سورة الشعراء

١-٢

ذَكَرْنَا فيما مضى اختلافَ السَّلَفِ في الحروف المُقَطَّعَة؛ فعند قوم : الطاءُ إشارة إلى طهارة عِزِّه وتَقَدُّسِ عُلُوِّه ، والسين إشارةٌ ودلالةٌ على سناء جبروته ، والميم دلالةٌ على مَجْدِ جلاله في آزله .

ويقال الطاء إِشارة إلى شجرة طوبى ، والسين إلى سِدْرَةِ المُنتهى ، والميم إلى اسم محمد صلى اللّه عليه وسلم ؛ أي ارتقى محمدٌ ليلةَ الإسراء عن شهوده شجرةَ طوبى حتى بَلَغَ سدرةَ المنتهى ، فلم يُسَاكِنْ شيئاً من المخلوقات في الدنيا والعُقْبى .

ويقال الطاء طَرَبُ أربابِ الوصلة على بساط القرب بوجدان كما الروح ، والسين سرورُ العارِفين بما كوشفوا به من بقاء الأحدية باستقلالهم بوجوده والميم إشارة إلى موافقتهم للّه بِتَرْكِ التخيُّر على اللّه ، وحُسْنِ الرضا باختيار الحق لهم .

ويقال الطاء إشارةٌ إلى طيبِ قلوب الفقراء عند فقد الأسباب لكمال العَيْشِ بمعرفة وجود الرزَّاق بَدَلَ طيب قلوب العوام بوجود الأرْفاق والأرزاق .

ويقال الطاء إشارةٌ إلى طهارة أسرار أهل التوحيد ، والسين إشارة إلى سلامة قلوبهم عن مساكنة كلِّ مخلوق ، والميم إشارة إلى مِنَّةِ الحقِّ عليهم بذلك .

٣

أي لِحِرْصِكَ على إيمانهم ولإشفاقِكَ من امتناعهم عن الإيمان فأنت قريبٌ مِنْ أنْ تقتلَ نَفْسَكَ من الأسفِ على تَرْكِهم الإيمان .

فلا عليكَ - يا محمد - فإنه لا تبديلَ لِحُكْمِنَا؛ فَمَنْ حَكَمْنَا له بالشقاوة لا يُؤْمِن .

ليس عليك إلاَّ البلاغ؛ فإن آمنوا فبها ، وإلاَّ فكُلُّهُمْ سَيَرَوْنَ يومَ الدِّين ما يستحقون .

٤

أخبر عن قدرته على تحصيل مرادِه من عباده ، فهو قادرٌ على أن يُؤْمِنوا كَرْهاً؛ لأن التقاصُرَ عن تحصيل على تحصيل المراد يوجِبُ النقصَ والقصورَ في الألوهية .

٥

أي ما نُجَدِّد لهم شَرْعاُ ، وما نرسل لهم رسولاً . . . إلا أعرضوا عن تأمل برهانه ، وقابلوه بالتكذيب . فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتِ الرسل لا تضح لهم صِدْقُهم ، ولكن المقسوم لهم من الخذلان في سابق الحكم يمنعهم من الإيمان والتصديق . فقد كَذَّبوا ، وعلى تكذيبهم أصَرُّوا ، فسوف تأتيهم عاقبةُ أعمالِهم بالعقوبة الشديدة ، فيذوقون وبالَ شِرْكهم .

٧-٨

فنونُ ما ينبت في الأرض وقتَ الربيعِ لا يأتي عليه الحَصْرُ ، ثم اختصاصُ كلِّ شيءٍ منها بلون وطعمٍ ورائحة مخصوصة ، وكلِّ شكلٌ وهيئةٌ ونَوْرٌ مخصوص ، وورق مخصوص . . . إلى ما تَلْطُفُ عنه العبارة ، وتَدِق فيه الإشارة . وفي ذلك آياتٌ لِمَن استبصر ، ونَظَرَ وفكَّرَ .

٩

{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } : القاهرُ الذي لا يُقْهَر ، القادر الذي لا يُقْدَر ، المنيعُ الذي لا يُجْبَر . { الرَّحيِمُ } : المحسنُ لعباده ، المريدُ لسعادة أوليائه .

١٠-١١

أخبر أنه لما أمره بالذهاب إلى فرعون لدعوته إلى اللّه عَلِمَ أن شديد الخصومة ، قد غَرَّتْه نَفْسُه فهو لا يبالي بما فعل . وأخَذَ ( موسى ) يتعلَّلُ- لا على جهة الإباء والمخالفة - ولكن على وجه الاستعفاء والإقالة إلى أن عَلِمَ أنَّ الأمرَ به جَزْمٌ ، والحُكْمَ به عليه حَتْمٌ .

١٢-١٤

سأل موسى - عليه السلام - أن يَشْفَعَه بهارون ويُشْرِكَه في الرسالة . وأخبر أنه قَتَلَ نَفْساً ، وأنه في حُكْمِ فرعون عليه دَمٌ ، فقال :{ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } إلى أنْ قال له الحقُّ :

١٥

{ قَالَ كَلاَّ فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ }

{ كَلاَّ } حرفُ رَدْعٍ وتنبيه؛ أي كلا أن يكون ذلك كما توهمتَ ، فارْتَدِعْ عن تجويز ذلك ، وانتَبِهْ لغيره . إني معكما بالنصرة والقوة والكفاية والرحمة ، واليدُ ستكون لكما ، والسلطانُ سيكون لكما دونَ غيركما ، فأنا أسمع ما تقولون وما يقال لكم ، وأُبْصِرُ ما يُبْصِرُونَ وما تُبْصِرُون أنتم .

١٦

ويقال في القصة : إن موسى وهارون كانا يترددان على باب فرعون سنةً كاملةً ولم يجدا طريقاً إليه . ثم بعد سَنَةٍ عَرَضَا الرسالة عليه ، فقابلهما بالتكذيب ، وكان من القصة ما كان . . وقال فرعون لمَّا رأى موسى :

١٨-١٩

فلم يكن لموسى - عليه السلام - جوابٌ إلا الإقرارَ والاعتراف

٢٠

قال : كل ذلك قد كان ، وفررت منكم لمّا خفتكم ، فأكرمني اللّه بالنبوة ، وبعثني رسولاً إليكم . .

ويقال : لم يجحد حقَّ تربيته ، والإحسانَ إليه في الظاهر ، ولكن بَيَّنَ أنه إذا أمر اللّه بشيءٍ وَجَبَ اتباعُ أمره . ولكن إذا كانت تربية المخلوقين توجِبُ حَقّاً فتربيةُ اللّه أوْلَى بأن يُعَظِّمَ العبدُ قَدْرَها .

٢١

قوله : { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } : يجوز حَمْلُه على ظاهره ، وأنه خاف منهم على نَفْسِه . والفرارُ - عند عَدَمِ الطاقة - غيرُ مذمومٍ عند كلِّ أحد .

ويقال : فررت منكم لمَّا خِفْتُ أن تنزل بكم عقوبةٌ من اللّه لِشُؤْمِ شِرْكِكِم ، أو من قول فرعون : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى }[ القصص : ٣٨ ] .

٢٢

ذَكَرَ فرعونُ - من جملة ما عدَّ على موسى من وجوه الإحسان إليه - أنه استحياه بين بني إسرائيل ، ودفع عنه القتلَ ، فقال موسى : أو تلك نعمة تمنها عليَّ؟ هل استعبادُك لبني إسرائيل يَعَدُّ نعمةً؟ إنَّ ذلك ليس بنعمة ، ولا لَكَ فيها مِنَّة .

٢٣

نَظَرَ اللعينُ بجَهْلِه ، وسألَ على النحو الذي يليق بِغَيِّه؛ فسأل بلفظ { ما } - و ( ما ) يُسْتَخْبَرُ بها عمَّا لا يعقل ، فقال : { وَمَا رَبُّ الْعَالَِمِينَ } .

ولكنَّ موسى أعرض عن لفظه ومقتضاه ، وأخبر عمَّا يصحُّ في وصفه تعالى فقال :

٢٤

فَذَكَرَ صفتَه - سبحانه وتعالى - بأنَّه إلهٌ ما في السموات والأرض ، فأخذ في التعجب .

