سورة الروم١-٥{ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ } الإشارة فى ( الألف ) إلى أنه ألِفَ صُحْبتنَا مَنْ عَرف عظمتنا . وأنّه أَلف بلاءنا مَنْ عَرَفَ كبرياءنا . والإشارة فى ( اللام ) إلى أنه لزمَ بابنا مَنْ ذاق محابّنا ، ولزمَ بساطنَا مَنْ شهد جمالنَا . والإشارة فى ( الميم ) إلى أَنه مُكِّنَ منْ قُرْبنَا مَنْ قام على خدمتنا ، ومات على وفائنا مَنْ تحقق بولائنا . قوله { غُلِبَتِ الرُّومُ } : سُرَّ المسلمون بظفر الروم على العجم_ وإن كان الكفر يجمعهم_ إلا أن الروم اختصوا بالإيمان ببعض الأنبياء ، فشكر اللّه لهم ، وأنزل فيهم الأية . . فكيف بمن يكون سروره لدين اللّه ، وحُزنُه واهتمامه لدين اللّه؟ . قوله جلّ ذكره : { للّه الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّه يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } . { قَبْلُ } إذا أُطْلق انتظم الأزل ، ( وبَعْدُ ) إذا أطلق دلّ على الأبد؛ فالمعنى الأمر الأزلىُّ للّه ، والأمر الأبدىُّ للّه لأنَّ الرَّبِّ الأزلىّ والسَّيِّدَ الأبدىّ اللّه . للّه الأمرُ يومَ العرفان ، وللّه الأمرُ يومَ الغفران . للّه الأمرُ حين القسمة ولا حين ، وللّه الأمرُ عند النعمة وليس أى معين . ويقال : لى الأمرُ { مِن قَبْلُ } وقد علمتُ ما تفعلون ، فلا يمنعنى أحدٌ من تحقيق عرفانكم ، ولي الأمر { مِّن بَعْدِ } وقد رأيتُ ما فعلتم ، فلا يمنعنى أحدٌ من غفرانكم . وقيل : { للّه الأَمْرُ مِن قَبْلُ } بتحقيق ودِّكم ، واللّه الامر من بعد بحفظ عهدكم : إني _على جفواتها_ وبربِّها ... وبكلِّ مُتصل بها مُتوسلِ { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّه } : اليومَ إرجافُ السرور وإنما ... يومَ اللِّقاء حقيقةُ الإرجاف اليومَ ترحٌ وغداً فرح ، اليوم عَبرة وغداً حَبرة ، اليوم أسف وغداً لطف ، اليوم بكاء وغداً لقاء . ٦الكريمُ لا يُخلفُ وعده لا سيما والصدقُ نعته . يقول المؤمنون : مِنا يومَ الميثاق وعدٌ بالطاعة ، ومنه ذلك اليومَ وعدٌ بالجنة ، فإن وَقع فى وعدنا تقصيرٌ لا يقع فى وعده قُصورٌ . ٧استغراقُهم فى الاشتغال بالدنيا ، وانهماكهم فى تعليق القلب بها . . مَنَعَهم عن العلم بالآخرة . وقيمةُ كلِّ امرىءٍ عِلمه باللّه؛ ففى الأثر عن عليِّ _رضى اللّه عنه_ أنه قال؛ أهل الدنيا عَلَى غفلةٍ من الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة كذلك بوجودها فى غفلة عن اللّه . ٨إنَّ مَنْ نَظَرَ حقَّ النظر ، ووَضَعَ النظر موضعَه أثمر له العلم واجباً ، فإذا استبصر بنور اليقين أحكامَ الغائبات ، وعَلِمَ موعوده الصادق فى المستأنف - نجا عن كَدِّ التردد والتجويز فسبيلُ مَنْ صحا عقلُه ألا يجنحَ إلى التقصير فيما به كمال سكونه . ٩سَيْرُ النفوسِ فى أقطار الأرض ومناكبها لأداء العبادات ، وسَيْرُ القلوبِ بِجَولاَنِ الفِكْرِ فى جميع المخلوقات ، وغايته الظَّفَرُ بحقائق العلوم التى توجِبُ ثلج الصدر -ثم تلك العلوم على درجات . وسير الأرواح فى ميادين الغيب بنعت حرق سرادقات