سورة طه

١

الطاء إشارة إلى قلبه - عليه السلام - من غير اللّه ، والهاء إشارة إلى اهتداء قلبه إلى اللّه .

وقيل طَأْ بِسرِّك بساط القربة فأنتَ لا تهتدي إلى غيرنا .

ويقال طوينا عن سرِّك ذِكْرَ غيرنا ، وهديناك إلينا .

ويقال طوبى لمن اهتدى بك . ويقال طاب عيشُ مَنْ اهتدى بك .

{ مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْءَانَ لِتَشْقَى } : أي ليس المقصود من إيجابنا إليك تعبدك ، وإنما هذا استفتاحُ الوُصلة ، والتمهيد لبساط القُرْبَةِ .

ويقال إنه لما قال له : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ }[ الحجر : ٨٨ ] وقف بِفَرْدِ قدم تباعدا وتنزهاً عن أن يقرب من الدنيا استمتاعاً بها بوجهٍ فقيل له : طأ الأرض بقدميك . . . لِمَ كل هذا التعب الذي تتحمله؟ فزاد في تعبده ، ووقف ، حتى تقدمت قدماه وقال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) أي لما أهلني من التوفيق حتى أعبده .

٣

فالقرآنُ تَبْصِرةٌ لذوي العقول ، تذكرة لذوي الوصول ، فهؤلاء به يستبصرون فينالون به راحةَ النَّفْسِ في آجِلِهم ، وهؤلاء به يذكرون فيجدون رَوْحَ الأُنْسِ في عاجِلهم .

٤

جَعَلَ الأرض قراراً لِعبادِه . ونفوسُ العابدين أرضٌ وقرارٌ لطاعتهم ، وقلوبُ العارفين قرارٌ لمعارفهم .

٥

استواء عَرْشِه في السماءِ معلوم ، وعَرْشه في الأرض قلوبُ أهل التوحيد .

قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }[ الحاقة : ١٧ ] وعرش القلوب : قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَرِّ وَالبَحْرِ }[ الإسراء : ٧٠ ] أمَّا عرش السماء فالرحمن عليه استوى ، وعرشُ القلوبِ الرحمنُ عليه استولى . عرشُ السماءِ قِبْلَهُ دعاءِ الخَلْق ، وعرشُ القلبِ مَحَلٌّ نَظَرِ الحق . . . . . فشتَّان بين عرشٍ وعرش!

٦

له الأشياء على العموم مِلْكاً ، والأولياء تخصيصاً وتشريفاً . له ما بين السموات والأرض مما أظهر من العَدَمِ؛ فالكلُّ له إثباتاً وخَلْقَاً .

٧

النَّفْسُ لا تقف على ما في القلب ، والقلبُ لا يقف على أسرار الرُّوح ، والروح لا سبيل له إلى حقائق السرِّ . والذي هو أخفى من السِّرِّ فهو ما لا يَطَّلِعُ عليه إلا الحق .

ويقال الذي هو أخفى من السر لا يفسده الشيطان ، ولا يكتبه المَلَكَانِ ، ويستأثِرُ بِعلْمه الجبَّارُ ، ولا تقف عليه الأغيار .

٨

نَفَى كل موهوم من الحدثان بأن يكون شيءٌ منه صالحاً للإبداع ، وأثبت كُلِّ ما في الوجود له باستحقاق القِدَم .

{ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى } أي صفاته ، على انقسامها إلى صفة ذات وصفة معنى .

ويقال { لَهُ الأسْمَآءُ الحُسْنَى } تعريفٌ للخَلْق بأنَّ استحقاق العلو والتقدُّس عن النقائص له على وصف التفرُّد به .

٩

سؤال في صيغة الاستفهام والمراد منه التقرير والإثبات . وأجرى - تعالى - سُنَّتَه في كتابه أن يذكر قصة موسى عليه السلام في أكثر المواقع التي يذكر فيها حديث نبينا صلى اللّه عليه وسلم فيعقبه بذكر موسى عليه السلام .

١٠

ألاح له النار حتى أخرجه من أهله يطلبها ، وكان المقصودُ إخراجَه من بينهم ، فكان موسى عليه السلام يدنو والنار تنأى ، وقال لأهلِه :

{ امْكُثُوا إِنِِّى ءَانَسْتُ نَاراً } فقال أهلُه : كيف تتركنا والوادي مسبع؟ فقال : لأجلِكُم أفارقكم؛ فلَعَلِّي آتيكم من هذه النار بقبس .

ويقال استولى على موسى عند رؤيته النار الانزعاجُ ، فلم يتمالك حتى خرج . ففي القصة أنه لما أتاها وَجَدَ شجرةً تشتعل من أولها إلى آخرها ، فجمع موسى - عليه السلام - حشائشَ ليأخذ من تلك النار ، فعرف أن هذه النارلا تسمح نفْسُها بأَنْ تُعْطِي إلى أحدٍ شعلة :

وقَلَن لنا نحن الأَهِلَّةُ إنما ... نضيءُ لِمَنْ يَسْرِي بليلٍ ولا نُقْرِي

يا موسى هذه النارُ تضيءُ ولكن لا تعطي لأحدٍ منها شعلة . يا موسى هذه النارُ تحرق القلوبَ لا النفوس .

ويقال كان موسى عليه السلام في مزاولة قَبسٍ من النار فكان يحتال كيف يأخذ منها شيئاً ، فبينما هو في حالته إذ سمع النداءَ من الحقِّ .

١١-١٢

علم موسى أنه كلام الحق - سبحانه - لَمَّا سَمِعَ فيه الترتيبَ والتنظيمَ والتركيب ، فَعَلِمَ أنه خطاب الحق .

ويقال إنما عرف موسى - عليه السلام - أنه كلامُ اللّه بتعريفٍ خصَّه الحق - سبحانه - به من حيث الإلهام دون نوع من الاستدلال .

قوله : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ . . . } فإِن بِسَاطَ حضرةِ الملوكِ لا يُوطَأُ بِنَعْلٍ .

ويقال ألقِ عصاك يا موسى واخلع نعليك ، وأَقِمْ عندنا هذه الليلةَ ولا تَبْرَحْ ويقال الإشارة في الأمر بخلع النعلين تفريغ القلب من حديث الدارَيْن ، والتجرد للحقِّ بنعت الانفراد .

ويقال : { اخلع نعليك } : تَبَرَّأْ عن نَوْعَيْ أفعالك ، وامْحُ عن الشهود جنْسَيْ أحوالِك من قربٍ وبُعْدٍ ، ووَصْلٍ وفَصْلٍ ، وارتياح واجتياح ، وفناء وبقاء . . . . وكُنْ بوصفنا؛ فإٍنما أنت بحقنا .

أَثْبَتَه في أحواله حتى كان كالمجرد عن جملته ، المُصْطَلَم عن شواهده .

قوله : { إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوىً } : أي إنك بالوادي المقدس عن الأعلال؛ وساحاتُ الصمدية تَجِلُّ عن كل شيْن ، وإيمانٍ وزَيْن؛ عن زَيْنٍ بإحسان وشَيْنٍ بعصيان؛ لأنَّ للربوبية سَطَعَاتِ عِزِّ تقهر كل شيء .

١٣

وعلى علمٍ مني بك اصطفيتكُ ، وجَرَّدْتُكَ ونقيتك عن دَنَسِ الأوهام وكلّ ما يُكَدِّرُ صَفْوَك .

ويقال بعدما اخترتُك فأنت لي وبي ، وأنت محو في فنائك عنك .

١٤

قوله جلّ ذكره : { إِنَّنِى أَنَا اللّه لآَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِى } .

تقدَّسْتُ عن الأعلال في أَزلي ، وتنزهت ( . . . ) والأشكال باستحقاقي لجلالي وجمالي .

ويقال : { لآَ إِلَهَ إلاَّ أَنَا } : الأغيار في وجودي فَقْدٌ ، والرسومُ والأطلالُ عند ثبوتِ حقي محوٌ .

قوله : { فَاعْبُدْنِى } : أي تَذَلَّلْ لِحُكْمي ، وأنفِذْ أمري ، واخضعْ لجبروتِ سلطاني .

قوله جلّ ذكره : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِى } .

اقامتُها من غير ملاحظة مُجْرِيها ومُنْشِيها يُورِث الإعجاب . وإذا أقام العبدُ صلاتَه على نعت الشهود والتحقق بأن مجريها غيره كانت الصلاة بهذا فتحاً لباب المواصلة . والوقوف على محل النجوى ، والتحقق بخصائص القرب والزلفة .

١٥

الفائدة في تعريف العِباد بِقُرْب الساعةِ أن يستفيقوا من غفلات التفرقة ، فإذا حضروا بقلوبهم - ففي حال استدامة الذكر - فما هو موعودٌ في الآجل أكثره للحاضرين موجودٌ في العاجل؛ والحاضرة لهم كالآخرة . وكذلك جعلوا من أمارات الاستقامة شهودَ الوقتِ قيامة .

١٦

إذا أكرمه اللّه بحُسْنِ التنبيه ، وأحضره بنعت الشهود فلا ينبغي أن ينزل عن سماء صفاته إلى جحيم أهل الغفلة في تطوحهم في أودية التفرقة .

١٧

كرَّرَ عليه السؤالَ في غير آية من عصاه لمَّا كان المعلوم له سبحانه فيها من إظهاره فيها عظيم المعجزة .

ويقال إنما قال ذلك لأنه صَحِبَتْهُ هيبةُ المقام عند فَجْأَةِ سماعِ الخطاب ، فَلِيُسَكِّنَ بعضَ ما به من بَوَادِهِ الإجلال . . . رَدَّهُ إلى سماعِ حديث العصَا ، وأراه ما فيها من الآيات .

ويقال لو تركه على ما كان عليه من غَلَبَاتِ الهيبة لعلَّه كان لا يعي ولا يطيق ذلك . . . . فقال له : وما تلك بيمينك يا موسى؟

١٨

قال هي عصاي وأخذ يُعدِّد ما له فيها من وجوه الانتفاع فقال له :

{ قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى } .

فإنَّك بنعت التوحيد ، واقفٌ على بساط التفريد ، ومتى يصحُّ ذلك ، ومتى يَسْلَمُ لك أن يكون لَكَ معتمدٌ تتوكأ عليه ، ومستند عليه تستعين ، وبه تنتفع؟

ثم قال : { وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى } : أَوَّلُ قَدَمٍ في الطريق تَرْكُ كلِّ سَبَبٍ ، والتَّنَقِّي عن كل طَلَبٍ؛ فكيف كان يَسْلَمُ له أن يقول : أَفْعَلُ بها ، وأمتنع ، ولي فيها مآرب أخرى .

ويقال ما ازداد موسى - عليه السلام - تفصيلاً في انتفاعه بعصاه إلا كان أقوى وأَوْلَى بأن يؤمن بإلقائها ، والتنقي عن الانتفاع بهاعلى موجب التفرُّد للّه .

ويقال التوحيد التجريد ، وعلامةُ صحته سقوط الإضافات بأْسْرِها؛ فَلا جَرَمَ لما ذكر موسى - عليه السلام - ذلك أُمِرَ بإلقائها فجعلها اللّه حَيَّةً تسعى ، وولَّى موسى هارباً ولم يُعَقِّب .

وقيل له يا موسى هذه صفة العلاقة؛ إذا كوشِفَ صاحبُها بِِسِرِّها يهرب منها .

ويقال لمَّا باسطه الحقُّ بسماع كلامه أخذته أريحية سماع الخطاب ، فأجاب عما يُسْأَل وعمَّا لم يُسْأَل فقال :{ وَلِىَ فِيهَا مَئَارِبُ أُخْرَى } : وذَكَرَ وجوها من الانتفاع؛ منها أنه قال تؤنسني في حال وحدتي ، وتضيءُ لي الليلَ إذا أظلم ، وتحملني إذ عَييتُ في الطريق فأركبُها ، وأَهُشُّ به على غنمي ، وتدفع عني عَدَوِّي . وأعظم مأربٍ لي فيها أَنَّكَ قُلْتَ : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ؟ } وأيةُ نعمةٍ أو مأربٍ أو منفعةٍ تكون أعظمَ مِنْ أَنْ تقولَ لي : وما تلك؟ ويقال قال الحقُّ - بعد ما عدَّد موسى وجوَه الآياتِ وصنوفَ انتفاعِه بها - ولَكَ يا موسى فيها أشياءٌ أخرى أنت غافلٌ عنها وهي انقلابُها حيةً ، وفي ذلك لك معجزةٌ وبرهانُ صِدْقٍ .

ويقال جميعُ ما عَدَّدَ من المنافع في العصا كان من قِبَلِ اللّه . . . . فكيف له أن ينسبها ويضيفها إلى نفسه ، ولهذا قالوا :

يا جنَّة الخُلْدِ ، والهدايا إذا ... تُهدَى إليك فما مِنْكِ يُهْدَى

ويقال قال موسى لها رآها حيةً تهتز : لقد عَلِمْتُ كلَّ وصفٍ بهذه العصا ، أَمَّا هذه الواحدة فلم أعرفها .

١٩-٢٠

لا عِبْرةَ بما يوهِمُ ظاهرُ الأشياء؛ فقد يُوهِمُ الظاهرُ بشيءٍ ثم يبدو خِلافُه في المستقبل؛ فعصا موسى صارت حيةً .

ثم قال المقصود بذلك أن تكون لك آيةً ومعجزةً لا بلاءً وفتنةً .

٢١

قوله : { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ . . . } أَشْهَدَه - بانقلاب العصا من حالٍ إلى حال؛ مرةً عصا ثم ثعباناً ثم عصا مرةً أخرى - أَنَّه يُثَبِّتُ عِبادَه في حال التلوين مرةً ومرةٌ؛ فَمِنْ أَخْذٍ ومِنْ رَدَّ ، ومن جَمْعٍ ومن فَرْقٍ الخ .

٢٢

كما أراه آيةً من خارج أراه آيةً من نَفْسِه ، وهي قلْبُ يَدِه بيضاءَ؛ إِذْ جَعَلَها في جيبه من غير البَرَص . قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ }[ فصلت : ٥٣ ] .

وإنما قال : أَدْخِلْ يَدَكَ في جيبِك ولم يقل كُمِّك لأنه لم يكن لِمَا عليه من اللِّباس كُمَّان .

٢٣

قوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الكُبْرَى } : الآية الكبرى هي ما كان يجده في نفسه من الشهود والوجود ، وما لا يكون بتكلُّفِ العبد وتصرُّفهِ من فنون الأحوال التي يدركها صاحبُها ذوقاً .

٢٤

بعدما أسمعه كلامه من غير واسطة ، وشَرَّفَ مقامَه ، وأَجْزَلَ إكرامَه أَمَرَه بالذهاب ليدعوَ فرعونَ إلى اللّه - مع عِلْمِه بأنه لا يؤمن ولا يجيب ولا يسمع ولا يَعْرِف - فشَقَّ على موسى ذهابُه إلى فرعون ، وسماعُ جْحدِه منه ، بعد ما سمع من اللّه كلامه سبحانه ، ولكنه آثر أَمْرَ محنته على مرادِ نفسه .

ويقال لمَّا أَمَرَه بالذهاب إلى فرعونَ سأل اللّه أُهْبَةَ النَّقْلِ وما به يتمُّ تبليغ ما حمل من الرسالة ، ومن ذلك قوله :

٢٥-٢٨

ليُعْلَمَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التكليفِ التَّمَكُّنَ مِنْ اَداءِ المأمور به .

ويقال إن موسى لما أَخَذَ في المخاطبة مع اللّه كاد لا يسكت من كثرة ما سأله فظل يدعو : { رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِىَ أَمْرِى . . . . } وهكذا إلى آخر الآيات والأسئلة .

قوله : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى } : حتى أُطِيقَ أنْ أَسمعَ كلامَ غيرك بعدما سَمِعْتُ منك { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِسَانِى } : حتى ينطلقَ بمخاطبة غيرك ، وقَوِّني حتى أرُدُّ . . . بِكَ لا بي .

٢٩-٣١

سَأَلَ أنْ يَصْحَبَ أخاه معه ، ولما ذهب لسماع كلام اللّه حين قال تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً }[ الأعراف : ١٤٣ ] كان بمفرده ، لأن الذهاب إلى الخَلْق يوجِب الوحشةَ؛ فَطَلَبَ من أخيه الصحبة ليُخَفِّفَ عليه كلفة المشقة .

ويقال إن المحبةَ توجِبُ التجرُّدَ والانفراد وألا يكونَ للغيرِ مع المحبِّ مساغ؛ ففي ذهابه إلى فرعون استصحب أخاه ، ولمَّا كان الذهابُ إلى الميقاتِ لم يكن للغيرِ سيلٌ إلى صحبته ، إذ كان المقصود من ذهابِه أن يكونَ مخصوصاً بحاله .

٣٣-٣٥

بين أن طَلَبَه مُشاركةَ أخيه له بحقِّ ربه لا بحظِّ نَفْسِه حيث قال : { كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً }

٣٦

أعطيناكَ ما سألتَ ، وتناسيت ابتداءَ حالِكَ حين حفظناك في اليمِّ وَنَجَّيْنَا اُمَّكَ من ذلك الغَمِّ ، ورَبَّيْنَاك في حِجْرِ العَدُوِّ . . . . فأين - حينذاك - كان سؤالُكَ واختيارُكَ ودعاؤُك؟

وأثبتنا في قلب امرأة فرعون شفقتك ، وألقينا عليكَ المحبةَ حتى أحبّكَ عدوُّك ، وربَّاكَ حتى قَتَلَ بِسَبَبِكَ ما لا يُحْصَى من الولدان ، والذي بَدَأَكَ بهذه المِنَنِ هو الذي آتاك سُوْلَكَ ، وحقَّقَ لك مأموَلَكَ .

٣٨-٣٩

قوله جلّ ذكره : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيِه فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأخُذُهُ عَدُوٌّ لَّهُ } .

كان ذلك وحيَ إلهامٍ؛ ألقَى اللّه في قلبها أن تجعله في تابوت ، وتلقيه في اليمِ يعني نهر النيل ، فَفَعَلَتْ ، فألقاه النهر على الساحل ، فَحُمِلَ إلى فرعون . فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُ امرأةِ فرعون عليه باشر حبُّه قلبَها ، وكذلك وقعت محبتُه في قلبِ فرعون ، ولكنها كانت أضعفَ قلباً ، فسبقت بقولها : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِىّ وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ . . . . }[ القصص : ٩ ] ، ولولا أنها عَلِمَتْ أنه أخذ شعبةً من قلبِ فرعون ما أخذ من قلبها لم تقل : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِىّ وَلَكَ }[ القصص : ٩ ] .

قوله : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِىّ وَعَدُوٌّ لَّهُ } : ربَّاه في حِجْرِ العدو وكان قد قَتَلَ بسببه ألوفاً من الوالدان . . . ولكنْ مِنْ مَأمنِهِ يُؤْتى الحَذِرُ! وبلاءُ كلِّ أحدٍ كان بَعْدَه إلا بَلاءَ موسى عليه السلام فإنه تَقَدَّمَ عليه بسنين؛ ففي اليوم الذي أخذ موسى في حِجْرِه كان قد أمر بقتل كثير من الولدان ، ثم إنه ربَّاه ليكونَ إهلاكُ مُلْكِهِ على يده . . . . لِيُعْلَمَ أَنَّ أَسرارَ الأقدار لا يعلمها إلا الجبارُ .

يقال كان فرعون يُسَمَّى والدَ موسى وأباه - ولم يكن . وكان يقال لأُمِّ موسى ظئر موسى - ولم تكن؛ فَمِنْ حيثُ الدعوى بالأبوة لم يكن لها تحقيق ، ومن حيث كان المعنى والحقيقة لم يكن عند ذلك خبر ولا عند الآخر من ذلك معرفة . . . هكذا الحديث والقصة .

ولقد جاء في القصة أنّ موسى لمَّا وَضِعَ في حِجْر فرعون لَطَمَ وجهه فقال : إنَّ هذا من أولاد الأعداء فيجب أَنْ يُقْتَلَ ، فقالت امرأتُه : إنه صبيٌّ لا تمييزَ له ، ويشهد لهذا أنه لا يُمَيِّزُ بين النار وبين غيرها من الجواهر والأشياء ، وأرادت أن يصدِّق زوجُها قالتَها ، فاستحضرت شيئاً من النار وشيئاً من الجواهر ، فأراد موسى عليه السلام أن يمدَّ يَدَه إلى الجواهر فأخذ جبريلُ عليه السلام بيده وصَرَفَها إلى إلى النار فأخَذَ جَمْرةً بيده ، وقرَّبها مِنْ فيه فاحترقَ لِسانُه - ويقال إنَّ العقدةَ التي كانت على لسانه كانت من ذلك الاحتراق - فعند ذلك قالت امرأةُ فرعون : ها قد تبينَّ أن هذا لا تمييزَ له ، فقد أخذ الجمرة إلى فيه . وتخلَّص موسى بهذا مما حصل منه من لَطْمِ فرعون .

