سورة المؤمنون١ظَفِرَ بالبُغْيَةِ وفاز بالطِّلْبَةِ مَنْ آمَنْ باللّه . و ( الفَلاَحُ ) : الفوزُ بالمطلوبِ والظَّفَرُ بالمقصود . والإيمانُ انتسامُ الحقِّ في السريرة ، ومخامرةُ التصديقِ خلاصةَ القلب ، وستمكانُ التحقيقِ من تأمور الفؤاد . والخشوعُ في الصلاة إطراقُ السِّرِّ على بِساطِ النَّجوى باستكمالِ نَعْتِ الهيبة ، والذوبانِ تحت سلطان الكشف ، والامتحاءِ عند غَلَبَاتِ التَّجلِّي . ويقال أَدْرَكَ ثَمَرَاتِ القُرْبِ وفَازَ بكمالِ الأُنْسِ مَنْ وَقَفَ على بِساط النجوى بنعت الهيبة ، ومراعاةِ آداب الحضرة . ولا يَكْملُ الأنْسُ بلقاءِ المحبوب إلا عند فَقْدِ الرقيب . وأشدُّ الرقباء وأكثرهم تنغيصاً لأوان القرب النَّفْسُ؛ فلا راحةَ للمُصَلِّي مع حضورِ نَفْسه ، فإذا خنس عن نَفْسِه وشاهِدِه عَدِمَ إحساسَه بآفاتِ نَفْسِه ، وطابَ له العيشُ ، وتَمَّتْ له النُّعْمَى ، وتَجلَّتَ له البُشْرى ، ووَجَدَ لذَّةَ الحياةِ . ٣ما يَشغْلُ عن اللّه فهو سَهْوٌ ، وما لي للّه فهو حَشْوٌ ، وما ليس بمسموعٍ من اللّهأو بمعقولٍ مع اللّه فهو لَغْوٌ ، وما هو غير الحق سبحانه فهو كُفْرٌ ، والتعريجُ على شيءٍ من هذا بُعْدٌ وهَجْرٌ . ويقال ما ليس بتقريظِ اللّه ومَدْحِه من كلام خُلْقِه فكل ذلك لغو . ٤الزكاةُ النَّماءُ ، ومَنْ عَمَلُه للنماءِ فأمارةُ ذلك أن يكونَ بنقصانه في نفْسِه عن شواهده ولا يبلغ العبدُ إلى كمالِ الوصفِ في العبودية إلا بذوبانه عن شاهده . ٥-٦لفروجِهم حافظون ابتغاءَ نَسْلٍِ يقوم بحقِّ اللّه ، ويقال ذلك إذا كان مقصودُه التعففَ والتصاونَ عن مخالفاتِ الإثم . ٧أي مَنْ جَاوزَ قَصْدَ إيثار الحقوق ، وجَنَحَ إلى جانب استيفاء الحظوظ . . . فقد تَعَدَّى مَحَلَّ الأكابر ، وخالف طريقتهم . ٨الأماناتُ مختلفةُ ، وعند كلِّ أحدٍ أمانةٌ أخرى ، فقومٌ عندهم الوظائفُ بظواهرهم ، وآخرون عندهم اللطائُف في سرائرهم ، ولقومٍ معاملاتُهم ، ولآخرين منازلاتهُم ، ولآخرين مواصلاتهم . وكذلك عهودهم متفاوته فمنهم مَنْ عاهده ألا يَعْبُدَ سواه ، ومنهم مَنْ عَاهَدَهُ ألا يشهدَ في الكونين سواه . ٩لا تصادفهم الأوقات وهم غير مستعدين ، ولا يدْعُوهم المُنَادِي وهم ليسوا بالباب ، فهم في الصف الأول بظواهرهم ، وكذلك في الصف الأول بسرائرهمْ . ١٠-١١الإرث على حسب النَّسب ، وفي استحقاق الفردوسِ بوصف الإرثِ لِنَسَبِ الإيمان في الأصل ، ثم الطاعات في الفضل . وكما في استحقاق الإرث تفاوتٌ في مقدار السهمان : بالفرض أو بالتعصيب - فكذلك في الطاعات؛ فمنهم مَنْ هم في الفردوس بنفوسهم ، وفي الأحوال اللطيفة بقلوبهم ، ثم هم خالدون بنفوسهم وقلوبهم جميعاً لا يبرحون عن منال نفوسهم ولا ( . . . ) عن حالات قلوبهم . ١٢عَرَّفهم أصلَهم لئلا يُعْجَبُوا بِفْعلِهم . ويقال نَسَبَهُم لئلا يخرجوا عن حَدِّهم ، ولا يغلطوا في نفوسهم . ويقال خَلَقَهم من سُلالَةٍ سُلَّتْ من كل بقعه؛ فمنهم مَنْ طينته من جَرْدَةٍ أو من سَبْخَةٍ أو من سَهْلٍ ، أو من وَعْرٍٍ . . . ولذلك اختلفت أخلاقهم . ويقال بَسَطَ عُذْرَه عند الكافة؛ فإنَّ المخلوقَ من سلالة من طين . . . ما الذي يُنْتَظَرُ منه؟! ويقال خلقهم من سلالة من طين ، والقَدْرُ للتربية لا للتربة . ويقال خلقهم من سلالة ولكنَّ مَعْدِنْ المعرفةِ ومَرْتَعْ المحبةِ ومتعلقَّ العناية منه لهم؛ قال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[ المائدة : ٥٤ ] . ويقال خَلَقَهم ، ثم من حالٍ إلى حالٍ نَقَلَهم ، يُغَيِّر بهم ما شاء تغييره . ١٣-١٤قوله جلّ ذكره : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلْقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً } . قطرةٌ أجزاؤُها متماثِلَةٌ ، ونُطْفَةٌ أبعاضُها متشاكِلة ، ثم جعل بعضها لْحماً وبعضَها عَظْماً ، وبعضَها شَعْراً ، وبعضها ظُفراً ، وبعضها عَصَبَاً ، وبعضها جِلْدَاً ، وبعضها مُخَّاً وبعضها عِرْقاً . ثم خَصَّ كُلَّ عضوٍ بهيئةٍ مخصوصةٍ ، وكلَّ جُزْءٍ بكيفيةٍ معلْومةٍ . ثم الصفاتُ التي للإنسان خَلَقَهَا متافوتةً ، من السَّمْع والبَصَرِ والفِكْرِ والغَضَبِ والقدرةِ والعلم والإرادةِ والشجاعةِ والحقد والجودِ والأوصافِ التي يتقاصر عنها الحَصْرُ والعَدُّ . قوله جلّ ذكره : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الخَالِقِينَ } . في التفاسير أنه صورة الوجه ، ويحتمل ما تركب فيه من الحياة ، واخْتُصَّ به السَّمْع والبصر والعقل والتمييز ، وما تفرَّد به بعضٌ منهم بمزايا في الإلهام العام للعقل وسائر الإدراكات . ويقال : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَر } : وهو أَن هَيَّأهم لأحوالٍ عزيزة يُظْهِرها عليهم بعد بلوغهم ، إذا حصل لهم كما التمييز من فنون الأحوال؛ فلقومٍ تخصيصٌ بزينة العبودية ، ولقومٍ تحرُّرٌ من رِقِّ البشرية ، ولآخرين تحقَّقٌ بالصفاتِ الصمدية بامتحائهم عن الإحساس بما هم عليه وبه من الأحوال التي هي أوصاف البشرية . قوله جلّ ذكره : { فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الخَالِقِينَ } . خلق السمواتِ والأرضين بجملتها ، والعرشَ والكرسَّ ، مع المخلوقات من الجنة والنار بكليتها - ثم لمَّا أخبر بذلك لم يعقبه بهذا التمدح الذي ذكره بعد نعت خَلْقِه بني آدم تخصيصاَ لهم وتمييزاً ، وإفراداً لهم من بين المخلوقات . ويقال إنْ لم يَقُلْ لَكَ إِنَّكَ أحسنُ المخلوقاتِ في هذه الآية فلقد قال في آية أخرى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[ التين : ٤ ] . ويقال إن لم تكن أنت أحسن المخلوقات وأحسن المخلوقين - ولم يُثْنِ عليك بذلك فلقد أثنى على نفسه بقوله : { فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الخَالِقِينَ } ، وثناؤه على نفسه وتمدحه بذلك أعزُّ وأجلُّ من أن يثني عليك . ويقال لما ذكر نعتَك ، وتاراتِ حالِكَ في ابتداء خَلْقَك ، ولم يكن منك لسانُ شكرٍ ينطق ، ولا بيانُ مدحٍ ينطلق . . . نَابَ عنك في الثناء على نفسه ، فقال { فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الخَالِقِينَ } . ١٥أنشدوا : آخر الأمر ما ترى ... القبر واللحد والثرى وأنشدوا : حياتُنا عندنا قروضٌ ... ونحن بعد الموت في التقاضي لا بُدَّ مِنْ ، ردِّ ما اقترضنا ... كلُّ غريم بذاك راضي ويقال نعاك إلى نفسك بقوله : { ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمِيَّتُونَ } وكلُّ ما هو آتٍ فقريب . ويقال كسر على أهلِ الغفلة سطوةَ غفلتهم ، وقلَّ دونهم سيفَ صولِتهم بقوله : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ، وللجمادِ مُضاهون ، وعن المكنة والمقدرة والاستطاعة والقوة لَمُبْعَدُون ، وفي عِداد ما لا خَطَرَ له من الأمواتِ معدودون . ١٦فعند ذلك يتصل الحسابُ والعقابُ ، والسؤالُ والعتابُ ، ويتبين المقبولُ من المردودِ ، والموصولُ من المهجور . ويومُ القيامة يومٌ خوَّفَ به العالَم حتى لو قيل للقيامة : ممن تخافين؟ لقالت من القيامة . وفي القيامة ترى الناسَ سُكَارَى حَيَارَى لا يعرفون أحوالَهم ، ولا يتحققون بما تؤول إليه أمورهم ، إلى أن يتبيَّنَ لكلِّ واحدٍ أَمْرُه؛ خَيْرُه وشَرُّه : فيثقل بالخيرات ميزانُه ، أو يخف عن الطاعاتِ أو يخلو ديوانهُ . وما بين الموت ولاقيامة : فإِمَّا راحاتٌ مُتَّصِلَة ، أو آلام وآفاتٌ غير منفصلة . ١٧الحقُّ - سبحانه - لا يستتر عن رؤيته مُدْرَكٌ ، ولا تخفى عليه- من مخلوقاته - خافية . وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْقَ وبصائرهم؛ فالعادةُ جاريةٌ بأنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحَجُبِ . وكذلك إذا حلَّتْ الغفلةُ القلوبَ استولى عليها الذهول ، وانسدَّت بصائرها ، وانتفت فهومها . وفوقنا حُجُبٌ ظاهرة وباطنة؛ ففي الظاهر السمواتُ حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية ، وعلى القلوب أغشية وأغطية كالمُنْية والشهوة ، والإرادات الشاغلة ، والغفلات المتراكمة . أمَّا المريدون فإذا أَظَلَّتْهُم سحائب الفَتْرَةِ ، وسَكَنَ هيجانُ إرادتِهم فذلك من الطرائق التي عليهم . وأما الزاهدون فإذا تحرّكَ بهم عِرْقُ الرغبة انْفَلَّتْ قوة زهدهم ، وضَعُفَتْ دعائمُ صَبْرِهم ، فَيَتَرَخَّصُون بالجنوحِ إلى بعض التأويلاتِ ، فتعودُ رغباتهم قليلاً قليلاً ، وتَخْتَلُّ رتبةُ عزوفهم ، وتَنْهَدُّ دعائم زهدهم ، وبداية ذلك من الطرائق التي خَلَقَ فوقهم . وأما العارفون فربما تِظِلُّهم في بعض أحايينهم وَقفةٌ في تصاعد سرِّهم إلى ساحات الحقائق ، فيصيرون مُوقَفِين ريثما يتفضّلُ الحقُّ - سبحانه - عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذاً ، ويرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق . وفي جميع هذا فإِنَّ الحقَّ سبحانه غيرُ غافلٍ عن الخلقِ ، ولا تاركٍ للعِباد . ١٨أنزل من السماء ماءَ المطر الذي هو سببُ حياةِ الأرضين ، وذلك بقدرٍ معلوم . ثم . . . البلادُ مختلفةٌ في السَّقْي : فبعضها خِصْبٌ ، وبعضها جَذْبٌ ، وسَنةً يزيد وسنةً ينقص ، سنةً يفيض وسنةً يغيض . كذلك أنزلنا من السماء ماءَ الرحمة فيحيي القلوب ، وهي مختلفة في الشُّرْب : فمِنْ موسَّع عليه رزقه منه ، ومِنْ مُضَِيِّقٍ مُقَتَّرٍ عليه . ومِن وقتٍ هو وقت سحٍّ ، ومنْ وقتٍ هو وقت حَبْسٍ . ويقال ماء هو صوب الرحمة يزيل به دَرنَ العُصَاةِ وآثارَ زلّتِهم وأوضارَ عثرتِهم . وماء هو سقي قلوبهم يزيل به عطَشَ تحيهم ، ويحيي به موات أحوالهم؛ فَتَنْبُت في رياض قلوبهم فنونُ أزهار البسط ، وَصنوف أنوار الروح . وماءٌ هو شراب المحبة فيخص به قلوباً بساحات القرب ، فيزيل عنها به حشمة الوصف ، وَيسكن به قلوباً فيعطلها عن التمييز ، وَيحملها على التجاسرِ ببذل الرُّوح؛ فإذا شربوا طَرِبوا ، وإذا طَرِبوا لم يُبالوا بما وَهَبوا . ١٩كما يحيي بماءِ السماءِ الغياضَ والرياض ، ويصنِّف فيها الأزهارَ والأنوارَ ، وتثمر الأشجارُ وتجري الأنهار . . . فكذلك يَسْقِي القلوبَ بماءِ العرفان فتورق وتثمر بعدما تزهر ، ويؤتى أُكلَها : من طيب عيش ، وكمالِ بسطٍ ، ثم وفورِ هيبة ثم رَوْحِ أُنسٍ ، ونتائجِ تَجَلِّ ، وعوائد قُرْبٍ . . . إلى ما تتقاصر العباراتُ عن شرحه ، ولاَ تطمع الإشارات في حَصْره . ٢١الإشارات منه أنَّ الكدوراتِ الهاجمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة؛ فإنَّ اللَّبنَ الخالصَ السائغَ يخرجُ من أخلاف الأنعام من بين ما تنطوي حواياها عليه من الوحشة ، لكنه صافٍ لم يؤثر فيه منها بحُكم الجِوار ، وكذلك الصفاءُ يوجد أكثره من عين الكدورة؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقٌّ ولا باطل . ومَنْ أشرفَ على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسقط عنه كلفة التمييز ، فالأسرار عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو . { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } : لازمةٌ لكم ، ومتعدية منكم كلِّ متصلٍ بكم : إنِّي - على جَفَواتِها - بربِّها ... وبكلِّ متَّصِل بها مُتَوَسِّلُ ٢٢يحفظهم في الفينة في بجار القطْرة ، ويحفظهم في سفينة السلامة والعصمة في بحار القُدْرة ، وإنَّ بحارَ القدرة تتلاطم أمواجها ، والناسُ فيها غَرْقَى إلا مَنْ يحفظه الحقُّ - سبحانه - في سفينةُ العناية . وصفةُ أهل الفُلكِ إذا مستْهم شِدَّة خوفِ الغَرَقِ ما ذكَر اللّه في قوله : { فَإِذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }[ العنكبوت : ٦٥ ] كذلك مَنْ شاهدَ نفسه على شَفَا الهلاكِ والغرقِ ، والتجأ إلى صِدْق الاستعانة ودوام الاستغاثة فعند ذلك يحميه الحقُّ - سبحانه - من مخلوقات التقدير . ويقال إنَّ وَجهَ الأرضِ بحارُ الغفلة ، وما عليه الناسُ من أسباب التفرقة بحارٌ مهلكةٌ والناس فيها غرقى . وكما قال بعضهم : الناسُ بحرٌ عميقٌ ... والبعدُ عنهم سفينة وقد نصحتُك فانظر ... لِنْفسِكَ المسكينهْ ٢٣كَرَّرَ قصةَ نوح لِمَا فيها من عظيم الآيات من طولِ مقامه في قومه ، وشدةِ مقاساة البلاء منهم ، وتمام صبره على ما استقبله في طول عمره ، ثم إهلاك اللّه جميع مَنْ أَصَرَّ على كفرانه ، ثم إهلاك اللّه جميع مَنْ أَصَرّ على كفرانه ، ثم لم يغادِرْ منهم أحداً ، ولم يبال - سبحانه - بأنْ أهلك جملتهم . ولقد ذكر في القصص أن امرأةً من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولودٌ ، فَحَمَلَتْه وقامت حالمةً له ترفعه عن الطوفان ، فلمَّا بلغ الماءُ إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها - قدْرَ ما أمكنها - إبقاءً على وَلَدِها ، وإشفاقاً عليه من الهلاك ، إلى أن غَلَبَها الماءُ وتَلِفَتْ وولدها . فأوحى اللّه إلى نوح - عليه السلام- لو أني كنتُ أَرْحَمُ واحداً منهم لَرَحِمْتُ تلك المرأة وولدها . وفي الخبر أن نوحاً كان اسمه يشكر ، ولكثرة ما كان يبكي أوحى اللّه إليه : يا نوح . . . إلى كم تنوح؟ فسمَّاه نوحاً . ويقال إن ذنبَه أنه مرّ يوماً بكلبٍ فقال : ما أوحشه! فأوحى اللّه إليه : اخلق أنت أَحْسَنَ من هذا! فكان يبكي معتذراً عن قالته تلك . وكان قومُه يلاحظونه بعين الجنون ، وما زاد لهم دعوةً إلا ازدادوا على إجابته نبوةً ، وما زاد لهم صفوة إلا ازدادوا على طول المدة قسوةً على قسوة . ولما عمل السفينة ظهر الطوفان ، وأدخل في السفينة أَهْلَه ، تعرْض له إبليسُ - كما جاء في القصة - وقال : احْمِلْني معك في السفينة ، فأبى نوح وقال : يا شقيُّ . . تطمع في حملي إياك وأنت رأسُ الكفَرَةِ؟! فقال إبليسُ : أَمَا عَلِمْتُ - يا نوحُ - أَنَّ اللّه أنْظَرني إلى يوم القيامة ، وليس ينجو اليومَ أحدٌ إلاّ في هذه السفينة؟ فأوحى اللّه إلى نوح أَن احمله فكان إبليسُ مع نوح في السفينة ، ولم يكن لابنه معه مكانٌ في السفينة . وفي هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من اللّه غير معلول لأنه إن كان المعنى في أن ابنه لم يكن معه له مكان لكُفْرِه فبإبليس يُشكل . . . ولكنها أحكامٌ غيرُ معلولة ، وجاز له - سبحانه - أن يفعل ما يريد : يَصِلُ مَنْ شاء وَيَرُدُّ مَنْ شاء . ٢٩الإنزالُ المباركُ أن يكون باللّه وللّه ، وعلى شهودِ اللّه من غير غفلة عن اللّه ، ولا مخالفاً لأمر اللّه . ويقال الإنزال المبارك الاستيعاب بشهود الوصف عنك ، ثم الاستغراق باستيلاء سلطان القُرْب عليك ، ثم الاستهلاك بإحداق أنوار التجلِّي حتى لا تبقى عين ولا أثر فإذا تَمَّ هذا ودام هذا فهو نزولٌ بساحات الحقيقة مبارك؛ لأنك بلا أنت . . . بكليتك من غير بقيةٍ أو أَثرٍ عنك . ٣١تتابعت القرونُ على طريقةٍ واحدةٍ في التكذيب ، وغرّهم طولُ الامهالِ ، وما مكنَّهم من رَفَه العيش وخَفْض الدّعَةِ ، فلم يقيسوا إلا على أنفسهم ، ولم يَسْمُ لهم طَرَفٌ إلى مَنْ فوقهم في الحال والمنزلة ، فقالوا : أنؤمن بمن يتردد في الأسواق ، وينتفع مثلنا بوجوه الأرفاق؟ ولئن أطعنا بشراً مثلنا لَسَلَكنا سبيلَ الغَيِّ ، وتَنَكَبْنا سُنَّةَ الرُّشْدِ . فأجراهم اللّه في الإهانةِ وإحلال العقوبة بهم مجرًى واحداً وأذاقهم عذابَ الخزْي . وأعظمُ ما دَاخَلَهم من الشُّبهةِ والاستبعادِ أمرْ الحشْرِ والنشر ، ولم يرتقوا للعلم بأنَّ الإعادة كالابتداء في الجواز وعدم الاستحالة ، واللّه يهدي مَنْ يشاء ويُغْوِي مَنْ يريد . ثم إن اللّه في هذه السورة ذَكَرَ قصةَ موسى عليه السلام ، ثم بعده قصةَ عيسى عليه السلام ، وخَصَّ كُلَّ واحدٍ منهم بآياته الباهرة ومعجزاته الظاهرة . ٥١كلوا من الطيبات مما أَحلَ لكم وأباح ، وما هو محكوم بأنَّه طيب ، على شريطة مطابقة رُخصَهِ الشريعة - مما كان حلالاً في وقتهم ، مطلقاً مأذوناً لهم فيه . وكذلك أعمالهم الصالحة ما كان موافقة لأمر اللّه في زمانهم بفنون طاعاتهم في أفعالهم وعقائدهم وأحوالهم . ٥٢معبودكم واحدٌ ونبيُّكم واحد ، وشرعكم واحد؛ فأنتم في الأصول شرعٌ سواءٌ ، فلا تسلكوا ثِنْيَاتِ الطرق فتطيحوا في أودية الضلالة . وعليكم باتباع سَلَفِكم ، واحذروا موافقة ابتداع خَلَفكم . { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } خافوا مخافة أمري ، وأعرفوا عظيمَ قَدْرِي ، واحفظوا في جريان التقدير سِرِّي ، واستديموا بقلوبكم ذكري ، تجدوا في مآلكم غفري ، وتَحْظَوْا بجميلِ بِرِّي . ٥٣فمستقيم على حَقِّه ، وتائه في غَيِّه ، ومُصِرُّ على عصيانه وفِسْقِه ، ومقيمٌ على إحسانه وصِدْقه ، كُلٌّ مربوطٌ بحدِّه ، موقوفٌ بما قُسِمَ له في البداية من شأنه كلٌّ ينتحل طريقَته ويَدَّعى بحسن طريقته حقيقةً ، وعد صحوِ سماءِ قلوبِ أربابِ التوحيد لا غُبارَ في الطريق؛ وهم على يقين معارفهم؛ فلا رَيْبَ يتخالجهم ولا شُبْهة . وأهل الباطل في عَمَى جَهْلِهم ، وغبارِ جُحْدِهم ، وظلمة تقليدهم ، ومحنة شكهم . ٥٤إنَّ مدةَ أَخْذِهم لقريبةٌ ، والعقوبة عليهم - إذا أُخِذُوا - لشديدة ، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم . ٥٥-٥٦هذا في شأن أصحاب الاستدراج من مَكْرِ الحقِّ بهم بتلبيس المنهاج؛ رَأَوا سَرَاباً فَظَنْوه شراباً ، ودَس لهم في شهْدِهم صاباً فتوهموه عِذَاباً ، وحين لقوا عَذَاباً عَلِموا أنهم لم يفعلوا صواباً . ٥٧أمارةُ الإشفاق من الخشيةِ إطراقُ السريرة في حال الوقوف بين يدي اللّه