الملكوت ، وقصاراه الوصولُ إلى محلِّ الشهود واستيلاء سلطان الحقيقة . وسير الأشرار بالترقى عن الحِدْثان بأَسْرِها ، والتحقق أولاً بالصفات ، ثم بالخمود بالكلية عمَّا سِوى الحقِّ . ١٠مَنْ زَرَعَ الشوكَ لم يحصُدْ الوَرْدَ ، ومَنْ استنبت الحشيشَ لم يقطف الثمار ، ومَنْ سَلَكَ طريق الغىّ لم يَحْلُلْ بساحة الرشد . ١١يبدأ الخلق على ما يشاء ، ثم يعيده إذا ما شاء على ما يشاء . ١٢شهودِهم ما جحدوه فى الدنيا عياناً ، ثم ما ينضاف إلى ذلك من اليأس بعد ما يعرفون قطعاً هو الذى يفتت أكبادهم ، وبه تتمُّ محنتُهم . ١٣تغلب العداوةُ مِنْ بعضٍ على بعضٍ . ١٤فريقٌ منهم أهل الوصلة ، وفريق هم أهل الفرقة . فريق للجنة والمِنَّة . وفريقٌ للعذاب والمحنة . فريقٌ فى السعير . وفريقٌ فى السرور . فريقٌ فى الثواب . وفريقٌ فى العذاب . فريقٌ فى الفراقِ . وفريقٌ فى التلاقي . ١٥فهم فى رياضٍ وغياضٍ . ١٦فهم فى بوارٍ وهلاك . ١٧-١٨مَنْ كان صباحُه للّه بُورِكَ له فى يومه ، ومن كان مساؤه باللّه بورك له فى ليله : وإنَّ صَبَاحً نلتقي في مسائه ... صَبَاحٌ على قلبِ الغريبِ حبيبُ شتّان بين عبدٍ صباحُه مُفْتَتَحٌ بعبادته ومساؤه مُخْتَتَمٌ بطاعته ، وبين عبدٍ صباحه مفتتح بمشاهدته ورواحة مفتتح بعزيز قربته! ويقال الآية تتضمن الأَمر بتسبيحه فى هذه الأوقات ، والآية تتضمن الصلوات الخمس ، وإرادةَ الحقِّ من أوليائه بأَنْ يجددوا العهدَ فى اليوم والليلة خمْسَ مراتٍ؛ فتقف على بساط المناجاة ، وتستدرك ما فاتك فيما بين الصلاتين من طوارق الزلات . ١٩{ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ } : الطيرَ من البيض ، والحيوان من النُّطفةِ . { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ } : البيض من الطير ، والنطفة من الحيوان . والمؤمنَ من الكافِرَ والكافِرَ من المؤمن . ويُظْهِرُ أوقاتاً من بين أوقات؛ كالقبض من بين أوقات البسط ، والبسط من بين أوقات القبض . { وَيُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتَهَا } : يحييها بالمطر ، ويأتى بالربيع بعد وحشة الشتاء؛ كذلك يوم النشور يحيي الخلْقَ بعد الموت . ٢٠خَلَقَ آدمَ من التراب ، ثم من آدم الذُّرِّيَة . فذَكَّرَهم نِسْبَتَهم لئلا يُعْجَبُوا بأحوالهم . ويقال الأصل تُرْبة ولكن العِبْرَة بالتربية لا بالتربة ، القيمةُ لما مِنْه لا لأعيان المخلوقات . اصطفى واختار الكعبة فهي أفضل من الجنة؛ الجنة جواهر ويواقيت ، والبيت حجر! ولكن البيت مختارُه وهذا المختار حجر! واختار الإنسانَ ، وهذا المختار مَدَرٌ! والغنىُّ غنىٌّ لِذَاتِه ، غنىٌّ عن كلِّ غيرٍ من رَسْم وأثر . ٢١رَدَّ المِثْلَ إلى المِثْل ، ورَبَطَ الشكلَ بالشكلِ ، وجعل سكونَ البعضِ إلى البعض ، ولكنَّ ذلك للأشباح والصُوَر ، أمَّا الأرواح فصُحْبَتُها للأشباح كرهٌ لا طوعٌ . وأمَّا الأسرار فمُعْتَقَةٌ لا تساكن الأطلال ولا تتدنس بالأعلال . ٢٢خَلَقَ السماواتِ فى علوِّها والأرضَ فى دنوِّها؛ هذه بنجومها وكواكبها ، وهذه بأقطارها ومناكبها . وهذه بشمسها وقمرها ، وهذه بمائها ومَدَرِها . ومن آياته اختلافُ لغات أهل الأرض ، واختلافُ تسبيحات الملائكة الذين هم سكان السماء . وإنَّ اختصاصَ كلِّ شىءٍ منها بُحكم -شاهدُ عَدلٍ ، ودليلُ صِدُقٍ على أنها تناجى أفكار المتيقظين ، وتنادي على على أنفسها . . أنها جميعها من تقدير العزيز العليم . ٢٣غَلَبُه النومِ بغيرِ اختيارِ صاحبه ثم انتباهُه مِنْ غير اكتسابٍ له بِوُسْعِه يدلُّ على موته وبَعْثِهِ بعد ذلك وقتَ نشوره . ثم فى حال منامه يرى ما يسرُّه وما يضرُّه ، وعلى أوصافٍ كثيرة أمره . . كذلك الميت فى قبره . اللّه أعلمُ كيف حاله فى أمره ، وما يلقاه من خيره وشرّه ، ونفعه وضرّه؟ ٢٤يُلْقِي في القلوب من الرجاءِ والتوقع فى الأمور ، ثم يختلف بهم الحال؛ فمِنْ عبدٍ يحصلُ مقصودُه . ومِنْ آخر لا يتفق مرادُه . والأحوال اللطيفة كالبروق ، وقالوا : إنها لوائح ثم لوامع ثم طوالع ثم شوارق ثم متوع النهار ، فاللوائح فى أوائل العلوم ، واللوامع من حيث الفهوم ، والطوالع من حيث المعارف ، والشوارق من حيث التوحيد . ٢٥يُفْنِي هذه الأدوار ، ويُغَيِّر هذه الأطوار ، ويبدِّل أحوالاُ غير هذه الأَحوال؛ إماتةٌ ثم إحياءٌ ، وإعادةٌ وقبلها إبداءٌ وقبرٌ ثم نَشْر ، ومعاتبةٌ فى القبر ثم محاسبةٌ بعد النَّشْرِ . ٢٦له ذلك مِلْكاً ، ومنه تلك الأشياء بَدْءاً ، وبه إيجاداً ، وإليه رجوعاً . ٢٧أي في ظنَّكم وتقديركم . وفي الحقيقة السهولةُ والوعورةُ على الحقِّ لا تجوز . { وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى } : له الصفةُ العليا فى الوجود بحقِّ القِدَم ، وفي الجود بنعت الكَرَم ، وفي القدرة بوصف الشمول ، وفي النصرة بوصف الكمال ، وفي العلم بعموم التعلُّق ، وفي الحكم بوجوب التحقق ، وفي المشيئة بوصف البلوغ ، وفي القضية بحكم النفوذ ، وفى الجبروت بعين العزِّ والجلال ، وفي الملكوت بنعت المجد والجمال . ٢٨أي إذا كان لكم مماليك لا تَرْضَوْن بالمساواة بينكم وبينهم ، وأنتم متشاكلون بكلِّ وجه -إلا أنكم بحكم الشرع مالكوهم- فَمَا تقولون في الذي لم يَزَلْ ، ولا يزال كما لم يزل؟ هل يجوز أن يُقَدَّر َ في وصفه أن يُسَاوِيَه عبيدُه؟وهل يجوز أن يكون مملوكُه شريكَه؟ تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً! ٢٩أشدُّ الظلمِ متابعةُ الهوى ، لأنه قريبٌ من الشِّرْكِ ، قال تعالى : { أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ }[ الجاثية : ٢٣ ] . فَمَنْ اتَّبَعَ هواه خالف رضا مولاه؛ فهو بوضعه الشىءَ غيرَ موضعه صار ظالماً ، كما أَنَّ العاصيَ بوضعه المعصيةَ موضعَ الطاعةِ ظالمٌ . . كذلك هذا بمتابعة هواه بَدَلاً عن موافقة ومتابعة رضا مولاه صار فى الظلم متمادياً . ٣٠أخْلِصْ قَصْدَك إلى اللّه ، واحفَظْ عهدك مع اللّه ، وأَفرِدْ عملَكَ فى سكناتِك وحركاتِك وجميع تصرفاتِك للّه . { حَنِيفاً } : أى مستقيماً فى دينه ، مائلاً إليه ، مُغْرَضاً عن غيره ، والزَمْ { فِطْرَتَ اللّه الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أي