سورة الأحزاب١يا أيها المُشَرَّفُ حالاً ، المُفَخَّمُ قَدْراً مِنَّا ، المُعَلَّى رُتْبَةً من قِبَلِنا . . يا أيها المُرَقَّى إلى أعلى الرُّتَبِ بأسنى القُرَبِ . . يا أيها المُخَبِّرُ عنا ، المأمونُ على أسرارنا ، المُبَلِّغُ خطابَنا إلى أحبابنا . . اتقِ اللّه أن تلاحِظَ غَيراً معنا ، أو تساكِنَ شيئاً من دوننا ، أو تُثْبِتَ أحداً سوانا ، أو تَتَوَهَّمَ شظيةً مِنَ الحدثان من سوانا . { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِريِنَ }[ الأحزاب : ١ ] إشفاقاً منك عليهم ، وطمعاً في إيمانهم بنا لو وافَقَتْهم في شيء أرادوه منك . والتقوى رقيبٌ على قلوب أوليائه يمنعهم في أنفاسهم ، وسَكَناتِهم ، وحَرَكاتهم أن ينظروا إلى غيره -أو يُثْبِتوا معه غيره- إلا منصوباً لقدرته ، مصرَّفاً بمشيئته ، نافذاً فيه حُكْمُ قضيته . التقوى لجامٌ يكبحك عمَّا لا يجوز ، زمامٌ يقودك إلى ما تحب ، سوطٌ يسوقك إلى ما أُمِرْتَ به ، شاخصٌ يحملك على القيام بحقِّ اللّه حِرْزٌ يعصمك مَنْ توَصل أعدائك إليك ، عُوذَةٌ تشفيك من داء الخطأ . التقوى وسيلةٌ إلى ساحات كَرمه ، ذريعةٌ تتوسل بها إلى عقوبة جوده . ٢اتبعْ ولا تبتدع ، واقتدِ بما نأمرك به ، ولا تهتدِ باختيارك غير ما نختار لك ، ولا تُعرِّج أوطان الكسل ، ولا تجنح إلى ناحية التواني ، وكن لنا لا لكَ ، وقم بنا لا بِكَ . ٣انسلخْ عن إيابك ، واصدق في إيابك إلينا ، وتشاغل عن حسبانك معنا ، واحذر ذهابك عنا ، ولا تُقَصِّرْ في خطابك معنا . ويقال التوكل تحقُّقٌ ثم تَخَلُّقٌ ثم توثق ثم تملق؛ تحققٌ في العقيدة ، وتخلقٌ بإقامة الشريعة ، وتوثق بالمقسوم من القضية ، وتملّقٌ بين يديه بحُسْنِ العبودية . ويقال التوكلُ تحقّقٌ وتعلقٌ وتخلقٌ ، تحقّقٌ باللّه وتعلّقٌ باللّه ثم تخلقٌ بأوامر اللّه . ويقال التوكل استواءُ القلب في العدم والوجود . ٤قوله جلّ ذكره : { مَّا جَعَلَ اللّه لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ } . القلبُ إذا اشتغل بشيء شُغِلَ عما سواه ، فالمشتغلُ بما مِنَ العَدَم منفصلٌ عمن له القِدَمُ ، والمتصل بقلبه بمن نعته القِدَم مشتغلٌ عمَّا من العدَم . . والَليل والنهار لا يجتمعان ، والغيبُ والغيرُ لا يلتقيان . { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُم ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } . اللائي تظاهرتم منهن لَسْنَ أمهاتكم ، والذين تبنيتم ليسوا بأبنائكم ، وإن الذي صرتم إليه من افترائكم ، وما نسبتم إلينا من آرائكم فذلك مردودٌ عليكم ، غيرُ مقبولٍ منكم ، وإن أمسكتم عنه بعد البيان نجوتم ، وإن تمادَيتم بعد ما أعْلِمْتم . أطلت المحنةُ عليكم . ٥راعُوا أنسابهم ، فإن أردتم غير النسبة فالأخوّةُ في الدِّين تجمعكم ، وقرابةُ الدِّين والشكلية أولى من قرابة النَّسَبِ ، كما قالوا : وقالوا قريبٌ من أبٍ وعمومةٍ ... فقلتُ : وإخوانُ الصفاء الأقاربُ نُناسبهم شكلاً وعِلماً وأُلفةً ... وإن باعدتهم في الأصول المناسبُ ٦الإشارة من هذا : تقديم سُنته على هواك ، والوقوفُ عند إشارته دون ما يتعلقُ به مُناك ، وإيثار من تتوسل سبباً ونسباً على أعِزَّتِكَ ومَن والاكَ . { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } : ليكن الأجانبُ منك على جانب ، ولتكن صلتك بالأقارب ، وصلةُ الرحِم ليست بمقاربة الديار وتعاقب المزار ، ولكن بموافقة القلوب ، والمساعدة في حالتي المكروه والمحبوب : أرواحنا في مكانٍ واحدٍ وغدت ... أشباحُنا بشآمٍ أو خراسان ٧أخذَ ميثاق النبيين وقتَ استخراج الذرية من صُلب آدم - فهو الميثاق الأول ، وكذلك ميثاق الكلِّ . ثم عند بَعْثِ كلِّ رسول ونُبُوَّةِ كلِّ نبيِّ أخذ ميثاقة ، وذلك على لسانِ جبريل عليه السلام ، وقد استخلص اللّه سبحانه نبيَّنا عليه السلام ، فأسمعه كلامَه - بلا واسطة - ليلةَ المعراج . وكذلك موسى عليه السلام -أخذ الميثاق منه بلا واسطة ولكن كان لنبينا - صلى اللّه عليه وسلم - زيادة حال؛ فقد كان له مع سماع الخطاب كشفُ الرؤية . ثم أخذ المواثيق من العُبَّاد بقلوبهم وأسرارهم بما يخصهم من خطابه ، فلكلِّ من الأنبياء والأَولياء والأكابر على ما يُؤهلهم له ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( لقد كان في الأمم مُحَدَّثون فإن يكن في أمتي فَعُمَر ) وغيرُ عمر مشارِكٌ لعمر في خواص كثيرة ، وذلك شيء يتمُّ بينهم وبين ربِّهم . ٨يسألهم سؤال تشريفٍ لا سؤال تعنيف ، وسؤال إيجابٍ لا سؤال عتاب . والصدقُ ألا يكون في أحوالِكَ شَوْبٌ ولا في اعتقادك رَيْبٌ ، ولا في أعمالك عَيْبٌ . ويقال من أمارات الصدق في المعاملة وجودُ الإخلاص من غير ملاحظة مخلوق . والصدقُ في الأحوال تصفيتُها من غير مداخلة إعجاب . والصدق في الأقوال سلامتها من المعاريض فيما بينك وبين نفسك ، وفيما بينك وبين الناس والتباعدُ عن التلبيس ، وفيما بينك وبين اللّه بإدامة التبرِّي من الحَوْلِ والقوة ، ومواصلة الاستعانة ، وحفظ العهود معه على الدوام . والصدق في التوكل عَدَمُ الانزعاج عند الفَقْدِ ، وزوال الاستبشار بالوجود . والصدق في الأمر بالمعروف التحرُّز من قليل المداهنة وكثيرها ، وألا تتركَ ذلك لِفَزَعٍ أو لِطَمَعٍ ، وأن تَشْرَبَ مما تَسْفِي ، وتتصف بما تأمر ، وتنهي ( نَفْسَك ) عما تَزْجُر . ويقال الصدق أن يهتدي إليكَ كلُّ أحد ، ويكون عليك فيما تقول وتظهر اعتماد . ويقال الصدق ألا تجنحَ إلى التأويلات . ٩ذكرُ نعمة اللّه مُقابَلَتُها بالشكر ، ولو تذكرتَ ما دَفَعَ عنك فيما سَلَفَ لهانت عليك مقاساةُ البلاءِ في الحال ، ولو تذكرتَ ما أولاكَ في الماضي لَقَرُبَتْ من قلبك الثقةُ في إيصال ما تؤمِّلُه في المستقبل . ومن جملة ما ذكَّرهم به : { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } كم بلاءٍ صَرَفَه عن العبدِ وهو لم يشعر! وكم شُغْلٍ كان يقصده فصَدَّه ولم يعلم! وكم أمرٍ عَوَّقَه والعبدُ يَضِجُّ وهو - ( سبحانه ) - يعلم - أَن في تيسيره له هلاكَ العبد فمَنَعَه منه رحمةً به ، والعبدُ يتَّهِمُ ويضيق صَدْرُه بذلك! ١٠أحاط بهم سُرَادقُ البلاء ، وأَحدقَ بهم عَسْكرُ العدوِّ ، واستسلموا للاجتياح ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ ، وتَقَسَّمَتْ الظنونُ ، وداخَلَتْهُم كوامِنُ الارتياب ، وبدا في سويدائهم جَوَلانُ الشكِّ . ١١ثم أزال عنهم جملتها ، وقَشَعَ عنهم شِدَّتها ، فانجاب عنهم سحابُها ، وتفرَّقَتْ عن قلوبهم همومُها ، وتَفَجَّرَتْ ينابيعُ سكينتهم . ١٢صَرَّحوا بالتكذيب - لما انطوت عليه قلوبُهم - حين وجدوا للمقال مجالاً . ١٣تواصَوْا فيما بينهم بالفرار عندما سَوَّلَتْ لهم شياطينُهم من وشك ظَفَرِ الأعداء . قوله : { وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ } يتعلّلون بانكشافِ بيوتهم وضياع مُخَلَّفَاتِهم ، ويكذبون فيما أظهروه عُذْراً ، وهم لم يَحْمِلْهم على فعلهم غيرُ جُبْنِهِم وقلَةُ يقينهم . ١٥ولكن لما عزم الأمر ، وظهر الجدّ لم يساعدهم الصدقُ ، ولم يذكروا أنهم سَيُسألون عن عهدهم ، ويُعاقوبون على ما أسلفوه من ذنبهم . ١٦لأَن الآجالَ لا تأخيرَ لها ولا تقديم عليها ، وكما قالوا : ( إنّ الهاربَ عمّا هو كائن في كفِّ الطالب يتقلبُ ) . { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاًَّ قَلِيلاً } : فإنّ ما يدّخرُه العبدُ عن اللّه من مالٍ أو جاهٍ أو نَفيسٍ أو قريب لا يُبارَك له فيه ، ولا يجدُ به مَنَعَةً ، ولا يُرزقُ منة غبطة . ١٧من الذي يحققُ لكم من دونه مَرْجُوًّا؟ ومن الذي يصرف عنكم دونه عَدُوًّا؟ ١٨هم الذين كانوا يمتنعون بأنفسهم عن نصرة النبي عليه السلام ، ويمنعون غيرهم ليكون جمعُهم أكثرَ وكيدُهم أخفى ، وهم لا يعلمون أنّ اللّه يُطْلِعُ رسولَه عليه السلام عليهم ثم ذَكَرَ وَصْفَهم . ١٩قوله جلّ ذكره : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمُ فَإِذَا جَآءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تّدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } . إذا جاء الخوفُ طاشت من الرعبِ عقولهم ، وطاحت بصائرهم ، وتعطلت عن النصرة جميعُ أعضائهم ، وإذا ذهبَ الخوْفُ زَيَّنوا كلامَهم ، وقدّموا خداعهم ، واحتالوا في أحقاد خِستهم . . أولئك هذه صفاتهم؛ لم يباشر الإيمانُ قلوبهم ، ولا صدقوا فيما أظهروا من ادعائهم واستسلامهم . ٢٠يحسبون الأحزابَ لم يذهبوا ، ويخافون من عَوْدهم ، ويفزعون من ظلِّ أنفسهم إذا وقعوا على آثارهم ، ولو اتفق هجومُ الأعداءُ عليكم ما كانوا إلا في حرز سيوفهم ودرية رماحهم . ٢١( كان ) صلة ومعناها : لكم في رسول اللّه أسوة حسنة ، به قدوتكم ، ويجب عليكم متابعته فيما يرسمه لكم . وأَقول الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأفعاله على الوجوب إلى أن يقوم دليل التخصيص ، فأما أَحواله فلا سبيلَ لأحدٍ إلى الإشراف عليها ، فإن ظَهَرَ شيء من ذلك بإخباره أَو بدلالة أقواله وأفعاله عليه فإن كان ذلك مُكْتَسَباً مِن قِبَلِه فيُلحق في الظاهر بالوجوب بأفعاله وأقواله ، وإن كان غير مكتسبٍ له فهي خصوصيةٌ له لا ينبغي لأحد أَن يتعرّض لمقابلته لاختصاصه - صلى اللّه عليه وسلم - بعلوِّ رتبته . ٢٢كما أنّ المنافقين اضطربت عقائدُهم عند رؤية الأعداء ، فالمؤمنون وأهلُ اليقين ازدادوا ثِقةً ، وعلى الأعداء جرأةً ، ولحكم اللّه استسلاماً ، ومن اللّه قوةً . ٢٣شَكَرَ صنيعَهم في المراس ، ومدح يقينهم عند شهود الباس ، وسماهم رجالاً إثباتاً لخصوصية رتبتهم وتمييزاً لهم من بين أَشكالهم بعلوِّ الحالة والمنزلة ، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صدْقه ومنهم مَنْ ينتظر حكم اللّهفي الحياة والممات ، ولم يزيغوا عن عهدهم ، ولم يراوغوا في مراعاة حدِّهم؛ فحقيقةُ الصدق حِفْظُ العهد وتَرْكُ مجاوزة الحدِّ . ويقال : الصدقُ استواءُ الجهر والسِّرِّ . ويقال : هو الثباتُ عندما يكون الأَمرُ جِدًّا . ٢٤في الدنيا يجزي الصادِقين بالتمكين والنصرة على العدو وإعلاء الراية ، وفي الآخرة بجميل الثواب وجزيلِ المآب والخلودِ في النعيم المقيم والتقديمِ على الأمثال بالتكريم والتعظيم . { وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } على الوجه الذي سَبق به العلم ، وتَعَلَّقت به المشيئة . ويقال : إذا لم يجزم بعقوبة المنافق وعَلَّقَ القولَ فيه بالرجاء فبالحريّ ألا يُخَيِّبَ المؤمنَ في رجائه . ٢٥لم يُشمت بالمسلمين عَدُوًّا ، ولم يُوصِّلْ إليهم مَنْ كيدهم سواءاً ، ووضع كيدهم في نحورهم ، واجتثَّهم من أصولهم ، وبيِّن بذلك جواهر صِدْقهم وغير صدقهم ، وشكَر مَنْ استوجب شكره مِنْ جملتهم ، وفضحَ مَنْ استحقّ الذمّ من المدلسِّين منهم . ٢٦إنّ الحقَّ - سبحانه - إذا أجمل أكمل ، وإذا شفى كفى ، وإذا وفى أوفى . فأظفر المسلمين عليهم ، وأورثهم معاقلَهم ، وأذلّ مُتعزِّزَهم ، وكفاهم بكلِّ وجهٍ أمرهم ، ومكَّنهم من قَتْلِهم وأسرِهم ونهْبِ أَموالهم ، وسَبى ذراريهم . ٢٨-٢٩لم يُرِدْ أن يكونَ قلبُ أحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل ، أو يعود إلى أحد منه أذى أو تعب ، فخَيَّرَ - صلى اللّه عليه وسلم - نساءَه ، ووفقَ اللّه سبحانه عائشةَ أمّ المؤمنين - رضي اللّه عنها- حتى أخبرت عن صِدْقِ قلبها ، وكمالِ دينها ويقينها ، وبما هو المنتظر . من أصلها وتربيتها ، والباقي جرين على منهاجها ، ونَسَجْنَ على مِنوالهَا . ٣٠زيادةُ العقوبةعلى الجُرْم من أمارات الفضيلة ، ولذا فضل حدُّ الأحرار على العبيد وتقليل ذلك من أمارات النقص؛ فلما كانت منزلتُهن في الشرف تزيدعلى منزلة جميع النساء ضاعَفَ عقوبتهن على أجرامهن ، وضاعف ثوابهن على طاعتهن . وقال . ٣٢نهاهن عن التبذُّل ، وأمَرَهُنَّ بمراعاةِ حُرْمَةِ الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والتصاون عن تَطَمُّعِ المنافقين في مُلاينتهن . ٣٣( الرجس ) : الأفعالُ الخبيثةُ والأخلاقُ الدنيئة؛ فالأفعال الخبيثة الفواحش ما ظهرَ منها وما بطن ، وما قلّ وما جلّ . والأخلاقُ الدنيئةُ الأهواءُ والبِدَعُ كالبخل والشحِّ وقَطْعِ الرَّحِم ، ويريد بهم الأخلاقَ الكريمةَ كالجُودِ والإيثار والسخاء وصِلَةِ الرَّحِمِ ، ويديم لهم التوفيق والعصمة والتسدسد ، ويُطهرهم من الذنوب والعيوب . ٣٤أذْكُرْنَ عظيمَ النعمة وجليل الحالةٍ التي تجري في بيوتكن؛ من نزول الوحي ومجيء الملائكة ، وحُرْمَةِ الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - والنور الذي يقتبس في الآفاق ، ونور الشمس الذي يَنبسط على العالم ، فاعرفن هذه النعمة ، وَارعين هذه الحُرمة . ٣٥قوله جلّ ذكره : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } . الإسلام هو الاستسلام ، والإخلاص ، والمبالغة في المجاهدة والمكابدة . { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ } . الإيمان هو التصديق وهو مجمع الطاعات ، ويقال هو التصديق والتحقيق ، ويقال هو انتسامُ الحقيقةٍ في القلب . ويقال هو حياة القلب أولاً بالعقل ، ولقومٍ بالعلم ، ولآخرين ، بالفهم عن اللّه ، ولآخرين بالتوحيد ، ولآخرين بالمعرفة ، ولآخرين إيمانُهم حَياةُ قلوبهم باللّه . { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } . القنوتُ طولُ العبادة . { وَالصَادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ } . في عهودهم وعقودهم ورعاية حدودهم . { وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } . على الخصال الحميدة ، وعن الصفات الذميمة ، وعند جريان مفاجآت القضية . { وَالخَاشِعِينَ وَالْخَاشعَاتِ } . الخشوعُ إطراقُ السريرة عند بوادِه الحقيقة . { وَالْمُتَصَدِّقينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } . بأموالهم وأنفسهم حتى لا يكون لهم مع أحدٍ خصومة فيما نالوا منهم ، أو قالوا فيهم . { وَالصَّآئِمِينَ وَالصَّآئِماتِ } . الممسكين عمَّا لا يجوز في الشريعة والطريقة . { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } . في الظاهر عن الحرام ، وفي الإشارة عن جميع الآثام . { وَالذَّاكِرِينَ اللّه كّثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } . بألسنتهم وقلوبهم وفي عموم أحوالهم لا يَفْتُرُون ، ولا يَتَدَاخَلُهم نسيان . { أَعَدَّ اللّه لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } . فهؤلاء لهم جميلُ الحُسْنَى ، وجزيلُ العُقْبَى . ٣٦الا فتياتُ عليه في أمره والاعتراضُ عليه في حُكْمِه وتَرْكُ الانقيادِ لإشارته . قَرْعٌ لبابِ الشِّرْكِ ، فَمَنْ لم يُمْسِكْ عنه سريعاً وَقَعَ في وهدته . ٣٧-٣٨قوله جل ذكره : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَليْكَ زَوْجَكَ وَاتِقَّ اللّه وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجٍ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولاً } . أنعم اللّه عليه بأن ذَكَرَه وأفرده من بين الصحابة باسمه . ويقال : أنعم اللّه عليه بإقبالِكَ عليه وتَبَنِّيكَ له . ويقال : بأن أَعْتَقْتَه ، ويقال : بالإيمان والمعرفة . وأنْعَمْتَ عليه بالعتق وبأن تَبَنَّيْتَه . { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } إقامةُ للشريعة مع عِلْمِكَ بأن الامر في العاقبة إلى ماذا يؤول ، فإنَّ اللّه أطْلَعَكَ عليه ، وقلت له : ( اتق ) . قوله : { وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ } : أي لم تُظهِرْ لهم أنَّ اللّه عَرَّفَكَ ما يكون من الأمر في المستأنف . { وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ } مِنْ مَيْلِكَ ومحبتك لها لا على وجهٍ لا يَحِلُّ . { وَتَخْشَى النَّاسَ } أي وتخشى عليهم أن يقعوا في الفتنة من قصة زيد ، وكانت تلك الخشية إشفاقاً منكَ عليهم ، ورحمةً بهم . ويقال : وتستحي من الناسِ - واللّه أحقُ أن تَسْتَحِيَ منه . ويقالك تخشىلناسَ ألا يطيقوا سماعَ هذه الحالة ولا يَقْوَوا على تَحَمُّلِها . فربما يخطر ببالهم ما يَنْفى عنهم وُسْعَهم . { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } لكي لا يكون عليك حَرَجٌ ، ولكي لا يكونَ على المؤمنين حرج في الزواج بزوجات أدعيائهم ، فإنما ذلك يُحرِّمُ في الابن إذا كان من الصُّلْبِ . قوله جلّ ذكره : { وَكَانَ أَمْرُ اللّه قَدَراً مَّقْدُوراً } . لا يُعَارَضُ ولا يُنَاقَضُ ، ولا يُرَدُّ ولا يُجْحَد . وما كان على النبيِّ من حَرَجٍ بوجهٍ لكونه معصوماً . ٣٩( ويخشونه ) : علماً منهم بأنه لا يُصِيبُ أحداً ضررٌ ولا محذورٌ ولا مكروهٌ إلا بتقديره فيفردونه بالخشية إذ عَلِموا أنه لا شيءَ لأحدٍ مِنْ دونه . ٤٠لم يكن مضافاً إِلى ولدٍ فله عليكم شفقة الآباء . . ولكن ليس بأبيكم . ويقال نَسَبُه ظاهرٌ . ولكن إنما يُعْْرَفُ بي لا بنَسَبِه؛ فقلَّما يقال : محمدُ بن عبد اللّه ، ولكن إلى أبد الأبد يقال : محمد رسول اللّه . وشعارُ الإيمانِ وكلمةُ التوحيدِ -بعد لا إله إلا اللّه - محمدٌ رسولُ اللّه . ٤١الإشارة فيه أَحِبُّوا اللّه؛ لأنَّ النبي - صلى اللّه عليه وسلم قال : ( مَنْ أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره ) فيجب أن تقول اللّه ، ثم لا تنسَ اللّه بعد ذكرك اللّه . ويقال : اذكروا اللّه بقلوبكم؛ فإِنَّ الذكرَ الذي تمكن استدامته ذكرُ القلب؛ فأمَّا ذِكْرُ اللسانِ فإدامته مُسْرَمَداً كالمتعذر . ٤٢{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } : التسبيحُ من قبيل الذكر ، ولكنه ذََكَره بلفظين لئلا تعتريك سآمة . ٤٣الصلاة في الأصلِ الدعاءُ؛ فصلاتُه - سبحانه - دعاؤه لنا بالتقريب ، وصلاةُ الملائكة دعاؤهم إليه لنا : بالغفرانِ للعاصي ، وبالإحسانِ للمطيع . ويقال الصلاةُ من اللّه بمعنى الرحمة ، ومن الملائكة بمعنى الشفاعة . { لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } : ما ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . ويقال ليخرجكم من الظلمات إلى النور أي يعصمكم من الضلال بَرْوح الوصال . ويقال ليخرجكم من ظلمات التدبير إلى فضاء شهود التقدير . ويقال ليخرجكم من ظلمات نفوسكم إلى أنوار البصائر في قلوبكم . ويقال ليخرجكم من أسباب التفرقة إلى شهود عين التوفيق ، والتحقق بأوصاف الجمع . ويقال يصونكم من الشِّرْكِ ، ويُثبِتُكم بشواهد الإيمان . ٤٤التحيةُ إذا قُرِنَتْ بالرؤية ، واللقاءُ إذا قُرِنَ بالتحية فلا يكون ذلك إلا بمعنى رؤية البَصَر . والسلام خطاب يفاتح به الملوك إِخباراً عن عُلُوِّ شأنهم ورتبتهم ، فإلقاؤه حاصِلٌ وخطابُه مسموعٌ ، ولا يكون ذلك إلا برؤية البصر . { أجْراً كَرِيماً } : الكَرَمُ نَفْيُ الدناءة ، وكريماً أي حسناً . وفي الإشارة أجرهم موفور على عملٍ يسير؛ فإنَّ الكريم لا يستقصي عند البيع والشراء في الأعداد ، وذلك تعريف بالإحسانِ السابق في وقت غيبتك . ٤٥-٤٦{ يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللّه بإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } . يأيها المُشَرَّفُ مِنْ قِبَلِنا إِنّا أرسلناكَ شاهداً بوحدانيتنا ، وشاهداً تُبَشِّر بمتابعتنا ، وتحذِّرُ من مخالفة أَمْرِنَا ، وتُعْلِمُ الناسَ مواضعَ الخوف مِنَّا ، وداعياً إلينا بنا ، وسراجاً يستضيئون به ، وشمساً ينبسط شعاعُها على جميع مَنْ صَدَّقَكَ ، وآمَنَ بك ، فلا يصل إلينا إِلاَّ مَنْ اتبَّعَكَ وخَدَمَك ، وصَدَّقَك وقَدَّمَك . ٤٧{ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ } بفضلِنا معهم ، ونَيْلِهم طَوْلَنا عليهم ، وإحسانِنا إليهم . ومَنْ لم تُؤَثِرْ فيه بَرَكةُ إيمانه بك فلا قَدْرَ له عندنا . ٤٨لا توافِقْ مَنْ أعرضنا عنه ، وأضللنا به من أهلَ الكفر والنفاق ، وأهل البِدَع والشِّقاق . وتوكلْ على اللّه بدوام الانقطاع إليه ، وكفى باللّه وكيلاً . ٤٩إذا آثرتُمْ فراقَهُنَّ فَمَتُعوهن ليكونَ لهن عنكم تذكرة في أيام الفرقة في أوائلها إلى أَنْ تتوطَّنَ نفوسُهن على الفرقة . { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } : لا تذكروهن بعد الفراق إلا بخير ، ولا تستردوا منهن شيئاً تخلَّفتُم به معهن ، فلا تجمعوا عليهن الفراقَ بالحال والأضرارَ من جهة المال . ٥٠وسَّعْنَا الأمرَ عليكَ في باب النكاح بكم شِئْتتَ؛ فإنك مأمونٌ من عيب عدم التسوية بينهن وعدم مراعاة حقوقهن ، ومن الحَيْفِ عليهن . والتَّوْسعةُ في بابِ النكاحَ تَدُلُّ على الفضيلة كالحُرِّ والعبد . ٥١قوله جلّ ذكره : { تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُئْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللّه يَعْلَمُ } . { مَن تَشَاءُ } : على ما تتعلَّق به إرادتُك ، ويقع عليه اختيارُك ، فلا حَرَج عليكَ ولا جُنَاح . ٥٢لمَّا اخْتَرْتَهُنَّ أثبت اللّه لهن حُرْمة ، فقال :{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ } فكما اخترْنَكَ فلا تَخْتَرْ عليهن امرأةً أخرى تطييباً لقلوبهن ، ونوعاً للمعادلة بينه وبينهن ، وهذا يدل على كَرَمِه - والحِفَاطُ كَرَمٌ ودَيْن . ٥٣قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } الآية . أَمَرَهم بحفظ الأدب في الاستئذان ، ومراعاة الوقت ، ووجوب الاحترام؛ فإذا أُذِنَ لكم فادخلوا على وجه الأدب ، وحِفْظِ أحكام تلك الحضرة ، وإذا انتهت حوائجكم فاخرجوا ، ولا تتغافلوا عنكم ، ولا يَمْنَعَنَّكُم حُسْنُ خُلُقِه من حِفْظِ الأدب ، ولا يحملنَّكم فرطُ احتشامِه على إبرامه . { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتِشِرُواْ وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ } : حُسْنُ خُلُقِه - صلى اللّه عليه وسلم - جَرَّهم إلى المباسطة معه ، حتى أنزل اللّه هذه الآية . { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلُوبِهِنَّ } : نَقَلَهم عن مألوفِ العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة ، وبَيَّنَ أن البَشَرَ بَشَرٌ- وإن كانوا من الصحابة ، فقال : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلَوبِهِنَّ } . فلا ينبغي لأحدٍ أن يأمن نفسه - ولهذا يُشَدَّدُ الأمرُ في