سورة العنكبوت١الألف إِشارة إلى تَفَرُّده عن كل غير بوجه الغِنى ، وباحتياج كل شيءِ إليه؛ كالألف تتصل بها كل الحروف ولكنها لا تتصل بحرفٍ . ( واللام ) تشير إلى معنى أنه ما من حرفٍ إلا وفي آخره صورة تعويج ما ، واللام أقرب الحروف شبهاً بالألف - فهي منتصبة القامة مثلها ، والفرق بينهما أن الألف لا يتصل بها شيء ولكن اللام تتصل بغيرها - فلا جَرَمَ لا يكون في الحروف حرف واحد متكون من حرفين إلا اللام والألف ويسمى لام ألف ويكتب على شكل الاقتناع مثل صورة لام . أمّا ( الميم ) فالإشارة فيه إلى الحرف ( مِنْ )؛ فَمِنَ الربِّ الخَلْقُ ، ومِنَ العبدِ خدمةُ الحق ، ومن الربِّ الطَّوْلُ والفضلُ . ٢{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوآ } بمجرد الدعوى في الإيمان دون المطالبة بالبلوى ، وهذا لا يكون ، فقيمة كلِّ أحدٍ ببلواه ، فَمَنْ زاد قَدْرُ معناه زاد قدر بلواه؛ فعلى النفوس بلاءٌ وهو المطالبة عليها بإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في أحسن العمل . وعلى القلوب بلاءٌ وهو مطالبتُها بالطلب والفكر الصادق بتطلُّع البرهان على التوحيد والتحقق بالعلم . وعلى الأرواح بلاءٌ وهو التجرُّدُ عن محبة كلِّ أحدٍ والتفرُّد عن كل سبب ، والتباعُد عن كل المساكنةِ لشيءٍ من المخلوقات . وعلى الأسرار بلاءٌ وهو الاعتكاف بمشاهد الكشف بالصبر على آثار التجلِّي إلى أن تصير مُسْتَهْلَكاً فيه . ويقال فتنة العوام في أيام النظر والاستدلال ، وفتنة الخواص في حفظ آداب الوصول في أوان المشاهدات . وأشدُّ الفتنِ حفظُ وجود التوحيد لئلا يجري عليك مَكْرٌ في أوقات غَلَبَاتِ شاهد الحقِّ فيظن أنه الحق ، ولا يدري أَنَّه من الحقِّ ، وأنَّه لا يُقال إِنَّه الحقُّ - وعزيزٌ مَنْ يهتدي إلى ذلك . ٣لم يُخْلِهم من البلاء والمِحَن لِيُظْهِرِ صبرَهم في البلاءِ أو ضدَّه من الضَجَرِ ، وشكرهم في الرخاء أو ضدة من الكفر والبَطَرِ . وهم في البلاءِ ضروب : فمنهم مَنْ يصبر في حال البلاء ، ويشكر في حال النَّعماء . . . وهذه صفة الصادقين . ومنهم مَنْ يضجُّ ولا يصبر في البلاء ، ولا يشكر في النعماء . . فهو من الكاذبين . ومنهم مَنْ يؤثِر في حال الرخاء أَلاَّ يستمتعَ بالعطاء ، ويستروح إلى البلاءِ؛ فَيَسْتَعْذِبَ مقاساةَ الَضُّرِّ والعناء . . وهذا أَجَلُّهم . ٤يرتكبون المخالفاتِ ثم يحكمون لأنفسهم بالنجاة . . ساءَ حُكْمُهم! فمتى ينجوا منَ العذابِ مَنْ ألقى جلبابَ التُّقى؟! ويقال توهموا أنه لا حَشْرَ ولا نَشْرَ ، ولا محاسبة ولا مطالبة . ويقال اغتروا بإمهالنا اليومَ ، وَتَوَهَّموا أنهم مِنَّا قد أفلتوا ، وظنوا أنهم قد أَمِنُوا . ويقال ظنوا أنهم باجتراحهم السيئاتِ أَنْ جرى التقريرُ لهم بالسعادة ، وأنَّ ذلك يؤخر حُكْمَنا . . كلا ، فلا يشقى مَنْ جَرَتْ قسمتُنا له بالسعادة ، وهيهات أن يتحول مَنْ سبق له الحُكْمُ بالشقاوة! . ٥مَنْ خاف عذابَه يوم الحساب فَسَيلْقى