ويقال إنهم شاهدوا ولم يشعروا أنه لم يحترق مِنْ أَخْذِ الجمرة وهو صبيٌ رضيع ، ثم احترق لسانه ، فعلم الكلُّ أن هذا الأمر ليس بالقياس . فإنه سبحانه فعَّال لما يريد .

قوله جلّ ذكره : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّى } .

أي أحببتك . ويقال في لفظ الناس : فلانٌ ألقى محبته على فلان أي أَحَبَّه . ويقال : { ألقيت عليك محبة مني } : أي طَرَحْتُ في قلوب الناس محبةً لك ، فالحقُّ إذا أحبَّ عبداً فكلُّ مَنْ شاهده أحبَّه . ويقال لملاحةٍ في عينيه؛ فكان لا يراه أحدٌ إلا أَحَبَّه .

ويقال : { ألقيت عليك محبةً مني } : أي أثْبَتُّ في قلبك محبتي؛ فإن محبةَ العبدِ للّه لا تكون إلا بإثباتِ الحق - سبحانه - ذلك في قلبه ، وفي معناه أنشدوا :

إنَّ المحبةَ أَمْرُها عَجَبٌ ... تُلْقَى عليكَ وما هلا سَبَبُ .

قوله جلّ ذكره : { ولِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } .

أي بمرأىً مني ، ويقال لا أُمَكِّن غيري بأَنْ يستَبْعِدَكَ عني .

ويقال أحفظك من كل غَيْرٍ ، ومن كلِّ حديثٍ سوى حديثنا . ويقال ما وَكَلْنَا حِفْظَكَ إلى أحدٍ .

٤٠

قوله جلّ ذكره : { إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } .

البلاء على حَسَبِ قوة صاحبه وضعفه ، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى ، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف . وكانت أمُّ موسى ضعيفةً فَرَدَّ إليها وَلَدَها بعد أيام ، وكان يعقوبُ أقوى في حاله فلم يُعِدْ إليه يوسفَ إلا بعد سنين طويلة .

قوله جلّ ذكره : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ } .

أجرى اللّه عليه ما هو في صورةِ كبيرةٍ من قَتْلِ النَّْسِ بغير حق ، ثم بيَّن اللّه أنه لا يضره ذلك ، فليست العِبْرَةُ فعل العبد في قلَّته وكثرته إنما العِبرةُ بعناية الحقِّ بشأنِ أحدٍ أو عداوته .

ويقال قد لا يموت كثيرٌ من الخلْقِ بفنون من العذابِ ، وكم من أناس لا يموتون وقد ضُرِبُو ألوفاً من السياط! وصاحبُ موسى عليه السلام ومقتولُه مات بوكزةٍ! إيش الذي أوجب وقاته لولا أنه أراد به فتنةً لموسى؟ وفي بعض الكتب أنه - سبحانه - أقام موسى كذا وكذا مقاماً ، وأسمعه كلامه كل مرة بإسماع آخر ، وفي كل مرة كان يقول له : { وَقَتَلْتَ نَفْساً } .

{ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ } : أريناكَ عينَ الجمع حتى زال عنك ما داخَلَكَ من الغمِّ بصفة مقتضى التفرقة ، فلمَّا أريناك سِرَّ جريانِ التقديرِ نَجَّيْنَاكَ من الغم .

قوله جلّ ذكره : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } .

استخلصناكَ لنا حتى لا تكون لغيرنا . ويقال جَنَّسْنَا عليك البلاَءَ ونَوَّعْنَاه حتى جَرَّدْنَاكَ عن كل اختيارٍ وإرادة ، ثم حينئذٍ رَقَّيْنَاكَ إلى ما استوجَبْتَه من العِلم الذي أَهَّلْنَاكَ له .

قوله جلّ ذكره : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } .

وكنتَ عند الناسِ أنك أجيرٌ لشعيب ، ولم يظهر لهم ما أودعنا فيك ، وكان يكفي - عندهم - أن تكون خَتنَاً لشعيب .

{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } .

أي عَدَدْنا أيالمَ كونك في مدين شعيب ، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرَفَكَ ومحبَّتَكَ منتظرين لك؛ فجئتَ على قَدَرٍ .

ويقال إنَّ الأَجَل إذا جاء للأشياء فلا تأخيرَ فيه ولا تقديم ، وأنشدوا في قريب من هذا المعنى :

بينما خاطرُ المنى بالتلاقى ... سابحٌ في فؤاده وفؤادي

جمع اللّه بيننا فالتقينا ... هكذا بغتةً بلا ميعادِ

٤١

استخلصتُكَ لي حتى لا تَصْلُحَ لأحدٍ غيري ، ولا يَتَأَتَّى شيءٌ منك غير تبليغ رسالتي ، وما هو مرادي منك .

ويقال أفردْتُ سِرَّك لي ، وجعلْتُ إقبالَكَ عليَّ دون غيري ، وحُلْتُ بينك وبين كل أحدٍ ممن هو دوني .

ويقال : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفسِى } : قَطَعَهُ بهذا عن كلِّ أحدٍ ، ثم قال له : { اذهب إلى فوعون } .

٤٢-٤٣

تعلّلَ موسى عليه السلام لمَّا أرسله الحقُّ إلى فرعون بوجوهٍ من العِلل مثل قوله : { وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى }[ القصص : ١٣ ] ، { إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسَاً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ }[ القصص : ٣٣ ] . . إلى غير ذلك من الوجوه ، فلم ينفعه ذلك ، وقال اللّه : { إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }[ طه : ٤٦ ] ، فاستقل موسى عليه السلام بذلك ، وقال : الآن لا أُبالي بعد ما أنت معي .

٤٤

إنما أمرهما بالملاينة معه في الخطاب لأنه كان أول مَنْ دَعَوْه إلى الدِّين ، وفي حال الدعوة يجب اللِّين؛ فإنه وقت المُهلةِ ، فلا بدَّ من الإمهال ريثما ينظر؛ قال اللّه لنبينا صلى اللّه عليه وسلم { وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }[ النحل : ١٢٥ ] : وهو الإمهال حتى ينظروا ويستدلوا ، وكذلك قال : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ }[ سبأ : ٤٦ ] .

ثم إذا ظهر من الخَصمِ التمرُّدُ والإباء فحينئذٍ يُقابَلُ بالغلظة والحتف .

ويقال علَّمهما خطابَ الأكابرِ ذوي الحشمة؛ ففرعونُ - وإن كان كافراً - إلا أنه كان سلطانَ وقتهِ ، والمتسلِّطَ على عبادِ اللّه .

ويقال إذا كان الأمرُ في مخاطبة الأعداء بالرِّفق والملاينة . . . فكيف مع المؤمن في السؤال؟

ويقال في هذا إشارة إلى سهولة سؤال المَلَكَين في القبر للمؤمن .

ويقال إذا كان رِفْقُه بِمَنْ جَحَدَه فكيف رِفْقُه بِمَنْ وَحَدَه؟

ويقال إذا كان رَفْقُه بالكفَّارِ فكيف رفقُه بالأبرار؟

ويقال إذا كان رفقه بمن قال : أنا . . . فكيف رفقه بمن قال : أنت؟

ويقال إنه أَحْسَنَ تربيةَ موسى عليه السلام؛ فأراده أن يرفق به اليومَ في الدنيا على جهة المكافأة .

وقيل تفسير هذا ما قال في آية أخرى : { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى }[ النازعات : ١٨ ] .

وقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } : أي كُونَا على رجاء أن يُؤْمِنَ . ولم يحبرهما أنه لا يؤمن لئلا تتداخَلَهُما فَتْرَةٌ في تبليغ الرسالة عِلْماً منه بأنه لا يؤمن ولا يقبل .

٤٥

في الآية دليلٌ على أَنَّ الخوفَ الذي تقتضيه جَبْلَةُ الإنسانِ غيرُ ملومٍ صاحبُه عليه ، حيث قال مثل موسى ومثل هارون عليهما السلام : { إِنَّنَا نَخَافُ } .

ثم إنَّه سبحانه سَكَّنَ ما بهما من الخوف بوعد النصرة لهما .

ويقال لم يخافا على نَفْسَيْهِما شفقةً عليهما ، ولكن قالا : إننا نخاف أن تحل بنا مكيدةٌ من جهته ، فلا يحصل فيما تأمرنا به قيامٌ بأمرك ، فكان ذلك الخوفُ لأجل حقِّ اللّه لا لأَجْلِ حظوظ أنفسهما .

ويقال لم يخافا من فرعون ، ولكن خافا من تسليط اللّه إياه عليهما ، ولكنهما تأّدّبا في الخطاب .

٤٦

تلَطَّفَ في استجلاب هذا القول من الحق سبحانه ، وهو قوله : { إِنَّنِى مَعَكُمَا } بقولهما : { إِنَّنَا نَخَافُ } ، وكان المقصود لهما أن يقول الحق لهما : { إِنَّنِى مَعَكُمَا } وإلا فأَنّي بالخوف لِمَنْ هو مخصوصٌ بالنبُوَّةِ؟!

ويقال سَكَّنَ فيهما الخوف بقوله : { إِنَّنِى مَعَكُمَا } ، فَقَوبا على الذهاب إليه؛ إذ مِنْ شَرْط التكليف التمكين .

٤٧

قوله جلّ ذكره : { فَأْتِيَاهُ فَقُولآَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَآءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } .

طالَ البلاءُ ببني إسرائيل من جهة فرعون ، فتدارَاكَهُم الحقُّ سبحانه ولو بعد حين ، بذلك أجرى سُنَّتَهُ أنه يُرخي عِنَانَ الظالم ، ولكن إذا أَخَذَهُ فإِنَّ أَخْذَهُ أليمٌ .

قوله جلّ ذكره : { قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } .

من شَرْطِ التكليفِ التمكينُ بالبيِّنة والآيةِ للرسولِ حتي يَتَّضِحَ ما يَدُلُّ على صِدْقِه فيما يدعو إليه من النبوة . ثم إن تلك الآية وتلك البيِّنة ما نفعتهم ، وإنا تأكدتْ بهما عليهم الحُجَّةُ؛ فإِذا عَمِيَ بَصَرُ القلبِ فأَنَّى تنفع بصيرةُ الحجة؟ وفي معناه قالوا :

وفي نَظَرِ الصادي إلى الماء حَسْرَةٌ ... إذا كان ممنوعاً سبيل المواردِ

قوله جلّ ذكره : { وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ الهُدَى } .

