سورة ص١الصَّادُ مفتاحُ اسمه الصادق والصبور والصمد والصانع . . . أقسم بهذه الأشياء . وبالقرآنِ . وجواب القسم : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } . ويقال : أقسم بصفاءِ مودةِ أحبابه والقرآنِ ذي الذكر أي : ذي الشرف . . . وشَرفُه أنه ليس بمخلوق . ٢في صلابةٍ ظاهرة ، وعدواة بَيِّنة ، وإعراضٍ عن البحث للأدلة ، والسِّرِّ للشواهد . ٣بادوا حين هَجَمَ البلاءُ مستغيثين ، وقد فات وقتُ الإشكاء والإجابة . ٤عَجِبُوا أن جاءَهم مُنْذِرٌ منهم ، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتاتُ آلهةً ، وهذه مناقضة ظاهرة . فلمَّا تحيَّروا في شأن أنبيائهم رَمَوْهم بالسحر ، وقسَّموا فيهم القول . ٥لم تباشر خلاصةُ التوحيد قلوبَهم ، وبعدوا عن ذلك تجوزاً ، فضلاً عن أن يكون إثباتاً وحُكْماً ، فلا عَرَفُوا الإلهَ ولا معنى الإلهية؛ فإنَّ الإلهيةَ هي القدرة على الاختراع . وتقديرُ قادِرَيْنِ علىلاختراع غيرُصحيح لِما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، ثم إنَّ ذلك يمنع من كمالهما ، ولو لم يكونا كامِلي الوصفِ لم يكونا إِلَهْين ، وكلُّ أمرٍ جرى ثبوتُ سقوطِ فهو مطروحٌ باطل . ٦إذا تواصى الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمؤمنون أَوْلى بالصبر على عبادة معبودهم والاستقامة في دينهم . ٧ركنوا إلى السوء والعادة ، وما وجدوا عليه أسلافَهم من الضلالة ، واستناموا إلى التقليد والهوادة . ٨أي لو استبصروا في دينهم لَمَا أَقدموا على ما أسرفوا فيه من جحودهم ، ولولا أَنَّا أَدَمْنا لهم العوافيَ لَماَ تَفَرَّغُوا إلى طغيانهم . ٩أي : هؤلاء الكفار الذين عارضوا أو نازعوا ، وكّذَّبوا واحتجُّوا . . . أعندهم شيءٌ من هذه لأشياء؟ أم هل هم يقدرون على شيءٍ من هذه الأشياء فيفعلوا ما أرادوا ، ويعطوا من شاؤوا ، أو يرتقوا إلى السماء فيأتوا بالوحي على مَنْ أرادوا؟ ١١بل هم جُنْد من الأحزاب المحزبين . كُلُّهم عَجَزَةٌ لا يقدرون على ذلك ، مهزومون . شَبَّهَهُم في بقائهم عن مرادهم بالمهزومين؛ فإن هؤلاء الكفار ليس معهم حُجَّةُ ، ولا لهم قوة ، ولا لأصنامهم أيضاً من النفع والضر مُكْنَة ، ولا في الردِّ والدفع عن أنفسهم قدرة . ١٢ذَكَرَ هؤلاء الأقوام في هذا الموضع على الجمع ، وفي غير هذا الموضع على الإفراد ، وفي كل موضع فائدة زائدة في الفصاحة والإفادة بكل وجه . ١٤أي ما كان منهم أحدٌ إلاَّ كَذَّبَ الرسلَ فحقَّت العقوبةُ عليه ، واستوجَبَ العذابَ . ١٥أي ليسوا ينتظرون إلا القيامة ، وما هي إلا صيحة واحدة ، وإذا قامت فإنها لا تسكن . ١٦اصْبرْ - يا محمد - على ما يقولون ، فإنه لن تطولَ مُدَّتُهم ، ولن نَمُدَّ- في مقاساتِكَ أَذَاهم- لُبْثَكَ ومُكْثَكَ ، وعن قريبٍ سينزل اللّه نَصْرَه ، ويصدق لك بالتحقيقِ وَعْدَه . ١٧{ ذَا الأَيْدِ } أي ذا القوة ، ولم تكن قُوَّتُه قوةَ نَفْسٍ ، وإنما كانت قوته قوةَ فِعْلٍ؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً- وهو أشدُّ الصوم ، وكان قوياً في دين اللّه بِنَفْسِه وقلبه وهمته . { أَوَّابٌ } رَجَّاع . ١٨-١٩كان داود يُسَبِّح ، والجبالُ تُسَبِّح ، وكان داود يفهم تسبيحَ الجبالِ على وجهِ تخصيصٍ له بالكرامة والمعجزة . وكذلك الطير كانت تجتمع له فتسبِّح اللّه ، وداود كان يعرف تسبيحَ الطير؛ وكلُّ مَنْ تَحقَّقَ بحاله ساعَدَه كلُّ شيءٍ كان بقُرْبِه ، ويصير غيرُ جِنْسِه بحُكْمِه ، وفي معناه أنشدوا : رُبَّ ورقاءَ هتوفِ بالضُّحى ... ذات شجوٍ صَرَخَتْ في فَنَنِ ذَكَرَتْ إلفاً ودهراً صالحاً ... وبَكَتْ شوقاً فهاجَتْ حَزَني فبُكائي رُبَّما أَرَّقَها ... وبكاها ربما أَرَّقني ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني وغير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضاً باجوى تعرفني ٢٠أي قوَّيْنا مُلْكَه بأنصاره ، وفي التفسير : كان يحفظ مُلْكَه كلَّ ليلةٍ ثلاثةٌ وثلاثون ألفَ رجلٍ . قوله جلّ ذكره : { وَشَدَدنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } . أي شددنا مُلْكَه بنصرنا له ودَفْعِنا البلاَءَ عنه . ويقال شدنا مُلْكَه بالعدل في القضية ، وحُسْنِ السيرة في الرعية . ويقال شددنا ملكه بقبض أيدي الظَّلَمَة . ويقال شددنا ملكه بدعاء المستضعفين . ويقال شددنا مُلْكَه بأن رأى النصرةَ مِنَّا ، وَتَبرَّأَ من حَوْلِه وقُوَّتِه . ويقال بوزراء ناصحين كانوا يدلُّونه على ما فيه صلاح مُلْكه . ويقال بِتَيَقُظِه وحُسْنِ سياسته . ويقال بقبوله الحق من كلِّ أحد . ويقال برجوعه إلينا في عموم الأوقات . { وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } : أي أعطيناه الرُّشْدَ والصوابَ ، والفَهْمَ والإصابة . ويقال العلم بنفْسِه وكيفية سياسة أمته . ويقال الثبات في الأمور والحكمة ، وإِحكام الرأي والتدبُّر . ويقال صحبة الأبرار ، ومجانبة الأشرار . وأمَّا { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } فهو الحكم بالحق ، وقيل : البينة على مَنْ ادَّعىَ واليمين على مَنْ أنكر . ويقال : القضاء بين الخصوم . ٢١-٢٢قوله جلّ ذكره : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ } الآيات . أرسل اللّه إلى داود عليه السلام مَلَكَيْنِ من السماء على صورة رجلين فتحاكَمَا إليه تنبيهاً له على ما كان منه من تَزَوُّجِه بامرأة أوريا ، وكان تَرْكُ ذلك أَوْلَى -هذا على طريق مَنْ رأى تنزيهَ الانبياءِ عليهم السلام من جميع الذنوب . وأمَّا مَنْ جَوَّزَ عليهم الصغائر فقال : هذا من جملته . وكنَّى الخَصْمان باسم النعجة عن النساء . وكان داود عليه السلام قال للّه سبحانه وتعالى : إِنَّي لأَجِدُ في التوراة أنَّكَ أعطيتَ الأنبياءَ الرُّتَبَ فأَعْطِنِيها ، فقال : إِنهم صبروا فيما ابتَلَيْتُهم به ، فوعد داودُ من نَفْسِه الصبرَ إذا ابتلاه طمعاً في نَيْلِ الدرجات ، فأخبر اللّه تعالى أنه يبتليه