يومَ الحَشْرِ الأمانَ الموعودَ مِنَّا لأهل الخوف اليومَ . ومَنْ أَمَّلَ الثوابَ يومَ البعثَ فسوف يرى ثوابَ ما أسلفه من العمل . ومَنْ زَجَّى عُمْرَه في رجاء لقائنا فسوف نُبيح له النَّظَرَ إلينا ، وسوف يتخلص من الغيبة والفرقة . { وَهُوَ السَّمِيعُ } لأنين المشتاقين ، { الْعَلِيمُ } بحنين المحبين الوالهين . ٦مَنْ أَحْسَنَ فنجاة نفسه طلبها ، وسعادة حالة حَصَّلَها . ومن أساء فعقوبة بنفسه . جَلَبَها ، وشقاوة جَدِّه اكتسبها . ويقال ثوابُ المطيعين إليهم مصروفٌ ، وعذابُ العاصين عليهم موقوفٌ . . والحقُّ عزيزٌ لا يلحقه بالوفاق زَيْن ، ولا يَمَسُّه من الشِّقاقِ شَيْنٌ . ٧مَنْ رَفَعَ إلينا خطوة نال مِنَّا خطوة ، ومَنْ تَرَكَ فينا شهوةً وَجَدَ مِنٍَّا صفوة ، فنصيبهم من الخيرات موفور ، وعملهم في الزلاَّت مغفور . . بذلك أجرينا سُنَّتنا ، وهو متناول حُكْمِنا وقضيتنا . ٨أَمَرَ اللّه العِبادَ برعاية حقِّ الوالدين تنبيهاً على عظم حق التربية . وإذا كانت تربيةُ الوالدين - وهي إِنْ حَسُنَتْ - فإِلى حدٍّ يوجِبُ رعايتهما فما الظنُّ برعاية حق اللّه تعالى ، والإحسانِ العميمِ بالعبد والامتنان القديم الذي خصَّه به مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ؟! . قوله جلّ ذكره : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَُأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . إنْ جاهداك على أن تُشْرِكَ باللّه فإياك أَنْ تطيعَهما ، ولكن رُدَّ بِلُطْفٍ ، وخالِفْ برفْقٍ . ٩أي لنلحقنهم بالذين أصلحوا من قبلهم ، فإن المعهود من سُنَّتِنا إلحاق الشكلِ بشكله ، وإجراء المِثْلِ على حُكْمِ مِثْلِه . ١٠قوله جلّ ذكره : { وَمِنَ النَّاسَِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا باللّه فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللّه } . المحنُ تُظْهِرُ جواهرَ الرجال ، وهي تَدُلُّ على قِيمَهِم وأقدارهم؛ فَقَدْرُ كلِّ أحد وقيمته يَظْهَرُ عند محنته؛ فَمَنْ كانت محنتُه من فوات الدنيا ونقصان نصيبه منها؛ أو كانت محنته بموت قريبٍ من الناس ، أو فَقْد حبيبٍ من الخلْقِ فحقيرٌ قَدْرُه ، وكثيرٌ في الناس مثْلُه . ومَنْ كانت محنته في اللّه وللّه فعزيزٌ قَدْرُه ، وقليلٌ مَنْ كان مثله ، فهم في العدد قليلٌ ولكن في القَدْرِ والخَطَرِ جليلٌ : وبقدر الوقوف في البلاءِ تظهر جواهرُ الرجال ، وتصفو عن الخَبَثِ نفوسُهم . والمؤمن مَنْ يَكفُّ الأذى ، ويتحمل من الخَلْقِ الأذى ، ويتشرب ولا يترشح بغير شكوى ولا إظهار؛ كالأرض يُلْقَى عليها كلٌّ خبيث فتُنْبِتُ كلَّ خضرة وكل نزهة . ١١الانتقال الى صفحة القرآن { وَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } إذا اشتبكت دموعٌ في خدود ... تَبَيَّنَ مَنْ بكى ممن تباكى ١٢ضمنوا بما لم يفوا به ، وأخلفوا فيما وَعَدُوا فما حملوا من خطاياهم عنهم شيئاً ، بل زادوا على حَمْل نفوسهم؛ فاحتقبوا وِزْرَ ما عَملوا ، وطولبوا بوزْر ما به أَمَرُوا ، فضاعَفَ عليهم العقوبة ، ولم يصل أحدٌ من جهتهم إلى راحة ، وما مواعيدهم للمسلمين إلا مواعيد عرقوب أخاه بيثرب . ١٣وسيلحق بهؤلاء أَصحاب الدعاوى والمتَشبِّهون بأهل الحقائق : مَنْ تحلَّى بغير ما هو فيه ... فَضَح الامتحانُ ما يَدَّعيه وقال تعالى : { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[ البقرة : ١١١ ] . وهيهات هيهات! ١٤-١٥ما زادهم طولُ مقامه فيهم إلا شَكا في أمره ، وجهلا بحاله ، ومُرْية في صدقه ، ولم يزدد نوح - عليه السلام - لهم إلاَّ نُصْحاً ، وفي اللّه إلا صبراً . ولقد عرَّفه اللّه أنه لن يؤمِنَ منهم إلا الشَّرْذِمة اليسيرةُ الذين كانوا قد آمنوا ، وأَمَرَهُ باتخاذ السفينة ، وأغرق الكفار ولم يغادر منهم أحداً ، وَصَدَقَ وَعْدَه ، ونَصَرَ عَبْدَه . . فلا تبديلَ لِسُنَّتِه في نصرة دينه . ١٦كَرَّرَ ذَكْرَ إبراهيم في هذا الموضع ، وكيف أقام على قومه الحُجَّة ، وأرشدهم إلى سَوَاءِ المحجة ، ولكنهم أصروا على ما جحدوا ، وتعصبوا لِمَا من الأصنام عبدوا ، وكادوا لإبراهيم كيداً . . ولكن انقلب ذلك عليهم من اللّه مكراً بهم واستدراجاً . ولم يَنْجَعْ فيهم نُصْحُه ، ولا وَجَد منهم مساغاً وَعْظُه . ١٧لا يُدْرَى أيهما أقبح . . هل أعمالكم في عبادة هذه الجمادات أم أقوالكم - فيما تزعمون كذباً - عن هذه الجمادات؟ وهي لا تملك لكم نفعاً ولا تدفع عنكم ضراً ، ولا تملك لكم خيراً ولا شراً ، ولا تقدر أن تصيبكم بهذا أو ذاك . وبيَّنَ أنهم في هذا لم يكونوا خالين عن ملاحظة الحظوظ وطلب الأرزاق فقال :{ فَابْتَغُواْ عِندَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } لتَصِلوا إلى خير الدارْين . وابتغاءُ الرزق من اللّه إدامةُ الصلاة؛ فإن الصلاةَ استفتاحُ بابِ الرزق ، قال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً }[ طه : ١٣٢ ] . ويقال ابتغاء الرزق بشهود موضع الفاقة فعند ذلك تتوجه الرغبة إلى اللّه تعالى في استجلاب الرزق . وفي الآية تقديمٌ الرزقُ على الأمر بالعبادة؛ لأنه لا يُمْكِنه القيام بالعبادة إلا بعد كفاية الأمر؛ فبالقوة يمكنه أداء العبادة ، وبالرزق يجد القوة ، قالوا : إذا المرءُ لم يطلب معاشاً لنفسه ... فمكروهَ ما يلقى يكون جزاؤه { وَاشْكُرُواْ لَهُ } : حيث كفاكم أمر الرزق حتى تفرغتم لعبادته . ١٨وبالُ التكذيب عائدٌ على المُكَذِّب ، وليس على الرسول - بعد تبليغه الرسالة بحيث لا يكون فيه تقصير كي يكون مُبَيِّناً - شيء آخر . وإلا يكون قد خرج عن عهدة الإلزام . وفيما حلَّ بالمكذِّبين من العقوبة ما ينبغي أن يكون عِبْرَةً لِمَنْ بعدهم . ١٩الذي دَاخَلَهم فيه الشكُّ كان بعث الخَلْق ، فاحتجَّ عليهم بما أراهم من إعادة فصول السَّنةِ بعد تقضِّيها على الوجه الذي كان في العام الماضي . وبَيَّنَ أن جَمْعَ أجزاءِ المكلَّفين بعد انقضاص البِنية كإعادة فصول السنة؛ فكما أن ذلك سائغٌ في قدرته غيرُ مُسْتَنْكَرٍ فكذلك بعثُ الخَلْق . وكما في فصول السنة تتكرر أحوالُ العِبادة في الأحوال العامة المشتركة بين الكافة ، وفي خواص أحوال المؤمنين من استيلاء شهوات النفوس ، ثم زوالها ، إلى موالاة الطاعات ، ثم حصول الفترة ، والعود إلى مثل الحالة الأولى ، ثم بعد ذلك الانتباه بالتوبة . . كذلك تتكرر عليهم الأحوال . وأربابُ القلوبِ تتعاقب أحوالُهم في القبض والبسط ثم في الهيبة والأُنْس . ثم في التجلي والسَّتْر ، ثم في البقاء والفناء ، ثم في السُكْر والصحو . . وأمثال هذا كثير . وفي هذا المعنى قوله : ٢٠{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ اللّه يُنشِىءُ النشأة الآخرة إِنَّ اللّه على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . وفي معنى تكرير الأحوال ما أنشدوا : كلُّ نَهرٍ فيه ماءٌ قد جَرَى ... فإليه الماءُ يوماً سيعود ٢١أجناسُ ما يعذِّبُ به عبادَه وأنواعُ ما يرجم به عباده . . لا نهاية لها ولا حَصْر؛ فَمِنْ ذلك أنه يعذِّب من يشاء بالخذلان ، ويرحم من يشاء بالإيمان . يعذِّب من يشاء بالجحود والعنود ، ويرحم من يشاء بالتوحيد والوجود . يعذب من يشاء بالحِرْضِ ويرحم من يشاء بالقناعة . يعذِّب من يشاء بتفرقة الهمِّ ويرحم من يشاء بجَمْعِ الهِمَّة . يعذب من يشاء بإلقائه في ظلمة التدبير ، ويرحم من يشاء بإشهاده جريان التقدير . يعذب من يشاء بالاختيار من نَفْسِه ، ويرحم من يشاء برضاه بحُكْم ربِّه . يعذب من يشاء بإعراضة عنه ، ويرحم من يشاء بإقباله عليه . يعذب من يشاء بأن يَكِلَه ونَفْسَه ، ويرحم من يشاء بأن يقوم بحُسْنِ تولِّيه . يعذب من يشاء بحبِّ الدنيا ويمنعها عنه ويرحم من يشاء بتزهيده فيها وبَسْطِها عليه . يعذب من يشاء بأن يثبته في أوطان العادة ، ويرحم من يشاء بأن يقيمه بأداء العبادة . . . وأمثال هذا كثير . ٢٢نُقَلِّب الجملةَ في القبضة ، ونُجْري عليهم أحكام التقدير : جحدوا أو وَحَّدوا ، أقبلوا أم أعرضوا . ٢٣تعجلت عقوبتهم بأنْ يئسوا من رحمته . . . ولا عقوبةَ أشدُّ من هذا . ٢٤لمَّا عجزوا عن جوابه ولم يساعدهم التوفيق بالإجابة أخذوا في معارضته بالتهديد والوعيد ، والسفاهة والتوبيخ ، واللّه تعالى صرف عنه كَيْدَهم ، وكفاه مَكْرَهم ، وأفلج عليهم حُجَّته ، وأظهر للكافة عجزَهم ، وأَخبر عما يلحقهم في مآلهم من استحقاق اللَّعْنِ والطردِ ، وفنون الهوان والخزْي . ٢٦لا تَصِحُّ الهجرةُ إلى اللّه إلاّ بالتبرِّي - بالكمالِ - بالقلبِ عن غير اللّه . والهجرةُ بالنَّفْسِ يسيرةٌ بالإضافة إلى الهجرة بالقلب - وهي هجرة الخواص؛ وهي الخروج عن أوطان التفرقة إلى ساحات الجَمْعِ . والجمعُ بين التعريجِ في أوطان التفرقة والكوْنِ في مشاهد الجَمْعِ مُتنافٍ . ٢٧لمَّا لم يُجِبْ قومُه ، وبذل لهم النصح ، ولم يدَّخر عنهم شيئاً من الشفقة - حقَّقَ اللّه مرادَه في نَسْلِه ، فوهب له أولادَه ، وبارك فيهم ، وجعل في ذريته الكتابَ ، والنبوة ، واستخلصهم للخيرات حتى صلحت أعمالُهم للقبول ، وأحوالهم للإقبال عليها ، ونفوسُهم للقيام بعبادته ، وأسرارُهم لمشاهدته ، وقلوبهم لمعرفته . { وَإِنَّهُ فِى الأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } للدنوِّ والزلفة والتخصيص بالقربة . ٢٨لا مَهُم على خصلتهم الشنعاء ، وما كانوا يتعاطونه على اللّه من الاجتراء ، وما يُضَيَّعُونه من المعروف ويأتون من المنكر الذي جملته تخليته الفُسَّاق مع فِسقهم ، وترك قلة احترام الشيوخ والأكابر ، ومنها التسويف في التوبة ، ومنها التفاخر بالزلَّة . فما كان جوابُهم إلا استعجالَ العقوبة ، فحلَّ بهم من ذلك ما أهلكهم وأهلك من شاركهم . ٣١التبس على إبراهيم أمرُهم فظَنَّهم أضيافاً؛ فتكلَّفَ لهم تقديم العجل الحنيذ جرياً على سُنَّتِه في إكرام الضيف . فلما أخبروه مقصودَهم من إهلاك قوم لوط تكلَّم من باب لوط . . . إلى أن قالوا : إنَّا مُنَجُّوه . وكَان ذلك دليلاً على أن اللّه تعالى لو أراد إهلاك لوطٍ - وإِنْ كان بريئاً - لم يكن ظلماً؛ إذ لو كان قبيحاً لما كان إبراهيم عليه السلام - مع وفرة عِلْمِه - يشكل عليه حتى كان يجادل عنه . بل للّه أن يعذِّب منْ يعذِّب ، ويُعَافِي مَنْ يُعَافِي . ٣٣لمَّا أن رآهم لوطٌ ضاق بهم قلبُه لأنه لم يعلم أنهم ملائكةٌ ، فخاف عليهم من فساد قومه : فكان ضِيقُ قلبه لأَجْلِ اللّه - سبحانه ، فأخبروه بأنهم ملائكة ، وأنَّ قومه لن يَصِلُوا إليهم . فعند ذلك سَكَنَ قلبُه . وزال ضيقُ صَدْرِه . ويقال أقربُ ما يكون العبد في البلاء من الفرج إذا اشتدَّ عليه البلاءُ؛ فعند ذلك يكون زوال البلاء ، لأنه يصير مُضْطّراً ، واللّه سبحانه وَعََدَ المضطرين وشيك الإجابة . كذلك كان لوط في تلك الليلة ، فقد ضاق بهم ذَرْعاً ثم لم يلبث أَنْ وَجَدَ الخلاصَ من ضيقة . ٣٥فَمْنَ أراد الاعتبارَ فله في قصتها عِبْرة . ٣٦-٤٠قوله جلّ ذكره : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً . . . } الآيات . ذَكَر قصةَ شعيبٍ وقصة عادٍ وثمود وقصة فرعون ، وقصة قارون . . وكلهم نَسَجَ بعضُهم على مِنْوال بعضٍ ، وسلك مسلكَهم ، ولم يَقْبَلوا النصحَ ، ولم يُبَالوا بمخالفة رُسِلِهم ، ثم إن اللّه تعالى أهلكهم بأجمعهم ، إمضاءً لِسُنّتِه في نصرة الضعفاء وقهر الظالمين . ٤١العنكبوب يتخذ لنفسه بيتاً ، ولكن كلما زاد نسجاً في بيته ازداد بُعْداً في الخروج منه؛ فهو يبني ولكن على نفسه يبني . . . كذلك الكافر يسعى ولكن على نفسه يجني . وبيتُ العنكبوتِ أكثره في الزوايا من الجدران ، كذلك الكافر أمره على التّقِيّةِ والكتمان ، وأمَّا المؤمِن فظاهِرُ المعاملةِ ، لا ستر ولا يُدْخِمس . وبيتُ العنكبوت أوهنُ البيوت لأنه بلا أساسٍ ولا جدران ولا سقف ولا يمسك على أَدْوَن دَفْع . . كذلك الكافر؛ لا أصلَ لشأنه ، ولا أساسَ لبنيانه ، يرى شيئاً ولكن بالتخييل ، فأمَّاً في التحقيق . . فَلاَ . ٤٣الكلُّ يشتركون في سماع الأمثال ، ولكن لا يصغي إليها مَنْ كان نَفُورَ القلبِ ، كنودَ الحالِ ، متعوداً الكسلَ ، مُعَرَّجاً في أوطان الفَشَلِ . ٤٤{ بِالْحَقِّ } : أي بالقول الحق والأمر الحق . ٤٥أي من شأن المؤمن وسبيله أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر ، أي على معنى ينبغي للمؤمن أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر ، كقوله : { وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }[ المائدة : ٢٣ ]أي ينبغي للمؤمن أن يتوكل على اللّه ، فإن قُدِّرَ أن واحداً منهم لا يتوكل فلا يخرج به ذلك عن الإيمان - كذلك من لم ينتهِ عن الفحشاء والمنكر فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة . ويقال بل الصلاةُ الحقيقية ما تكون ناهيةً لصاحبها عن الفحشاء والمنكر؛ فإن لم يكن من العبد انتهاءٌ فالصلاةُ ناهيةٌ على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل ، ولكنه يُصِرًّ ولا يطيع تلك الخواطر . ويقال بل الصلاة الحقيقية ما تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر . فإن كان - وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها . ويقال الفحشاء هي الدنيا ، والمنكر هو النّفْس . ويقال الفحشاء هي المعاصي ، والمنكر هو الحظوظ . ويقال الفحشاء الأعمال ، والمنكر حسبانُ النجاة بها ، وقيل ملاحظتُه الأعواض عليها ، والسرور والفرح بمدح الناس لها . ويقال الفحشاء رؤيتها ، والمنكر طلب العِوض عليها . { وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ } : ذكر اللّه أكبر من ذكر المخلوقين؛ لأن ذكره قديم وذكر الخلْق مُحْدَث . ويقال ذكر العبد للّه أكبر من ذكره للأَشياء الأخرى ، لأن ذكره للّه طاعة ، وذكره لغيره لا يكون طاعة . ويقال ولذِكْرُ اللّه لَك أكبرُ من ذكرْك له . ويقال ذكْرهُ لك بالسعادة أكبرُ من ذكْرك له بالعبادة . ويقال ذكر اللّه أكبر من أن تبقى معه وحشة . ويقال ذكر اللّه أكبر من أن يُبْقى للذاكر معه ذِكْر مخلوق . ويقال ذكر اللّه أبر من أن يُبْقى للزّلةِ معلوماً أو مرسوماً . ويقال ذكر اللّه أكبر من أن يعيش أحدٌ من المخلوقين بغيره . ويقال ولذكر اللّه أكبر من أن يُبْقَى معه للفحشاء والمنكر سلطاناً؛ فلِحُرمه ذكره زَلاَّتُ الذاكر مغفورةٌ ، وعيوبه مستورةٌ . ٤٦ينبغي أن يكون منك للخصم تبيين ، وفي خطابك تليين ، وفي قبول الحق إنصاف ، واعتقاد النصرة - لما رآه صحيحاً - بالحجة ، وتَرْك الميل إلى الشيء بالهوى . ٤٧يعني أنهم على أنواع : فمرحوم نظرْنا إليه بالعناية ، ومحرومٌ وسمناه بالشقاوة . ٤٨أي تَجَرَّد قلبك عن المعلومات ، وتقدّس سرّك عن المرسومات ، فصادَفك من غير ممازجة طبْعٍ ومشاركةِ كَسْبٍ وتكلف بشرية ، فلما خلا قلبك وسرُّك عن كل معلومٍ ومرسوم ورَد عليك خطابُنا وتفهيمنا مقرونٍ بهما ما ليس مِنَّا . ٤٩قلوب الخواص من العلماء باللّه خزائنُ الغيب ، فيها أودع براهين