سورة الصافات١افتتح اللّه هذه السورة بالقَسَم بالصافات ، وهم الملائكة المصطفَّةُ في السماء وفي الهواء ، وفي أماكنهم على ما أمرهم الحق - سبحانه - من المكان يلازمونه ، والأمر يعانقون؛ يُسَبِّحونه ويُقَدِّسونه ، وبما يأمرهم به يطيعونه . ٢عَطَفهم على ما تَقَدَّمَ بحرف الفاء وهم الملائكة الذين يزجرون السحابَ . ويقال يزجرون الناس عن المعاصي . ويقال هي الخواطرُ الزاجرةُ عن المناهي . ٣يقال ( الصافات ) الطيورُ المصطفَّةُ في السماء ، { فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } الملائكة يتلون كتاب اللّه ، ويتلون الوحيَ على الأنبياء عليهم السلام . ٤هذا هو المقسومُ عليه . أخبر أنه واحدٌ في مُلْكِه ، وذلك أنهم تَعَجَّبُوا أن يقوم الواحِدُ بجميع أحوال العالم . ومعنى كونه واحداً تَفَرُّدُه في حقِّه عن القسمة ، وتَقَدُّسُه في وجوده عن الشيبة ، وتَنَزَّهُه في مُلْكِه عن الشريك؛ واحد في جلاله ، واحدٌ في استحقاق جماله ، واحدٌ في أفعاله ، واحدٌ في كبريائه بنعت علائه ، ووصف سنائه . ٥مالِكُ السمواتِ والأرضِ وما بينهما ، وخالقهما ، وأكسابُ العبادِ داخِلةٌ في هذا { وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } مشارق النجوم والشمس والقمر ، ومشارق القلوب بشموسها وأقمارها ونجومها . ٦-٧زَيَّنَ السماءَ الدنيا بالنجوم ، وقلوبَ أوليائه بنجوم المعارف والأحوال ، وحفظ السمواتِ بِأَنْ جعل النجومَ للشياطين رجوماً ، وكذلك زَيَّن القلوبَ بأنوار التوحيد ، فإذا قَرُبَ منها الشيطان رَجَمها بنجوم معارفهم . ١٠كذلك إذا اغتنم الشيطانُ من الأولياء أن يُلْقِيَ إليهم شيئاً من وساوسه تَذَكَّرُوا ، فإذا هم مُبْصِرون ، ورجعوا . . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيَطانِ تَذَكَّرُواْ }[ الأعراف : ٢٠١ ] . ١١عَرّفهم عَجْزَهم عن الإثبات ، وضعفهم في كل حال ، ثم ذكرهم نسبتهم أنها إلى الطين اللازب . ١٢حقيقة التعجب تغير النفس مما لم تجر العادَةُ بحدوث مثله . وتَقرأ { عَجِبْتَ } بالفتح خطاباً بالرسول صلى اللّه عليه وسلم - وبالضم فكأن الحقّ يقول ذلك مِنْ قبلَ نفسه بل عجبتُ ، وَيقال ذلك بمعنى إكبار ذلك الشيء ، إما في القدر ، أو الإكثار في الذمِّ أو في المدح . ١٣إذا ذُكروا بآياته يٌعرضون عن الإيمان بها والتفكَّر فيها ، ويقولون : ليس هذا الذي أتى به محمدٌ إلا سحراً ظاهراً . ١٦-١٧قالوا : أئذا متنا ، تفرّقت أجزاؤنا ، وَصرنا رميماً . . أئنا لمبعوثون؟ أَوَ آباؤنا الأولون يُبعثون كذلك؟ قالوه على جهة الاستبعاد؛ فالمعرفة لهم مفقودة ، والبصائر لهم مسدودة ، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة . ١٨-١٩قل لهم يا محمد؛ نعم ، وعلى وصْف الصغر ما يبعثكم ، وبزجرة واحدة يحشركم ، بعد أن يُقيم القيامة على جميعكم . ٢٠-٢١دَوا بالويل على أنفسهم! ويقال لهم : هذا يَومُ الفصل الذي كنتم تكذبون به ، وقد عاينتموه اليومَ . ٢٢-٢٣أراد بأزواجهم قرناءَهم وأشكالهم ومَنْ عمل مثل أعمالهم ، ومن أعانهم على ظلمهم بقليل أو كثير . . وكذلك في هذه الطريقة : من أعان صاحبَ فترة في فترته ، أو صاحب زَلة على زلته - كان مُشركاً له في عقوبته ، واستحقاق طرده وإهانته . ٢٤قوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ } : مقامُ السؤالِ مقامٌ صعبٌ؛ قوم يسألهم المَلَكُ وقومٌ يسألهم المَلِكُ؛ فالذين تسألهم الملائكةُ أقوامٌ لهم أعمالٌ صالحةٌ تصلح للعرض والكشف ، وأقوامٌ لهم أعمالٌ لا تصلح للكشف ، وهم قسمان : الخواصّ يسترهم الحقّ عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة ، وأقوامٌ هم أربابُ الزلات يرحمهم اللّه فلا يفضحهم ، ثم إنهم يكونون في بعض أحوالهم بنعت الهيبة ، وفي بعض أحوالهم بنعت البسط والقربة ، وفي الخبر : ( أن قوماً يسترهم بيده ويقول تذكر غداً ربك ) وهؤلاء أصحاب الخصوص في التحقيق : فأما الأغيار والأجانب والكفار فيقال لهم : { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }[ الإسراء : ١٤ ] ، فإذا قَرؤوا كتابهم يقال لهم : من عمل هذا؟ وما جزاؤه؟ فيقولون : جزاؤه النار . فيقال لهم : أدخلوها بحكمكم . ثم يقال لهم في بعض أحوال استيلاء الفزَع عليهم : ٢٥-٢٧يُورِّك بعضُهم الذنبَ على بعض؛ فهذا يتبرأ من صاحبه ، وصاحبه يتبرأُ منه ، إلى أن يحكم اللّه عليهم بالخزي والهوان ويجمعهم في اللعن والإبعاد . ٣٣-٣٤يشتركون في العذاب ولكن تتفاوت أنصباؤهم ، كما أنهم يشترِكون في الزّلة ولكن تختلف مقادير زلاتهم . ٣٥احتجابُهم بقلوبهم أوقعهم في وهدة عذابهم؛ ذلك لأنهم استكبروا عن الإقرار بربوبيته . ولو عرفوه لافتخروا بعبوديته؛ قال تعالى : { إنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ }[ الأعراف : ٢٠٦ ] ، وقال : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّه وَلاَ الْمَلاَئِكةُ الْمُقَرَّبُونَ }[ النساء : ١٧٣ ] فإنّ مَنْ عَرفَ اللّه فلا لذة له إلا في طاعته ، قال قائلهم : ويظهرُ في الهوى عزُّ الموالي ... فيلزُمني له ذُلُّ العبيد ٣٦-٣٨لمَّا لم يحتشموا من وَصفه - سبحانه - بما لا يليق بجلاله لم يُبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه . ٣٩-٤٠الاستثناء راجعٌ إلى قوله : { إنَّكُمْ لَذَآئِقُواْ الْعَذَابِ الأَلِيمِ } . ويقال الإخلاصُ إفرادُ الحقِّ - سبحانه - بالعبودية ، والذي يشوبُ عمله رياءٌ فليس بمخلص . ويقال : الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين ، وفي الخبر : ( يا معاذ ، أخلص العملَ يكفيك القليل منه ) . ويقال : الإخلاصُ فقدُ رؤية الأشخاص . ويقال : هو أن يلاحظ محل الاختصاص . ويقال : هو أن تنظر إلى نفسك بعين الانتقاص . ٤١لهم رزقٌ معلومُ لأوقاتِ مُعينه ، وفي وقت الرسول عليه السلام : ) مَنْ كان له رزقٌ معلومٌ كان من جملة المياسير ، وهذه صفة أهل الجنة؛ فلهُمْ في الآخرة رزقٌ معلوم لأبشارهم ولأسرارهم ، فالأغنياء لهم رزقٌ معلوم لأَنفسهم والفقراء لهم رزق معلوم لقلوبهم وأسرارهم . ٤٢{ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ } : من ذلك ورود الرسول عليهم من قِبَلِ اللّه في كل وقت ، وكذلك اليومَ الخطابُ واردٌ من اللّه على قلوب الخواص في كل وقت بكلِّ أمر . ٤٣-٤٤يستأنِسُ بعضُهم برؤية بعضٍ ، ويستروح بعضُهم إلى لقاء بعض . ٤٥-٤٦شراب يوجِبُ لهم الطَّرَدَ ولا وحشةَ هناك ، شراباً يُحْضِرَهم ولا يُسْكِرُهم ، لأَنه قال : ٤٧فلا تغتالُ عقولَهم ولا تُزِيل حِشْمَتُهم ، ولا تَرْفَعُ عنهم هَيْبَتَهم؛ فقومٌ يشربون وهم بوصف الستر ، وآخرون يُسْقَوْن في الحضور - وهم على نعت القُرْب . ٤٨-٤٩لا يَنْظُرْنَ إلى غير الوليّ ، ثم الوليُّ قد ينظر إليهن ، وفيهم مَنْ لا ينظر إليهن : جُنِنَّا بِلَيْلَى وهي جُنَّتْ بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونةٌ لا نريدها ٥٠يتذاكرون فيما بينهم ، ويذكرون مِنْ معارفهم مَنْ لا يُؤْمن باللّه ، وما آمن به المؤمنون فيخلق اللّه لهم إطلاعاً عليه وهم في النار يحترقون . ٥٦-٥٧نَطَقَ الوليُّ بالحقِّ ولكنه لم يُصَرِّحْ بعين التوحيد؛ إذ جَعَلَ الفَضْلَ واسطةً ، والأَوْلى أن يقول : ولولا ربي لكنتُ من المحضرين . ٦٠-٦١يقال : بل الملائكةُ يقولون لهم هذا ، ويقال : الحقُّ -سبحانه- إذا أراهم مقامَهم في الجنة يقول لهم : { لِمِثْلِ هّذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } . ويقال إِنْ كان العابدُ يقول هذا ، أو يقال له هذا إذا ظهرت الجنة فإِنه إذا بَدَتْ شظيةٌ من الحقائق وتباشير الوصلة ، أو ذَرَّةٌ من نسيم القربة فبالحريِّ أن يقوْل القائلون : لِمِثْلِ هذه الحالة تُبْذَلُ الأرواحُ . على مِثْلِ سَلْمَى يَقْتُلُ المرءُ نَفْسَه ... وإن بات من سَلْمى على اليأس طاويا وها هنا تضيق العبارات ، وتتقاصر الإشارات . ٦٢ذَكَرَ صفة هوان الأعداء ، وما هم به من صفة المذلة والعذاب في النار؛ من أَكْلِ الضريع ، ومن شراب الزقوم التي هي في قُبْح صورة الشياطين ، ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم . . . إلى آخر القصة . ٧٥-٧٦لمَّا أَصَابه مِنْ الأذى مِنْ قومه حِين كذَّبوه ، ولم يسمعوا منه ما كان يقول مِنَ حَديثنا . . رَجَعَ إلينا ، فخاطبنا وخاطبناه ، وكلمنا وَكلمناه ، وَنادانا فناديناه ، وكان لنا فكَّنا له ، وأجابنا فأجبناه . . فَلَنِعْمَ المجيبُ كان لنا ولنعمَ المجيبون كُنَّا له! { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } : شتان بين كَرْبِ نوحٍ وبيْن كَرْب أهله! وما يبكون مثلَ أخي ولكن ... أُعزِّي النَّفْس عنه