إنما يَتّبع الهُدَى مَنْ كَحَّلَ قلبَه بنور العرفان ، فأما من كانت على قلبِه غشاوة الجهل . . . فمتى يستمع إلى الهُدَى؟

٤٨

ما بعث اللّه نبياً إلاَّ وقد أَنْذَرَ قومَه بالعذاب على تَرْكِ الأمر ، وبَشَّرَهُم بالثوابِ على حِفظِ الأمر . والعذابُ مُعَجَّلُ . ومؤجَّلٌ؛ فمؤجَّلُه لا يُوقَفُ على تفصيله الأعداءُ وكذلك مُؤَجَّل الثوابُ ، قال تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }[ السجدة : ١٧ ] .

وأما مُعَجَّلُ العقوبةِ فأنواع ، وعلى حسبت مقام المرءِ تَتَوَجَّهُ عليه المُطَالَبَاتُ ، والزيادةُ في العقوبةِ تَدُلُّ على زيادةِ استحقاقِ الرّتْبَةِ؛ كالحرِّ والعَبْدِ في الحَدِّ . وقسوةُ القلب نوعُ عقوبة ، وما يتداخل الطاعة نوعُ عقوبة ، وخسرانُ نصيبٍ في المالِ والأَنْفُس نوعُ عقوبة . . . إلى غير ذلك .

٤٩-٥٠

{ فَمَن رَّبُّكُمَا } على التثنية ، ثم قال : { يَا مُوسَى } فأفرده بالخطاب بعدما قال : { فَمَن رَّبُّكُمَا؟ } فيحتمل أن ذلك لمُشَاكَلَة رؤوس الآي ، ويحتمل أن موسى كان مُقَدَّماً على هارون فَخَصَّه بالنداء .

وإنما أجاب موسى عن هذا السؤال بالاستدلال على فِعْلِه - سبحانه فقال :{ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ } ليُعْلَمَ أنَّ الدليلَ على إثباته - سبحانه - ما دلَّتْ عليه أفعالُه .

٥١-٥٢

لا يمكنني أن أُخْبِرَكُم إلا بما أخبرني به ربي فَمَا عَرَّفَني عَرَّفْتُ ، وما ستره عليَّ وَقَفْتُ .

٥٣

جَعَلَ الأرضَ مستقراً لأبدانهم ، وجعل أبدانَهم مستقراً لعبادته ، وقلوبهم مستقراً لمعرفته ، وأرواحَهم مستقراً لمحبته ، وأسرارهم مستقراً لمشاهدته .

٥٤

هيَّأَ لهم أسبابَ المعيشة ، وكما نَظَرَ إليهم وَرَزَقَهُم رَزَقَ دوابَّهم التي ينتفعون بها ، وأَمَرَهُم أنْ يَتَقَووْا بما تَصِلُ إليه أيديهم ، وأنْ ينتفِعُوا - ما أمكنهم - بأَنْعَامِهمِ لِيَكْمُلَ لديهم إنْعَامُهم .

٥٥

إذ خَلَقْنا آدمَ من التراب ، وإذ أخْرَجْناكم من صُلبه . . . فقد خَلْقْنَاكم من الترابِ أيضاً . والأجشادُ قوالِبُ والأرواحُ ودائعُ ، والقوالب نسبتها التُّربة ، والودائع صفتها القُرْبة ، فالقوالب يزِّينها بأفضاله ، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله . وللقوالب اليوم اعتكافٌ على بِساط عبادته ، وللودائع اتصافٌ بدوام معرفته .

٥٦

امره بجهره ، وأعماه عن شهود ذلك بِسِره ، فما نَجَعَ فيه كلامهُ ، وما انتفعَ بما حذّره من انتقامه ، ويَسَّرَ من إنعامه .

٥٧-٥٨

دعاهم موسى إلى اللّه ، وخاطَبَهُم في حديث الآخرة من تبشيرٍ بثواب ، وإنذارٍ بعذاب فلم يُجِيبُوا إلاَّ من حيث الدنيا ، وما زادهم تذكيراً إلا ازدادوا غفلة وجهالة .

كذلك صفةُ مَنْ وَسَمه الحقُّ بالإبعاد ، لم يكن له عرفان ، ولا بما يقال إيمان ، ولا يتأسَّفُ على ما يفوته ، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده .

قوله : { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نَخْلِفُهُ . . . } تأَهَّبُوا لِمُنَاصَبَةِ الحقيقة ، وتَشَمَّرُوا للمُخَالَفة ، فَقَصَمْتُهُم المشيئةُ؛ وكَبَسَتْهُم؛ القدرة ، وما قيل :

استقبلني وسيفُه مسلول ... وقال لي واحدنا معذول .

٥٩

فكان في ذلك اليوم افتضاحهم .

٦٠-٦٤

قوله جلّ ذكره : { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتَى } .

كادَ فرعونَ فَكِيد لَه ، وأراد فارتدَّ إليه ، ودعا للاستعداد فأُذِلَّ وأَذِيقَ البأسَ . ولم يَدَعْ موسى شيئاً من الوعظ والرِّفْقِ ، ولم يغادِرْ فرعونَ شيئاً من البَلَهِ والحُمْقِ ولكن : { قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللّه كّذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَد خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُم وَأسَرُّوا النَّجْوَى } .

اعلموا أنه لا طاقةَ لأحدٍ مع اللّه - سبحانه - إذا عذَّبَه ، فحملوا مقالته على الإفك ، ورَمَوْا معجزته بالسجر فقالوا : { قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } .

هما في دعواهما كاذبان يَقْصِدان إلى إخراجِكم من بَلَدِكم ، والتشويشِ عليكم في مُعْتَقَدِكم .

٦٥-٧١

قوله جلّ ذكره : { قَالُوا يَامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } .

أظهروا من أنفسهم التجلَّدَ ظنَّا بأَنَّ النصرةَ لهم ، وإخلاداً إلى ما كان السَّحَرَةُ يُسوِّلون لهم ، فَخَيَّروا موسى في الابتداء بناءً على ما توهموا من الإلقاء ، فقال لهم موسى : { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهْم أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ ءَامَنتُمْ لًهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّْحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيِْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُم فِى جُذُوعِ النَّخْل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عّذَاباً وَأَبْقَى } .

قال لهم موسى بل ألقوا أنتم ، وليس ذلك إذْناً لهم في السحر ، ولكن أراد الحقُّ إظهارَ تمويههم ، فلمَّا خَيَّلوا للناس بإلقاءِ الحِبال أنها حياتٌ ابتَلَعَتْ عصا موسى جُمْلَةَ أوقار الحِبَال ، وصار الثعبانُ عَصَاً كما كان ، فسجدوا للّه مؤمنين ، وانقلب فرعونُ وقومُه خائِبين ، وتَوَعَّدَهم بالقتل والصَّلْب ، وفنونٍ من العذابِ الصعب ، وبعدما كانوا يقْسِمُون بِعِزَّةِ فرعونَ صاروا يَحْلِفُونَ باللّه .

٧٢

أي باللّه الذي فطرنا إنَّا لن نُؤْثِرَكَ على ما جاءَنا من البينات . ولما طلعت في أسرارهم شموسُ العرفان ، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقَّ سبحانه بأسرارهم ، فنطقوا ببيان التصديق ، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم ، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة ، ورأوا ذلك من اللّه فاستعذبوا البلاء ، وتحملوا اللأواء ، فكانوا في الغَدَاةِ كُفَّاراً سَحَرَةً ، وأَمْسَوْا أَخياراً بَرَرَةَ .

قوله : { فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ . . . } عَلِمُوا أَنَّ البَلاَءَ في لدنيا يَنْقَضي - وإنْ تمادى ، وينتهي وإن تناهى .

٧٣

أَهمُّ الأشياء - على مَنْ عرَفه - مغفرتُه لخطاياه؛ فهذا آدمُ - عليه السلام - لما استكشف من حاله ، وحلَّ به ما حلَّ قال : { رَبِّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى }[ القصص : ١٦ ] وقال لنبينا - صلى اللّه عليه وسلم - { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ }[ غافر : ٥٥ ] . وقال صلى اللّه عليه وسلم : ( إنه ليغان على قلبي فأستغفر اللّه في اليوم سبعين مرة ) ومَنَّ عليه بقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }[ الفتح : ٢٠٠ ] .

٧٧-٧٩

لما عَبَرَ موسى ببني إسرائيل البحر ، وقرب منه فرعون ، ورأى البحرَ منفلقاً والطريقَ فيه يَبَساً عَيَّرَ قَوْمَه بتلبيسه فقال :( إنه بحشمتي انفلق ، فأنا ربُّكم الأعلى! ) وحصل - كما في القصة - من دخوله بعَسْكَرِه البحرَ حتى دخل آخرهم ، وهمَّ أن يخرج أَوَّلُهم ، فأمر اللّه البحرَ حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم ، وآمن فرعون لما ظهر له اليأسُ ، ولم ينفعه إقراره ، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه ، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير .

٨٠

يُذَكِّرُهم آلاءَه ، ويعدُّ عليهم نعماءَه ، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لِمَا أسبغ عليهم من فنون النِّعم ، ثم يذكرهم ما مَنَّ به على أسلافهم من إنزال المنَّ والسلوى ، وضروب المِحَنِ وفنون البلوى .

٨١

قوله جلّ ذكره : { كُلُوا مِن طَيِبَّاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوا فِيهِ } الطيبُ ما كان حلالاً . ويقال الطيب من الرزق ما لا يَعْصِي اللّه مُكْتَسِبهُ . ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق . ويقال الطيب من الرزق ما حَصَل منه الشكرُ . ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبدُ من اللّه ، فما لأهل الجنةِ مُؤَجَّلٌ في عقباهم جهراً ، معجّلٌ لأصفيائه في دنياهم سِرّاً ، قال تعالى : { ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ }[ الذاريات : ١٦ ] .

والأرزاقُ مختلفةٌ؛ فلأقوام حظوظُ النفوس ولآخرين حقوقُ القلوب ، ولأقوام شهودُ الأسرار؛ فرزق النفوس التوفيق ، ورزق القلوب التصديق ، ورزق الأرواح التحقيق .

قوله : { وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ } : بمجاوزة الحلالِ إلى الحرام .

ويقال : { وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ } : بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه مما زاد على سدِّ الرمق .

ويقال : { وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ } : بالأكل على الغفلة والنسيان .

قوله جلّ ذكره : { فَيَحِلَّ عَلْيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى } .

فيحل عليكم غضبي بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة .

ويقال فيحل عليكم غضي لِفَقْدِكم التأسُّفَ على ما فاتكم .

ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال .

٨٢

الغفَّار كثيرُ المغفرة؛ فَمِنْك التوبةُ عن زَلَّةٍ واحدةٍ ومنه المغفرة لذنوب كثيرةٍ ، ومنه السِّرِّيةُ التي لا اطلاع لأحدٍ غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع . وهو يغفر لِمَنْ عَمِلَ مثل عَمَلِكَ ، وهو يغفر لِمنْ قَلْبُكَ مُرِيدٌ له بالخير والنعمة ، وكما قالوا :

إني - على جَفَواتها - فبِرَبِّها ... وبكل مُتَّصِلٍ بها متوسِّلُ

وأُحِبُّها وأُحِبَّ منزلَها الذي ... نَزَلَتْ به وأُحِبُّ أهلَ المنزلِ

قوله : { وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ } : فلا تَصِحُّ التوبةُ إلا لمن يكون مؤمناً .

وقوله هنا : { وَءَامَنَ } : أي آمن في المآلِ كما هو مؤمِنٌ في الحال .

ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته ، إنما نجاتُه برحمته .

ويقال { وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ } : مِنَ الزَّلَّة { وَءَامَنَ } : فلم يَرَ أعماله من نَفْسه ، وآمن بأن جميع الحوادثِ من الحقِّ - سبحانه - { وَعَمِلَ صَالِحاً } : فلم يُخِلْ بالفرائض ثم اهتدى للسُّنَّةِ والجماعة .

ويقال { ثُمَّ } : للتراخي؛ أي آمن في الحال ( ثم ) اهتدى في المآل .

ويقال مَنْ سَمِعَ منه { وَإِنّىِ } لا يقول بعد ذلك : ( إِنِّي ) .

ويقال من شَغَلِه سماعُ قوله : { وإِنِّى } اسْتُهْلِكَ في استيلاءِ ما غَلَبَ عليه من ضياء القربة ، فإذا جاءت { لَغَفَّارٌ } صار فيه بعين المحو ، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتني بشأنه .

ويقال { إني لغفار } كثير المغفرة لمن تاب مرةً؛ فيغفر له أنواعاً من ذنوبه التي لم يَتُبْ منه سِرَّها وجَهْرِها ، صغيرها وكبيرِها ، وما يتذكر منها وما لا يتذكر . ولا ينبغي أَنْ يقولَ : علمت ( عملاً صالحاً ) : بل يلاحظُ عَمَلَه بعينِ الاستصغارِ ، وحالته بغير الاستقرار .

وقوله : { ثُمَّ اهْتَدَى } : أي اهتدى إلينا بنا .

٨٣

أخَرْجَهُمْ مع نَفْسِه لمَّا استصحبهم ، ثم تقدَّمَهم بخطواطِ فتأخروا عنه ، فقيل له في ذلك مراعاةٌ لحقِّ صحبتهم .

ويقال قومٌ يُعاتَبون لتأخرهم وآخرون لتقدمهم . . . فشتان ما هما!

٨٤

أي عَجِلْتُ إليكَ شوقاً إليك ، فاستخرج منه هذا الخطاب ، ولولا أنه استنطقه لما أخبر به وموسى .

قوله : { هُمْ أُوْلآءِ عَلَى أَثَرِى } أي ما خَلَّفْتُهم لتضييعي أيامي ، ولكني عَجِلْتُ إليك لترضى . يا موسى إنَّ رضائي في أن تكون مَعهم وأَلاَّ تَسْبِقَهم ، فكونُكَ مع الضعفاءِ الذين استصحبتَهم - في معاني حصول رضائي - أبلغَ مِنْ تَقَدُّمِكَ عليهم .

٨٥

قوله جلّ ذكره : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } .

فَتَّنا قومَك فَضَلُّوا وعبدوا العِجْلَ؛ فأخبر الحقُّ - سبحانه - أنَّ ذلك منه تقدير ، وفي هذا تكذيبٌ لُمَنْ جَحَدَ القولَ بالقَدَرِ .

ويقال طَلَبَ موسى - عليه السلام - رِضَاءَ الحق ، وقدَّر الحقُّ - سبحانه - فتنةَ قَوْمِه فقال :{ إنا قد فتنا قومك من بعدك } ، ثم الحُكْمُ للّه ، ولم يكن بُدٌّ لموسى عليه السلام من الرضاء بقضاء اللّه - فلا اعتراضَ على اللّه - ومِنَ العلم بِحقِّ اللّه في أنْ يفعلَ ما يشاء ، وأنشدوا :

أُريد وَصَالَه ويريد هجري ... فأتركُ ما أُؤيد لما يُريد

قوله جلّ ذكره : { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ } .

بدعائه إياهم إلى عبادة العجل ، وهو نوع من التعزير ، وحصل ما حصل ، وظهر ما ظهر من ( . . . ) .

٨٦

قوله جلّ ذكره : { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } .

ورجع نبيُّنا - صلى اللّه عليه وسلم - من المعراج بنعت البسط ، وجاء بالنجوى لأصحابه فيما أوجب اللّه عليهم من الصلاة ، وأكرمهم به من القربة بالزلفة . . فشتان ما هما!

ورجع موسى إلى قومه بوصف الغضب والأسف ، وخاطبهم ببيان العتاب :

{ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَم يَعِدْكُمْ رَبُّكُم وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِن رَّبِّكُمْ فَأخْلَفْتُمُ موْعِدِى } .

ظنوا بنبيِّهم ظنَّ السَّوْءِ في خلقه الوعد ، فَلَحِقَهُمْ شؤمُ ذلك حتى زاغوا عن العهد ، وأشركوا في العقد . . . وكذلك يكون الأمر إذا لم يفِ المرء بعقده ، فإنه ينخرط في هذا السِّلْكِ .

٨٧

قالوا لم نكن في ابتداءِ حالِنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا ، ولا عالمين بما آلتْ إليه عاقبةُ حالِنَا ، وإن الذي حملنا من حُلِيِّ القبط صاغَ السامريُّ منه العجلَ . . . وكذلك الحرامُ من حطام الدنيا لا يخلو من شؤم أثره . فلقد كانت الغنيمة وأموال المشركين حراماً عليهم ، فاستعاروا الحليَّ من القبط ، وآل إليهم ما كان في أيديهم من الملْكِ ، فكان سبب عبادتهم العِجْل . . . كذلك مَنْ انهمك في طلب الدنيا من غير وجهِ حلالٍ يكون على خَطَرٍ من رِقَّةِ دينهِ ، قال تعالى : { أفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }[ الجاثية : ٢٣ ] .

٨٨

يقال إنهم لمَّا مَرُّوا على قوم يعبدون أصناماً لهم قالوا لموسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، وكان ذلك الصنم على صورة العجل فكان مَيْلُهم إلى عبادته مُسْتَكِنَّاً في قلوبهم ، فصاغ السامريُّ العجل على تلك الصورة . وفي هذه إشارة إلى أن خفايا الهوى إذا استكنَّت في القلب فَمَا لم يُنْقَش ذلك الشرك بمنقاش المنازلة يُخْشَى أن يَلْقَى صاحبه ( . . . ) .

ويقال إن موسى - عليه السلام - خرج من بين أمته أربعين يوماً برَضِيَ قومهُ بعبادة العجل ، ونبيُّنا - عليه السلام - خرج من بين أمته وأتت سنون كثيرة ولو ذَكَرَ واحدٌ عند مَنْ أخلص مِنْ أمته في التوحيدِ حديثاً في التشبيه لعدوا ذلك منه كبيرةً ليس له منها مَخْلَصٌ .

كذلك فإنهم استحفظوا كتابهم فبدَّلوه تبديلاً ، بينما ضَمَنَ الحقُّ - سبحانه - إعزازَ هذا الكتاب بقوله : { إِنًّا نَحْنُ نَزًّلْنَا الذِّكْرَ وأِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[ الحجر : ٩ ] .

وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ }[ الفتح : ٢٨ ] .

٨٩

قوله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ ألاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً . . . } بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لا قول له لا يتكلم ، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة ، وفيه رَدٌ على مَنْ لم يُثْبِتْ له في الأزَل القول ، ولم يَصِفْه بالقدرة على الخير والشر :

٩٠

إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون ، والإشارة في هذا أن من لم يحفظ أمر مَنْ هو أعلى رتبةً يحفظ كيف أمر من هو أدنى منزلةً؟ فَمَنْ تَرَكَ أَمْرَاً الحقِّ . . . كيف يُطْمَعُ فيه أن يحترم الشيوخَ وأكلَ الناس؟ لهذا قيل : لا حُرْمَةَ لفاسق؛ لأنه إذا تَرَكَ حقَّ الحقَّ فمتى يحفظ حَقَّ الخَلْقِ؟

٩١

كان ذلك تَعَلُّلاً منهم بالباطل ، فقالوا إنهم كانوا عازمين على تَرْكِ عبادة العجل؟ إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيدِ وتَرْكِ عبادةِ غير اللّه . . . ولكنْ كلُّ مُتَعلِّلٍ يَسْتَنِدُ إلى ما يحتج به من الباطل .

٩٢-٩٣

ضاق قلبُ موسى - عليه السلام - لمَّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل . ولقد كان سمع من اللّه أَنَّ السامريّ أظلَّهم حين قال : { إنَّا قد فتنا قومك }[ طه : ٨٥ ] ، ولكن قديماً قيل : ليس الخبر كالعيان ، فلمَّا عايَنَ ذلك ضاق قلبهُ ، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر ،

وقيل : مَنْ ضاق قلبُه استع لسانُه . ولما ظهر لموسى - عليه السلام - ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المدارة . . وكذلك الواجب في الصحبة لئلا يرتقي الأمرُ إلى الوحشة ، فاستلطفه في الخطاب واستعطفه بقوله :

٩٤

أنت أمَرْتَنِي أَلاَّ أُفارِقَهم . وقد يُقال إن هارون لو قال لموسى : في الوقتِ الذي احتَجْتَ أنْ تَمْضِيَ إلى فرعون قلتَ : { وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً }[ القصص : ٣٤ ] ، وقلت : { فَأَرْسِلْهُ مَعِى }[ القصص : ٣٤ ] ، وقلت حين مضيتَ إلى سماع كلام الحق : { أخْلُفْنِى فِى قَوْمِى . . . }[ الأعراف : ١٤٢ ] فما اكتفيت بأَنْ لم تستصحبني . وخَلَّفْتَنِي! وقد عَلِمْتَ أَني بريءُ الساحةِ مما فعلوا فأخذتَ بلحيتي وبرأسي . . . ألم ترضَ بما أنا فيه حتى تزيدني حَرْياً على حَرْي؟! . . . . لو قال ذلك لكان مَوْضِعَه ، ولكنْ لِحلْمِه ، ولِعِلْمِه - بأنَّ ذلك كُلَّه حُكْمُ ربِّهم - فقد قابَلَ كلَّ شيءٍ بالرضا .

٩٥

سأل موسى كلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ آخر ، وإن معاتبته مع قومه ، ومطالبته لأخيه ، وتَغَيُّرَه في نَفْسِه ، واستيلاَءَ الغضب عليه - لم يغيِّرْ التقدير ، ولم يُؤَخِّرْ المحكوم .

٩٦

عَلِمْتُ ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيتُ جبريلَ ، فَقَبضْتُ الترابَ من موضع حافرِ دابته ، وأُلقِي في رَوْعي أن ذلك سببُ حياةِ العجل فطرحتُها في جوفه . . . هكذا زَيَّنَتْ لي نفسي فاتَّبَعْتُ هواها .

ثم كان هلاكُه . . . لئلا يأْمَنَ أحدٌ خفي مَكْرِ التقدير ، ولا يركنَ إلى ما في الصورة من رِفْقٍ فَلَعَلَّه - في الحقيقة - يكون مكراً ، ولقد أنشدوا :

فأَمِنتُه فأَتَاحَ لي من مَأْمَنِي ... مَكْراً ، كذا مَنْ يَأْمَنُ الأحبابا

٩٧

قوله جلّ ذكره : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } .

لم يَخْفَ على موسى - عليه السلام - تأثيرُ التقدير وانفرادُ الحقِّ بالإبداع ، فلقد قال في خطابه مع الحق : { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ }[ الأعراف : ١٥٥ ] ، ولكنه لم يدع - مع ذلك - بإحلال العقوبةِ بالسامري والأمر في بابه بما يستوجبه؛ ليُعْلَمَ أن الحُكمَ في الإبداع والإيجاد - وإنْ كان للّه - فالمعاتبةُ والمطالبة تتوجهان على الخَلْقِ في مقتضى التكليف ، وإجراءُ الحقِّ ما يُجْرِيه ليس حُجَّةً للعبد ولا عُذْراً له .

قوله جلّ ذكره : { وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَ لَنَنَسِفَنَّهُ فى اليَمِ نَسْفاً } .

كلُّ ما تَعَلَّقَ به القلبُ من دون اللّه يَنْسِفُه الحقُّ - سبحانه بمُجِبِّه ولهذا يُلْقي الأصنامَ غداً في النار مع الكفار ، وليس له جُرْمٌ ، ولا عليهم تكليف ، ولا لها عِلْمٌ ولا خبر . . . وإنما هي جماداتٌ .

٩٨

أي إلهكم الذي تجب عليكم عبادتُه بحقِّ أمره هو اللّه الذي لا إله إلا هو ، وهو بوصف الجلال ، والذي لا يخفى عليه شيءٌ من المعلومات هو اللّه ، وليس مِثْلَ الذي هو جماد لا يَعْلَمْ ولا يَقْدِرُ ، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر . ويمكنه أن يَسْحَقَ هذه الجماد ويحرقه .

٩٩

نعرِّفك أحوالَ الأولين والآخرين لئلا يَلْتَبِسَ عليكَ شيءٌ من طُرُقِهم؛ فتتأدبَ بآدابهم وتجتمعَ فيك مُتَفَرِّقَات مناقِبهم . . ولكن اعلمْ أَنَّا لم نُبلِغْ أحداً مَبْلَغَكَ ، ولم يكن لأحدٍ منَّا مالَكَ؛ آتيناك من عندنا شَرَفاً وفخراً لم يشركك فيهما أحدٌ ، وذكَّرناك ما سَلَفَ لَكَ من العهد معنا ، وجَدَّدْنا لك بينهم تخصيصنا إياك ، وكريمَ إقبالِنا عليك .

١٠٠-١٠١

قوله جلّ ذكره : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً } .

المُعْرضُون عنه شركاءُ يحملون غداً وزِرْاً وِثقْلاً ، أولئك بعُدُوا عن محلِّ الخصوصية ، ولم يكن لهم خَطَرٌ في التحقيق؛ فعقوبتُهم لا تزيد على آلام نفوسِِهم وإحراقِ أشباحهم ،

وأمَّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعةً ونَسَوْه لحظةً لدَار - في الحال - على رؤوسهم البلاءُ بحيث تتلاشى في جَهنَّم عقوبةُ كلِّ أحدٍ ( بالإضافة إلى هذه العقوبة ) .

١٠٢

قومٌ يومُ القيامة لهم مُؤجَّل ، وهو بعد النفخ في الصُّور على ما وَرَدَ في الكتاب وفي الخبر المأثور .

وللآخرين قيامةٌ مُعَجَّلةٌ؛ فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة ، وهوان حاضر وعذاب حاصل ، فكما تَرِدُ على ظواهرِ قوم في الآخرة عقوباتٌ ، تَرِدُ على سرائر آخرين عقوباتٌ في لاحياة الحاضرة ، والمعاملةُ مع كلِّ أحدٍ تخالف المعاملةَ مع صاحبه .

١٠٣-١٠٤

قوله : { يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ . . . } مَنْ تَفَرَّغَ لِعَدِّ الأوقاتِ والتمييز بين اختلاف الحالات فنوعٌ غير مستوفٍ في بلائه ، وأمره سهلٌ . . . ومَنْ كان يُرَادُ المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال؛ فالأحوال تخبر عنه وهو لا يُسْأَلُ عن الخبر .

١٠٥-١٠٧

كما أنَّ في القيامةِ الموعودةِ تُغَيَّرُ الجبالُ عن أحوالِها فهي كالعِهْن المنفوش فكذلك في القيامة الموجودة . . . فلا يخبرك عنها إلا الأكابر الذين هم كالرواسي ثباتاً؛ فإنه يُدْخِلُ عليهم من الأحوال مايمحقهم عن شواهدهم ، ويأخذهم عن أقرانهم . . . كذا سُنَّتُه سبحانه .

١٠٨

تنقطع الأوهام ، وتقف الأفهام ، وتنخنس العقول ، وتندرِِس العلومُ ، وتتحير المعارفُ ، ويتلاشى ما هو نَعْتُ الخَلْق ، ويستولي سلطانُ الحقيقة . . . فعند ذلك لا عينٌ ولا أَثَرٌ ، ولا رسم ولا طلل ولا غَبَرٌ ، في الحضور خَرَسٌ ، وعلى البِساط فَنَاءٌ ، وللرسوم امتحاءُ ، وإنما الصحة على الثبات .

١٠٩

دليلُ الخطابِ أَنَّ مَنْ أَذِنَ له في الشفاعةِ تنفعه الشفاعةُ ، وإذا قُبلَتْ شفاعة أحدٍ بإذن الرحنم فَمِنَ المُحالِ ألاَّ تُقْبَلَ شفاعةُ الرسولِ- صلى اللّه عليه وسلم - وهو أفضل الكافة ، وشفاعةُ الأكابر من صفوته مقبولةٌ في الأصاغر في المُؤجَلِّ وفي المُعَجّل . والحقُّ سبحانه يُشَفَّعُ الشيوخَ في مريديهم اليوم .

ويقال شفاعة الرسول عليه السلام غداً للمطيعين بزيادة الدرجة ، وللعاصين بغفران الزَّلَّة ، كذلك شفاعة الشيوخ - اليوم- للمريدين على قسمين : للذين هم أصحاب السلوك فبزيادة التحقيق والتوفيق ، وللذين هم أصحاب التَّخَبُّطِ والغِرَّة فبالتجاوز عنهم ، وعلى هذا يُحْمَلُ قولُ قائلهم :

إِذَا مَرِضْتُم أَتْيْناكُم نعودُكُم ... وتُذْنِبُون فنأتيكم ونعتَذِرُ!

وحكاياتُ السَّلفِ من الشيوخ مع مريديهم في أوقات فترتهم معروفة ، وهي مُشَاكِلةٌ لهذه الجملة ، وإن شفاعتَهم لا تكون إلا بتعريفٍ من قِبَلِ اللّه في الباطن ، ويكون ذلك أدباً لهم في ذلك .

١١٠

لا يخفى على الحق شيءٌ مما مضى من أحوالهم ولا مِنْ آتيها ، ولا يحيطون به عِلْماً . والكناية في قوله : ( به ) يحتمل أن يعود إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ، ويحتمل أن يعود إلى الحقِّ - سبحانه- ، وهو طريقة السَّلَف؛ يقولون : يعلم الخلْقَ ولا يحيط به العلم ، كما قالوا : إنه يَرَى ولا يُدْرَك .

١١١

ذلَّتْ له الرقاب واستسلم لحُكْمه الخلْقُ ، وخَضَعَت له الجبابرةُ ، ومَنْ اقترف الظلمَ بقي في ظُلُماته ، وعلى حسب ذلك في الزيادة والنقصان .

١١٢

العمل الصالح ما يصلح للقبول ، وفاعِلُه هو المتجرِّدُ عن الآفات الواقفة لحقيقة الأمر .

ويقال العمل الصالح ما لم يستعجل عليه صاحبُه أجراً .

قوله : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } : أي في المآل كما هو مؤمن في الحال .

ويقال هو مؤمنٌ مصدِّق لربِّه أنه لا يعطي المؤمنَ لأَجْلِ إيمانه شيئاً ، ولكن بفضله ، وإيمانُه أمارةٌ لذلك لا موجِبٌ له .

١١٣

أَتْبَعْنا دليلاً بعد دليل ، وبعثنا رسولاً بعد رسول ، وحَذَّرْناهم بوجوهٍ من التعريفات ، وإظهارِ كثيرٍ من الآيات .

١١٤

قوله جلّ ذكره : { فَتَعَالَى اللّه المَلِكُ الحَقُّ } .

تعالى اللّه في كبريائه؛ وكبرياؤه : سناؤه وعُلاه ومَجْدُه ورِفْعَتُه وعظَمَتُه ، كل ذلك بمعنى واحد ، وهو استحقاقه لأوصاف الجلال والتعظيم .

و { المَلِكُ } : مبالغةً من المالك ، وحقيقة الملك القدرة على الإيجاد ، والانفراد بذلك .

و { الحَقُّ } : في وصفه - سبحانه - بمعنى الموجود ، ومنه قوله عليه السلام : ( العين حق ) أي موجود .

ويكون الحق بمعنى ذي الحقِّ ، ويكون بمعنى مُحِقِّ الحق . . . كل ذلك صحيح .

قوله جلّ ذكره : { وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلماً } .

كان يتعجل بالتلقف من جبريل مخافَة النسيان ، فأَمَرَه بالتثبت في التلقين ، وأَمَّنَه من طوارِق النسيان ، وعرَّفه أن الذي يحفظ عليه ذلك هو اللّه .

والآية تشير إلى طَرَفٍ من الاحتياط في القضاء بالظواهر قبل عرضها على الأصول ، ثم إنْ لم يوجد ما يُوجَبُ بالتحقيق أجراه على مقتضى العموم بحقِّ اللفظ ، بخلاف قول أهل التوقف .

