل ظنونهم ، ويَغْترُّوا بسلامةِ أحوالهم ، فينسونه في غفلة الإمهال والاغترار بسلامة أحوالهم ، ثم يغشاهم التقدير بما يستوجب حسبانهم . قوله : { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ . . . } أي يحل بهم موعودُ العقوبة عاجلاً أو قيام الساعة آجلاً ، فعند ذلك يتضح لهم ما تعامَوْا عنه من شدة الانتقام ، وسيعلمون عند ذلك ما فاتهم وما أصابهم . ٧٦قوله جلّ ذكره : { وَيَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً } . أي يُغْنيهم بنور البدر عن الاستضاءة بنور النجم ، ثم بطلوع الفجر قبل طلوع الشمس ، فإذا مَتَعَ نهارُ العرفانِِ فلا ظلمة ولا تهمة . { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّا } { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } : الشهادةُ بالربوبيةِ خيرٌ من غيرها مما لا يوجد فيه صدق الإخلاص . ويقال : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } : التي تبقى عند اللّه مقبولة . قوله تعالى : { خَيْرٌ } لأن في استحقاقِ القبول زيادةً للّهدى؛ فيصير عِلْمُ اليقين عينَ اليقين ، وعينُ يقينهم حَقَّ اليقين . ٧٧أخْبِرْ بقصة ذلك الكافر الذي قال بيمين - من غير حجة - لأُعْطيَنَّ مالاً وولداً ، ورأى أن يكون ليمينه تصديق ، فهل هو : ٧٨هل يقول ما يقول بتعريفِ منا؟ أم هل اتخذ مع اللّه عهداً؟ ليس الأمركذلك ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا ظن باللّه تعالى ظناً جميلاً ، أو أمَّلَ منه أشياء كثيرة فاللّه تعالى يحققها له ، ويَصْدُقُ ظَنُّه لأنه على عهد مع اللّه تعالى ، واللّه تعالى لا يخلف عهده . ٧٩كلا . . . ليس الأمر على ما يقول ، وليس لقولهم تحقيق ، بل سنمد لهم من العذاب مداً أي سنطيل في العذاب مدتهم . ٨٠{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ . . . } لن نُمَتِّعَه بأولاده وَحَشمِه وخَدَمهِ وقَوْمه ، ويعود إلينا منفرداً عنهم . ٨١-٨٢حكموا بظنهم الفاسدِ أنَّ أصنامَهم تمنعهم ، وأنَّ ما عبدوه من دون اللّه تعالى توجِبُ عبادتهم لهم عند اللّه تعالى وسيلةً . . . وهيهات! هيهات أن تكون لمغاليط حسبانهم تحقيق ، بل إذا حُشِرُوا وحُشِرَتْ أصنامُهم تَبَرَّأَتْ أصنامُهم منهم ، وما أمَّلُوا نفعاً منها عاد ضرراً عليهم . ويقال طلبوا العِزَّ في أماكن الذل ، فأخفقوا في الطلب ، ونُفُوا عن المراد . ٨٣تؤزهم أي تزعجهم ، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وغُمَّة ، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكينة ، وهذه إحدى الدلائل بينهما . ٨٤الأنفاس في الحكم معدودة؛ فمن لم يستوف فلا انقضاء لها . وإذا انتهى الأَجَلُ فلا تنفع بعد ذلك الحِيَلُ ، وقبل انقضائه لا يزيد ولا ينقص بالعلل . ٨٥قيل ركباناً على نجائب طاعاتهم ، وهم مختلفون؛ فَمِنْ راكبٍ على صدور طاعاته ، ومن راكبٍ على مراكب هِمَمِه ، ومن راكبٍ على نجائب أنواره . ومِنْ محمولٍ يحمله الحقُّ في عقباه كما يحمله اليومَ في دنياه . وليس محمولُ الحقِّ كمحمول الخَلْق! ٨٦فأولئك يُساقون بوصف العِزَّ ، وهؤلاء يُساقون بنعت الذُّلِّ ، فيجمعهم في السَّوْقِ ، ولكن يُغَابر بينهم في معانيه . . . . فشتَّان ما هما!! ٨٧وذلك العهدُ حِفْظُهم في دنياهم ما أُخِذَ عليهم - يومَ الميثاق- من القيام بالشهادة بوحدانية مولاهم . ٨٨-٩١ما أعظم بهتانَهم في مقالتهم! وما أشدَّ جرأتَهم في قبيح حالتهم! لكنَّ الصمديةَ متقدِّسِةٌ عن عائدٍ يعود إليها من زَيْنٍ بتوحيدِ مُوَحِّد ، أو شَيْنٍ بإلحاد مُلْحِد . . . فما شاهت إِلاَّ وجوهُهم بما خاضوا فيه من مقالهم ، وما صاروا إليه من ضلالهم . كما لم يَتَجمَّلْ بما قاله الآخرون إلا القائل ، وما عاد إلا القائل مقابلٌ من عاجلٍ أو آجل . ٩٢-٩٣أنَّى بالولد وهو واحد؟! وأَنَّى بالولادة ولا جنسَ له وجوباً ولا جوازاً؟! ٩٤{ لَّقَدْ أَحْصَاهُم . . . } : لا يَعْزُب عن عِلْمِه معلومٌ ، ولا ينفكُّ عن قدرته - مما يصح أن يقال حدوثه - موهوم . ٩٥{ وَكُلُّهُمْ ءَاتيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً } لا خَدَمَ يصحبهم ، ولا حَشَمَ يلحقهم ، كلَّ بِنَفْسِهِ مشتغِلٌ ، وعن غيره منفرد . ٩٦يجعل في قلوبهم وداً للّه نتيجةً لأعمالهم الخالصة ، وفي الخبر : ( لا يزال العبد يتقربَ إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه ) . ويقال يجعل لهم الرحمن وداً في قلوب عباده ، وفي قلوب الملائكة ، فأهل الخير والطاعة محبوبون مِنْ كلِّ أحد من غير استحقاق بفعل . ٩٧الكلام واحد والخطاب واحد ، وهو لقوم تيسير ، ولآخرين تخويف وتحذير فطوبى لِمَنْ يُسِّر لما وفِّق به ، والويل لمن خُوِّف بل خُذِلَ فيه . والقومُ بين موفقٍ ومَخْذُولٍ . ٩٨أثبتهم وأحياهم ، وعلى ما شاء فطرهم وأبقاهم ، ثم بعد ذلك - لما شاء - أماتهم وأفناهم ، فبادوا بأجمعهم ، وهلكوا عن آخرهم ، فلا كبير منهم ولا صغير ، ولا جليل ولا حقير ، وسَيُطَالبونَ - يومَ النشور - بالنقير والقطمير . |
﴿ ٠ ﴾