بالتأَسي ٧٧لأنَّ الناس كلهم مِن أَولاد نوح ، فإنَّ مَنْ كان معه في السفينة لم يتناسلوا . ٧٨يريدُ به قول الناس عنه إلى يوم القيامة . ٨٣-٨٤يعني أَنَّ إبراهيم مِنْ شيعة نوح عليه السلام في التوحيد - وإنْ اختلفنا في فروع شرعيهما . { قلب سليم } : لا آفة فيه . ويقال لديغ مِنَ المحبة . ويقال : سليم من محبة الأغيار . ويقال سليم من حُظوظ نفسه وإرادته . ويقال : مستسلم للّه في قضائه واختياره . ٨٥سألهم على جِهة الإنكار عليهم ، والتنبيه لهم على موضع غلطتهم . ٨٧إذا لقيتموه - وقد عَبْدتم غيرَه . . فما الذي تقُولون له؟ وكيف بكم في مقام الخجلة مما بين أيديكم وإن كنتم اليوم - غافلين عنه؟ ٨٨-٨٩قيل أراد ( إلى ) النجوم فأقام ( في ) مقامَ ( إلى ) . { إنِّى سَقِيمٌ } : كانت تأتيه الحمَّى في وقت معلوم ، فقال : قرُبَ الوقتُ الذي أسقم فيه مَنْ أخذِ الحمَّى إياي ، فكأنه تعلل بذلك ليتأخرَ عنهم عند ذهابهم إلى عيدهم لتمشية ما كان في نَفْسه من كسر الأصنام . ويقال كان ذلك من جملة المعاريض . وقيل أرى من نفسه موافقة قَوْلهم في القول بالنجوم لأنهم كانُوا يقولون بالنجوم ، فتأخر بهذا السبب عنهُم . وكان إبراهيم في زمان النبوة فلا يبعد أنَّ اللّه - عزّ وجلّ - قد عرّفه بطريق الوحي أنه يخلق - سبحانه - باختياره أفعالاً عند حركات الكواكب . ثم لمَّا ذَهبوا إلى عيدهم كَسَّرَ أصنامهم ، فلمَّا رجعوا قالوا ما قالوا ، وأجابَهُمْ بما أجابهم به إلى قوله : ٩٧-٩٨رَدّ اللّه كيدهُم إلى نُحورهم . وقد تعرَّضَ له جبريلُ -عليه السلام- وهُوَ في الهواء وَقَد رُمي من المنجنيق فعرَضَ عليه نفسه قائلاً : هل مِنْ حاجة؟ فأجابَ : أَمَّا إليكَ . . . فلا! ٩٩يقال إنه طلبَ هداية مخصوصة؛ لأنه كان صاحب هداية ، إذ لو لم تكن له هداية لَمَا ذَهبَ إلى رَبِّه . ويحتمل أنه كان صاحبَ هدايةٍ في الحال وطلبَ الهداية في الاستقبال أي زيادةً في الهداية . ويقال طلبَ الهداية على كيفية مراعاة الأدَب في الحضور ، ويقال طلبَ الهداية إلى نفسه لأنه فقدَ فيه قلبه ونفسه فقال سيهديني إليَّ لأقومَ بحقِّ عبُوديته؛ فإن المستهلكَ في حقائق الجمع لا يصحُّ منه أداء العبادة إلاَّ بأن يُردَّ إلى حَالة التفرقة والتمييز . ومعنى { إِلَى رَبِّى } أي إلى المكان الذي يُعْبدُ فيه ربي . ويقال أخبر عن إبراهيم أنه قال : { إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى } : فأخْبر عن قوله . وأخبر عن موسى فقال :{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنا }[ الأعراف : ١٤٣ ] ، فأخبر عن صفته لا عن قوله . . وقال في صفة نبينا صلى اللّه عليه وسلم : { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ . . . }[ الإسراء : ١ ] . [ فأخبر عن ذاته سبحانه ] . وفصلٌ بَينَ هذِه المقامات؛ فإبراهيم كان بعين الفرق ، وموسى بعينِ الجمع؛ ونبينا كان بعين جمع الجمع . ١٠٠-١٠١لمّا قال ( حليم ) نبَّهَ على أنه سيلقى من البلاء ما يحتاج إلى الحلم في تحمله . ١٠٢{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ } إشارة إلى وقت توطين القلب عَلَى الوَلد ، رأى إبراهيم - عليه السلام- أنه يُؤمرُ بذبح ابنه إسماعيل ليلةَ التروية ، وسميت كذلك لأنه كان يُروَّي في ذلك طولَ يومه . هَلْ هُو حقٌّ أم لا؟ ثم إنه رأى في الليلة التالية مثل ذلك فَعرف أن رؤياه حق ، فسمي يوم عرفة . وكان إسماعيل ابنَ ثلاث عشرة سنة ، ويقال إنه رأى ذلك في النوم ثلاث مرات . أن اذبح ابنك ، فقال لإسماعيل : { يَآ بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُك فَانظُرْ مَاذَا تَرَى؟ } فقال إسماعيل : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ } : أي لا تحكم فيه بحكم الرؤيا ، فإنها قد تصيب وقد يكُون لها تأويل ، فإن كان هَذا أمراً فافعل بمقتضاه ، وإن كان له تاويل فتثبت ، فقد يمكنك ذبح ابنك كلّ وقتٍ لوكن لا يمكنك تلافيه . ويقال بل قال : أُتركْ حَديثَ الرؤيا واحمله عَلَى الأمر ، وأحملْ الأمر عَلَى الوجوب ، ثم احمله عَلَى الفور ولا تُقصِّرْ . ويقال قال له : إِن كان يطيب قلبكَ بأَن تذبح ابنك لأجل اللّه فأنا يطيب قلبي أن يذبحنى أبي لأجل اللّه . ويقال قال إسماعيل لأبيه : انتَ خليلُ اللّه وتنام . . أَلَمْ تعلَمْ أن الخليلَ إذا نام عن خليله يُؤْمَرُ بِذَبْح ابنه؟ مَالَكَ يا أَبَتِ والنوم؟ ويقال في القصة : إنه رآه ذات يوم راكباً على فَرَسٍ أشهب فاستحسنه ، ونَظَرَ إليه بقلبه ، فأُمِرَ بِذَبْحِه ، فلمَّا أخرجه عن قلبه ، واستسلم لذبحه ظَهَرَ الفداء ، وقيل له كان المقصودُ من هذا فراغَ قلبك عنه . ويقال في القصة : أَمَرَ إسماعيلُ أباه أن يَشُدُّ يديه ورِجْلَيه لئلا يضطربَ إذا مَسَّهُ ألمُ الذَّبح فَيُعاتَب ، ثم لمَّا همَّ بِذَبْحِه قال : افتحْ القيدَ عني حتى لا يقال لي : أمشدودَ اليد جئتني؟ وإني لن أتحركَ : ولو بيدِ الحبيبِ سُقِيتُ سُمَّاً ... لكان السُّمُّ من يدِهِ يطيب ويقال أيهما كان أشدَّ بلاءً؟ قيل : إسماعيل؛ لأنه وَجَد الذَّبحَ من يد أبيه ، ولم يتعوَّد من يده إلاَّ التربية بالجميل ، وكان البلاءُ عليه أشدَّ لأنه لم يتوقع منه ذلك . ويقال بل كان إبراهيم أشدَّ بلاءً لأنه كان يحتاج أن يذبح ابنه بيده ويعيش بعدَه . { سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللّه مِنَ الصَّابِرِينَ } فلم يأتِ إسماعيل بالدعوى بل تأدَّب بلفظ الاستثناء . ويقال لو قال إسماعيل إمَّا لا تَقُلْ : ( يا بُنَيَّ ) بهذه اللطافة ، وإمَّا لا تَقُلْ : { أَنِّى أَذْبَحُكَ } فإنَّ الجمعَ بينهما عجيب! ١٠٣-١٠٥قيل في التفاسير إنه كان يمرُّ بالسكين على حَلْقِه والسكين لا يُقطَع ، فتعجَّبَ إبراهيمُ ، فنودي : يا