حقه ، وبينات سِرِّه ، ودلائل توحيده ، وشواهد ربوبيته ، فقانون الحقائق قلوبهم ، وكلُّ شيء يطلبُ من موطنه ومحله؛ فالدرُّ يُطلبُ من الصدف لأنّ ذلك مسكنه ، والشمس تطلبُ من البروج لأنها مطلعها ، والشهد يُطلْبُ من النّحل لأنه عشُه . كذلك المعرفة تُطْلَبُ من قلوب خواصه لأن ذلك قانون معرفته ، ومنها ( . . . ) . ٥٠خفَيَتْ عليهم حالتُكَ - يا محمد - فطالبوكَ بإقامة الشواهد ، وقالوا : { لَوْلآَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ } أَوَ يَكْفِهم ما أوضحنا عليكَ من السبيل ، وأَلَحْنا لكَ من الدليل؛ يُتْلَى عليهم ذلك ، ولا يمكنهم معارضته ولا الإتيان بشيءٍ من مثله؟ هذا هو الجحود وغاية الكُنود! ٥٢أنا على حقِّ واللّه - سبحانه - يعلمه ، وأنتم لستم على حق واللّه يعلمه . ٥٣لولا أني ضربْتُ لكلِّ شيءٍ أَجَلاً لَعجَّلْتُ لهم ذلك ، ولَيَأتِيَنَّهم العذابُ - حين يأتيهم - بغتةً وفجأةً . ٥٥وإذا أحاطت بهم في جهنم سرادقاتُ العذاب فلا صريح لهم ، كذلك - اليومَ - مَنْ أحاط به العذابُ؛ مِنْ فوقه اللَّعنُ ومن تحته الخَسْفُ ، ومن حوله الخِزْيُ ، ويُلْبَسُ لباسَ الخذلان ، ويوسم بكيِّ الحرمان ، ويُسْقَى شرابَ القنوط ، ويُتَوَّجُ بتاج الخيبة ، ويُقَّيُّدُ بقيد السُّخط ، ويُغَلِّ بغُلِّ العداوة ، فهُمْ يُسْحَبون في جهنم الفراق حُكْماً ، إلى أن يُلْقَوْا في جحيم الاحتراق عيناً . ٥٦الدنيا أوسعُ رقعةً من أَن يضيق بمريدٍ مكانٌ ، فإذا نَبَا به منزلٌ - لوجهٍ من الوجوه - إمَّا لمعلومٍ حصل ، أو لقبولٍ من الناس ، أو جاهٍ ، أو لعلاقةٍ أو لقريبٍ أو لِبَلاءِ ضِدٍّ ، أو لوجهٍ من الوجوه الضارة . . . فسبيلُه أن يرتحل عن ذلك الموضع وينتقل إلى غيره ، كما قالوا : وإذا ما جُفِيتُ كنتُ حَرِيَّاً ... أنْ أُرى غيرَ مُصْبِح حيثُ أُمْسِي وكذلك العارف إذا لم يوافق وقَتَه مكانٌ انتقل إلى غيره من الأماكن . ٥٧إذا كان الأمرُ كذلك فالراحة معطوفة على تهوين الأمور؛ فسبيلُ المؤمن أن يوطِّن نفسَه على الخروج مستعداً له ، ثم إذا لم يحصل الأَجَلُ فلا يستعجل ، وإذا حضر فلا يستثقل ، ويكون بحُكْمِ الوقت ، كما قالوا : لو قال لي مُتْ مِتُّ سمعاً وطاعةً ... وقلتُ لداعي الموت : أهلاً ومرحبا ٥٨هم - اليومَ - في غُرَفِ معارفهم على أَسِرَّةِ وَصْلِهم ، مُتَوُّجُون بتيجان سيادتهم ، يُسْقَوْن كاساتٍ الوَجْدِ ، ويَجْبُرُون في جِنانِ القُرْب ، وعداً كما قال : - ٥٩{ الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . والصبرُ الوقوفُ مع اللّه بشرط سقوط الفكرة . الصبرُ العكوفُ في أوطان الوفاء ، الصبر حَبْسُ النَّفْسِ على فِطامها . الصبر تجرُّعُ كاساتِ التقدير من غير تعبيس . الصبر صفة توجب معيَّةَ الحقِّ . . . وأَعْزِزْ بها! وأولُ الصبرِ تصبُّرٌ بتكلفٍ ، ثم صبرٌ بسهولة ، ثم اصطبارٌ وهو ممزوج بالراحة ، ثم تحقُّقٌ بوصف الرضا؛ فيصير العبدُ فيه محمولاً بعد أن كان