سورة لقمان١الألف تشير إلى آلائه ، واللام تشير إلا لطفه وعطائه ، والميم تشير إلى مجده وسنائه؛ فبآلائه يرفع الجَحْدَ عن قلوبِ أوليائه؛ وبلطفه وعطائه يثبت المحْبةَ فى أسرار أصفيائه ، وبمجده وسنائه مستغنٍ عن جميع خَلْقِه بوصف كبريائه . ٢{ تِلْكَ ءَاياتُ الْكِتَابُ الْحَكيمِ } : المحروس عن التغيير والتبديل . ٣هو هدّى وبيان ، ورحمة وبرهان للمحسنين العارفين باللّه ، والمقيمين عبادةَ اللّه كأنهم ينظرون إلى اللّه . وشَرْطُ المُحْسِنِ أن يكون محسناً إلى عبادِ اللّه : دانيهم وقاصيهم ، ومطيعِهم وعاصيهم . ٤{ الَّذِينَ يُقيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } : يأتون بشرائطها في الظاهر من ستر العورة ، وتقديم الطهارة ، واستقبال القِبْلة ، والعلم بدخول الوقت ، والوقوف في مكانٍ طاهر . وفي الباطن يأتون بشارئطها من طهارة السِّرِّ عن العلائق ، وسَتْرِ عورةَ الباطنِ بتنقيته عن العيوب ، لأنها مهما تكن فاللّه يراها؛ فإذا أَرَدْتَ ألا يرى اللّه عيوبَك فاحْذَرْها حتى لا تكون . والوقوف في مكان طاهر ، وهو وقوف القلبِ على الحدِّ الذي أُذِنْتَ في الوقوف فيه مما لا يكون دعوى بلا تحقيق ، وَرَحِمَ اللّه مَنْ وقف عند حدِّه . والمعرفة بدخول الوقت فتعلم وقت التذلُّل والاستكانة . وتميز بينه وبين وقت السرور والبسط ، وتستقبل القبلةَ بنَفْسِك ، وتعلِّق قلبَكَ باللّه من غير تخصيص بقَطْرٍ أو مكان . ٥الذين يقومون بشرط صلاتهم وحقِّ آداب عبادتهم هم الذين اهتدوا في الدنيا والعُقبى فسلِموا ونَجَوْا . ٦{ لَهْوَ الْحَدِيثِ } : ما يشغل عن ذكر اللّه ، ويَحْجُبُ عن اللّه سماعُه . ويقال : هو لَغْوُ الظاهر الموجِبُ سَهْوَ الضمائر ، وهو ما يكون خَوضاً فى الباطل ، وأخذاً بما لا يعنيك . ٧المُفْتَرِقُ بِهَمِّه ، والمُتَشتِّتُ بقلبه لا تزيده كثرةُ الوعظِ إلا نفوراً ونُبُوَّاً؛ فسماعُه كَلاَ سماع ، ووعظه هباءٌ وضياع ، كما قيل : إذا أنا عاتَبْتُ الملولَ فإنما ... أُخُطُّ بأقلامي على الماءِ أحرُفا ٨-٩{ ءَامَنُواْ } : صَدَّقوا { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } : تَحَقَّقُوا؛ فاتصافُ تحقيقِهم راجعٌ إلى تصديقهم ، فَنَجَوْا وسَلِمُوا؛ فهم في راحاتهم مقيمون ، دائمون لا يَبْرَحُون . ١٠أمسك السمواتِ بقدرته بغير عِماد ، وحفَظَهَا لا إلى سِناد أو مشدودةً إلى أوتاد ، بل بحُكْم اللّه وبتقديره ، ومشيئته وتدبيره . { وََألْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ . . . } في الظاهر الجبال ، وفي الحقيقة الأَبدال والأوتاد الذين هم غياث الخلق ، بهم يقيهم ، وبهم يَصرِف البَلاءَ عن قريبهم وقاصيهم . { وََأنَزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً . . . } المطر من سماء الظاهر في رياض الخُضْرَة؛ ومن سماء الباطن فى رياض أهل الدنوِّ والحَضْرَة . ١١هذا خَلْقُ اللّه العزيز في كبريائه ، فأروني ماذا خَلَقَ الذين عَبدْتم من دونه في أرضه وسمائه؟ ١٢{ الْحِكْمَةَ } الإصابة في العقل والعقد والنطق . ويقال { الْحِكْمَةَ } متابعة الطريق من حيث توفيق الحق لا من حيث هِمةَ النفس . ويقال { الْحِكْمَةَ } ألا تكون تحت سلطان الهوى . ويقال { الْحِكْمَةَ } الكوْن بحكم من له الحكم . ويقال { الْحِكْمَةَ } معرفة قدْر نَفسك حتى لا تمدّ رِجليك خارجاً عن كسائك . ويقال { الْحِكْمَةَ } ألا تستعصي عَلَى مَنْ تعلم أَنك لا تقاومه . { أَنِ اشْكُرْ للّه } : حقيقة الشكر انفراج عين القلب بشهود ملاطفات الرَّبِّ . فهو مقلوب قولهم : كَشَرَتْ عن أنيابها الدايةُ؛ فيقال شكر وكشر مثل جذَب وَجبذَ . ويقال الشكرُ تحققكَ بعجزك عن شكره . ويقال الشكر ما به يحصل كمالُ استلذاذ النعمة . ويقال الشكر فضلةٌ تظهر عَلَى اللسان من امتلاء القلب بالسرور؛ فينطلق بمدح المشكور . ويقال الشكر نعتُ كلّ غنيِّ كما أن الكفرانَ وَصفُ كلِّ لَئيم . ويقال الشكر قرُع باب الزيادة . ويقال الشكر قيد الإنعام . ويقال الشكر قصة يمليها صميم الفؤاد بنشر صحيفة الأفضال . { وَمَن شَكَرَ فإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ }[ النمل : ٤٠ ] . لأنه في صلاحها ونصيبها يسعى . ١٣الشِّرْكُ عَلَى ضربين : جَليّ وخفيّ؛ فالجليُّ عبادة الأَصنام ، والخفيّ حسبان شيء من الحدثان من الأنام . ويقال الشِّرْكُ إثباتُ غَيْرٍ مع شهود الغيب . ويقال الشرك ظلمَ عَلَى القلب ، والمعاصي ظلم عَلَى النفس ، وظلم النفوس مُعَرَّضٌ للغفران ، ولكنّ ظلم القلوب لا سبيل إليه للغفران . ١٤أوجب اللّه شُكرَ نفسه وشكر الوالدين . ولما حصل الإجماع على أن شكر الوالدين بدوام طاعتهما ، وألا يُكْتَفى فيه بمجرد النطق بالثناء عليهما عُلِم أنَّ شُكْرَ الحقِّ لا يكْفي فيه مجرَّدُ القول ما لم تكن فيه موافقهُ العقل؛ وذلك بالتزام الطاعة ، واستعمال النعمة فى وجه الطاعة دون صَرفِها فى الزَّلَّة؛ فشكرُ الحقِّ بالتعظيم والتكبير ، وشكرُ الوالدين بالإنفاق والتوفير . ١٥إنْ جاهداك على أن تشرك باللّه ، أو تسعى بما هو زلة فى امر اللّه- فلا تطعهما ، ولكن عاشرهما بالجميل؛ تخشين في تليين ، فاجعل لهما ظاهرك فيما ليس فيه حرَجٌ ، وانفرد بسرِّك للّه ، { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } : وهو المنيبُ إليه حقاً من غير أن تبقى بقية فى النفْس . ١٦إذا كانت ذرة أو أقل من ذلك وسبقت بها القسمةُ فلا محالةَ تصل إلى المقسوم له بغير مرية . . { إِنَّ اللّه لَطِيفٌ خَبِيرٌ } : عالم بدقائق الأمور وخفاياها . ١٧الأمر بالمعروف يكون بالقول ، وأبلغه أن يكون بامتناعك بنفسك عما تُنهى عنه ، واشتغالك واتصافك بنفسك بما تأمر به غيرك ، ومنْ لا حُكْمَ له عَلَى نَفسه لا ينفذ حكمه على غيره . والمعروف الذي يجب الأمرُ به و ما يُوَصِّلُ العبدَ إلى اللّه ، والمنكرُ الذي يجب النهي عنه هو ما يشغل العبدَ عن