سورة السجدة١الإشارة من الألف إلى أنه أَلِفَ المحبون قربتي فلا يصبرون عني ، وأَلِفَ العارفون تمجيدي فلا يستأنسون بغيري . والإشار في اللام إلى لقائي المدَّخرِ لأحبَّائي ، فلا أبالي أقاموا على ولائي أم قصَّروا في وفائي . والإشارة في الميم : أي تَرَكَ أوليائي مرادَهم لمرادي . . فلذلك آثرتُهم على جميع عبادي . ٢{ تَنزٍيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }[ السجدة : ٢ ] : إذا تَعَذَّرَ لقاءُ الأحباب فأَعَزُّ شيءٍ على الأحباب كتابُ؛ أَنْزَلْتُ على أحبابي كتابي ، وحمَلَتْ إليهم الرسالةُ خطابي ، ولا عليهم إِنْ قَرَعَ أسماعَهم عتابي ، فَهُمْ في أمانٍ من عذابي . ٣الذي لكم منا حقيقة ، وإنْ التبس على الأعداء فليس يضيركم ، ولا عليكم ، فإنَّ صحبةَ الحبيب مع الحبيب أَلَذُّها ما كان مقروناً بفقد الرقيب . ٤وتلك الأيام خَلَقَها مِنْ خَلْقٍ غير الأيام ، فليس من شرط المخلوق ولا من ضرورته أن يخلقه في وقتٍ؛ إذ الوقتُ مخلوقٌ في غير الوقت وكما يستغنى في كونه مخلوقاً عن الوقت استغنى الوقتُ عن الوقت . { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } : ليس للعرش من هذا الحديث إلا هذا الخبر ، { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ولكن القديم ليس له حدٌّ ، استوى على العرش لكن لا يجوز عليه القرب بالذات ولا البُعْد ، استوىعلى العرش ولكنه أشدُّ الأشياء تَعَطُّشاً إلى شظية من الوصال لو كان للعرش حياة؟ ، ولكنَّ العرشَ جمادٌ . . وأَنَّى يكون للجماد مراد؟! استوىعلى العرش لكنه صَمَدٌ بلا نِدٍّ ، أَحَدٌ بلا حَدٍّ . { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } : إذا لم يُردْ بكم خيراً فلا سماءَ عنه تُظِلُّكم ، ولا أرضَ بغير رضاه تُقِلُّكم ، ولا بالجواهرأحدٌ يناصركم ، ولا أحدَ -إذا لم يُعْنَ بشأنكم في الدنيا والاخرة- ينظر إليكم . ٥خَاطَبَ الخَلْقَ -على مقدار أفهامهم ويجوز لهم- عن الحقائق التي اعتادوا في تخاطبهم . ٦{ الْعَزِيزُ } مع المطيعين { الرَّحيمُ } على العاصين . { الْعَزِيزُ } للمطيعين ليكْسِرَ صولتَهم { الرَّحِيمُ } للعاصين ليرفعَ زَلَّتَهم . ٧-٨أَحْسَنَ صورةَ كلَّ أحدٍ؛ فالعرشُ ياقوتةٌ حمراءُ ، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثُلاثَ ورُبَاع ، وجبريلُ طاووس الملائكة ، والحور العين-كما في الخبر- ( في جمالها وأشكالها ، والجِنانُ ) -كما في الأخبار ونص القرآن . فإذا انتهى إلى الإنسان قال : و { خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ }[ السجدة : ٧ ، ٨ ] . . . كل هذا ولكن : وكم أبصرتُ من حُسْنٍ ولكن ... عليك من الورى وقع اختياري خَلَقَ الإنسانَ من طين ولكن { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }[ البقرة : ١٥٢ ] ، وخلق الإنسان من طين ولكن : { فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ }[ البينة : ٨ ] ، وخلق الإنسان من طين ولكن { رَّضِىَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }[ المائدة : ١١٩ ] ! ١٠لو كانت لهم ذَرَّةٌ من العرفان ، وشَمَّة من الاشتياق ، ونَسْمَةٌ من المحبة لَما تَعَصَّبُوا كُلَّ هذا التعصب في إنكار جوازِ الرجوعِ إلى اللّه ولكن قال : { بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرونَ } . ١١لولا غفلةُ قلوبهم وإلا لَما أحال قَبْضَ أرواحهم على مَلَكِ الموت؛ فإنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثرَ منه في أحدٍ ، ولا له تصرفات في نَفَسِه ، وما يحصل من التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق . ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ فخاطبَهم على مقدار فهمهم ، وعَلَّقَ بالأغيار قلوبَهم ، وكلٌّ يُخاطَبُ بما يَحْتَمِلُ على قَدْرِ قُوَّتِه وضعفه . ١٢مَلَكَتْهُم الدهشةُ وغَلَبتهم الخَجْلَةُ ، فاعتذروا حينَ لا عذْرَ ، واعترفوا ولا حينَ اعتراف . ١٣لو شئنا لَسَهَّلنا سبيلَ الاستدلال ، وأدَمْنا التوفيقَ لكلِّ أحدٍ ، ولكن تَعَلَّقَتْ المشيئةُ بإغواءِ قومٍ ، كما تعلَّقت بإدناءِ قوم ، وأردنا أن يكونَ للنار قُطَّان ، كما أردنا أن يكون للجَنَّةِ سُكان ، ولأَنَّا عَلِمْنا يومَ خَلَقْنا الجنَّةَ أنه يسكنها قوم ، ويوم خلقنا النارَ أنه ينزلها قومٌ ، فَمِنَ المُحَالِ أن نُرِيدَ ألأ يقعَ معلومُنا ، ولو لم يحصل لم يكن عِلْماً ، ولو لم يكن ذلك عِلْماً لم يكن إلهاً . . ومن المحال أن نريد ألا نكونَ إلهاً . ويقال : مَنْ يتسلَّطْ عليه من يحبه لم يجْرِ في مُلْكِه ما يكرهه . ويقال : يا مسكين أفنيتَ عُمْرَكَ في الكَدِّ والعناء ، وأمضيتَ أيامَك في الجهد والرجاء ، غيَّرت صفتك ، وأكثرتَ مجاهدتك . . فما تفعل في قضائي كيف تُبَدلِّه؟ وما تصنع في مشيئتي بأيِّ وسعٍ ترُدُّها؟ وفي معناه أنشدوا : شكا إليك ما وَجَدَ ... من خَانَهُ فيك الجَلَدْ حيرانُ لو شئتَ اهتدى ... ظمآنُ لو شئتَ وَرَدْ ١٤قاسِ من الهوانِ ما استوجبتَه بعصيانك ، واخْلُدْ في دار الخِزْي لما أسلفتَه من كفرانك . ١٥التصديقُ والتكذيبُ ضدان - والضدان لا يجتمعان؛ التكذيب هو جحودٌ واستكبار ، والتصديقُ هو سجودٌ وتحقيق ، فَمَنْ اتَّصَفَ بأحد ، القسمين امَّحى عنه الثاني . { خَرُّواْ سُجَّداً } : سجدوا بظواهرهم في المحراب ، وفي سرائرهم على ترابِ الخضوع وبِساطِ الخشوع بنعت الذبول وحُكْمِ الخمود . ويقال : كيف يستكبر مَنْ لا يَجِدُ كمالَ راحتِه ولا حقيقةَ أُنْسِه إلأ في تَذَللّه بين يدي معبوده ، ولا يؤثِرُ آجلَ جحيمه على نعيمه ، ولا شقاءَه على شفائة؟! ١٦فى الظاهر : عن الفِراش قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتهجد . وفي الباطن : تتباعد قلوبُهم عن مضاجعات الأحوال ، ورُؤية قَدّرِ النفس ، وتوَّهُمِ المقَام - فإن ذلك بجملته حجابٌ عن الحقيقة ، وهو للعبد سُمِّ قاتل - فلا يساكَنون أعمالَهم ولا يلاحظون أحوالَهم . ويفارقون مآلِفَهم ، ويَهجرون في اللّه معَارفَهم . والليل زمان الأحباب ، قال تعالى : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[ يونس : ٦٧ ] : يعني عن كلّ شُغل وحديثِ سوء حديث محبوبكم . والنهارُ زمانُ أهل الدنيا ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً }[ النبأ : ١١ ] ، أولئك قال لهم : { فإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِى الأَرْضِ }[ الجمعة : ١٠ ] . إذا ناجيتمونا في ركعتين في الجمعة فعودوا إلى متجركم ، واشتغلوا بحرفتكم . وأما الأحبابُ فالليلُ لهم إِمَّا في طرَب التلاقي وإما في حَرَب الفراقِ ، فإن كانوا في أُنْسِ القرابة فَلَيْلَهُم أقصرُ من لحظة ، كما قالوا : زارني مَنْ هَوَيْتُ بعد بعادٍ ... بوصال مُجَدَّدٍ وودادِ ليلة كاد يلتقي طرفاها ... قِصَراً وهي ليلة الميعادِ وكما قالوا : وليلةٍ زَيْنُ ليالي الدهر ... قابلتُ فيها بدرها ببدر لم تَسْتَبِن عنْ شققٍ وفجرِ ... حتى تولَّت وهي بِكْرُ الدهر وأمَّا إن كان الوقتُ وقتَ مقاساةِ فُرقة وانفرادٍ بكُرْبة فَلَيْلُهم طويل ، كما قالوا : كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها ... أفْنَيْتُها قابضاً على كبدي قد غُصَّت العينُ بالدموع وقد ... وضعتُ خدي على بنان يدي قوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً }[ السجدة : ١٦ ] : قومٌ خوفاً من العذاب وطمعاً في الثواب ، وآخرون خوفاً من الفراقِ وطمعاً في التلاقي ، وآخرون خوفاً من المكر وطمعاً في الوَصْلِ . { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } : يأتون بالشاهد الذي خصصناهم به؛ فإنْ طَهَّرْنا أحوالَهم عن الكدورات حضروا بأحوالٍ مُقَدَّسة ، وإِنْ دَنَّسَّا أوقاتهم بالآفاتِ شهدوا بحالاتٍ مُدّنَّسَة ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ؛ فالعبدُ إنما يتجر في البضاعة التي يودعها لديه سَيِّدُه : يفديكَ بالروح صَبٌّ لو يكون له ... أعزّ من روحه شيء فداك به ١٧إنما تَقَرُّ عينُكَ برؤية مَنْ تحبه ، أو ما تحبه؛ فطالبْ قلبكَ وراع حالك ، فيحصل اليومَ سرورُك ، وكذلك غداً . . وعلى ذلك تحشر؛ ففي الخبر : ( مَنْ كان بحالة لقي اللّه بها ) . ثم إنّ وصفَ ما قال اللّه سبحانه إنه لا يعلمه أحدٌ - مُحَالٌ ، اللّهم أن يُقال : إنها حال عزيزة ، وصفةٌ جَليلة . ١٨أفمن كان في حال الوصال يَجِرّ أذيالَه كنتْ هو في مَذلةِ الفراق يقاسي وبالَهَ؟ أفمن كان في رَوْحِ القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هوْل العقوبة يعاني مشقة الكلفة؟ أفمن هو في رَوْح إقبالنا عليه كمن هو محنة إعراضنا عنه؟ أفمن بقي معنا كمنْ بقي عَنَّا؟ أفمنْ هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان؟ أَفمن أُيِّدَ بنور البرهان وطلعت عليه شموسُ العرفان كمن ربطَ بالخذلان ووُسم بالحرمان؟ لا يستويان ولا يلتقيان! ١٩{ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } : صَدَّقوا ، و { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } : يما حَققوا -فلهم حُسْنُ الحال ، وحيمدُ المآلُ وجزيلُ المنال ، وأَما الذين كدّوا وجحدوا ، وفي معاملاتهم أساءوا وأفسدوا ، فقصاراهم الخزيُ والهوان ، وفنونٌ من المحن وألوان . . كلما راموا من محنتهم خلاصاً ازدادوا فيها انتكاساً ، ولكما أَمَّلوا نجاةً جُرّعوا وزيدوا ياساً . ٢١قومٌ عذابهم الأدنى مِحَنُ الدينا ، والعذابُ الأكبر لهم عقوبة العنبي . وقوْمٌ العذاب الأدنى لهم فترةٌ تتداخلهم في عبادتهم ، والعذاب الأكبر لهم قسوةٌ في قلوبهم تصيبهم . وقومٌ العذاب الأدنى لهم وقفة في سلوكهم تُنِيبهم ، والعذابُ الأكبرُ لهم حجةٌ عن مشاهدهم تنَالهم ، قال قائلهم : أَدّبتني بانصرافِ قلبك عنّي ... فانظرْ إليّ فقد أحسنت تأديبي ويقال العذاب الأدنى الخذلان في الزلة ، والأكبر الهجران في الوصلة . ويقال العذاب الأدنى تكدّر مشاربهم بعد صفوها ، كما قالوا : لقد كان ما بيني زماناً وبينه ... كما بين ريح المسك والعنبر الورد ويقال العذاب الأكبر لهم تطاولُ أيامِ الغياب من غير تبين آخِرٍ لها ، كما قيل : تطاول نأينا يا نور حتى ... كأن نسجتْ عليه العنكبوتُ ٢٢إذا نُبِّهَ العبدُ بأنواع الزَّجر ، وحُرِّكَ -لتَرْكِهِ حدودَ الرقاق- بصنوفٍ من التأديب ثم لم يرتدع عن فعله ، واغترّ بطول سلامته ، وأمِنَ من هواجم مَكره ، وخفايا سِرِّه . . أَخَذَه بغتةً بحيث لا يجد خرجةً مَنْ أخذته ، قال تعالى : { لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ }[ المؤمنون : ٦٥ ] . ٢٣فلا تكن في مرية من لقائه غداً لنا ورؤيته لنا . { وَجَعَلْنَاهُ هُدًًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ } : وهذا محمد صلى اللّه عليه وسلم جُعِلَ رحمةً للعالمين . ٢٤لمّا صبروا على طلبنا سَعِدوا بوجودنا ، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى مُتبعيهم وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِهم؛ فهم للخلْق هُداةٌ ، وفي الدين عيون ، وللمسترشدين نجوم . ٢٥يحكم بينهم ، وعند ذلك يتبين المردودُ من المقبول ، والمهجور من الموصول ، والرضيّ من الغوّي ، والعدو من الوليّ . . فكم من بهجةٍ دامت هنالك! وكم من مهجةِ ذابت عند ذلك! ٢٦أو لم يعتبروا بمنازلِ أقوام كانوا في حَبرَةٍ ، كانوا في سرورٍ فآلوا إلى ثبور؛ فجميع ديارهم ومزارِهم صارت لأغيارهم ، وصنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم ، سكنوا في ظلالهم ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم ، وكما قيل : نعمةٌ كانت على قو ... مٍ زماناً ثم بانت هكذا النعمةُ والإح ... سانُ مذ كان وكانت ٢٧الإشارة فيه : تُسْقى حدائقُ وَصْلِهم بعد جفاف عودِها ، وزوال المأنوسِ من معهودِ ، فيعود عودها مورِقاً بعد ذبوله ، حاكياً بحاله حال حصوله . ٢٨-٢٩استبعدوا يومَ التلاقي وجحدوه ، فأخبرهم أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه . ٣٠أعْرِض عنهم باشتغالك بنا ، وإقبالك علينا ، وانقطاعك إلينا . { وَانتَظِرْ } زوائدَ وَصْلِنا ، وعوائدَ لطفنا . { إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا . . وعن قريب يجد كلُّ منتظرَه محتضراً . |
﴿ ٠ ﴾