يومَ كذا ، فجعل داودُ ذلك اليوم يوم عبادة ، واختلى في بيته ، وأَمَرَ حُرَّاسَه ألا يؤذيَه أحدٌ بالدخول عليه ، وأغلق علىنَفْسِه البابَ ، وأخذ يُصَلِّي زماناً ، ويقرأ التوراةَ زماناً يتعبَّد . أغلق على نفسه الباب ولكن لم يمكنه غَلْق بابِ السماء . وأَمَرَ حَرَسَه أن يدفعوا عنه الناسَ وكنوا ثلاثين ألف رجل - ويقال أربعة آلاف - ولكن لم يُمْكِنْهم أَنْ يدفعوا عنه حُكْمَ القضاء ، ولقد قال الحكماء : الهاربُ مما هو كائن في كَفِّ الطالبِ يتقلب . وكانت في البيت كوَّةٌ يدخل منها الضوء ، فَدَخَلَ طيرٌ صغيرٌ من الذهب ، ووقع قريباً منه ، وكان لداود ابنٌ صغيرٌ فَهَمَّ أن يأخذَه ليدفعَه إلى ابنه ، فتباعَدَ عنه . وجاء في التفاسير : أنه كان إبليس ، قد تصوَّر له في صورة طير ، فَتَبِعَه داود ، ولم يزل الطائرُ يتباعد قليلاً قليلاً ، وداود يتبعه حتى خَرَجَ من الكوة ، وَنَظَر داود في إثره فَوَقَعَ بَصَرُه على امرأة أوريا وهي تغتسل متجردةً ، فعاد إلى قلبه منها شيء ، فكان هذا السبب . ويقال لم يَرْعَ الاهتمامَ بسبب وَلَدِه حتى فعل به ما فعل ، وفي ذلك لأولي الأبصار عِبْرَةٌ . ويقال لم يكن أوريا قد تزوَّجَ بها بَعْدُ ، وقد كان خَطَبَها ، وأجابَتْه في التزوج به ، فَخَطَبَ داود على خِطْبَتِه . وقيل بل كانت امرأتَه وسأله أن ينزل عنها ، فَنَزَلَ علىأمره وتزوجها . وقيل بل أرسل أوريا إلى قتال الأعداء فقُتِلَ وتزوَّج بها . فلمَّا تَسَوَّرَ الخصمان عليه ، وقيل دَخَلاَ من سور المحراب أي أعلاه ولذلك : - { فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَان بَغَا بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ } . نحن خصمان ظَلَمَ بعضُنا بعضاً ، فاحكُمْ بيننا بالعدل . ٢٣{ أَكْفِلْنِيهَا } أي انزلْ عنها حتى أكفلَها أنا ، { وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ } . أي غلبني ، فقال داود : ٢٤قوله جلّ ذكره : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } فضحك أحدهما في وجه صاحبه ، وصَعدَ إلى السماء بين يديه ، فَعَلِمَ داودُ عند ذلك انه تنبيهٌ له وعتابٌ فيما سَلَفَ منه ، وظنَّ واستيقن أنه جاءَتْه الفتنةُ الموعودة : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } . أخذ في التضرع ، وجاء في التفسير أنه سجد أربعين يوماً لا يرفع رأسَه من السجود إلا ( للصلاة ) المكتوبة عليه ، وأخذ يبكي حتى نَبَتَ العُشبُ من دموعه ، ولم يأكل ولم يشرب في تلك المدة ، حتى أوحى اللّه إليه بالمغفرة ، فقال : يا رب ، فكيف بحديث الخصم؟ فقال : إني استوهبْتُك منه ، وقال تعالى : ٢٥إن له عندنا لَقُربةً وحُسْنَ رجوع ، وقيل : كان لا يشرب الماء إلا ممزوجاً بدموعه . ويقال لمَّا التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة والبكاء والتضرع والاستخذاء وَجَدَ المغفرةَ والتجاوز . . . وهكذَا مَنْ رجع في أوائل الشدائد إلى اللّه فاللّه يكفيه مما ينوبه ، وكذلك مَنْ صَبَرَ إلى حين طالت عليه المحنة . ويقال إنَّ زَلّةً أَسَفُكَ عليها يوصلك إلى ربِّك أَجْدَى عليك من طاعةٍ إعجابُكَ بها يُقْصِيكَ عن ربِّك . ٢٦{ جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً } أي بعد مَنْ تَقَدَّمَكَ من الأنبياء عليهم السلام . وقيل حاكماً من قِبَلِي لتحكمَ بين عبادي بالحقِّ ، وأوصاه بألا يتبعَ في الحكم هواه تنبيهاً على أنَّ أعظمَ جنايات العبد وأقبحَ خطاياه متابعةُ الهوى . ولما ذَكَرَ اللّه هذه القصة أعقبها بقوله : ٢٧{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ }( باطلاً ) أي وانا مُبْطِلُ في خلقهما ، وبل كان لي ما فعلْتُ وأنا فيه مُحِقٌّ . ويقال ما خلقتهما للبطلان بل لأمرهما بالحقِّ . ثم أخبر أنه لا يجعل المفسدين كالمحسنين قط . ٢٩{ مُبَارَكٌ } وهو القرآن ، ومبارك أي كبيرُ النّفْعِ ، ويقال مباركٌ أي دائمٌ باقٍ لا ينسخه كتابٌ؛ مِنْ قولهم بَرَكَ الطيرُ علىلماء . ويقاَل مباركٌ لِمَنْ آمَنَ به وصَدَّقَ . ثم إنه بَيَّنَ أَنَّ البركةَ في تَدَبُّرِهِ والتفكُّرِ في معانيه . ٣٠{ نِعْمَ الْعَبْدُ } لأنه كان أَوَّاباً إلى اللّه ، راجعاً إليه في جميع الأحوال؛ في النعمة بالشكر ، وفي المحنة بالصبر . ٣١{ الصَّافِنَاتُ } جمع صافنة وهي القائمة ، وفي التفاسير هي التي تقوم على ثلاث قوائم؛ إذ ترفع إحدى اليدين عل سُنْبُكِها . وجاء في التفاسير أن سليمان كان قد غَزَا أهلَ دمشق ، وأصابَها منهم ، وقيل وَرِثَهَا عن أبيه داود وكان قد أصابها من العمالقة ، وقيل كانت خيلاً لها أجنحة خرجت من البحر . وفي بعض التفاسير عُرِضَ عليه عشرون ألف فرسٍ فَشَغَلَتْه عن بعض أذكاره للّه . { بِالْعَشِىِّ } : في آخر النهار ، وقيل كان ذلك صلاة العصر . ٣٢أي لَصقْتُ بالأرض لحُبِّ المال . ويقال لمَّا سَبَّلَ هذه الأفراس عَوَّضَه اللّه - سبحانه - بأن سَخَّرَ له الريح ، وهذا أبلغ ، وكلُّ مَنْ تَرَكَ شيئاً للّه لم يخسر على اللّه . ٣٣قيل أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراماً منه لها بعد لها بعدأن فَرَغَ من صلاته . وقيل عَرْقَبَها ( ليذبحها فَحَبَسَها بالعرقبة عن النفار ) ، وقيل وَضَعَ عليها الكيَّ فَسَبَّلَها ، وإيش ما كان فكلُّ ذلك كان جائزاً في شرعه . ٣٤اختلف الناسُ في هذه الفتنة؛ ومنها أنه كانت له مائة امرأة فقال :( لأَطوفَنَّ على هؤلاء فيولد من كل واحدةٍ منهن غلام يقاتل في سبيل اللّه ) ولم يَقُلْ إن شاء اللّه ، ولم تَحْمِلْ إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءت بشق مولود ، فألقته على كرسيِّه ، فاستغفر ربه من تَرْك الاستنشاء ، وكان ذلك ترك ما هو الأَوْلَى . وقيل كان له ابن ، وخافت الشياطين أن يبقى بعد موت أبيه فيرثه ، فَهَمُّوا بقَتْلِه ، فاستودعه الريح في الهواء لئلا تصل إليه الشياطينن ، فمات الولد ، وألفته الريح على كرسيه ميتاً . فالفتنة كانت في خوفه من الشياطين وتسليمه إلى الهواء ، وكان الأوْلَى به التوكل وتَرْكَ الاستعانة بالريح . وقيل في التفاسير : إنه تزوج بامرأة كانت زوجة مَلِكٍ قهره سليمان ، وسَبَاها ، فقالت له : إن أَذِنْتُ لي أَنْ اتَّخِذَ تمثالاً على صورةٍ لأبي لأتسلَّى بنظري إليه؟ فأَذِنَ لها ، فكانت ( تعظمه وتسجد له مع جواريها أربعين يوماً ) ، وكانت تعبده سِرّاً ، فعوقب عليه . وقيل كان سبب بلائه أن امرأة كانت مِنْ أَحَبِّ نسائه إليه ، وكان إذا أراد دخول الخللاء نَزَعَ خاتمه ودَفَعَه إليها ، وهي على باب الخلاء ، فإذا خَرَجَ استردَّه . وجاء يوماً شيطانٌ يُقَال له ( صخر ) على صورة سليمان وقال لامرأته : ادفعي إليَّ الخاتم فدفعته ، ولبسه ، وقعد على كرسيه ، يُمَشِّي أمورَه -إلا التصرفَ في نسائه- فقد منعه اللّه عن ذلك . فلمَّا خرج سليمانُ طَالَبَ المرأة بالخاتم ، فقالت : الساعةَ دَفَعْتُه إليك . فظَنَّ أنه فُتِنَ ، وكان إذا أخبر الناسَ أنه سليمان لا يُصَدِّقُونه ، فخرج ( هارباً إلى ساحل البحر ) ، وأصابته شدائد ، وحمل سَمَكَ الصيادين بأجرةٍ حتى يجدَ قُواتاً . ولما اتهم ( بنو إسرائيل ) الشيطانَ ( واستنكروا حُكْمَه ) نشروا التوراة بين يديه ففرَّ ورمى بالخاتم في البحر ، وطار في الهواء . ولمَّا أَذِنَ اللّه رَدَّ مُلْكَ سليمان إليه ، ابتلعت سمكةٌ خاتمه ، ووقعت في حبال الصيادين ، ودفعوها إلى سليمان في أجرته ، فلمَّا شقَّ بَطْنَهَا ورأى خاتَمه لبسه ، وسَجَدَ له الملاحون ، وعاد إلى سرير مُلْكَه . ٣٥أي مُلْكاً لا يسلبه أحدٌ مني هذا كما سُلِبَ مني في هذه المرة . وقيل أراد انفراده به ليكونَ معجزةً له على قومه . وقيل أراد أنه لا ينبغي لأحدٍ من بعدي أن يسأل المُلْكَ ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى اللّه في اختياره له . ويقال لم يقصد الأنبياء ، ولكن قال لا ينبغي من بعدي لأحدٍ من الملوك . وإنما سأل المُلْكَ لسياسة الناس ، وإنصافِ بعضهم من بعض ، والقيام بحقِّ اللّه ، ولم يسأله لأَجْلِ مَيْلِه إلى الدنيا . . . وهو كقول يوسف : { اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ }[ يوسف : ٥٥ ] . ويقال لم يطلب المُلْكَ الظاهرَ ، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه ، فإن المَلِكَ -على الحقيقة- مَنْ يَمْلِكَ نَفْسَه ، ومَنْ مَلََكَ نَفْسَه لم يَتَّبعْ هواه . ويقال أراد به كمالَ حالهِ في شهود ربِّه حتى لا يَرَى معه غيرَه . ويقال سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار . ويقال علم أن سِرَّ نبيِّنا - صلى اللّه عليه وسلم - ألا يلاحِظَ الدنيا ولا ملكَها فقال :{ لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مِّن بَعْدِى }[ ص : ٣٥ ] لا لأنه بَخِلَ به على نبيِّنا صلى اللّه عليه وسلم ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك . ٣٦شكَرَ اللّه سَعْيَه ، وسَخَّرَ له الريحَ بَدَلاً من الأفراس؛ فلا يحتاج في إمساكها إلى العَلَفِ والمُؤَنِ . ٣٧-٣٨كما سخَّرنا له الشياطين . ٣٩ثم قال : { هَذَا عَطَآؤُنَا . . . } أي فأَعْطِ أَو أَمْسِكْ ، واحفظْ وليس عليك حساب . والمشيُ في الهواء للأَولياء ، وقَطْعُ المسافاتِ البعيدة في مدة يسيرة مما يعلم وجوده قطعاً في الأمه - وإنْ لم يعلمه الأفراد والآحاد على التعيين . وإظهاره على خَدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفه يَدُلُّ على أن مقامه - صلى اللّه عليه وسلم - أشرف . ٤١أي بما كان يوسوس إليه بتذكيره إياه ما كان به من البَلِيَّة ، وقيل لما كان قال ( أي الشيطان ) لامرأته : اسجدي لي حتى أردَّ عليكم ما سلبتكُم . ويقال إن سبب ابتلائه أنه استعان به مظومٌ فلم يَنْصُرْه . . . فابتُلِيَ . ويقال استضافَ الناسَ يوماً فلمَّا جاءَه ابنُ فقيرٍ مَنَعَه من الدخول . ويقال كان يغزو مَلِكاً كافراً ، وكان لأيوب غَنَمٌ في ولايته ، فداهَنَه لأَجْلِ غَنَمِه في القتال . ويقال حَسَدَه إبليسُ ، فقال : لَئِنْ سَلَّطْتني عليه لم يشكر لك . ويقال كان له سبع بنات وثلاثة بنين في مكتب واحدٍ ، فَجَرَّ الشيطانُ الاسطوانة فانهدم البيت عليهم . ويقال لبث أيوب في البلاء ثماني عشرة سنه ، وقيل أربعين سنة ، وقيل سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات . ٤٢لمَّا أراد اللّه كَشْفَ البلاءِ عنه قال له : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } ، فركض ، فظَهَرت عينُ ماءٍ باردٍ فاغتسل به ، فعاد إليه جمالُه وكمالُه . وقيل الأولى كانت عيناً حارةً والثانية باردة ، واغتسل ، ورَدَّ اللّه وشَعْرَه وبشره ، وأحيا أولاده وأهله ، وقيل بل يردُّهم إليه في الجنة في الآخرة . ٤٤الضِغْث الحزمة من القضبان ، وقيل كانت مائة ، وأُمِرَ بأن يضرب بها دفةً على امرأته لئلا يحنث في يمينه ، فإنه كان قد حلف أن يضربها مائةَ خشبةٍ إِنْ صحَّ ( أنها أخطأت ) . فَشَكَرَ اللّه لها لبراءةِ ساحتِها ، وصبرها على خدمته . وسببُ يمينه أنه لما قال لها إبليسُ : اسجدي لي؛ أخبرت أيوبَ بذلك ، فغاظه حيث سمعت من إبليس ذلك وظنَّتْ أنه صادق . وقيل باعت ذوائبها برغيفين حملتهما إليه فتوهَّمَ في ذلك رِيبةً ، وكان أيوب يتعلَّق بذوائبها ( إذا أراد القيام ) . وقيل رابه شيءٌ منها فَحَلَف ( أن يضربها بعد شفائه ) . { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً . . . } : والصبرُ ألا تعترضَ على التقدير . ويقال الصبر الوقوف تحت الحُكْم . ويقال التلذُّذ بالبلاء ، واستعذابُه دون استصعابه . ويقال اصبر الوقوف مع اللّه بحسن الأدب . ولم يَنْفِ قولُه { مَسَّنِىَ الضُّرُّ }[ الأنبياء : ٨٣ ] اسمَ الصبرِ عنه؛ لأنَ ذلك لم يكن على وجه الشكوى ، ولأنه كان مرة واحدة ، وقد وقف الكثيرَ من الوقت ولم يَقُلْ مَسَّني الضُّرُّ؛ فكان الحُكْمُ للغالب . { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } لم