٢٥-٢٦

قال موسى : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ } فحاد فرعونُ عن سنن الاستقامة في الخطاب ، وأخذ في السفاهة قائلاً :

٢٧

لأنه يزعم أنَّ هناك إلهاً غيره . ولم يكن في شيءٍ مما يجري من موسى - عليه السلام- أو مما يتعلَّق به وصفُ جنونٍ . ولم يُشْغَلْ بمجاوبته في السفاهة فقال :

٢٨

أي إن كنتم من جملة مَنْ له عقلٌ وتمييزٌ . فقال فرعون :

٢٩

{ قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين }

مضى فرعونُ يقول : لأفعلنَّ ، ولأصنعنَّ . . . إن اتخذتَ إلهاً غيري وجرى ما جرى ذِكْرُه وشَرْحُه في غير موضع .

ثم إنه أظهر معجزته بإلقاء العصا ، وقَلَبَها - سبحانه - ثعباناُ كاد يلتقم دار فرعون بمن فيها ، ووثَبَ فرعونُ هارباً ، واختفى تحت سريره ، وهو ينتفض من الخوف ، وتَلَطَّخَتْ بِزَّتُه وافتضح في دعواه ، واتضحت حالته ، فاستغاث بموسى واستجاره ، وأخذ موسى الثعبان فردَّه اللّه عصاً .

ولمَّا فَارقَه موسى - عليه السلام - تداركته الشقاوة ، وأدركه شؤمُ الكفر ، واستولى عليه الحرمانُ ، فَجَمَع قومَه وكلَّمهم في أمره ، وأجمعوا كلُّهم على أنه سحَرَهم . وبعد ظهور تلك الآية عاد إلى غيِّه . . . كما قيل :

إذا ارْعَوَى عَادَ إلى جَهْلِه ... كَذِي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه

ثم إنه جَمَعَ السَّحَرَة ، واستعان بهم ، فَلمَّا اجتمعوا قالوا : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً }[ الأعراف : ١١٣ ] . فنطقوا بخساسة هِمَّتِهم ، فَضَمَنَ لهم أجْرَهم . وإنَّ مَنْ يعمل لغيره بأُجْرَةٍ ليس كَمَنْ يكون عملُه للّه . ومَنْ لا يكون له ناصِرٌ إلاَّ بضمانِ الجَعَالَة وبَذْل الرِّشَا فَعَنْ قريبٍ سيُخْذَل .

٤٢

قال فرعون : { وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ، ومَنْ طَلَبَ القربةَ عند مخلوقٍ فإنَّ ما يصل إليه من الذُّلِّ يزيد على ما أمَّله من العِزِّ في ذلك التَقَرُّب . والمُقَرَّبون من اللّه أوَّلُ من يدخل عليه يومَ اللقاء ، فهم أولُ مَنْ لهم وصولٌ . والمُقَرُّبون من اللّه لهم على اللّه دَخْلَة ، والناسُ بوصف الغفلة والخَلْقُ في أسْرِ الحجبة .

ثم لمَّا اجتمع الناسُ ، وجاء السَّحَرةُ بما مَوَّهُوا ، التقَمَتْ عصا موسى جميعَ ما أتوا به ، وعادت عصاً ، وتلاشت أعيانُ حِبَالهم التي جاءوا بها ، وكانت أوقاراً ، وألْقِيَ السحرةُ سُجَّداً ، ولم يحتفلوا بتهديد فرعون إياهم بالقَتْل والصَّلْب والقَطْع ، فأصبحوا وهم يُقْسِمُون بعِزَّة فرعون ، ولم يُمْسُوا حتى كانوا يقولون : { لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ }[ طه : ٧٢ ] .

ثم لمَّا ساعَدَهم التوفيقُ ، وآمنوا باللّه كان أهمَّ أمورهم الاستغفارُ لِمَا سَلَفَ من ذنوبهم ، وهذه هي غاية هِمَّةِ الأولياء ، أن يستجيروا باللّه ، وأن يستعيذوا من عقوبة اللّه ، فأعْرَفُهُم باللّه أخْوَفُهُم مِنَ اللّه .