أثْبَتَهُم عليها قبل أن يُوجَدَ منهم فِعْلٌ ولا كَسْب ، ولا شِرْكٌ ولا كُفْر ، وكما ليس منهم إيمان وإحسان فليس منهم كفران ولا عصيان . فاعرف بهذه الجملة ، ثم افعل ما أُمِرْتَ به ، واحذر ما نُهِيتَ عنه . فعلى هذا التأويل فإن معنى قوله : { فِطْرَتَ اللّه الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } أي اعْرَفْ واعْلَمْ أن فطرة اللّه التي فطر الناس عليها : تَجَرُّدُهم عن أفعالهم ، ثم اتصافهم بما يكسبون - وإن كان هذا أيضاً بتقدير اللّه . وعلى هذا تكون { فِطْرَتَ } اللّه منصوبة بإضمار اعْلَمْ - كما قلنا . سبحانه فَطَرَ كلَّ أحدٍ على ما عَلِمَ أنه يكون فى السعادة أو الشقاوة ، ولا تبديلَ لحُكْمه ، ولا تحويلَ لما عليه فَطَرَه . فمَنْ عَلِمَ أنه يكون سعيداً أراد سعادته وأخبر عن سعادته ، وخَلَقَه في حُْكمه سعيداً . ومَنْ عَلِمَ شقاوته أراد أن يكون شقياً وأخبر عن شقاوته وخَلَقَه في حكمه شقياً . . ولا تبديل لحُكمه ، هذا هو الدين المستقيم والحقُّ الصحيح . ٣١أي راجعين إلى اللّه بالكلية من غير أن تبقى بقية ، متصفين بوفاته ، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه ، مُتَّقين صغيرَ الإثم وكبيره ، قليلَه وكثيره ، مُؤثرين يسيرَ وفاقه وعسيره ، مقيمين الصلاة بأركَانها وسننها وآدابها جهراً ، متحققين بمراعاة فضائلها سِراً . ٣٢أقاموا فى دنياهم فى خمار الغفلة ، وعناد الجهل والفترة؛ فركنوا إلى ظنونهم ، واستوطنوا مركب أوهامهم ، وتموَّلوا منْ كيس غيرهم ، وظنوا أنهم على شيء . فإذا انكشف ضبابُ وقتهم ، وانقشع سحابُ جحدهم . . انقلب فرحُهم تراحاً ، واستيقنوا أنهم كانوا فى ضلالة ، ولم يعرِّجوا إلاَّ في أوطان الجهالة . ٣٣إذا أظلتهم المحنةُ ونَالتهم الفتنةُ؛ وَمَسَّتْهُم البليَّةُ رجعوا إلى اللّه بأجْمعهم مستعينين ، وبلطفه مستجيرين ، وعن محنتهم مستكشفين . فإذا جاد عليهم بكشف ما نالهم ، ونظر إليهم باللطف فيما أصابهم : { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم } لا كلُّهم - بل فريقٌ منهم بربهم يشركون؛ يعودون إلى عاداتهم المذمومة فى الكفران ، ويقابلون إحسانه بالنسيان ، هؤلاء ليس لهم عهدٌ ولا وفاء . ولا فى مودتهم صفاء . ٣٤أي عن قريبٍ سيحدث بهم مثلما أصابهم ، ثم إنهم يعودون إلى التضرع . ويأخذون فيما كانوا عليه بداءاً من التخشع ، فإذا أشكاهم وعافاهم رجعوا إلى رأس خطاياهم . ٣٥بَين أنهم بَنوا على غير أصلٍ طريقَهم ، واتبعوا فيما ابتدعوه أهواءهم ، وعلى غير شَرعٍ من اللّهأو حجةٍ أو بيانٍ أَسَّسُوا مذاهبَهم . ٣٦تستميلهم طوارقُ أحوالهم؛ وإن كانت نعمة فإلى فرح ، وإن كانت شدة فإلى قنوطِ وَتَرح . . وليس وصفُ الأكابر كذلك؛ قال تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءَاتَاكُمْ }[ الحديد : ٢٣ ] . ٣٧الإشارة فيها إلى أن العبدَ لا يُعلِّقُ قلبه إلا باللّه؛ لأنّ ما يسوءهم ليس زواله إِلا باللّه ، وما يسرَّهم ليس وجودُه إِلا من اللّه ، فالبسطُ الذي يسرّهم ويؤنسهم منه وجوده ، والقبض الذى