إبراهيم ، كان المقصودُ من هذا استسلامكما . ويقال إن اللّه سَتَرَ عليهما عِلْمَ ما أُريد منهما في حال البلاء ، وإنما كَشَفَ عنهما بعد مُضِيِّ وقت المحنة لئلا يَبْطُلَ معنى الابتلاَءَ . . . وهكذا يكون الأمر عند البلاء؛ تَنْسَدُّ الوجوهُ في الحال؛ وكذلك كانت حالة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم . في حال حديث الإفك ، وكذلك حالة أيوب عليه السلام؛ وإنما يتبيَّنُ الأمرُ بعد ظهور آخر المحنة وزوالها ، وإلاَّ لم تكن حينئذٍ محنة [ إلاَّ أنه يكون في حال البلاء إسبالٌ يُولَى مع مخامرة المحنة ] ولكن مع استعجام الحال واستبهامه ، إذ لو كشف الأمر على صاحبه لم يكن حينئذٍ بلاءٌ؛ قال تعالى : ١٠٦-١٠٧قيل كان فداء الذبيح يُرَبَّى في الجنة قبله بأربعين خريفاً . والناس في ( البلاء ) على أقسام : فبلاءٌ مستعصب وذلك صفة العوام ، وبلاء مستعذب وذلك صفة مَنْ يستعذبون بلاياهم ، كأنهم لا ييأسون حتى إذا قُتِلُوا . ١١٢-١١٣قوله جلّ ذكره : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَأقَ نَبِيَّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } . وكلُّ هذا بعد البلاء؛ قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }[ الشرح : ٦ ] . ١١٤مَنَّ عليهما بالنبوة ، وبالنجاة من فرعون وقومه ، وبنصرته عليهم . ١١٧يعني التوراة . ١١٨بالتبري عن الحوْل والقوة ، وشهود عين التوحيد . ١٢٣( إلياس ) : قيل هو إدريس ، وقيل غيره ، وكان بالشام ، واسمُ صَنَمِهم ( بَعْل ) ، ومدينتهم بعلبك . . نذر قومَه فكذَّبوه ، ووَعظَهم فما صَدَّقُوه ، فأهلَكَ قومَه . ١٣٣مضت قصتهُ وكيف نجَّى أَهلَه إلا امرأته التي شارَكَتْهم في عصيانهم ، فحقَّ العذاب عليها مثلما عليهم . ١٣٩فكان في أول أمره يطلب الاستعفاء من النبوة ، ولكن لم يُعْفَ ، ثم استقبله ما استقبله ، فلم يلبث حتى رأى نَفْسَه في بطن الحوت في الظلمة . ١٤٢أي بما يُلاََمُ عليه ، والحقُّ - سبحانه - مُنَزَّهٌ عن الحيفِ في حُكْمِه؛ إذ الخَلْقُ خَلْقُه ، ثم اللّه رَاعَى حقَّ تَعَبُّدِه ، وحَفِظَ ذِمامَ ما سَلَفَ له أداء حقَّه فقال : - ١٤٣-١٤٤فإن كَرَمَ العَهْدِ فينا من الإيمان ، وهو مِنَّا من جملة الإحسان ، ( فالمؤمن قد أخذ من اللّه خُلُقاً حسناً ) - بذلك ورد الخبر . ١٤٥( سقيم ) : في ضعفٍ من الحال لِمَا أثَّر مِنْ كَوْنِهِ قضى وقتاً في بطن الحوت . ١٤٦لِتُظِلَّه ، فإنه كان في الصحراء وشعاعُ الشمس كان يََضُرُّه ، وقَيَّضَ له اللّه ظبيةً ذات وَلَدٍ كانت تجيء فيرضع من لبنها ، فكأنّ الحقَّ أعاده إلى حال الطفولية . ثم إنه رَحِمه ، ورجع إلى قومه ، فأكرموه وآمنوا به ، وكان اللّه قد كَشَفَ عنهم العذاب ، لأنهم حينما خَرَجَ يونسُ من بينهم ندموا وتَضَرَّعوا إلى اللّه لمَّا رَأَوْا أوائلَ العذاب قد أظلَّتْهم ، فَكَشَفَ اللّه عنهم العذاب ، وآمنوا باللّه ، وكانوا يقولون : لو رأينا يونسَ لَوَقَّرْناه ، وعظَّمْناه ، فرجع يونسُ إليهم بعد نجاته من بطن الحوت ، فاستقبله قومُه ، وأدخلوه بَلَدَهم مُكرّماً . ويقال : الذَّنْبُ والجُرْمُ كانا من قومه ، فهم قد تُوُعِدُوا بالعذاب . وأمَّا يونس فلم يكن قد أذنب ولا ألَمَّ بمحظور ، وخرج من بينهم ، وكَشَفَ اللّه العذابَ عنهم ، وسَلِمُوا . . واستقبل يونس ما استقبله بل أنه قاسى اللتيا والتي بعد نجاته؛ ويا عجباً من سِرِّ تقديره! فقد جاء في القصة أن اللّه سبحانه - أوحى إلى يونس بعد نجاته أَنْ قُلْ لفلانٍ الفَخَّار حتى يَكْسِرَ الجِرارَ التي عملها في هذه السنه كلَّها! فقال يونس : يا رب ، إنه قَطَعَ مدةً في إنجاز ذلك ، فكيف آمُرُه بأن يَكْسِرَها كُلَّها؟ فقال له : يا يونس ، يَرِقُّ قلبُكَ لِخَزّافٍ يُتْلِفُ عَمَلَ سنةٍ . . . وتريدني أن أُهْلِكَ مائةَ ألفٍ من عبادي؟! يا يونس ، إنك لم تخلقهم ، ولو خَلَقْتَهم لَرَحِمْتَهم . ١٤٩لمَّا قالوا في صفة الملائكة إنهم بناتُ اللّه بَيَّنَ اللّه قُبْحَ قَوْلِهم ، فقال : سَلْهُم من أين قالوا؟ وبأي حُجَّةً حكموا بما زعموا؟ وأي شُبْهَةٍ داخَلَتْهم . ثم إنهم كانوا يستنكفون من البنات ، ويُؤْثِرون البنين عليهن . . ومع كُفرهم وقبيح قولِهم وصفوا القديمَ - سبحانه - بما استنكفوا منه لأَنْفُسهم . ١٦١-١٦٣أي ما أنتم بفاتنين من الناس إلاَّ من أَغْوَيْتُه بحُكْمِي ، فبه ضَلُّوا لا بإضلالكم . ١٦٤الملائكة لهم مقام معلوم لا يَتَخطَّوْنَ مقامَهم ، ولا يتعدَّوْن حدَّهم ، والأولياءُ لهم مقام مستورٌ بينهم وبين اللّه لا يُطْلِعُ عليه أحداً ، والأنبياءُ لهم مقام مشهورٌ مؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة؛ لأنهم للخَلْقِ قدوة فأَمْرُهُم على الشّهْرِ ، وأَمْرُ الأولياءِ على السَّتْرِ . ١٧١أي سبقت كلمتنا لهم بالسعادة ، وتقدَّمَ حُكْمنَا لهم بالولاية والرعاية ، فَهُم من قِبَلِنَا منصورون . ١٧٢-١٧٣مَنْ نَصَرَه لا يُغْلَبُ ، ومَنْ قَهَرَه لا يَغْلِب . وجُنْدُه الذين نَصَبَهم لنَشْرِ دينه ، وأقامَهم لِنَصْرِ الحقِّ وتبيينه . مَنْ أَراد إذلالَهم فَعَلى أذقانه يخرُّ ، وفي حبل هلاكه ينجرُّ . ١٧٤-١٧٥توَلَّ عنهم - يا محمد - إلى أن تنقضيَ آجالُهم ، وتنتهيَ أحوالُهم ، وانتظِرْ انقضاءَ أيامِهم ، فإنه سينصرم حديثهم وشيكاً : ١٧٦وإنما قال ذلك فيما كانوا يتمنون قيام الساعة ، وكانوا يستعجلون ذلك لِفَرْطِ جهلهم ، ثم لقلة تصديقهم . فإذا نزل العذابُ بساحتهم ، وأناخ البلاءُ بعقوتهم فساء صباحهم . فتولَّ عنهم فَعَنْ قريبٍ سيحصل ما منه يَحْذَرون . ١٨٠-١٨٢{ سُبْحَانَ رَبِّكَ } : تقديساً له ، وسلامٌ على أَنبيائنا ، { وَالْحَمْدُ للّه } : أي هو المحمود على ما ساءَ أم سَرَّ ، نَفَعَ أم ضَرَّ . |
﴿ ٠ ﴾