ولمَّا أَمَرَ اللّه موسى بإخراج بني إسرائيل ، وتَبِعَهم فرعونُ بجَمْعِه ، وقال أصحابُ موسى .

٦١-٦٢

فكان كما قال ، إذ هداهم اللّه وأنجاهم ، وأغْرَقَ فرعونَ وقومَه وأقصاهم ، وقد قال سبحانه : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ }[ التوبة : ٣٦ ] يُنَجِّيهم من كلِّ بلاء ، ويَخُصُّهم بكل نعمة .

٦٩-٧٤

عاتب إبراهيمُ أباه وقومَه ، وطالَبَهُم بالحجة على ما عابَهم به وقال لِمَ تعبدون ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ؛ ولا ينفع ولا يَضُرُّ ، ولا يُحِسُّ ولا يَشْعُر؟ فلم يرجعوا في الجواب إلا إلى تقليدهم أسلافَهم ، وقالوا :

على هذه الجملة وَجَدْنا أسلافَنَا . فنطق إبراهيمُ - عليه السلام - بعد إقامة الحجة عليهم والإخبار عن قبيح صنيعهم بمَدْح مولاه والإغراق في وصفه .

٧٥-٧٧

ذَكَرَهم بأقلِّ عبارة فلم يقل : فإنهم أعداءٌ لي ، بل وَصَفَهم بالمصدر الذي يصلح أن يوصَفَ به الواحد والجماعة فقال :{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى } .

ثم قال : { إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ } ، وهذا استثناء منقطع ، وكأنه يضرب بلطفٍ عن ذِكْرِهم صفحاً حتى يتوصَّلَ إلى ذكر اللّه ، ثم أخذ في شرح وصفه كأنه لا يكاد يسكت ، إذ مضى يقول : والذي . . . والذي . . . والذي . . ، ومن أمارات المحبة كَثْرَةُ ذِكْرِ محبوبك ، ولإعراضُ عن ذكرِ غيره ، فتَنَزُّهُ المحبين بتقلُّبِهم في رياض ذِكْرِ محبوبهم ، والزهَّادُ يعددون أورادهم ، وأَربابُ الحوائج يعددون مآربَهم ، فيطنبون في دعائهم ، والمحبون يُسْهِبونَ في الثناء على محبوبهم .

٧٨

كان مهتداياً ، ولكنه يقصد بالهداية التي ذَكَرها فيما يستقبله من الوقت ، أي : يهديني إليه به ، فإنِّي مَحْقٌ في وجوده وليس لي خَبَرٌ غنِّي!

والقوم حين يكونون مستغرقين في نفوسهم لا يهتدون من نفوسهم إلى معبودهم ، فيهديهم عنهم إلى ربهم ، ويصيرون في نهايتهم مستهلكين في وجوده ، فانين عن أوصافهم ، وتصير معارِفُهم - التي كانت لهم - واهيةً ضعيفةً ، فيهديهم إليه .

٧٩

لم يُشِرْ إلى طعامٍ معهودٍ أو شرابٍ مألوفٍ ولكن أشار إلى استقلاله به من حيث المعرفة بدل استقلال غيره بطعامهم ، وإلى شراب محبته الذي يقوم بل استقلال غيره بشرابهم .

٨٠

لم يَقُلْ : وإذا أمرضني لأنه حفظ أدبَ الخطاب .

ويقال لم يكن ذلك مرضاً معلوماً ، ولكنه أراد تمارضاً ، كما يتمارض الأحبابُ طمعاً في العيادة ، قال بعضهم :

إن كان يمنعكَ الوشاةُ زيارتي ... فادخُلْ عليَّ بِعَلَّةِ العُوَّادِ

ويقول آخر :

يَوَدُّ بأن يمشِي سقيماً لَعَلَّها ... إذا سَمِعَتْ منه بشَكْوى تُرَاسِلُه

ويقال ذلك الشفاءُ الذي أشار إليه الخليلُ هو أن يَبْعَثَ إليه جبريلَ ويقول له : يقول لَكَ مولاك . . . كيف كنتَ البارحة؟

٨١

أضاف الموتَ إلى اللّه؛ فالموتُ فوق المرض ، لأن الموتَ لهم غنيمةٌ ونعمةٌ؛ إذ يَصِلُون إليه بأرواحهم .