فالآية تشير إلى التثبت في الأمور وضرورة التمكث واللبث قصداً للاحتياط .

قوله : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } : فإذا كان أَعْلَمُ البَشَرِ ، وسيِّدُ العرب العجم ، ومَنْ شهد له الحقُّ بخصائص العلم حين قال : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ }[ النساء : ١١٣ ] يقال له : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } - عُلِمَ أَنَّ ما يخصُّ به الحقُّ أولياءَه من لطائف العلوم لا حَصْرَ له .

ويقال أحاله على نفسه في استزادة العلم . وموسى عليه السلام أحاله على الخضر حتى قال له : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }[ الكهف : ٦٦ ] فشتان بين عبدٍ أحيل على عبدٍ في ذلك ثم قيل له : { إنَّكَ لَن تَسْتَطِيِعَ مَعِىَ صَبْراً }[ الكهف : ٧٢ ] ثم كل ذلك التطلف قال له في آخر الأمر : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ . . . }[ الكهف : ٧٨ ] وبين عبدٍ أَمَرَه عند استزادة العلم بأن يطلبه من قِبَلِ ربه فقال : قُلْ يا محمد : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } .

ويقال لما قال عليه السلام : ( أنا أعلمكم باللّه وأخشاكم له ) قال له : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } لِيُعْلَمَ أَنَّ أشرف خِصالِ العبدِ الوقوفُ في محلِّ الافتقار ، والاتصاف بنعت الدعاء دون الوقوف في مَعْرِضِ الدعوى .

١١٥

لم تجد له قوةً بالكمال ، وانكماشاً في مراعاة الأمر حتى وقعت عليه سِمةُ العصيان بقوله : { وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ }[ طه : ١٢١ ] .

ويقال : { لم نَجد له عزماً } : على الإصرار على المخالفة .

ويقال لم نجد عزماً في القصد على الخلاف ، وإن كان . . فذلك بمقتضى النسيان ، قال تعالى : { فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } على خلاف ألأمر ، وإنْ كان منه اتباعُ لبعض مطالبات الأمر .

ويقال شرح قصة آدم - عليه السلام - لأولاده على حجة التسكين لقلوبهم حتى لا يقنطوا من رحمة اللّه؛ فإن آدم عليه السلام وقع عليه هذا الرقم ، واستقبلته هذه الخطيئة ، وقوله تعالى : { فَنَسِىَ } من النسيان ، ولم يكن في وقته النسيان مرفوعاً عن الناس .

ويقال عاتبه بقوله : { فَنَسِىَ } ثم أظهر عُذْرَه فقال :{ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } .

١١٦

السجود نوع من التواضع وإكبار القَدْر ، ولم تتقدم من آدم عليه السلام طاعة ولا عبادة فَخَلَقه الحقُّ بيده ، ورَفَعَ شأنهَ بعدما علَّمه ، وحُمِلَ إلى الجنة ، وأمَرَ الملائكةَ في كل سماءٍ أن يسجدوا له تكريماً له على الابتلاء ، واختباراً لهم . فسجدوا بأجمعهم ، وامتنع إبليسُ من بينهم ، فَلَقِيَ من الهوان من سبق له في حكم التقدير . والعَجَبُ ممن يخفى عليه أنَّ مثل هذا يجري من دون إرادة الحقِّ ومشيئته وهو عالِمٌ بأنه كذلك يجري ، واعتبروا الحكمةَ في أفعاله وأحكامه ، ويزعمون أنه علم ما سيكون من حال إبليس وذريته ، وكثرة مخالفات أولاد آدم ، وكيف أن الشيطان يوسوس لهم . . . ثم يقولون إن الحقَّ سبحانه أراد خلاف ما عَلِمَ ، وأجرى في سلطانه ما يكرهه وهو عالِمٌ ، وكان عالماً بما سيكون! ثم خلق إبليس ومكَّنه من هذه المعاصي مع إرادته ألا يكون ذلك! ويدَّعُون حُسْنَ ذلك في الفعل اعتباراً إنما هو الحكمة . . . فسبحانَ مَنْ أَعْمَى بصائِرَِهم ، وعَمَّى حقيقةَ التوحيد عليهم!

١١٧

وما كان ينفعهم النُّصْحُ وقد أراد بهم ما حذَّرَهم ، وعَلِم أنهم سيلقون ما خوَّفهم به . قوله : { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى } : علم أنهم سيلقون ذلك الشقاء؛

وأَمَّا إنَّه أضاف الشقاءَ إلى آدم وحدَه - وكلاهما لحقَهَ شقاءُ الدنيا - فذلك لمضارعة رؤؤس الآي ، أو لأن التعبَ على الرجال دون النساء . ومَنْ أصغى إلى قول عدوِّه فإِنه يتجَرَّعُ النَّدَمَ ثم لا ينفعه .

١١٨

لا تصديقَ اممُّ من تصديقِ آدم ، ولا وعظَ أشدُّ رحمةً من اللّه ، ولا يقينَ أقوى من يقينه . . . ولكن ما قاسى آدمُ الشقاءَ قبل ذلك ، فلمَّا استقبله الأمرُ وذاق ما خُوِّف به من العناءِ والكدِّ نَدِمَ وأطال البكاء ، ولكن بعد إبرام التقدير .

١١٩

{ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُوا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى } أُوْثِرَ بكل وجه؛ فلم يعرف قَدْرَ العافيةِ والسلامةِ ، إلى أن جرى ما هو محكواً به من سابقِ القسمة .

ويقال تنعَّمَ آدمُ في الجنة ولم يعرف قدر ذلك إلى حين استولى في الدنيا عليه الجوعُ والعطشُ ، والبلاء من كل ( . . . ) .

وكان آدم عليه السلام إذا تجدَّد له نوعٌ نم البلاء أخذ في البكاء ، وجبريل عليه السلام - يأتي ويقول : ربُّك يُقْرِئِكُ السلامَ ويقول : لِمَ تبكي؟ فكان يُذَكِّر جبريلَ عليه السلام وهو يقول : أهذا لاذي قُلْتَ : { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلآَ تَضْحَى } . . . ! وغير هذا من وجوه الضمان والأمن؟!

١٢٠

وسوس إليه الشيطان وكان الحقُّ يعلم ذلك ولم يذكُرْ آدمُ في الحال أن هذا من نزعات مَنْ قال له - سبحانه - : { إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ }[ طه : ١١٧ ] .

ويقال : لو عَمَّى على إبليس تلك الشجرة حتى لم يعرفها بعينها ، ولو لم يكن ( . . . ) حتى دلَّه على تلك الشجرة إيش الذي كان يمنعه منه إلا أَنَّ الحُكمَ منه بذلك سَبَقَ ، والإرادةَ به تعلَّقت؟

ويقال إن الشيطان ظهر لآدم عليه السلام بعد ذلك فقال له : يا شقيُّ ، فعلتَ وصنعتَ . . !

فقال إبليس لآدم : إنْ كنتُ شيطانَك فَمَنْ كان شيطاني؟

ويقال سُمِّي الشيطان شيطاناً لبعده عن طاعة اللّه ، فكلُّ بعيدٍ عن طاعة اللّه يُبْعِدُ الناسَ عن طاعة اللّه فهو شيطان ، ولذلك يقال : شياطين الإِنْسِ ، وشياطين الإِنْسِ شرٌّ من شياطين الجن .

ويقال لما طمع آدم في البقاء خالداً وَجَدَ الشيطان سبيلاً إليه بوسوسَتِه .

والناسُ تكلموا في الشجرة : ما كانت؟ والصحيحُ أَنْ يقالَ إنها كانت شجرة المحنة .

ويقال لو لم تُخْلَقْ في الجنة تلك الشجرة لَمَا كان في الجنة نقصانٌ في رتبتها .

ويقال لولا أنه أراد لآدم ما كان لطالت تلك الشجرة حتى ما كانت لِِتَصلَ إليها يَدُه ، ولكنه - كما في القصة - كانت لا تصل لى أوراقها يده - بعد ما أكل منها - حينما أراد أَنْ يأخذَ منها لِيَسْتُرَ عورتَه .

١٢١

لمَّا ارتكبا المنهيَّ عنه ظهر ما يُسْتَحْيَي مِنْ ظهوره ، ولكنَّ اللّه - سبحانه - أَلْطَفَ معهما في هذه الحالة بقوله : فَبَدَتْ لهما سوآتهما ، ولم يَقُلْ - مُطْلَقاً - فبدت سَوْءَتُهما؛ أي أنه لم يُطْلِع على سوءتهما غيرَهما .

ويقال لَمَّا تجرَّدَا عن لِباس التقوى تناثر عنهما لباسهما الظاهر .

قوله جلّ ذكره : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ } .

أولُ الحِرَفِ والصناعات - على مقتضى هذا - الخياطةُ ، وخياطةُ الرّقاع بعضها على بعض للفقراء ميراثٌ من أبينا آدم - عليه السلام .

ويقال كان آدمُ - عليه السلام - قد أصبح وعليه من حُلَلِ الجنة وفنونِ اللِّباس ما اللّه به أعلمُ ، ثم لم يُمس حتى كان يخصف على نفسه من ورق الجنة ، وهكذا كان في الابتداء ما هو موروثٌ في أولاده من هناء بعده بلاء .

قوله تعالى : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنِ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ }[ الأعراف : ٢٢ ] عند ذلك وقعت عليهما الخَجْلَةُ لمَّا وَرَدَ عليهما خطاب الحقِّ : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا . . . . عن }[ الأعراف : ٢٢ ] ولهذا قيل : كفى للمُقَصِّر الحياء يو اللقاء .

قوله تعالى : { قَالاََ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا . . . }[ الأعراف : ٢٣ ] لم يتكلما بلسان الحجة فقالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا }[ الأعراف : ٢٣ ] ، ولم يقولا : بظلمنا صرنا من الخاسرين ، بل قالا : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ }[ الأعراف : ٢٣ ] ليُعْلَم أَنَّ المدارَ على حُكْم الربِّ لا على جُرْمِ الخَلْق .

قوله جلّ ذكره : { وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } .

لَمَّا وَقَعَتْ عليه سِمَةُ العصيان - وهو أَوَّلُ البشرِ - كان في ذكر هذا تنفيسٌ لأولاده؛ أن تجري عليهم زَلَّةٌ وهم بوصف الغيبة في حين الفترة .

ويقال كانت تلك الأكلةُ شيئاً واحداً ، ولكن قصتها يحفظها ويرددها الصبيانُ إلى يوم القيامة .

وعصى آدم ربَّه ليُعْلَم أن عِظَمَ الذنوبِ لمخالفةِ الآمِرِ وعِظَمِ قَدْرِه . . . لا لكثرة المخالفة في نفسها .