يشغلْه البلاءُ عن المُبْلِي . ونِعْمَ العبدُ لأنه خرج من البلاء على الوجه الذي دخل فيه . ٤٥قوله جلّ ذكره : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } . { أُوْلِى الأَيْدِى } : أي القوة . { وَالأَبْصَارِ } أي البصائر . ٤٦-٤٧{ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ } : أي بفضيلة خالصة وهي ذكر الجنة والنار ، أوبدعاء الناس إلى الجنة والهرب مِنَ النار . ويقال بسلامة القلب من ذكر الدارين؛ فلا يكون العمل على ملاحظة جزاء . ويقال تجردوا لنا بقلوبهم عن ذكري الدار ، { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ } . ٤٨{ وَذَا الْكِفْلِ } : قيل كان تَكَفَّلَ للّه بعمل رجلٍ صالحٍ مات في وقته ، وقيل كَفَلَ مائةً من بني إسرائيل هربوا من أمير لهم ظالمٍ ، فكان يُنْفِقُ عليهم . ويقال كان اليسعُ وذو الكفل أَخَوَيْن . ٤٩أي هذا القرآن فيه ذِكْرُ ما كان ، وذِكْرُ الأنبياء والقصص . ويقال إنَّه شرفٌ لك؛ لأن معجزةٌ تدل على صِدْقِك ، وإن للذين يتَقَّوُن المعاصِيَ لَحُسْنَ المُنْقَلَبِ . ٥٠أي إذا جاؤوها لا يلحقهم ذُلُّ الحجاب ، ولا كُلْفَةُ الاستئذان ، تستقبلهم الملائكةُ بالترحاب والتبجيل . متكئين فيها على أرائكهم ، يدعون فيها بفاكهةٍ كثيرة وشارب على ما يشتهون ، وعندهم حورٌ عين قاصراتُ الطَّرْفِ عن غير أزواجهن ، ( أتراب ) : لِدَاتٌ مُستَوِيَاتٌ في الحُسْنِ والجمال والشكل . ٥٥لَشَرَّ مَرْجع ومُنْقَلَبٍ؛ وهي جهنم يدخلونها فيبقون مُعّذَّبِين فيه ، وبِئْس المكانُ ذلك! ٥٧( حميم ) : هو الماء الحلو ، و ( غسَّاق ) هو عصارة أهل النار ، ويقال هو زمهرير جهنم . ٥٨أي فنون أخرى من مثل ذلك العذاب . ٥٩-٦١هؤلاء قومٌ يقتحمون النارَ معكم وهم أتابعكم ، ويقول الأتباع للمتبوعين : لا مرحباً بكم؛ أنتم قدمتموه لنا بأمركم فوافقناكم ، ويقولون : { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هّذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النّارِ } . فيقال لهم كُلُّكُم فيها ، ولن يفترَ العذابُ عنكم . ٦٢يقول الكفار عندما يدخلون النار : ما لنا لا نرى رجالاً كُنَّا نعدهم في الدنيا من الأشرار والمستضعفين . . . فَلَسْنَا نراهم ها هنا؟ أهم ليسوا هنا أم زاغت عنهم أبصارُنا؟ يقوله أبو جهل وأصحابُه يعنون بلالاً والمستضعفين ، فيُعَرَّفون بأنهم في الفردوس ، فتزداد حسراتُهم . ٦٤أي إن مخاصمةَ أهل النارِ في النار لَحَقٌّ . ٦٥-٦٦قل يا محمد : إنما أنا مُنْذِرٌ مخوِّفٌ ، مُبَلِّغٌ رسالةَ ربي ، وما من إلهِ إلا اللّه الواحد الذي لا شريك له . ٦٧-٧٠أي الذي أَتَيْتُكم به من الاخبار عن القيامة والحَشْرِ ، والجنة والنار ، وما أخبرتكم به عن نُبُوَّتي وصِدْقي هو نبأ عظيمٌ ، وأنتم أعرضْتُم عنه . وما كان لي من عِلْم بالملأ الأعلى واختصامهم فيه لولا أَنَّ اللّه عَرَّفني ، وإلا ما كُنْتُ عَلِمْتُه . والملأَ الأعلّى قومٌ من الملائكة في السماء العليا ، واختصامهم كان في شأن آدم حيث قولوا : أتجعل فيها مَنْ يُفْسِد فيها؟ وقد ورد في الخبر : ( أن جبريل سأل الرسولَ صلى اللّه عليه وسلم عن الاختصام فقال : لا أدري . فقال جبريل : في الكفارات والدرجات؛ فالكفارات إسباغُ الوضوء في السَّبْرَات ، ونَقْل الأقدامِ إلى الجماعات ، وأما الدرجات فإفشاءُ السلام ، وإطعامُ الطعام ، والصلاةُ بالليل والناسُ نيام ) ، وإنما اختلفوا في بيان الأجر وكمية الفضيلة فيها- فيجتهدون ويقولون إن هذا أفضل من هذا ، ولكنهم في الأصل لا يجحدون . . . . وهذا إنما يُوحى إليَّ وأنا منذرمبين . ٧١إخباره الملائكة بذلك إنما يَدُلُّ على تفخيم شأن آدم؛ لأنه خَلَقَ ما خَلَقَ من الكونين ، والجنة والنار ، والعرش والكرسي ، والملائكة ، ولم يقل في صفة شيءٍ منها ما قال في صفة آدم وأولاده . ولم يأمر بالسجود لأَحَدٍ ولا لشيءٍ إلا لآدم ، وسبحان اللّه! خَلَقَ أَعَزَّ خَلْقِه من أَذَلِّ شيءٍ وأَخَسِّه وهو التراب والطين . ٧٢روحُ آدم - وإنْ كانت مخلوقة - فَلَها شَرَفٌ على الأرواح لإفرادها بالذكر ، فلمَّا سوَّى خَلْقَ آدم ، ورَكَّبَ فيه الروح جللّه بأنوار التخصيص ، فوقعَتْ هيبته على الملائكة ، فسجدوا لأمره ، وظهرَتْ لإبليسَ شقاوتهُ ، ووقع - بامتناعه - في اللعنة . ٧٥-٧٦من هنا وقع في الغلط؛ تَوَهَّمَ أَنَّ التفضيل من حيث البنية والجوهرية ، ولم يعلم أن التفضيلَ من حيث القسمة دون الخِلْقَة . ويقال ما أودع اللّه - سبحانه - عند آدم لم يوجد عند غيره ، ففيه ظهرت الخصوصية . ٧٧-٧٨قال فاخرج من الجنة ، ومن الصورة التي كنت فيها ، ومن الحالة التي كنتَ عليها ، { فإِنَّكَ رَجِيمٌ } مَرْمِيٌّ باللَّعنِ مني ، وبالشُّهب من السماء ، وبالرجوم من قلوب الأولياء إنْ تَعَرَّضْتَ لهم . ٧٩-٨١من كمال شقاوته أنه جرى على لسانه ، وتعلَّقت إرادتُه بسؤال إنظاره ، فازداد إلى القيامة في سبب عقوبته ، فأَنْظَرَهُ اللّه ، وأجابه ، لانه بلسانه سأل تمامَ شقاوته . ٨٢-٨٣ولو عَرَفَ عِزَّتَه لَمَا أقسم بها على مخالفته . ويقال تجاسُرُه في مخاطبة الحقِّ -حيث أصَرَّ على الخلاف وأقسم عليه -أَقْبَحُ وأَوْلى في استحقاق اللعنة من امتناعه للسجود لآدم . قوله جلّ ذكره : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقََّ أَقُولُ لأَمَلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } . وختم اللّه سبحانه السورة بخطابه إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم : { قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } . ما جئتكم من حيث أنا ، ولا باختياري ، وإنما أُرْسِلْتُ إليكم . { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } يعني القرآن ، عظة لكم . { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } وعُلِمَ صِدْقُه بعد ما استمرت شريعتُه ، فإن مثل ذلك إذا كان باطلاً لا يدوم . |
﴿ ٠ ﴾