سورة سبأ١افتتح السورة بذكر الثناء على نفسه ، ومَدْحُه لنفسه إِخبارٌ عن جلالِه ، واستحقاقه لنعوت عزِّه وجمالِه ، فهو في الأَزل حامدٌ لنفسِه محمودٌ ، وواحدٌ موجود ، في الآزال معبود ، وبالطلبات مقصود . { الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ } : المُلْكُ لا يكون بالشركة؛ فلا مَلِكَ إلا اللّه . وإِنْ أجرى هذا الاسمَ على مخلوق بالزنجيُّ لا يتغير لونُه وإِنّ سُمِّيَ كافوراً! { وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الأَخِرَةِ } مِنَ الذين أَعتقهم ، وفي النعمة أغرقهم . { وَهُوَ الْحَكِيمُ } بتخليد قومٍ في الجنة ، وتأبيد قومٍ في النار . ٢{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ } من الحَبِّ تحت الأرض ، والماءِ يرسب فيها ، والأشياءِ التي تُلْقَى عليها ، والناس يُقْبَرُون في الأرض . . { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات والأزهار ، والموتى يُبعثون . { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ } من القَطْرِ والمَلَكِ ، والبركة الرزق ، والحُكْمِ . { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الصحف ، وحوائج الناس : وهِمَمِ الأولياء . { وَهُوَ الرَّحِيمُ } بعباده ، { الغَفُورُ } لجميع المذنبين من المسلمين . ٣كرّر في القرآن تكذيبهم بالساعة ، واستبعادهم لذلك ، والردَّ عليهم . وأخبر عن سابق عِلمه بهم ، وأنه لا يخرج شيء من معلوماته عن علمه ، فأثبت علمه بكل شيءٍ وشموله لكل شيء . . لأَنه لو لم يكن له علم لكان نقصاً ، ولأنه لو خرَجَ مَعلومٌ واحدٌ عن علمهِ لكان بقدرته نقصٌ ، والنقصُ - بأي وصفٍ كان - لا يجوز في صفته بحالٍ . ٤المحسنون منهم يجازيهم بالخيرات المتصلة ، والكافرون منهم يكافئهم على كفرهم بالعقوبات غيرَ منفصلة . ويرى الذين أوتوا العلم كتابك الذي أَتَيْتَ به حَقاً وصِدْقاً . والذين كفروا قال بعضهم لبعض : إِنَّهم يرون أن هذا الذي تقول به من النشر والحساب والبعث كذبٌ ، أو أَنّ بِك جِنَّةً ، ثم أقام عليهم حُجة التجويز بما أجرى به سُنَّتَه في الخلق والإبداع . . فما زادهم ذلك إِلا جحوداً ، وما قابلوه إلا عنوداً . ١٠( داود ) اسم أعجمي ، وقيل سمي داود لأنه داوى جَرْحه ، وَرَدَ في القصة أنه قال في إحدى مناجاته : يا رب ، إني أرى في التوارة ما أعطيتَ لأوليائك وأَنبيائك من الرتب فأعطنيها فقال : إني ابتليتهم فصبروا ، فقال : إني أصبر على بلائك ، فأَعْطني ما أعطيتهم ، فأبلاه ، فوقف ، فأعطاه ما أعطاهم . { وَلَقَدْ ءَاتينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً } : تكلموا في هذا الفضل؛ فمنهم مَنْ أراد ما ذكره بعده وهو قوله للطير : { أَوِّبِى مَعَهُ } : وكذلك الجبال ، وكان في ذلك تنفيس في وقت حُزْنِه وبكائه . وقيل ذلك الفضلُ رجوعُه إلى اللّه - في حال ما وقع له - بالتنصل والاعتذار . ويقال هو شهودُه موضِعَ ضرورته وأنه لا يُصْلِحُ أمرَه غيرُه . ويقال طيب صوته