١٢٢

أخبر أنه بعدما عصى ، وبعد كلِّ ما فَعَلَه اجتباه ربُّه؛ فالذي اصطفاه أولاً بلا عِلَّة اجتباه ثانياً بعد الزَّلَّة ، فَتَابَ عليه ، وغَفَر ذنبَه ، { وَهَدَى } : أي هداه إليه حتى اعتذر واستغفر .

١٢٣

أوقع العداوة بين آدم وإبليس والحية ، وقد توالت المحنُ على آدم وحواء بعد خروجهما من الجنة بسمة العصيان ، ومفارقة الجنة ، ودخول الدنيا ، وعداوة الشيطان والابتلاء بالشهوات . ثم قال :

{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ . . . } وترَكَ هواه ، ولم يعمل بوسوسة العدوِّ فله كُلُّ خير ، ولا يلحقه ضَيْر .

١٢٤-١٢٦

قوله جلّ ذكره : { وََمنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } .

الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك في الدنيا ، وفي القبر ، وفي النار ، وبالقلب من حيث وحشة الكفر ، وبالوقتِ من حيث انغلاق الأمور .

ويقال مَنْ أعرض عن الانخراط في قضايا الوفاق انثالت عليه فنون الخذلان ، ومن أعرض عن استدامة ذكره - سبحانه - بالقلب توالت عليه من تفرقة القلب ما يسلب عنه كلَّ رَوْحٍ .

ومَنْ أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوسُ الشيطان وهواجسُ النَّفس بما يوجِب له وحشةَ الضمير ، وانسداد أبواب الراحة والبسط .

ويقال مَنْ أعرض عن ذِكْرِ اللّه في الخلوةِ قَيَّضَ اللّه له في الظاهر من القرينِ السوءِ ما توجِبُ رؤيتُه له قَبْضَ القلوبِ واستيلاَءَ الوحشة .

قوله جلّ ذكره : { وَنَحْشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى } .

في الخبر : ( مَنْ كان بحالةٍ لَقِيَ اللّه بها ) فَمَنْ كان في الدنيا أعمى القلب يُحْشَرُ على حالته ، ومَنْ يَعِشْ على جهلٍ يحشر على جهلٍ ، ولذا يقولون : { مَنْ بَعَثَنَا مِن مَرْقَدِنَا } ؟ [ يس : ٥٢ ] إلى أَنْ تصيرَ معارفُهم ضروريةً .

وكما يَتْرُِكُون - اليومَ - التَدبُّرَ في آياتِه يُتْرَكُون غداً في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم .

١٢٧

جَرَتْ سُنَّتُه بأَنْ يُجازِيَ كُلاً بما يليق بحاله ، فما أسلفه لنفسِه سيلقى غِبَّه؛ على الخبر خيراً ، وعلى الشرِّ شَرَّاً .

١٢٨

أي أفلا ينظرون فيتفكرون؟ ثم إذا استبصروا أفلا يعتبرون؟ وإذا اعتبروا أفلا يزدجرون؟ أم على وجوههم - في ميادين غَفَلاتِهِم يركضون ، وعن سوءِ معاملاتهم لا يرجعون؟ أَلا ساء ما يعملون!

١٢٩

لولا أَنَّ كلمةً اللّه سَبَقَتْ بتأخير العقوبة عن هذه الأمة ، وأنه لا يستأصلهم لأنَّ جماعةً من الأولياء في أصلابهم لَعَجَلَّ عقوبتَهم ، ولكن . . . كما ذَكَرَ من الأحوال أمهلهم مدةً معلومة ، ولكنه لم يهملهم أصلاً .

وإذا كانت الكلمةُ بالسعادة لقوم والشقاوة لقوم قد سبقت ، والعلمُ بالمحفوظ بجميع ما هو كائن قد جرى - فالسعيُ والجهدُ ، والأنكماشُ والجدُّ . . متى تنفع؟ لكنه من القسمة أيضاً ما ظهر .

١٣٠

سماعُ الأذى يوجِب المشقة ، فأزال عنه ما كان لَحِقَه من المشقة عند سماع ما كانوا يقولون ، وأَمَرَهُ : إنْ كان سماعُ ما يقولون يُوحشُكَ فتسبيحُنا - الذي تُثْنِي به علينا - يُرَوِّحُك .

{ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } : أي في صدر النهار؛ ليُبُارِكَ لكَ في نهارِك ، ويَنْعَمَ صباحُك .

{ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } أي عند نقصان النهار؛ ليطيبَ لَيْلُكَ ، وينعم رَواحُك .

{ وَمِنْ ءَانَآىءِ الَّيْلِ } أي في ساعات الليل؛ فإن كمال الصفوة في ذكر اللّه حال الخلوة .

{ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } أي اسْتَدِمْ ذِكْرَِ اللّه في جميع أحوالك .

١٣١

قوله جلّ ذكره : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } .

فضل الرؤية فيما لا يُحْتَاجُ إليه معلولٌ كفَضْلِ الكلامِ ، والذي له عند اللّه مَنْزِلٌ وقَدْرٌ فَلِلْحَقٌ على جميع أحواله غَيْرَةٌ ، إذ لا يَرْضَى منه أنْ يبذل شيئاً من حركاته وسكناته وجميع حالاته فيما ليس اللّه - سبحانه - فيه رِضاءٌ ، وفي معناه أنشدوا :

فعيني إذا اسْتَحْسَنتْ غَيرَكم ... أَمَرْتُ الدموعَ بتأديبها

ويقال لمّا أَدَّبَه في ألا ينظرَ إلى زينة الدنيا بكمال نظره وَقَفَ على وجه الأرض بِفَرْدِ قَدَمٍ تصاوناً عنها حتى قيل له ( طه ) أي طَأْ الأرضَ بِقَدَمِك . . ولِمَ كلُّ هذه المجاهدة وكل هذا التباعد حتى تقف بفَرْدٍ قَدَمٍ؟ طَأْ الأرض بقدميك .

{ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا . . . } الفتنة ما يُشْغَل به عن الحقِّ ، ويستولي حُبُّه على القلب ، ويُجَسِّر وجودُه على العصيان ، ويحمل الاستمتاع به على البَطَر والأشَر .

قوله جلّ ذكره : { وَرِزْقُ رَبِِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } .

القليلُ من الحلال - وفيه رضاءُ الرحمن- خيرٌ من الكثير من الحرام والحطام . . ومعه سُخْطُه . ويقال قليلٌ يُشْهِدُكَ ربَّكَ خيرٌ مِنْ كثير يُنْسِيكَ ربَّك .

١٣٢

قوله جلّ ذكره : { وَأَمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } .

الصلاةُ استفتاحُ بابِ الرزق ، وعليها أحال في تيسير الفتوح عند وقوع الحاجة إليه . ويقال الصلاة رزق القلوب ، وفيها شفاؤها ، وإذا استأخر قُوتُ النَّفْس قَوِيَ قُوتُ القلب .

وأَمرَ - الرسولَ - عليه السلام - بأن يأمرَ أهلَه بالصلاةِ ، وأَنْ يَصْطَبِرَ عليها وللاصطبار مزية على الصبر؛ وهو أَلاَّ يَجِدَ صاحبهُ الألمَ بل يكون محمولاً مُرَوَّحاً .

قوله جلّ ذكره : { لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً } .

أي لا نكلفك برزق أحدٍ ، فإنَّ الرازقَ اللّه - سبحانه - دون تأثير الخَلْق ، فنحن نرزقك ونرزق الجميع .

قوله جلّ ذكره : { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوىَ } .

هما شيئان : وجود الأرزاق وشهود الرزاق؛ فوجود الأرزاق يوجب قوة النفوس ، وشهود الرزاق يوجب قوة القلوب .

ويقال استقلال العامة بوجود الأرزاق ، واستقلال الخواص بشهود الرزَّاق .

ويقال نَفي عن وقته الفَرْقَ بين أوصاف الرزق حين قال : { نََّحْنُ نَرْزُقُكَ } ؛ فإنَّ مَنْ شَهِدَ وتحقق بقوله : { نََّحْنُ } سقط عنه التمييز بين رزقٍ ورزقٍ .

ويقال خففَّفَ على الفقراءِ مقاساةَ قِلَّةِ الرزقِ وتأخُّرِه عن وقتٍ إلى وقتٍ بقوله : { نََّحْنُ } .

قوله : { وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } : أي العاقبة بالحسنى لأهل التقوى .

ويقال المراد بالتقوى المُتّقِي ، فقد يسمَّى الموصوف بما هو المصدر .

١٣٣

عَمِيَتْ بصائرهم وادَّعوا أنه لا برهانَ معه ، ولم يكن القصورُ في الأدلة بل كان الخَلَلُ في بصائرهم ، ولو جمع اللّه لهم كلَّ آيةٍ اقْتُرِحَتْ على رسولٍ ثم لم يُرِد اللّه أَنْ يؤمِنوا لَمَا ازدادوا إلا طغياناً وكفراً وخسراناً . . . وتلك سُنَّةُ أسلافهم في تكذيب أنيبائهم ، ولذا قال :

١٣٤

إنْ أرسلنا إليهم الرسلَ قابلوهم بفنونٍ من الجحد ، ووجوهٍ من العلل؛ مرةً يقولون فما بالُ هذا الرسول بَشَر؟ هلاَّ أرسله مَلَكاً؟ ولو أرسلنا مَلَكاً لقالوا هلاَّ أرسل إلينا مثلنا بَشَراً؟ ولو أظهر عليهم آيةً لقالوا : هذا سِحْرٌ مُفْتَرَى! ولو أخليناهم من رسولٍ وعاملناهم بما استوجبوه من نكير لقالوا :

هلاَّ بَعَثَ إلينا رسولاً حتى كنا نُؤْمِن؟ فليست تنقطع أعلالُهم ، ولا تنفك - عما لا يُرْضَى - أحوالُهم . وكذلك سبيلُ مَنْ لا يجنح إلى الوصال ولا يرغَب في الوداد ، وفي معناه أنشدوا :

وكذا إذا الملولُ قطيعةً ... مَلَّ الوِصال وقال كان وكانا

١٣٥

الكل واقفوان على التجويز غير حاصلين بوثيقة ، ينتظرون ما سيبدو في المستأنف ، إلاَّ أَنَّ أربابَ التفرقة ينتظرون ماسيبدو مِمَّا يقتضيه حُكْمُ الأفلاك ، وما الذي توجبه الطبائعُ والنجومُ . والمسلمون ينتظرون ما يبدو من المقادير فهم في رَوْحِ التوحيد ، والباقون في ظُلُمَاتِ الشَّرْكِ .

﴿ ٠