بشواهد الأدب ، ومحاذرةُ بَغَتَاتِ الطَّرْد ، لا يستقر بهم قرارٌ لِمَا داخَلَهم من الرُّعْبِ ، واستولى عليهم من سلطانِ الهيبة . ٥٨تلك الآياتُ مختلفةٌ؛ فمنها ما يُكاشَفون في الأأقطار من اختلاف الأدوار ، وما فيه الناس من فنون الهِممَ وصنوفِ المُنى والإرادات ، فإذا آمن من العبدُ بها ، واعتبر بها اقتنع بما يرى نَفْسَه مطالَباً به . ٥٩يَذَرون جَليَّ الشِّرْكِ وخَفِيَّة ، والشِّرْكُ الخفيُّ ملاحظةُ الخَلْق في أوان الطاعات ، والاستبشارُ بمَدْحِ الخَلْقِ وقبولهم ، والانكسارُ والذبولُ عند انقطاع رؤية الخلْق . ويقال الشِّرْكُ الخفيُّ إحالةُ النادر من الحالات - في المَسَارِّ والمَضَارِّ - على الأسباب كقول القائل : ( لولا دعاءُ أبيك لهلكت ) و ( لولا هِمَّةُ فلان لما أفلحت ) . . . وأمثال هذا؛ قال اللّه تعالى :{ وَمَا يُؤْمِنَُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ }[ يوسف : ١٠٦ ] . وكذلك تَوَهُّمْ حصولِ الشِّفَاءِ من شُرْبِ الدواء . فإذا أيقن العبدُ بِسرِّه ألا شيء من الحدثان ، ولم يتوهم ذلك ، وأيقن ألاَّ شيء إلا من التقدير فعند ذلك يبقى عن الشِّرْكِ . ٦٠يُخْلِصُو في الطاعات من غير إلمام بتقصيرٍ ، أو تعريحٍ في أوطانِ الكسل ، أو جنوحٍ إلى الاسترواح بالرُّخَص . ثم يخافون كأنّهم أَلمُّوا بالفواحش ، ويلاحظون أحوالَهم بعين الاستصغار والاستحقار ، ويخافون بغتاتِ التقدير ، وقضايا السخط ، وكما قيل : يتجنَّبُ الآثامَ ثم يخافها ... فكأنَّما حَسَنَاتُه آثامُ ٦١مُسارعٌ بِقَدَمِه من حيث الطاعات ، ومُسارعٌ بِهِمَمِه من حيث المواصلات ، ومُسارعٌ بِنَدَمِه من حيث تجرُّع الحسرات ، والكلُّ مصيبٌ ، وللكلِّ من إقباله- على ما يليق بحاله - نصيب . ٦٢المطالباتُ في الشريعةِ مَضْمَّنَةٌ بالسهولة ، وأمَّا مطالباتُ الحقيقة فكما قالوا : ليس إلاَّ بَذْل الروح ، ولهذا فهم لا تشغلهم التُّرَّهَات . قال لأهل الرخص والمستضعفين في الحال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }[ الحج : ٧٨ ] ، وأمَّا أربابُ الحقائق؛ فقال :{ وَإِن تُبْدُوا مَا فِى أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه }[ البقرة : ٢٨٤ ] وقال : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللّه عَظِيمٌ }[ النور : ١٥ ] وقال : { وَجَاهِدُوا فِى اللّه حَقَّ جِهَادِهِ }[ الحج : ٧٨ ] . قوله : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } : ولولا غفلتُهم عن مواضع الحقيقة لما خوَّفهم بكتابة المَلَكِ ، ولكن غفلوا عن شهود الحق فخوَّفهم باطلاعِ الملائكة ، وكتابَتِهم عليهم أعمالهم . ٦٣لا يَصْلُحُ لهذا الشأن إلا من كان فارغاً من جميع الأعمال ، ولا شغلَ له في الدنيا والآخرة ، فأمَّا مَنْ له شُغْلٌ بدنياه ، أو على قلبِه حديثُ عقباه ، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه ، وفي الخبر ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ) . ويقال أصحاب الدنيا مشغولون بدنياهم ، وأرباب العُقبى مشغولون بعُقباهم ، وأهل النار مشغولون بما ينالهم من بلواهم؛ وإن الذي له في الدنيا والآخرة غير مولاه - حين الفراغ - عزيز؛ قال تعالى : { إِنَّ أَصْحَابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ }[ يس : ٥٥ ] . ٦٤إنه - سبحانه - يُمْهِلُ ولكنَّه لا يُهْمِلُ؛ فإذا أَخَذَ فَبَطْشُه شديدٌ ، قال تعالى : { إِنَّ بَطَشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ }[ البروج : ١٢ ] . . . فإذا أَخَذَ أصجابُ الكبائرِ - حين يحلْ بهم الانتقامُ - في الجوابِ رُدُّا في الهوان . ٦٥فإذا انفصل من الغيبِ حُكْمٌ فلا مَرَدَّ لتقديره . ويقال للجناية سراية؛ فإذا أمسك الجاني عن الجناية فلا ينفعه ذلك ما لم يمض حكم السراية . ٦٦-٦٧ذَكَرَ هذا من باب إملاءِ العُذْرِ ، وإلزام الحجة ، والقطع بألا ينفعَ - الآنَ - الجزعُ ولا يُسْمَعُ العُذْرُ ، والملوكُ إذا أبرموا حُكْماً ، فالاستغاثةُ غيرُ مُؤَثِّرَةٍ في الحاصل منهم ، قال قائلهم : إذا انصرفَتْ نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجهٍ - آخِرَ الدهرِ - تُقْبِلُ ٦٨يعني أنهم لو أنعموا النظر ، وسلطوا على أحوالهم صائبَ الفِكْر لاستبصروا في الحال ، ولانتفى عن قلوبهم الاستعجامُ والإشكال ، ولكنهم استوطنوا مركبَ الكسل ، وعرَّجُوا في أوطان التغافل ، فتعودوا الجهل ، وأيِسوا من الاستبصار . ٦٩ذُهِلُوا عن التحقيق فَتَطَوَّحُوا في أودية المغاليط ، وتَرجَّمَتْ بهم الظنونُ الخاطئةُ ، ومَلَكَتْهُم كواذبُ التقديرات ، فأخبر اللّه ( الرسول ) عن أحوالهم؛ فمرةً قابلوه بالتكذيب ، ومرةً رَمَوْه بالسِّحرِ ، ومرةً عابوه بتعاطيه أفعالَ العادة بما عليه الناس من المآكل والمشارب ، ومرةً قَدَحُوا فيه بما هو فيه من الفقر وقِلَّةِ ذات اليد . . . فأخبر اللّه عن تَشَتُّتِ أحوالِهِم ، وتَقَسُّم أفكارهم . ٧١وذلك لتضادِّ مُنَاهم وأهوائِهم؛ إذ هم متشاكسون في السؤال والمراد ، وتحصيلُ ذلك مُحَالٌ تقديرُه في الوجود . فَبَيَّنَ اللّه - سبحانه - أنه لو أجرى حُكْمَه على وفق مرادِهم لاختلَّ أمرُ السمواتِ والأرض ، ولَخَرَجَ عن حَدِّ الإحكام والإتقان . ٧٢أي إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرِ ، ولا بإعطاءِ عِوَضٍ حتى تكونَ بموضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة . أم لعلَّكَ تريد أن يَعْقِدُوا لك الرياسة . ثم قال : والذي لَكَ من اللّه سبحانه من جزيل الثواب وحسن المآب يُغْنيك عن التصدِّي لنَيْل ما يكون في حصوله منهم مطمع . وهذا كان سُنَّة الأنبياء والمرسلين؛ عملوا للّه ولم يطلبوا أجراً من غير اللّه . والعلماءُ وَرَثَةُ الأنبياء فسبيلُهم التوقِّي عن التَّدَنُّسِ بالأطماع ، والأكل بالدِّين فإنه رِياءٌ مُضِرٌّ بالإيمان؛ فإذا كان العملُ للّه فالأجرُ مُنْتَظَرٌ من اللّه ، وهو موعودٌ من قِبَل اللّه . ٧٣الصراطُ المستقيم شُهودُ الربِّ بنعت الانفراد في جميع الأشياء ، وفي الإيجاد والاستسلام لقضايا الإلزام بمواطأة القلب من غير استكراهِ الحُكْم . ٧٤زاغوا عن الحجة المُثْلى بقلوبهم فوقعوا في جحيم الفرقة ، وستميل وتزل أقدامُهم غداً عن الصراط ، فيقعون في نار الحرقة ، فهم ناكبون في دنياهم ، وعقباهم ٧٥أخبر عن صادق علمه بهم ، وذلك صادر عن سابق حُكْمِه فيهم ، فقال : لو كشفنا عنهم في الحال لم يفوا بما يعدون من أنفسهم من الإيمان في المآل ، ولقد عَلِمَ أنهم سيكفرون ، وحَكَمَ عليهم بأنهم يكفرون؛ إذ لا يجوز أن يكون حُكْمُه فيهم بخلافِ عِلْمه بهم . ٧٦أذقناهم مقدماتِ العذابِ دونَ شدائِده . . . تنبيهاً لهم ، فما انتبهوا وما انزجروا ولو أنهم إذ رأوا العذاب فزعوا إلى التضرعِ والابتهالِ لأسرع اللّه زواله عنهم ، ولكنهم أصرُّوا على باطلهم ، لِيَقْضِيَ اللّه أمراً كان مفعولاَ . ٧٧لما أحللنا بهم أشدَّ العقوبات ضَعُفُوا عن تَحمُّلِها ، وأُخِذُوا بغتةً ، ولم ينفعهم ما قدَّموا من الابتهال ، فَيَئِسُوا عن الإجابة ، وعرَّجوا في أوطان القنوط . ٧٨ذكر عظيمَ مِنَّتِهِ عليهم بأن خَلَقَ لهم هذه الأعضاء ، واطالَبَهم بالشكر عليها . وشُكْرُهُمْ عليها استعمالُها في طاعته؛ فَشُكْرُ السَّمْعِ ألا تسمعَ إلا باللّه وللّه ، وشُكْرُ البَصَر ألا تنظرَ إلا باللّه وللّه ، وشكرُ القلب ألاَّ تشهدَ غيرَ اللّه ، وألاَّ تحبَّ به غيرَ اللّه . ٧٩الابتداءُ للحادثاتِ من اللّه بدءاً ، والانتهاءُ إليه عوداً ، والتوحيد ينتظم هذه المعاني؛ فتعرف أنَّ الحادثات باللّه ظهوراً ، وللّه مِلْكاً ، ومن اللّه ابتداءً ، وإلى اللّه انتهاءً . ٨٠يُحْيي لنفوسَ ويُميتُهَا والمعنى في ذلك معلومٌ ، وكذلك يحيي القلوبَ ويميتها؛ فموتُ القلب بالكُفْرِ والجُحد ، وحياةُ القلبِ بالإيمان والتوحيد ، وكما أنَّ للقلوبِ حياةً وموتاً فكذلك للأوقات موتٌ وحياةٌ ، فحياةُ الأوقاتِ بيُمْنِ إقباله ، وموتُ الأوقاتِ بمحنة إعراضه ، وفي معناه أنشدوا : أموت إذا ذكرتك ثم أحيا ... فكم أحيا عليك وكم أموت قوله : { وَلَهُ اخْتِلاَفُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ؛ فليس كلُّ اختلافها في ضيائها وظلمتها ، وطولها وقِصَرِها ، بل ليالي المحبين تختلف في الطول والقِصَر ، وفي الروح والنوح؛ فَمِنَ الليالي ما هو أضوأ من اللآلي ، ومن النهار ما هو أشدُّ من الحنادس ، يقول قائلهم : لياليَّ بعد الظاعنين شُكُولُ . ويقول قائلهم : وكَمْ لظلامِ الليلِ عِنْدِيَ من يدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ المانويةَ تَكْذِبُ وقريب من هذا المعنى