ويقال : { يُمِيتُنِى } بإعراضه عني وقت تعزُّزِه ، { ويحييني } بإقباله عليَّ حين تَفَضُّلِه . ويقال يميتني عني ويحييني به .

٨٢

خطيئةُ الأحبابِ شهودُهم محنتَهم ، وتعنِّيهم عند شدة البلاء عليهم ، وشكواهم مما يمُّسهم من برحاء الاشتياق ، قال بعضهم :

وإذا محاسني - اللاتي أُدِلُّ بها - ... كانت ذنوبي . . فَقُلْ لي : كيف أعتذر .

٨٣

{ هَبْ لِى حُكْماً } : على نفسي ، فإنَّ مَنْ لا حُكْمَ له على نفسه لا حَكْمَ له على غيره .

{ وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ } : فأقومَ بِحقِّكَ دونَ الرجوع إلى طلب الاستقلال بشيءٍ . دون حقك .

٨٤

في التفاسير : { لِسَانَ صِدْقٍ } : أي ثناء حسناً على لسان أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم .

ويقال لا أذكرك إلا بك ، ولا أعرفك إلا بك .

ويقال أن أذكرك ببيان آلائك ، وأذكرك بعد قبض روحي إلى الأبد بذكرٍ مُسرمَدٍ .

ويقال أذكرني على لسان المخبرين عنك .

٨٦

على لسان العلماء : قالَه بعد يأسه من إيمان أبيه ،

وأمَّا على لسان الإشارة فقد ذَكَرَه في وقت غَلَبَاتِ البَسْطِ ويُتَجَاوَزُ ذلك عنهم .

وليست إجابةُ العبد واجباً على اللّه في كل شيء ، فإذا لم يُجَبْ فإنَّ للعبد سلوةً في ذكر أمثال هذا الخطاب ، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ .

٨٧

أي لا تُخْجِلْني بتذكيري خلَّتي ، فإنّ شهودَ ما مِن العبد - عند أرباب القلوب وأصحاب الخصوص - أشَدُّ عقوبة .

٨٨-٨٩

قيل :( القلب السليم ) اللديغ .

وقيل هو الذي سَلِمَ من الضلالة ثم من البِدعة ثم من الغفلة ثم من الغيبة ثم من الحجبة ثم من المُضاجعة ثم من المساكنة ثم من الملاحظة . هذه كلها آفاتٌ ، والأكابرُ سَلِمُوا منها ، والأصاغرُ امتُحِنُوا بها .

ويقال : ( القلب السليم ) الذي سَلِمَ من إرادة نَفْسِه .

٩٠

{ أزلفت } : أي قُرِّبَتْ وأُدْنِيَتْ في الوقت ، فإنَّ ما هو آتٍ قريبٌ ، وبالعين أُحْضِرَتْ . وكما تُجَرُّ النارُ إلى المحشر بالسلاسل فلا يَبْعُد إدناءُ الجنة من المتقين .

٩١

{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } أُظْهِرَتْ؛ فتؤكَّدُ الحُجَّةُ على أرباب الجحود ، ويُعْرَضُونَ على النار ، وتُعْرَضُ عليهم منازلُ الأشرار ، فَيُكَبْكَبُونَ فيها أجميعن ، ويأخذون يُقِرُّونَ بذنوبهم ، ومن جملتها ما أخبر أنهم يقولون : -

٩٧-٩٨

ولا فضيحةَ أقبحُ ولا عيبَ فيهم أشنعُ مما يعترفون به على أنفسهم بقولهم : { إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } فإنَّ أقبحَ أبوابِ الشِّرْكِ وأشنعَ أنواعِ الكُفْرِ وأقبحَ أحوالِهم - التشبيهُ في صفة المعبود .