اللّه . { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } تنبيهٌ عَلَى أنَّ منْ قام بحق امْتُحِنَ في اللّه؛ فسبيله أنْ يصبرَ للّه - فإنْ منْ صبرَ للّه لا يَخسر عَلَى اللّه . ١٨يعني لا تتكبرْ عَلَى الناسِ ، وطالِعْهم من حيث النسبة والتحقق بأنكَ بمشهدٍ منْ مولاك . ومَنْ عَلِمَ أنّ مولاه ينظر إليه لا يتكبرُ ولا يتطاول بل يتخاضع ويتضاءل . ١٩كُنْ فانياً عن شواهدك ، مُصطَلَماً عن صَوْلَتِك ، مأخوذاً عن حَوْلِكَ وقوتِك ، مُنْتَشِقاً مما استولى عليك من كشوفات سِرِّك . وانظر مَنْ الذي يسمع صوتَكَ حتى تستفيق من خمار غفلتك؛ { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } : في الإشارة هو الذي يتكلم فى لسان المعرفة من غير إذنٍ من الحقِّ . وقالوا : إنه الصوفيُّ يتكلم قبل أوانه . ويقال إنما ينهق الحمارُ عند رؤية الشيطان فلذلك كان صوته أنكرَ الأصوات . ٢٠أثبت في كل شيءٍ منها نَفْعاً لكم ، فالسماء لتكونَ لكم سقفاً ، والأرض لتكون لكم فِراشاً ، والشمس لتكون لكم سراجاً ، والقمر لتعلموا به عدد السنين والحساب ، والنجوم لتهتدوا بها . { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } : الإسباغُ ما يُفْضُلُ عن قدرة الحاجة ولا تحتاج معه إلى الزيادة . قوله : { نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } : تكلموا فيه فأكثروا . فالظاهرةُ وجودُ النعمة ، والباطنةُ شهودُ المنعِم . والظاهرةُ الدنيويةُ ، والباطنةُ الدينية . والظاهرة حُسْنُ الخَلْق ، والباطنة حُسْنُ الخُلُق . الظاهرةُ نَفْس بلا زَلّة ، والباطنةُ قلبٌ بلا غفلة . الظاهرةُ العطاء ، والباطنة الرضاء . الظاهرة في الأموال ونمائها ، والباطنة في الأحوال وصفائها . الظاهرةُ النعمةُ ، والباطنةُ العصمةُ . الظاهرةُ توفيقُ الطاعات ، والباطنةُ قبولُها . الظاهرة تسوية الخَلْقِ ، والباطنة تصفية الخُلُق . الظاهرة صحبة الصالحين ، والباطن حِفْظُ حُرْمَتِهم . الظاهرةُ الزهدُ في الدنيا ، والباطنةُ الاكتفاء بالمولى من الدنيا والعقبى . الظهارة الزهد ، والباطنةُ الوَجْدُ . الظاهرة توفيق المجاهدة والباطنة تحقيقْ المشاهدة . الظاهرة وظائف النَّفْس ، والباطنة لطائف القلب . الظاهرةُ اشتغالُكَ بنَفْسِك عن الخَلْق ، والباطنةُ اشتغالُك بربِّك عن نَفْسِك . الظاهرة طَلَبَهُ ، الباطنةُ وجوده . الظاهرةُ أَنْ تَصِلٍ إليه ، الباطنة أن تبقى معه . ٢١لم يتخطوا منهم ولا من أمثالهم ، ولم يهتدوا إلى مُحَوِّل أحوالهم ، فأَمَّا منْ سَمَتْ نَفْسُه ، وخلص في اللّه قَصْدُه فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وسَلَكَ المحجَّةَ المُثْلَى : - ٢٢قوله جلّ ذكره : { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللّه عَاقِبَةُ الأُمُورِ } . وعلى العكس : - ٢٣{ وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } . إلينا إيابُهم ، ومِنَّا