يسوءهم ويوحشهم منه حصولُه ، فالواجبُ لزوم عَقْوَةِ الأسرار ، وقطعُ الأفكار عن الأغيار . ٣٨القرابةُ على قسمين : قرابةُ النسب وقرابة الدِّين ، وقرابةُ الدين أَمسُّ ، وبالمواساة أحقُّ وإذا كان الرجلُ مشتغلاً بالعبادة ، غيرَ متفرِّغ لطلب المعيشة فالذين لهم إيمانٌ بحاله ، وإشرافٌ على وقته يجب عليهم القيام بشأنه بقَدر ما يمكنهم ، مما يكون له عونٌ على الطاعة وفراغ القلب من كل علة؛ فاشتغال الرجل بمراعاة القلب يجعل حقَّه آكدَ ، وتَفَقُّدَه أوْجَبَ . { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّه } : المريدُ هو الذى يُؤْثِرُ حقَّ اللّه على حظِّ نَفْسِه؛ فإيثارُ المريد وَجه اللّه أتمُّ من مراعاته حال نفسه ، فهِمَّتُه في الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين تتقدم على نَظَرِه لِنَفْسِه وعياله وما يهمه من خاصته . ٣٩إيتاء الزكاة بأن تريد بها وجهَ اللّه ، وألا تستخدم الفقير لما تَبَرُّه به من رافقه ، بل أفضل الصدقة على ذي رَحمٍ كاشح حتى يكون إعطاؤُه للّه مجرداً عن كل نصيبٍ لَكَ فيه ، فهؤلاء هم الذين يضاعِفُ أَجْرَهم : قَهرُهم لأنفسهم حيث يخالفونها ، وفوزهُم بالعِوَض مِنْ قَبَلَ اللّه . ثم الزكاة هي التطهير ، وتطهيرُ المالِ معلومٌ ببيان الشريعة في كيفية إخراج الزكاة ، وأصناف المال وأوصافه . وزكاة البَدَنِ وزكاةُ القلبِ وزكاتُ السِّرِّ . . كلُّ ذلك يجب القيام به . ٤٠{ ثُمَّ } حرقٌ يقتضى التراخي؛ وفي ذلك إشارة إلى أنه ليس من ضرورة خَلْقِه إياك أن يرزقك؛ كنتَ فى ضعف أحوالك ابتداءَ ما خَلَقَكَ ، فأثبتك وأحياك من غير حاجةٍ لك إلى رزقٍ؛ فإلى أن خرجتَ من بَطْنِ أُمّك : إمَّا أن كان يُغْنِيكَ عن الرزق وأنت جنينٌ في بطن الأم ولم يكن لك أكلٌ ولا شُرْبٌ ، وإمَّا أن كان يعطيك ما يكفيك من الرزق - إنْ حَقَّ ما قالوا : إن الجنينَ يتَغَذَّى بدم الطمث . وإذا أخرجك من بطن أمك رَزَقَكَ على الوجه المعهود فى الوقت المعلوم ، فَيَسَّرَ لكَ أسبابَ الأكل والشرب من لَبنِ الأم ، ثم من فنون الطعام ، ثم أرزاق القلوب والسرائر من الإيمان والعرفان وأرزاق التوفيق من الطاعات والعبادات ، وأرزاق للسان من الأذكار وغير ذلك مما جرى ذكره . { ثُمَّ يَمِيتُكُمْ } بسقوط شهواتكم ، ويميتكم عن شواهدكم . { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بحياة قلوبكم ثم يحييكم بربِّكم . ويقال : من الأرزاق ما هو وجود الأرفاق ومنها ما هو شهود الرزاق . ويقال : لا مُكْنَةُ لك فى تبديل خَلْقِكَ ، وكذلك لا قدرةَ لَكَ على تَعَسُّر رزقِك ، فالمُوَسَّعُ عليه رزقُه -بِفَضْلِه سبحانه . . لا بمناقِب نَفْسه ، والمُقَتّرُ عليه رزقُه بحُكْمِه سبحانه . . لا بمعايب نَفْسِه . { هَلْ مِن شُرِكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَىْءٍ } ؛ هل من شركائكم الذين أثبتموهم أي من الأصنام أو توهمتموهمٌّ من جملة الأنام . . مَنْ يفعل شيئاً من ذلك؟ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } تنزيهاُ له وتقديساً . ٤١الإشارة من البرّ إلى النَّفْسِ ، ومن البحر إلى القلب . وفسادُ البرّ بأَكْلْ الحرام وارتكاب المحظورات ، وفسادُ البحر من الغفلة والأوصاف الذميمة مثل سوء العزم والحسد والحقد وإرادة الشَّر والفِسْقِ . . وغير ذلك . وعَقْدُ الإصرارِ على المخالفاتِ من أعظمِ فسادِ القلب ، كما أَنَّ العَزْمَ على الخيرات قبل فِعْلها من أعظم الخيرات . ومن جملة الفساد التأويلاتُ بغير حقِّ ، والانحطاطُ إلى الرُّخَصِ فى غير قيامٍ بِجَدٍ ، والإغراق في الدعاوَى من غير استحياءٍ من اللّه تعالى . { لِيُذِقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلَّواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } : بعض الذى عملوا من سقوط تعظيم الشرع من القلب ، وعدم التأسُّف على ما فاته من الحقِّ . ٤٢{ يَسِيُرواْ } بالاعتبار ، واطلبوا الحقَّ بنعت الأفكار . { فَانظُرواْ } كيف كانت حال مَنْ تقدَّمكم من الأشكال والأمثال ، وقيسوا عليها حُكْمَكُم فى جميع الأحوال . { كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ } كانوا أكثرَهم عدداً ، ولكن كانوا في التحقيق أَقلَّهم وزناً وقَدْراً . ٤٣أَخْلِص قَصْدَك وصِدْقَ عَزْمَكَ للدين القيِّم بالموافقة والاتباع دون الاستبداد بالأمر على وجه الابتداع . فَمنْ لم يتأدب بِمَنْ هو إمامُ وقته ولم يتلقف الأذكار ممن هو لسان وقته كان خُسْرَانُه أَتَمَّ من رِبْحِه ، ونقصانُه أَعَمُ من نَفْعه . ٤٦يرسل رياحَ الرجاءِ على قلوب العِباد فتكنس عن قلوبهم غبارَ الخوف وغُثَاء اليأس ، ثم يرسل عليها أمطار التوفيق فتحملهم إلى بِساط الجُهْدِ ، وتكرمهم بقوى النشاط . ويرسل رياحَ البسطِ على أرواح الأولياء فيطهرها من وحشة القبض ، وينشر فيها إرادة الوصال . ويرسل رياحَ التوحيد فتهب على أسرار الأصفياء فيطهرها من آثار العناء ، ويبشرها بدوام الوصال ، فذلك ارتياحٌ به ولكن بعد اجتياحٍ عنك . ٤٧أرسلنا من قبلك رسلاً إلى عبادنا ، فَمَنْ قابلهم بالتصديق وصل إلى خلاصة التحقيق ، ومَنْ عارضَهم بالجحود أذقناهم عذابَ الخلود ، فانتقمنا من الذين أجرموا ، وأخذناهم من حيث لم يحتسبوا ، وشَوَّشْنا عليهم ما أَمَّلوا ، ونقضنا عليهم ما استطابوا وتَنَعَّموا ، وأخذنا بخناقهم فحاق بهم ما مكروا . { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } بتوطئتهم بأعقاب أعدائهم ، ولم يلبثوا إلا يسيراً حتى رقيناهم فوق رقابهم ، وخرَّبنا أوطانَ أعدائهم ، وهدَّمنا بنيانهم ، وأخمدنا نيرانَهم ، وعَطَّلْنا عنهم ديارهم ، ومَحَوْنا بقَهْرِ التدمير آثارَهم ، فظَلَّتْ شموسهُم كاسفة ، ومكيدةُ قَهْرِنا لهم بأجمعهم خاسفة . ٤٨يرسل رياح عَطْفِه وجُودِه مبشراتٍ بوَصْلِه وجوده ، ثم يُمطِر جودَ غيبِه على أسرارهم بلُطْفِه ، ويطوي بساطَ الحشمة عن ساحات قُرْبِه ، ويضرب قبابَ الهيبة بمشاهد كَشْفِه ، وينشر عليهم أزهارَ أُنْسِه ، ثم يتجلَّى لهم بحقائق قُدْسِه ، ويسقيهم بيده شرابَ حُبِّه ، وبعد ما محاهم عن أوصافهم أصحاهم -لا بهِم- ولكنْ بِنَفْسه ، فالعبارات عن ذلك خُرْسٌ ، والإشارات دونها طُمْسٌ . ٥٠يحيي الأرضَ بأزهارها وأنوارها عند مجىء الأمطار لِيُخْرِجَ زَرْعَها وثمارَها ، ويحيي النفوس بعد نَفْرَتِها ، ويوفقها للخيرات بعد فترتها ، فتعمر أوطانُ الرِّفاق بصادق إقدامهم ، وتندفع البلايا عن الأنام ببركات أيامهم ، ويحيي القلوبَ بعد غفلتها بأنوار المحاضرات ، فتعود إلى استدامة الذكر بحُسْنِ المراعاة ، ويهتدي بأنوار أهلها أهلُ العسر من أصحاب الإرادات ، ويحيي الأرواح بعد حَجْبَتِها - بأنوار المشاهدات ، فتطلع شموسُها عن بُرْجِ السعادة ، ويتصل بمشامٌ أسرار الكافة نسيمُ ما يفيض عليهم من الزيادات ، فلا يبقى صاحبَ نَفَسٍ إلا حَظِيَ منه بنصيب ، ويُحْيي الأسرارَ ، وقد تكون لها وَقْفَةٌ فى بعض الحالات - فتنتفي بالكلية آثارُ الغيرية ، ولا يَبْقى فى الدار ديَّار ولا من سكانها آثار؛ فسَطَواتُ الحقائق لا تثبت لها ذَرَّةٌ من صفات الخلائق ، هنالك الولاية للّه . . سقط الماء والقطرة ، وطاحت الرسوم والجملة . ٥١إذا انسدَّت البصيرةُ عن الإدراك دام العمى على عموم الأوقات . . كذلك مَنْ حَقَّتْ عليهم الشقاوةُ جَرَّته إلى نفسها - وإنْ تَبَوَّأَ الجنةَ منزلاً . ٥٢-٥٣قوله جلّ ذكره : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } مَنْ فَقَدَ الحياةَ الأصلية لم يَعِشْ بالرُّقَى والتمائم ، وإذا كان في السريرة طَرَشٌ عن سماع الحقيقة فَسَمْعُ الظاهر لا يفيده آكَدُ الحُجَّة . وكما لا يُسْمَعُ الصُّمَّ الدعاءَ فكذلك لا يمكنه أن يهدي العُمْىَ عن ضلالتهم . ٥٤أظهرهم على ضعف الصغر والطفولية ثم بعده قوة الشباب ثم ضعف الشيب ثم : آخر الأمر ما ترى ... القبر واللحد والثرى كذلك فى ابتداء أمرهم يظهرهم على وصف ضعف البداية فى نعت التردد والحيرة فى الطلب ، ثم بعد قوة الوصل فى ضعف التوحيد . ويقال أولاً ضعف العقل لأنه بشرط البرهان وتأمله ، ثم قوة البيان في حال العرفان ، لأنه بسطوة الوجود ثم بعده ضعف الخمود ، لأنه الخمود يتلو الوجود ولا يبقى معه أثر . ويقال { خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } : أي حال ضعف من حيث الحاجة ثم بعده قوة الوجود ثم بعده ضعف المسكنة ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني فى زمرة المساكين ) . ٥٥إنما كان ذلك لأحد أمرين : إمَّا لأنهم كانوا أمواتاً . . والميت لا إحساسَ له ، أو لأنهم عَدُّواً ما لقوا من عذاب القبر بالإضافة إلى ما يَرَوْن ذلك اليوم يسيراً . وإن أهل التحقيق يخبرونهم عن طول لُبْثِهم تحت الأرض . وإن ذلك الذي يقولونه من جملة ما كانوا يظهرون من جَحْدهم على موجب جهلهم ، ثم لا يُسْمَعُ عَذْرُهم ، ولا يُدْفَعُ ضُرَّهم . وأخبر بعد هذا في آخر السورة عن إصرارهم وانهماكهم في غيِّهم ، وأن ذلك نصيبهم من القسمة إلى آخر أعمارهم . ثم خَتَمَ السورة بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باصطباره على مقاساة مسارهم ومضارهم . قوله جلّ ذكره : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } |
﴿ ٠ ﴾