قالوا : ليالي وصالٍ قد مَضَيْن كأنَّها ... لآلي عقودٍ في نحور الكواعبِ وأيامُ هَجْرٍ أعقبتها كأنَّها ... بياضُ مشيبٍ في سواد الذوائبِ ٨١-٨٢سلكوا في التكذيب مَسْلَكَ سَلَفهم ، وأسرفوا في العناد مثل سَرَفِهم ، فأصابهم ما أصاب الأولين من هلاكهم وَتَلَفِهم . ٨٣قوله : { لَقَدْ وُعِدْنَا } لمَّا طال عليهم وقتُ الحشر ، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنَّشْر زَادَ ذلك في ارتيابهم ، وجعلوا ذلك حُجَّةً في لَبْسِهم واضطرابهم ، فقالوا : لقد وُعِدْنا مثل هذا نحن وآباؤنا ، ثم لم يكن لذلك تحقيق؛ فما نحن إلاَّ أمثالُهم . فاحتجَّ اللّه عليهم في جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخَلْق : ٨٤-٨٩أمَرَه - عليه السلام - أَنْ يُلَوِّنَ عليهم الأسئلة ، وعَقَّبَ كُلُّ واحدٍ من ذلك - مُخْبِراً عنهم - أنهم سيقولون : للّه ، ثم لم يَكْتَفِ منهم بقالتهم تلك ، بل عاتَبَهم على تجرُّدِ قولهم عن التَّذَكُّر والفَهْمِ والعلم ، تنبيهاً على أن القول - وإن كان في نفسه صدقاً - فلم تكن فيه غنية؛ إذ لم يصدر عن علمٍ ويقينٍ . ثم نَبَّهَهُمْ على كمالِ قدرته ، وأنَّ القدرة القديمة إذا تعلَّقت بمقدورٍ له ضدٌّ تعلَّقَت بضدِّه ، ويتعلق بمثل متعلقه . والعَجَبُ من اعترافهم بكمال أوصاف جلاله ، ثم تجويزهم عبادَة الأصنامِ التي هي جماداتٌ لا تحيا ، ولا تضرُّ ولا تنفع . ويقال أولاً قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ثم قال بعده : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } فَقَدَّمَ التذكُرَ على التقوى؛ لأنهم بتذكرهم يَصلُون إلى المغفرة ، ثم بعد أن يعرفوه فإنهم يجب عليهم اتقاءُ مخالفته . ثم بعد ذلك : { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } ؛ أي بعد وضوح الحجة فأيُّ شَكِّ بَقِيَ حتى تنسبوه إلى السِّحْرِ؟ ٩٠بَيَّنَ أنهم أصرُّوا على جحودهم ، وأقاموا على عُتُوِّهم ونُبُوِّهم ، وبعد أن أُزيحت العِللُ فلات حين عذر ، وليس لتجويز المُسَاهَلَةِ موجِبٌ بَتّاً . ٩١-٩٢قوله جلّ ذكره : { مَا اتَّخَذَ اللّه مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } . اتخاذ الأولاد لا يصحُّ كاتخاذ الشريك ، والأمران جميعاً داخلان في حدِّ الاستحالة ، لأن الولد أو الشريك يوجب المساواة في القَدْرِ ، والصمدية تتقدَّسُ عن جواز أن يكون له مِثْلٌ أو جنس . قوله جل ذكره : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } . كُلُّ أمرٍ نِيطَ باثنين فقد انتفى عنه النظامُ وصحةُ الترتيب ، وأدلة التمانع مذكورة في مسائل الأصول . { سُبْحَانَ اللّه } تقديساً له ، وتنزيهاً عماوصفوه به { عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } تَنَزَّهَ عن أوهامِ مَنْ أشرك ، وظنونِ مَنْ أفِكَ . ٩٣يقول إن عجلت لهم ما تتوعدهم به فلا تجعلني في جملتهم ، ولا توصل إليَّ سوءاً مثلما توصل إليهم من عقوبتهم . وفي هذا دليلٌ على أنَّ للحقِّ أن يفعلَ ما يريد ، ولو عذَّبَ البريء لم يكن ذلك منه ظلماً ولا قبيحاً . ٩٥تدل على صحة قدرته على خلاف ما عَلِمَ؛ فإنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ، فَصَحَّتْ القدرةُ على خلاف المعلوم . ٩٦الهمزة في { أحسن } يجوز ألا تكون للمبالغة؛ ويكون المعنى ادفع بالحسن السيئة . أو أن تكون للمبالغة؛ فتكون المكافأة جائزةً والعفوُ عنها - في الحُسْنِ - أشدَّ مبالغةً . ويقال ادفع الجفاءَ بالوفاء ، وجُرْمَ أهل العصيانِ بحكم الإحسان . ويقال ادفع ما هو حظك إذا حصل ما هو حق له . ويقال اسلك مسلكَ الكَرَم ولا تجنح إلى طريقة المكافأة . ويقال الأحسنُ ما أشار إليه القَلبُ ، والسيئةُ ما تدعو إليه النَّفْسُ . ويقال الأحسنُ ما كان بإشارة الحقيقة ، والسيئةُ ما كان بوساوس الشيطان . ويقال الأحسنُ نورُ الحقائقِ ، والسيئةُ ظلمةُ الخلائق . ٩٧-٩٨الاستعاذة - على الحقيقة - تكون باللّه من اللّه كما قال صلى اللّه عليه وسلم : ( أعوذ بك منك ) ولكنه - سبحانه - أراد أن نَعْبُدَه بالاستعاذة به من الشيطان ، بل مِنْ كلِّ ما هو مُسَلَّطٌ علينا ، والحقُّ عندئذٍ يوصل إلينا مضرتنا بجري العادة . وإلاَّ . . . فلو كان بالشيطان من إغواء الخَلْقِ شيءٌ لكان يُمْسِكُ على الهدايةِ نَفْسَه! فَمَنْ عَجَزَ عن أنْ يحفَظَ نَفْسَه كان عن إغواءِ غيرِه أشَدَّ عجزاًَ ، وأنشدوا : جحودي فيه تلبيس ... وعقلي فيك تهويس فمَنْ آدم إلاَّكَ ... ومن في ( . . . ) إبليس . ٩٩-١٠٠إذ أخذ البلاءُ بخناقهم ، واستمكن الضُّرُّ من أحوالهم ، وعلموا ألا محيصَ ولا محيدَ أخذوا في التضرُّع والاستكانة ، ودون ما يرومون خرطُ القتادِ! ويقال لهم هلاّ كان عُشْرُ عشرِ هذا قبلَ هذا؟ ولقد قيل : قلتُ للنفس : إنْ أرَدتِ رجوعاً ... فارجعي قبل أنْ يُسدَّ الطريق . ١٠١يومئذٍ لا تنفع الأنسابُ وتنقطعُ الأسبابُ ، ولا ينفع النّدم ، وسيلقى كلٌّ غِبَّ ما اجترم؛ فَمَنْ ثَقُلتْ بالخيرات موازينُه لاحَ عليه تزيينُه . ومن ظهرَ ما يشينه فله من البلاء فنونه؛ تلفح وجوههم النار ، وتلمح من شواهدهم الآثار ، ويتوجه عليهم الحِجاج ، فلا جواب لهم يُسْمَع ، ولا عُذْر منهم يُقْبل ، ولا عذاب عنهم يُرْفَع ولا عقابُ عنهم يُقطَع . ١٠٦نطقوا بالحقِّ . . . . ولكن في يومٍ لا ينفع فيه الإقرار ، ولا يُقْبَلُ الاعتذار ، ثم يقولون : ١٠٧والحقُّ يقول : لو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه . عِلمَ أنّ ردَّهم إلى الدنيا لا يكون ، ولكنه عِلم أنّه لو كان فكيف كان يكون . ١٠٨عند ذلك يتمُّ عليهم البلاء ، وشتدُّ عليهم العناء ، لأنهم ما داموا يذكرون اللّه لم يحصل الفراق بالكلية ، فإذا حِيلَ بينهم وبين ذكره تتم لهم المحنة ، وهو أحدُ ما قيل في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ }[ الأنبياء : ١٠٣ ] . وفي الخبر : ( أنهم ينصرفون بعد ذلك فإذا لهم عواءٌ كعواء الذئب ) . وبعض الناس تغار من أحوالهم؛ لأن الحق يقول لهم : { اخْسَئُوا فِيهَا } ، فيقولون : يا ليتنا يقول لنا! أليس هو يخاطبنا بذلك؟! وهؤلاء يقولون : قَدْحُ الأحباب ألذُّ من مَدْح الأجانب ، وينشدون في هذا المعنى : أتاني عنكِ سَبُّكِ لي . . فسُبِّي ... أليس جرى بِفِيكِ اسمي؟ فَحسْبِي . ١٠٩-١١١الحقُّ - سبحانه - ينتقم من أعدائه بما يطيِّبُ به قلوبَ أوليائه ، وتلك خصومةُ الحق ، فيقول : قد كان قومٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وثناي ، ويتصفون بمدحي وإطرائي ، فاتخذتموهم سخرياً . . . فأنا اليوم أُجازيهم ، وأنتقم ممن كان يناويهم . ١١٢-١١٤عددُ سنين الأشياء - وإن كانت كثيرة - فقد تقصر أو تقل بالإضافة إلى ما يوفي ويُرْبِي عليها ، كذلك مدة مقامهم تحت الأرض؛ إن كانوا في الراحة فقد تقل بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة ، وإن كانت شدائد فتتلاشى في جنب ما يرونه . ذلك اليوم من أليم تلك العقوبات المتوالية . ١١٥العبثُ اللّهو ، واللَّعِبُ والاشتغالُ بما يُلْهِي عن الحقِّ ، واللّه لم يأمر العبادَ بذلك ، ولم يَدْعهُم إلى ذلك ، ولم يندبهم إليه . والعابثُ في فِعْلِهِ مَنْ فِعْلُه على غير حدِّ الاستقامة ، ويكون هازلاً مُسْتَجْلِباً بفعله أحكامَ اللّهوِ إلى نَفْسه ، متمادياً في سهوه ، مستلِذَّ التفرقةِ في قصده ، وكلُّ هذا من صفات ذوي البشرية ، والحقُّ - سبحانه مُنَزّهُ النّعَت عن هذه الجملة ، فلا هو يفعل شيءٍ عابث ، ولا بشيء منَ العَبَثَ آمِرٌ . ١١٦الحقُّ - بنعوت جلاله - متوحِّدٌ ، وفي عِزِّ آزاله وعلوِّ أوصافه متفرِّدٌ ، فذاتُه حقٌّ ، وصفاته حقٌّ ، وقولُه صِدْقٌ ، ولا يتوجَّه لمخلوق عليه حقٌ ، وما يفعلهم من إحسان بعباده فليس شيء منها بمستحق . { لآَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الْكَرِيمِ } : ما تَجَمَّلَ بالعرشِ ، ولكن تَعَزَّزَ العرشُ بأنَّهُ أضافه إلى نَفْسِه إضافة خصوصية . والكريمُ الحَسْنُ ، والكرمُ نَفْيُ الدناءة . ١١٧حسبابهُ على اللّه في آجِلِه . وعذابُه من اللّه له في عاجله ، وهو الجهل الذي أودعَ قلبَه حتى رَضِيَ بأن يَعْبُدَ معه غيرَه . وقولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى }[ الزمر : ٣ ] كلامٌ حاصلٌ من غير دليل عقل ، ولا شهادة خبرٍ أو نقل ، فما هو إلا إفك وبهتان ، وقولٌ ليس يساعده برهان . ١١٨اغفرْ الذنوبَ ، واسترْ العيوبَ ، وأجْزِلْ الموهوب . وارحمْ حتى لا تستولي علينا هواجمُ التفرقة ونوازل الخطوب . والرحمةُ بالدعاء من صنوف النعمة ، ويسمى الحاصل بالرحمة باسم الرحمة على وجه التوسع وحكم المجاز . |
﴿ ٠ ﴾