الشريعة بألا يخلوَ رجلٌ بامرأة ليس بينهما مَحْرَمَة . قوله جلّ ذكره : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اللّه وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدَهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّه عَظِيماً } . وهذا من خصائصه - صلى اللّه عليه وسلم ، وفي هذا شبه رخصة لمن يلاحظ شيئاً من هذا ، فيهتم بالاتصال مَنْ له مَيْلٌ إلَيهنَّ بغيرهن بعد وفاته - وإِنْ كان التحرُّزُ عنه - وعن أمثال هذا مِنْ تَرْكِ الحظوظ - أتمَّ وأعلى . ٥٤حِفْظُ القلبِ مع اللّه ، ومراعاةُ الأمر - بينه وبين اللّه - على الصِّحَةِ في دوام الأوقات لا يَقْوى عليه إلا الخواصُّ من أهل الحضور . ٥٥قوله جلّ ذكره : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } الآية . لما نزلت آيةَ الحجابِ شقَّ عليهن وعلى النسوان وعلى الرجال في الاستتار ، فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ هذه الآية للرخصة في نظر هؤلاء إلى النساء ، ورؤية النساء لهم على تفصيل الشريعة . ٥٦أراد اللّه - سبحانه - أن تكون للأمة عنده - صلى اللّه عليه وسلم - يَدُ خدمةٍ كما له بالشفاعة عليهم يَدُ نعمةٍ ، فأَمَرَهم بالصلاة عليه ، ثم كافأ - سبحانه عنه؛ فقال صلى اللّه عليه وسلم : ( مَنْ صَلّى عليَّ مرةً صلى اللّه عليه عشر مرات ) وفي هذا إشارة إلى أن العبدَ لا يستغني عن الزيادة من اللّه في وقتٍ من الأوقات؛ إذ لا رتبةَ فوق رتبةِ الرسولِ ، وقد احتاج إلى زيادةِ صلواتِ الأمَّةِ عليه . ٥٧يؤْذون اللّه ورسولَه بعمل المعاصي التي يستحقون بها العقوبة ، ويؤذون أولياءَه . ولمَّا قال : { مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه }[ النساء : ٨٠ ] فكذلك مَنْ آذى رسولَه وأنبياءَه عليهم السلام والمؤمنين فقد آذاه ، ومعناه تخصيص حالتهم وإثبات رتبتهم . ٥٨ثم ذكر قوله : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ . . } ، ويدلُّ ذلك على أن رتبة المؤمنين دون رتبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم . ٥٩هذا تنبيةٌ لهن على حِفْظِ الحُرْمة وإثبات الرُّتْبَة ، وصيانةٌ لهن ، وأمرٌ لهن بالتصاونِ والتعفُّفِ . وقَرَن بذلك تهديده للمنافقين في تعاطيهم ما كان يشغل قلبَ الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، من الإرجاف في المدينة . ٦٠-٦٢إنهم إِلَمْ يمتنعوا عن الإرجاف وأمثال ذلك لأجرينا معهم سُنَّتَنا في التدمير على مَنْ سَلَف من الكفار . ثم ذَكَرَ مسألة القوم عن قيام الساعة وتكذيبهم ذلك؛ ثم استعجالهم قيامَها من غير استعدادٍ لها ، ثم أخبر بصعوبة العقوبة التي علم أنه يُعَذِّبهم بها ، وما يقع عليهم من الندامة على ما فَرَّطوا . ٦٩نسبوه إلى الأُدْرَة ، وأنَّ به عيباً في الخِلْقَة ، ولكنه كان رجلاً حَيِيَّا ، وكان إذا اغتسل لا يتجرَّد ( من ثوبِه ) ، فتوهموا به ذلك ، وذات يوم خلا ليغسلَه ، ووضع ثيابَه على حَجَرٍ فأمشى اللّه الحَجَر بثيابه ، وموسى يعدو خَلْفَه حتى تَوَسَّطَ بني إسرائيل ، وشاهدوا خِلْقَتَه سليمةً ، فوقف الحجرُ ، وأخذ موسى ثيابه ولبسها ، وهذا معنى قوله : { فَبَرَّأَهُ اللّه مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللّه وَجِيهاً } في القَدْرِ والمنزلةِ . والوجاهة النافعة ما كان عند اللّه لا عند الناس ، فقبولُ الناسٍ لا عِبْرَةَ به ولا خَطَرَ له ، لا سيما العوامُ فإِنهم يَقْبَلُون بلا شيء ، ويَرُدُّون بلا شيء قال قائلهم : إِنْ كنتُ عندك يا مولاي مطرحاً ... فعند غيرك محمولٌ على الحدق وقالوا : فإِنْ أَكُ في شِرَارِكُم قليلاً ... فإني في خِيارِكُم كثيرٌ ٧٠-٧١القول السديد كلمةُ الإخلاص ، وهي الشهادتان عن ضميرٍ صادق . ويقال سدادُ أقوالِكم سدادُ أعمالِكم ، ولقد هَوَّن عليكم الأمرَ فَمَنْ رضي بالقالة - وهي الشهادة بأن تَرَك الشِّرْك - وقالها بِصِدْقٍ أصلح اللّه له أعمالَه الدنيوية من الخَلَل ، وغَفَرَ له في الآخرة الزَّلَل؛ أي حصلت له سعادةُ الدارين . ويقال ذَكَرَ { أَعْمَالَكُمْ } بالجمع ، وقدَّمها على الغُفران؛ لأنه ما يُصْلِح لك في حالِكَ أعمالَكَ وإِنْ لم يَكْفِكَ ما أَهَمَّكَ من أشغالك . . لم تتفرغْ إلى حديث آخِرَتِكَ . ٧٢هنا إضمار أي : أهل السموات والأرض والجبال . وقيل أحياها وأعْقَلَها ، وهو كقوله : { ائتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }[ فصلت : ١١ ] . { فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } : أي أبين أنْ تَخُنَّ فيها ، { وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ } : أي خان فيها . وهم مراتب : فالكفار خانوا في الأصل الأمانة - وهي المعرفة - فكفروا . ومَنْ دُونَهم خانوا بالمعاصي ، وبعضهم أَشَدُّ وبعضهم أهون ، وكلُّ احتقب من الوِزْرِ مقدارَه . ويقال ( أبين ) إِباءَ إشفاقٍ لا إِباء استكبارٍ ، واستعفين . . . فعفا عنهن ، وأعفاهن مِنْ حَمْلها . { وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ } : قَبِلَها ثم ما رعوها حقَّ رعايتها . . كلٌّ بقدره . { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } بصعوبة حَمْلِ الأمانة في الحال ، والعقوبة التي عليها في المآل . وقومٌ قالوا عَرَضَ الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ وعَرَضَها على الإِنسان ، فهن استعفين وهؤلاء لم يستعفوا ولم يراعوا . ويقال : الأمانة القيام بالواجباتِ أصولها وفروعها . ويقال : الأمانة التوحيد عقداً وحفظ الحدود جهداً . ويقال : لمَّا حَمَلَ آدمُ الأَمانة وأولاده قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحَرِ }[ الإسراء : ٧٠ ] . . وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ويقال حمل الإنسانُ باللّه لا بنَفْسِه . ويقال ظَلَمَ نَفْسَه حيث لم يُشْفِقْ مما أشفقت منه السمواتُ والأرضون . والظُلْمُ وَضْعْ الشيءِ في غير موضعه . ويقال كاشَفَ السمواتِ والأرضَ بوصف الربوبية والعظمة فأشفقوا ، وكاشَفَ آدمَ وذُرِّيَتَه بوصف اللطفِ فقَبِلوا وحملوا ، وفي حال بقاء العبد يا للّه يحمل السمواتِ والأرضَ بشعرة من جَفْنِه . ويقال كانت السموات والأرض أصحاب الجثث والمباني فأشفقوا من حَمْل الأمانة . والحِمْلُ إنما تحمله القلوب . وآدم كان صاحبَ معنًى فَحَمل ، وأنشدوا : حملت جبال الحكم فوقي وإنني ... لأَعْجَزُ عن حمل القميص وأضعفُ ويقال لما عَرَضَ الحقُّ الأمانةَ على الخَلْقِ عَلَّقَ آدمُ بها هَمَّتَه ، فصرف بهمته جميع المخلوقات عنها ، فلمَّا أبوا وأشفقوا حَمَلَها الإنسانَ طوعاً لا كرهاً . ٧٣اللام في ( ليعذب ) للصيرورة والعاقبة؛ أي صارت عاقبةُ هذا الأَمرِ عذابَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، ويتوب اللّه على المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والتجاوز . ( تَمَّت السورة ) قد يقال : المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات والعاصون من المؤمنين والمؤمنات وَرَدَ ذكرهم . . فأين العابدون وذكرهم؟ ولكنهم في جملة مَنْ مضى ذِكْرُهم ، وليسوا في المشركين ولا في المنافقين ، فلا محالة في جملة العاصين الذين تاب عليهم . فيأيها العاصي ، كنت تحذر أَنْ يُخْرِجَك العابدون من جملتهم ، فاشْهد الجبَّارَ - في هذا الخطاب - كيف أدرجك في جملتهم؟! |
﴿ ٠ ﴾