١٠٠-١٠١

في بعض الأخبار : يجيء - يومَ القيامة - عَبْدٌ يُحتَسَبُ فتستوي حسناتُه وسيئاته ويحتاج إلى حسنة واحدة يَرْضَى عنها خصومُ ، فيقول اللّه - سبحانه : عبدي . . . بقيت لك حسنةٌ واحدة ، إن كانت أدْخَلْتُكَ الجنةَ . . أُنظُرْ . . وتَطَلَّبْ من الناس لعلَّ واحداً يهب لَكَ حسنةً واحدةً . فيأتي العبدُ في الصفين ، ويطلب من أبيه ثم من أمه ثم من أصحابه ، ويقول لكلِّ واحدٍ في بابه فلا يجيبه أحدٌ ، فالكلُّ يقول له : انا اليومَ فقيرٌ إلى حسنةٍ واحدةٍ ، فيرجع إلى مكانه ، فيسأله الحقُّ - سبحانه : ماذا جئتَ به؟

فيقول : يا ربِّ . . . لم يُعْطِني أحدٌ حسنةً من حسناته .

فيقول اللّه - سبحانه : عبدي . . ألم يكن لك صديق ( فيَّ ) .

فيتذكر العبدُ ويقول : فلان كان صديقاً لي .

فيدله الحقُّ عليه ، فيأتيه ويكلِّمه في بابه ، فيقول : بلى ، لي عباداتٌ كثيرة قَبِلَها اليومَ فقد وهبتُك منها ، فيسير هذا العبدُ ويجيء إلى موضعه ، ويخبر ربَّه بذلك ، فيقول اللّه - سبحانه : قد قَبِلْتُها منه ، ولن أنقص من حقِّه شيئاً ، وقد غفرت لكَ وله ، وهذا معنى قوله .

{ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } .

١٠٥

ذكر قصة نوحٍ وما لَقِيَ من قومه ، وأنهم قالوا :

{ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ } .

١١١

إنَّ أتباعَ كلِّ رسولٍ إنما هم الأضعفون ، لكنهم - في حكم اللّه - هم المتقدِّمون الأكرمون . قال عليه السلام : ( نُصِرْت بضعفائكم ) .

وإنَّ اللّه أغرق قومه لمَّا أصَرُّوا واستكبروا .

وكذلك فَعَلَ بمن ذَكَرَتْهم الآياتُ في هذه السورة من عادٍ وثمودٍ وقوم لوطٍ وأصحاب مدين . . كلٌّ منهم قابلوا رُسُلَهم بالتكذيب ، فَدَمّر اللّه عليهم أجمعين ، ونَصَرَ رسولَه على مقتضى سُنَّتِه الحميدة فيهم . وقد ذَكَرَ اللّه قصةَ كل واحدٍ منهم ثم أعقبها قوله : -

{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزَيِزُ الرَّحِيمُ } .

{ الْعِزيزُ } : القادر على استئصالهم ، { الرَّحِيمُ } الذي أخَّرَ العقوبة عنهم بإمهالهم ، ولم يقطع الرزقَ مع قُبْحِ فِعالِهم .

وهو { عزيز } لم يُسْتَضَرّ بقبيح أعمالهم ، ولو كانوا أجمعوا على طاعته لمَّا تَجَمَّلَ بأفعالهم .

١٢٧

أخبر عن كل واحدٍ من الأنبياء أنه قال : { لا أسألكم عليه أجر } ليَعْلَمَ الكافةُ أنّ من عَمِلَ للّه فلا ينبغي ان يَطْلُبَ الأجْرَ من غير اللّه . وفي هذا تنبيهٌ للعلماء - الذين هم وَرَثَةُ الأنبياء - أن يتأدَّبوا بأنبيائهم ، وألاّ يطلبوا من الناس شيئاً في بَثِّ علومهم ، ولا يرتفقون منهم بتعليمهم ، والتذكير لهم أنه مَنْ ارتفق في بثَّ ما يُذَكِّرُ به من الدِّين وما يَعِظُ به المسلمين فلا يبارِكُ اللّه للناس فيما منه يَسْمَعون ، ولا للعلماء أيضاً بركةٌ فيما من الناس يَأخُذُون ، إنهم يبيعون دينَهم بَعَرضٍ يسيرٍ ثم بَرَكَة لهم فيها إذلا يبتغون به اللّه ، وسيَحْصُلُون على سُخْطِ اللّه .

١٩٢-١٩٥

كلامُ اللّه العزيز مُنَزّلٌ على قلب الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - في الحقيقة بسفارة جبريل عليه السلام . والكلامُ من اللّه غيرُ منفصل ، وبغير اللّه غير متصل . . وهو - على الحقيقة لا على المجاز - مُنَزّلٌ . ومعناه أن جبريل - عليه السلام - كان على السماء . فَسمِعَ من الربِّ ، وحَفِظَ ونَزَلَ ، وبَلَّغَ الرسولَ . فَمَرََّةً كان يُدْخِلُ عليه حالةً تأخذه عنه عند نزول الوحي عليه . ثم يُورِدُ جبريلُ ذلك على قلبه . ومرةً كان يتمثل له المَلَكُ فيُسْمِعهُ . والرسولُ - صلى اللّه عليه وسلم - يحفظه يُؤدِّبه . واللّه - سبحانه ضَمِنَ له أنه سيُقْرِؤُه حتى لا ينساه . فكان يجمع اللّه الحِفْظَ في قلبه . ويُسَهِّلُ له القراءةَ عند لفظه . ولمَّا عَجَزَ الناسُ بأجمعهم عن معارضته مع تحدِّيه إياهم بالإتيان بمثله . . عُلِمَ صِدْقُه في أنَّه مِنْ قِبَلِ اللّه .

١٩٦

جميعُ ما في هذا الاكتاب من الأخبار والقصص ، وما في صفةِ اللّه من استحقاق جلاله - موافِقٌ لمِا في الكتب المُنَزَّلة من قِبَلِ اللّه قَبْلَه ، فمهما عارضوه فإنه كما قال جلَّ شأنه : { لا يَأَْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ }[ فصلت : ٤٢ ] .

ثم أخبر أنه لو نَزَّل هذا الكتابَ بغير لسانهم وبلغةٍ غير لغتهم لم يهتدوا إلى ذلك ، ولَقَالوا : لو كان بلساننا لعرفناه ولآمَنَّا به ، فازاح عنهم العِلَّةَ ، وأكّد عليهم الحُجَّة .

ثم أخبر عن صادق عِلْمِه بهم ، وسابِق حَكْمِه بالشقاوة عليهم ، وهو أنهم لا يؤمنون به حتى يَرَوْا العذابَ في القيامة ، حين لا ينفعهم الإيمانُ ولا الندامةُ .

٢٠٥-٢٠٧

إن أرخينا المُدَّةَ ، وأمهلناهم أزمنةً كثيرة - وهم بوصف الغفلة - فما الذي كان ينفعهم إذا أخَذَهُم العذابُ بغتةّ؟!

ثم أخبر أنه لم يُهْلِكَ أهلَ قريةٍ إلاّ بعد أن جاءهم النذيرُ وأظهر لهم البيناتِ ، فإذا أصَرُّوا على كُفْرِهم عَذّبهم .

٢١٢

وَجَدُوا السمع - الذي هو الإدراك - ولكن عَدِمُوا الفَهْمَ ، فلم يستجيبوا لِمَا دُعُوا إليه . فعند ذلك استوجبوا من اللّه سوء العاقبة .

٢١٤

وذلك تعريفٌ له أنهم لا تنفعهم قَرَابَتُهُم منه ، ولا تُقْبَلُ شفاعتُه - إنْ لم يؤمِنوا - فيهم . فليس هذا الأمر من حيث النّسب ، فهذا نوحٌ لمَّا كَفَرَ ابنُه لم تنفْعه بُنُوَّتُه ، وهذا الخليلُ إبراهيم عليه السلام لما كَفَرَ أبوه لم تنفع أُبُوَّتُه ، وهذا محمدٌ - عليه الصلاة والسلام - كثيرٌ من أقاربه كانوا أشدَّ الناسِ عليه في العداوةِ فلم تنفعهم قرابتُهم .