عند قراءة الزبور حَتى كان ليرْغبُ في متَابعته مَنْ يسمع إليه . ويقال حلاوةُ صوته في المناجاة . ويقال حُسنُ خُلقه مع أمته الذين اتبعوه ، ويقال توفيقه للحكم بين أمته بالعدل . . . قوله : { يَاجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ } أمرَ الجبالَ والطيرَ بمجاوبته حتى خرَجَ إلى الجبال والصحارى ينوح على نفسهِ . ويقال أوحى اللّه له : يا داود ، كانت تلك الزَّلَّةُ مباركةً عليك! فقال . يا رب ، وكيف؟ فقال : كنتَ تجيء قبلها كما يجيء المطيعون والآن تجيء كما يجيء أهل الذنوب! يا داود ، إن أنينَ المذْنبين أحبُّ إليّ من صُراخ العابدين! ويقال ، كان داود يقول . اللّهمّ لا تَغفرْ للخاطئين ، غيرةً منه وصلابةً في الدين . . . فلما وقع له ما وقع كان يقول . اللّهم اغفر للمذنبين ، فعسى أن تغفرَ لداود فيما بينهم . ويقال لمَّا تاب اللّه عليه ، واجتمع الإنسُ والجنُّ والطير بمجلسه ، وَرَفع صوتَه ، وأداره في حَنَكِه على حسب ما كان من عادته تفرّقت الطيور وقَالوا . الصوتُ صوتُ داود والحال ليست تلْك! فأوحَى اللّه إليه هذه وَحْشةُ الزّلة ، وتلك كانت أُنسَ الطاعة . . فكان داودُ يبكي وينوح ويصيح والطير والجبالُ معه . وَيقال ليس كلُّ مَنْ صاح وراءه معنى ، فالمعنى كان مع داود لا مع الجبال والطير . . . ١١{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدَِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } . ألان له الحديدَ ، وجعل ذلك معجزةً له ، وجعل فيه توسعةَ رزقه ، ليجدَ في ذلك مكسباً ، لِيَقْطَعَ طَمَعَه عن أُمته في ارتفاقه بهم ليباركَ لهم في اتِّباعِه . ١٢-١٣أي آتينا سليمانَ الريح أي سَخّرناها له ، فكانت تحمل بساطة بالغدو مسيرة شهر؛ وبالرواح مسيرةَ شهر . وفي القصة أنه لاحظ يوماً مُلْكَه ، فمال الريحُ ببساطه ، فقال سليمان للريح : استو ، فقالت الريح : استوِ أنت ، فما دمتَ مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً بك ، فلما مِلْتَ مِلتُ . { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } . أي وآتيناه ذلك ، فكانت الشياطينُ مُسَخَّرةً له ، يعملون ما يشاء من الأشياء ذكرها سبحانه . قوله جلّ ذكره : { اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } . أي اعملوا يا آل داود للشكر ، فقوله : ( شكراً ) منصوب لأنه مفعول له . ويقال شكراً؛ منصوب لأَنه مفعول به مثل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ }[ المؤمنين : ٤ ] . وقد مضى طَرَفٌ من القول في الشكر . والشكور كثير الشكر ، والأصل في الشكر الزيادة ، والشكيرة اسم لما ينبت تحت الأشجار منها ، ودابة شكور إذا أظهرت من السِّمَن فوق ما تُعْطَى من العَلَفِ؛ فالشكور الذي يشكر على النعمة فوق ما يشكر أمثالُه وأضرابُه . وإذا كان الناسُ يشكرونه على الرخاء فالشكور يشكره في البلاء . والشاكر يشكر على الَبذْلِ ، والشكور على المنع . . فكيف بالبذل؟ والشكور يشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ومالِه ، والشاكر ببعض هذه . ويقال في { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشّكُورُ } قليلٌ مَنْ يأخذ النعمة مني ولا يحملها على الأسباب؛ فلا يشكر الوسائطَ ويشكرني . والأكثرون يأخذون النعمة من اللّه ، ويَجِدُون الخيرَ مِنْ قِبَلهِ ثم يتقلدون المِنَّةَ من غير اللّه ، ويشكرون غيرَ اللّه . ١٤كان سليمانُ - عليه السلام - يتكىء على عصاه وقتما قُبِضُ ، وبقي على ذلك الوصف مدةً ، والشياطين كانوا مُسَخَّرين يعملون ما أمرهم به ، ويتصرفون على الوجه الذي رَسَمَ لهم ، وينتهون عمَّا زَجَرَهم ، فقد كانوا يتوهمُّون أَنه حيٌّ . ثم إنَّ الأرَضَة أكلت عصاه فَخَرَّ سليمانُ فَعلِمَ الشياطين عندئذ أنه مات ، فرجعوا إلى أعمالهم الخبيثة ، وانفكَّ عنهم ما كانوا عليه من التسخير؛ وهكذا المَلِكُ الذي يقوم مُلكُه بغيره ، ويكون استمساكه بعصا . فإنه إذا سَقَطَ سَقَطَ بسقوطه ، ومَنْ قام بغيره زال بزواله . ١٥كانوا في رَغَدٍ من العَيْش وسلامة الحال ورفاهته ، فأُمِروا بالصبر على العافية والشكر على النعمة ، وهذا أمرٌ سهلٌ يسيرٌ ، ولكنهم أعرضوا عن الوفاق ، وكفروا بالنعمة ، وضَيَّعوا الشكر ، فَبَدَّلوا وبُدِّلَ بهم الحال ، كما قالوا : تبدلت وتبدلنا يا حسرةً لِمَن ... ابتغى عِوَضاً لِسَلْمَى فلم يَجِدِ ١٦كذلك من الناس من يكون في رَغَدٍ من الحال ، اتصالٍ من التوفيق ، وطَرَبٍ من القلب ، ومساعدةٍ من الوقت ، فيرتكبُ زَلَّةً أو يسيء أدباً أو يتبع شهوةً ، ولا يعرف قَدْرَ ما هو به ، فيتغير عليه الحالُ؛ فلا وقتَ ولا حالَ ، ولا طربَ ولا وصالَ؛ يُظْلِمُ عليه النهارُ وقد كانت لياليه مضيئةَ ، كما قلنا . ما زلت أختال في زمانٍ وحالِ ... حتى أَمِنْتُ الزمانَ مَكْرَه حال عليَّ الصدودُ حتى ... لم تَبْقَ مما شَهِدْتَ ذرَّة ١٧ما عوملوا إلا بما استوجبوا ، ولا سُقُوا إلاَّ مِمَّا ثَبِطوا ، وما وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا ، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا! ١٨-١٩{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى . . . } : ما كان من شأنهم إلا التمادي في عصيانهم ، والإصرار على غيهم وطغيانهم . قوله جلّ ذكره : { أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } . فرَّقناهم تفريقاً حتى اتخذهم الناسُ مثلاً مضروباً؛ يقولون : ذهبوا أيدي سبأٍ ، وتفرَّقوا أيادي سبأ . وفي قصتهم آياتٌ لكل صبَّار على العاقبة ، شكور على النعمة . ٢٠-٢١صدَّق عليهم إبليس ظنّه - وإنْ كان لا يملك لنفسه أمراً ، فإبليس مُسَلِّطٌ على أتباعه من الجنِّ والإِنس ، وليس به من الإضلال شيء ، ولو أمكنه أَن يَضُرَّ غيرَه لأمكنه أن يمسك على الهداية نَفْسَه ، قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[ الإِسراء : ٦٥ ] . { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ } : يهدي من يشاء ويضل من يشاء . ثم أخبر - سبحانه وتعالى - أنه بمُلْكِه متفرِّدٌ ، وفي الألوهية متوحِّدٌ ، وعن الأضداد والأنداد متعزِّزٌ ، وأَنهم لا يملكون مثقالَ ذَرَّةٍ ، ولا مقياسَ حَبَّةٍ ، وليس منهم نصير ، ولا شريك ولا ظهير ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن الملائكة في السماءِ بوصف الهيبة فَزِعُون ، وفي الموقف الذى أثبتهم الحقُّ واقفون ، لا يفترون عن عبادته ولا يعصون . ٢٤لم يَقُلْ أحدٌ - مع شِرْكِه - إنه يُحِيلُ في الرزق على أحدٍ غيره ، فكما لا شريكَ له في الرزق ولا شريكَ له في الخَلْق فلا شريكَ له في استحقاق العبادة والتعظيم . ٢٥-٢٦ولا تسألون عما أجرمنا ولا نحن نسأل عن إجرامكم . . . ويوم الجمع يحاسِب اللّه كُلاَّ على أعماله ، ويُطَالِبُ كُلاً بشأنه ، لا يؤاخِذُ أَحداً بعمل غيره ، وكلٌّ يُعْطَى كتابَه ، ويَطْلُبُ اللّه مِنْ كلَِّ واحدٍ حسابَه . وقد أجرىللّه سُنَّتَه بأن يجمع بين عباده ، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم . فللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة ، وللصلاة بالجماعة أثر مخصوص . وقد عاتب اللّه - سبحانه - الذين يتفرقون عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومَدَحَ مَنْ لا يتفرَّق إلا عن استئذان . والشيوخُ ينتظرون في الاجتماع زوائد ، ويستروحون إلى هذه الآية : { قُلْ يَجْمَعُ . . . } . ٢٧كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيكَ لا شريك لكَ ، هو لك ، تملكه وما ملك ، لانهماكهم في ضلالتهم . وبعد تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تقدر ، ولا تسمع ولا تُبصر ، وقعت لهم شبهةُ استحقاقها العبادة ، فإذا طولبوا بالحجة لم يذكروا غير أنهم يُقلدون أسلافهم . . . وهذا هو الضلال البعيد والخُسران المبين . ٢٨أَرسلناكَ مُؤيَّداً بالمعجزات ، مُشرَّفاً بجميع الصفات ، سيداً في الأرضين والسموات ، ظاهراً لأهل الإيمان ، مستوراً عن بصائر أهل الكفران - وإِن كنتَ ظاهراً لهم من حيث العيان ، قال تعالى : { وَتَرَاهُمْ يَنُظُرونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }[ الأعراف : ١٩٨ ] . ٢٩-٣٠لكثرة ما يقولون هذا كرّره اللّه في كتابه خبراً عنهم ، والجواب إن لكم ميعاد يومٍ ، وفي هذا الميعاد لا تستأخرون ساعةً ولا تستقدمون . ٣١لو رأيتهم يومذاك لرأيتَ منظراً فظيعاً؛ يرجعُ بعضهم إلى بعض القولَ ، ويُحيل بعضهم على بعضٍ الجُرمَ؛ يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : أَنتم أضللتمونا ، ويُنكرُ الذين استكبروا ويقولون : بل أنتم اتبعتمونا . . . وهكذا أصحابُ الزلاتِ الأخلاءُ في الفساد ، قال تعالى : { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }[ الزخرف : ٦٧ ] . وكذلك الجوارحُ والأعضاء غداً يشهد بعضها على بعض؛ فاليد تقول للجملة أخذت ، والعين تقول أبصرت ، والاختلاف في الجملة عقوبة ، ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج اللّه عليه كل من هو أطوع له ، ولكنهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا لاعتبروا ، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقُوا . . . ولكن ليقضي اللّه أَمْراً كان مفعولاً . ٣٤أي قابلوا رُسُلَنا بالتكذيب ، وصَبَر رُسُلُنا . . . وماذا على هؤلاء الكفار لو آمنوا بهم؟ فهم لنجاتهم أُرسلوا ، ولصلاحِهم دَعَوا وبلغَّوا ، ولو وافقوهُم لسعدوا . . . ولكنّ أقساماً سبقت ، وأحكاماً حقت ، واللّه غالبٌ على أمره . ٣٥ليس هذا بكثرة الأَموال وَالأولاد ، وإِنما هي بصائرُ مفتوحةٌ لقوم ، وأخرى مسدودةٌ لقوم . ٣٧لا تستحقّ الزّلفى عند اللّه؛ بالمال والأولاد ، ولكن بالأعمال الصالحة والأَحوال الصافية والأنفاس الزاكية ، بلْ بالعناية السابقة ، وَالهداية اللاحقة ، والرعاية الصادقة { فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ } : يضاعف على ما كان لِمَنْ تقدمهم من الأُمم { وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ } مِنْ تكَّدر الصفوة والإخراج من الجنة . ٣٨هم الذين لا يحترمون الأولياء ، ولا يراعون حقّ اللّه في السرُ ، فهم في عذاب الاعتراض على أَولياء اللّه ، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم اللّه ، ثم في عذاب السقوط من عين اللّه . ٣٩منَ الخَلَف في الدنيا الرضا بالعَدَم والفقد ، وهو أتمّ من السرور بالموجود؛ ومن ذلك الأنسُ باللّه في الخلوة؛ ولا يكون ذلك إلا مع التجريد . ٤٠قومٌ كانوا يعبدون الملائكة فيختبرهم عنهم؛ فيتبرأون منهم وينزِّهون اللّه ويسبحونه ، فيفتضح هؤلاء - والافتضاحُ عند السؤال من شديد العقوبة ، وفي بعض الأخبار : أَنّ غداً منْ يسألهم الحقّ فيقعْ عليهم من الخجل ما يجعلهم يقولون : عذَّبنا ربنا بما شئت من ألوان العقوبة ولا تعذبنا بهذا السؤال! ٤٢الإشارة فى هذا أنّ مَن علقَ قلبه بالأغيار؛ وظنّ صلاحَ حاله بالاحتيال؛ والاستعانة بالأمثال والأَشكال ينزعُ اللّه الرحمةَ من قلوبهم؛ ويتركهم ، ويشوشُ أحوالهم ، فلا لهم من الأَمثال والأشكال معونة ، ولا لهم منْ عقولهم في أُمورهم استبصار ، ولا إلى اللّه رجوع ، وإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يجيبهم ، ويقول لهم : ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة . ٤٣الحكماء ، والأَولياء - الذين هم الأئمة في هذه الطريقة - إذا دَلوا الناسَ عَلَى اللّه . قال بعض إخوان السوء - مثل بعض المتنصحين من أهل الغفلة وأبناء الدنيا لمريدٍ : ما هذا؟ من الذي يطيق كل هذا؟ ربما لا تُتمّمُ الطريق! لا بُد من الدنيا ما دُمت تعيش! . . وأمثال ذلك ، حَتى يميل هذا المسكينُ عند قبول النصح ، وربما كان له هذا من خواطره الدنية . . . فيهلك ويضلّ . ٤٤الإشارة من هذا إلى أهل الغفلة؛ يعارضون أصحابَ القلوب فيما يجري من الأمور ، بما تشوِّش إليهم نفوسُهم ، ويخطر ببالهم من هواجسهم عن مُقْتَضَى تفرقةِ قلوبهم -على قياس ما يقع لهم - مِنْ غيرِ استنادٍ إلى إلهامٍ ، أو اعتمادٍ على تقديرٍمن اللّه وإفهام . وأهلُ الحقائق - الذين هم لسانُ الوقت - إذا قالوا شيئاً أو أطلقوا حديثاً ، فلو طولبوا بإقامة البرهان عليه لم يمكنهم؛ لأن الذي يتكلم عن الفراسة أو عن الإلهام ، أو كان مُسْتَنْطَقاً فليس يمكن لهؤلاء إقامة الحجة على أقوالهم . وأصحابُ الغفلة ليس لهم إيمان بذلك ، فإذا سمعوا شيئاً منه عارضوهم فيهلكون ، فسبيلُ هؤلاء الأكابر عند ذلك أن يسكتوا ، ثم الأيام تجيب أولئك . ٤٦يقول : إذا سوَّلَتْ لكم أنفسُكم تكذيبَ الرسولِ فأنعموا النظرَ . . . هل تَرَوْنَ فيه آثار ما رميتوه به؟ هذا محمد صلى اللّه عليه وسلم . قُلْتُم إنه ساحر- فأين آثار السحر على أحوله وأفعاله وأقواله؟ قلتم إنه شاعر - فمن أي قسم من أقسام الشعر كلامه؟ قلتم إنه مجنون - فأيّ جنونٍ ظهر منه؟ وإذ قد عجزتم عن ذلك . . . فهلاَّ عرفتم أنه صادق؟! ٤٨يقذف بالحقِّ على باطل أهل الغفلة فتزول حِيَلُهم ، ويظهر عَجْزُهم . ويقذف بالحقِّ على أحوال أهل الخِلاف فيضمحل اجتراؤهم ، ويحيق بهم شؤمُ معاصيهم . ويقذف بالحقِّ -- إذا حضر أصحاب المعاني - على ظُلُماتِ أصحاب الدعاوى فيخمد ثائرتَهم ، ويفضحهم في الحال ، ويْفضح عوارُهم . ٤٩الباطلُ على مَمَرِّ الأيام لا يزيد إلا زهوقاً ، والحقُّ على مَمَرِّ الأيام لا يزداد إلا قوةً وظهوراً . ٥٠إنْ كنتُ مهتدياً فبربِّي لا بجهدي . وإنْ كن عندكم من أهل الضلال فوبالُ ضلالتي عائدٌ عليَّ ، ولن يضرِّكم ذلك . فانظروا أنتم إلى أنفسكم . . . أين وقعتم؟ وأي ضرر يعود عليكم لو أطعتموني؟ لا في الحال تخسرون ، ولا في أنفسكم تتعبون ، ولا في جاهكم تنقصون . وما أخبركم به نَقْصِ أصنامكم فبالضرورة أنتم تعلمون! فما لكم لا تُبْصِرون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟ ٥١أي لو رأيتَ ذلك لرأيتَ فظيعاً ، وأَمراً عظيماً؛ إذا أخذهم بعد الإمهال فليس إلا الاستئصال . ٥٢إذا تابوا - وقد أُغْلقَتْ الأبواب ، وندمُوا - وقد تقطَّعَت الأسباب . . . فليس إلا الحسرات والندم ، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته ، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه يُتَجَاوَزُ عنه مرةً ، ويَعْفَى عنه كَرَّةً ، فإذا استمكنت منه القسوةُ وتَجَاوَزَ سوءُ الأدبِ حَدَّ الغفلة ، وزاد على مقدار الكثرة . . . يحصل له من الحقِّ رَدٌ ، ويستقبله حجاب ، وبعد ذلك لا يُسْمَعُ له دعاء ، ولا يُرْحَمُ له بكاء ، كم قيل : فَخَلِّ سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا ... فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ ٥٤التوبة يشتهونها في آخرالأمر وقد فات الوقت ، والخَصْمُ يريد إرضاءه فيستحيي أن يذكر في ذلك الوقت ، وينسدُّ لسانه ويعتقل؛ فلا يمكنه أَن يُفْصِح بما في قلبه ، ويودُّ أَنْ لو كان بينه وبين ما أسلفه بُعْدٌ بعيد ، ويتمنى أن يُطِيعَ فلا تساعده القوةُ ، ويتمنى أن يكون له - قبل خروجه من الدنيا - نَفَسٌ . . . ثم لا يتفق . |
﴿ ٠ ﴾