عذابُهم ، وعلينا حسابُهم . ولئن سألتَهم عن خالقهم لأَقِرُّوا ، ولكن إذا عادوا إلى غيِّهم نقضوا وأصروا . ٢٦للّه ما في السموات والأرضِ مِلْكاً ، ويُجْرِي فيهم حُكْمَه حَقَّا ، وإليه مَرْجِعُهم حتماً . ٢٧لو أنَّ ما في الأرض من الأشجار أقلامٌ والبحارُ كانت مداداً ، وبمقدار ما يقابله تُنْفَقُ القراطيسُ ، ويتكلَّفُ الكُتَّابُ حتى تتكسر الأقلامُ ، وتفنى البحارُ ، وتستوفي القراطيسُ ، وتفنى أعمارُ الكُتَّاب . . مانَفِدَت معاني ما لنا مَعَكَ من الكلام ، والذي نُسْمِعُك فيما نخاطبك به لأنك معنا أبَدَ الأبد ، والأبديُّ من الوصف لا يتناهى . ويقال إن كان لك معكم كلامٌ كثير فما عندكم ينفذ وما عند اللّه باقٍ : صحائفُ عندي للعتابِ طَوَيْتُها ... ستُنْشَرُ يوماً والعتابُ يطول ٢٨إيجادُ القليل أو الكثير عليه وعنده سيَّان؛ فلا من الكثير مشقة وعُسْر ، ولا من القليل راحةٌ ويُسْر ، إنما أَمْرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له : { كُن فَيَكُونُ }[ يس : ٨٢ ] يقوله بكلمته ولكنه يكوّنه بقدرته ، لا بمزاولة جهد ، ولا باستفراغ وُسْعٍ ، ولا بدعاءِ خاطرٍ ، ولا بطُرُوءِ غَرَضٍ . ٣٠{ اللّه هُوَ الْحَقُّ } : الكائنُ الموجودُ ، مُحِقُّ الحقِّ ، و { مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ } : من العَدَمِ ظَهَرَ ومعه جوازُ العَدَم . ٣١في الظاهر سلامتُهم في السفينة ، وفي الباطن سلامتُهم من حدثان الكون ، ونجاتهم فى سفائن العصمة في بحار القدرة . { إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَاتِ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } وَقُوفٍ لا ينهزم من البلايا ، شَكُورٍ على ما يصيبه من تصاريف التقدير من جنسي البلايا والعطايا . ٣٢إذا تلاطمت عليهم أمواجُ بحار التقدير تمنوا أن تلفظَهم تلك البحارُ إلى سواحل السلامة ، فإذا جاد الحقُّ بتحقيق مُناهم عادوا إلى رأس خطاياهم : وكم قد جهلتم ثم عُدْنَا بِحِلْمنا ... أحباءَنا : كم تجهلون ونَحْلُمُ! ٣٣يخوِّفهم مرةً بأفعاله فيقول : { وَاتَّقُواْ يَوْماً }[ البقرة : ٤٨ ] ، ومرةً بصفاته فيقول : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللّه يَرَى }[ العلق : ١٤ ] ومرةً بذاته فيقول : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ }[ آل عمران : ٢٨ ] . ٣٤قوله جلّ ذكره : { إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ } . يتفرّد بِعلم القيامة ، ويعلم ما في الأرحام ذكورَهَا وإناثها ، شقيها وسعيدها ، حسنها وقبيحها ويعلم متى يُنزِّل الغيث ، وكم قطرة يُنزله ، وبأي بقعة يُمطرها . { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسُ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ خَبيرُ } . ما تدري نفسُ ماذا تكسب غداً من خير وشر ، ووفاق وشقاق ، وما تدري نفس بأي أرض تموت؛ أتدرك مرادَها أم يفوت؟ |
﴿ ٠ ﴾