٢١٥

أَلِنْ جَانِبَكَ وقارِبْهم في الصحبة ، واسحبْ ذيلَ التجاوز على ما يبدر منهم من التقصير ، واحتمِلْ منهم سوءَ الأحوال ، وعاشِرْهم بجميلِ الأخلاق ، وتحمَّلْ عنهم كَلَّهم ، وارْحَمْهُم كُلّهم ، فإِنْ مرضوا فعُدْهم ، وإِنْ حرموك فأَعْطِهم ، وإِنْ ظلموك فتجاوَزْ عنهم ، وإِنْ قصّرُوا في حقي فاعفُ عنهم ، واشفْع لهم ، واستغفِرْ لهم .

٢١٦

لا تفعلْ مثلَ فِعْلِهم ، وكِل حسابَهم إلينا إلا فيما أمرناك بأن تقيم فيه عليهم حَدًّا ، فعند ذلك لا تأخذْكَ رأفةٌ تمنعكَ من إقامة حدِّنا عليهم .

٢١٧

انْقَطِعْ إلينا ، واعتصِمْ بِنا ، وتوسَّل إلينا بِنا ، وكن على الدوام بنا ، فإذا قُلْتَ فَقُلْ بنا ، وإذا صُلْتَ فَصُلْ بنا ، واشهد بقلبك - وهو في قبضتنا - تتحققْ بأنك بنا ولنا .

توّكلْ على { الْعَزِيزُ } تَجِدْ العِزّةَ بتوكلك عليه في الدارين ، فإِنّ العزيز مَنْ وثق بالعزيز .

{ الرَّحِيمُ } الذي يقرِّبُ مَنْ تَقَرَّبَ إليه ، ويُجْزِلُ البِرَّ لِمَنْ تَوسَّل به إليه .

٢١٨

اقتطعه بهذه الآية عن شهود الخَلْق ، فإِنّ مَنْ عَلِمَ أنه بمشهدٍ من الحقِّ رَاعَى دقائقَ أحواله ، وخفايا اموره مع الحقِّ .

٢١٩

هَوَّنَ عليه معاناةَ مشاقِّ العبادة بإخباره برؤيته . ولا مشقّةَ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنّه بمرأىً من مولاه ، وإنّ حَمْلَ الجبالِ الرواسي على شَفْرِ جَفْنِ العينِ لَيَهونُ عند مَنْ يشاهد رَبّه .

ويقال { وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ } بين أصحابك ، فهم نجومٌ وأنت بينهم بَدْرٌ ، أو هم بدورٌ وأنت بينهم شَمْسٌ ، أو هم شموسٌ وأنت بينهم شمس الشموس .

ويقال : تقلبك في أصلابِ آبائك من المسلمين الذين عرفوا اللّه ، فسجدوا له دوْن مَنْ لم يعرفوه .

٢٢٠

{ السَّمِيعُ } لأنين المحبين ، { الْعَلِيمُ } بحنين العارفين .

{ السَّمِيعُ } لأنين المُذْنبين ، { الْعَلِيمُ } بأحوال المطيعين .

٢٢١-٢٢٣

بيَّن أن الشياطين تتنزَّلُ على الكفار والكهنة فتوحي إليهم بوساوسهم الباطلة .

٢٢٤

لمَّا ذَكَرَ الوحيَ وما يأتي به الملائكةُ من قِبَلِ اللّه ذكر ما يوسوس به الشياطينُ إلى أوليائه ، وألَحْقَ بهم الشعراءَ الذين في الباطل يهيمون ، وفي أعراض الناس يقعون ، وفي التشبيهات - عن حدِّ الاستقامة - يخرجون ، ويَعِدُون من أنفسهم بما لا يُوفُون ، وسبيلَ الكذبِ يسلكون .

٢٢٧

{ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللّه كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } .

فيكون شِعْرُه خالياً من هذه الوجوه المعلولة المذمومة ، وهذا كما قيل : الشعرُ كلامُ إنسان؛ فحسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه .

قوله جلّ ذكره { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .

سيعلم الذين ظلموا سوءَ ما عملوا ، ويندمون على ما أسلفوا ، ويصدقون بما كَذَّبوا .

﴿ ٠