مُتَحَمّلاً . والتوكلُ انتظارٌ مع استبشار ، والتوكلُ سكونُ السِّرِّ إلى اللّه ، التوكلُ استقلالٌ بحقيقة التوكل؛ فلا تتبرَّم في الخلوة بانقطاع الأغيار عنك . التوكل إعراضُ القلب عن غير الرَّب . ٦٠{ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي لا تدخره ، فمن لم يدخر رزقه في كيسه أو خزائنه فاللّه يرزقه من غير مقاساة تعبٍ منه . ويقال : { لاَّ تَحِْمِلُ رِزْقَهَا } المقصود بها الطيور والسباع إذ ليس لها معلوم ، وليس لها بيت تجمع فيه القوت ، وليس لها خازن ولا وكيل . . اللّه يرزقها وإياكم . ويقال إرادةُ اللّه في أن يستبقيكَ ولا يقبض رُوحَك أقوى وأتمُّ وأكبرُ من تَعَنَّيك لأَجْلِ بقائك . . فلا ينبغي أَنْ يكونَ اهتمامُكَ بسبب عَيْشِك أتمَّ وأكبرَ من تدبير صانعك لأجل بقائك . ٦١إذا سُئِلوا عن الخالق أقروا باللّه ، وإذا سُئِلوا عن الرازق لم يستقروا مع اللّه . . . هذه مناقَضَةٌ ظاهرة! ٦٢الرزق على قسمين : رزق الظواهر ومنه الطعام والشراب ، ورزق السرائر ومنه الاستقلال بالمعاني بحيث لا يحصره تكلف الكلام ، والناسُ فيهم مرزوقٌ ومُرَفّةٌ عليه ، وفيهم مرزوق ولكنْ مْضَيَّقٌ عليه . ٦٣كما عَلِموا أَنَّ حياةِ الأرضِ بعد موتها بالمطر من قِبَل اللّه فليعلموا أَنَّ حياةَ النفوسِ بعد موتها - عند النّشْرِ والبعث - بقدرة اللّه . وكما علموا ذلك فليعلموا أَنَّ حياةَ الأوقات بعد نفرتها ، وحياة القلوب بعد فترتها . . . بماء الرحمة باللّه . ٦٤الدنيا الأحلام - وعند الخروج منها انتباهٌ من النوم . والآخرة هنالك العيش بكماله ، والتخلص - من الوحشة - بتمامه ودوامه . ٦٥الإخلاصُ تفريغُ القلب عن الكلّ ، والثقةُ بأن الإخلاص ليس إلا به - سبحانه ، والتحقق بأنه لا يستكبر حالاً في المحمودات ولا في المذمومات ، فعند ذلك يعبدونه مخلصين له الدّين . وإذا توالت عليهم الضرورات ، وانقطع عنه الرجاء أذعنوا للّه متضرعين فإذا كشف الضُّرَّ عنهم عادوا إلى الغفلة ، ونَسُوا ما كانوا فيه من الحال كما قيل : إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذي الضنى عاد إلى نُكْسِه ٦٧مَنَّ عليهم بدَفْعٍ المحن عنهم وكَوْنِ الحَرَمِ آمناً . وذَكَّرَهم عظيمَ إحسانه عليهم ، ثم إعراضهم عن شكر ذلك . ٦٨أي لا أحدَ أشدُّ ظلماً ممن افترى على اللّه الكذب ، وعَدَلَ عن الصدق ، وآثَرَ البهتانَ ولم يتصرف بالتحقق ، أولئك هم السُّقّاطُ في الدنيا والآخرة . ٦٩الذين زَيَّنُوا ظواهرَهم بالمجاهدات حَسُنَتْ سرائرُهم بالمشاهدات . الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلنا إلى سرائرهم اللطائف . الذين قاسوا فينا التعبَ من حيث الصلوات جازيناهم بالطرب من حيث المواصلات . ويقال الجهاد فيه : أولاً بترك المحرَّمات ، ثم بترك الشُّبُهات ، ثم بترك الفضلات ، ثم بقطع العلاقات ، والتنقِّي من الشواغل في جميع الأوقات . ويقال بحفظ الحواسُ للّه ، وبِعَدُ الأنفاس مع اللّه . |
﴿ ٠ ﴾