سورة فصلت

١

حم

٢

بحقي وحياتي ، ومجدي في صفاتي وذاتي . . هذا تنزيلٌ من الرحمن الرحيم .

٣

بُيِّنَتْ آياتُه ودلالاتُه .

{ وقُرْءَاناً عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } : الدليل منصوبٌ للكافة ولكنَّ الاستبصار به للعالِمين -دون المُعْرِضين الجاحدين .

٤

{ بَشِيراً } : لِمَنْ اخترناهم واصطفيناهم .

{ وَنَذِيراً } : لِمَنْ أقميناهم ، وعن شهودِ آياتنا أعميناهم .

{ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } عند دعائنا إياهم ، فهم مُثْبَتُون فيما أردناهم ، وعلى ذلك ( الوصف ) عَلِمْناهم .

٥

قالوا ذلك على الاستهانة والاستهزاء ، ولو قالوه عن بصيرةٍ لكان ذلك منهم توحيداً ، فمُنُوا بالمَقْتِ لِما فقدوا من تحقيق القلب .

٦-٧

إنما أنا بَشَرٌ مثلكم في الصورة والبِنْية ، والذات والخِلقة . والفرقَانُ بيني وبينكم أنَّه يُوحَى إليَّ أنما إلهكم إله واحد؛ فالخصوصية مِنْ قِبَلِه لا مِنْ قِبَلِي ، ولقد بَقِيتُ فيكم عمراً ، ولقيتموني جهراً . . فما عثرتم مني على غير صواب ، ولا وجدتم في قولي شوب كذاب . وأمري إليكم أن استقيموا في طاعته ، واستسلموا لأمره . . . وطوبى لِمَن أجاب ، والويلُ لِمَنْ أصرَّ وعاب! .

٨

{ ءَامِناً } : شاهدوا ، { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } : لازموا بِساط العبودية .

{ ءَامَنُواْ } : شهدوا الحضرة ، { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } : وقفوا بالباب .

{ ءَامَنُواْ } : حضروا ، { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } : بعد ما حضروا لم ينصرفوا .

{ لَهُمْ أَجرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } : غير منقوص؛ فأجرُ النفوسِ الجنةُ ، وأجرُ القلوب الرضا باللّه ، وأجرُ الأرواح الاستئناسُ باللّه ، وأجرُ الأسرار دوام المشاهدة للّه .

٩

خَلَقَ الزمانَ ولم يكن قبله زمان ، وخَلَقَ المكان ، ولم يكن قبله مكان؛ فالحقُّ -سبحانه- كان ولا مكان ولا زمان ، فهو عزيزٌ لايُدْرِكُه المكانُ ، ولا يَمْلِكُه الزمان .

{ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } . . . وكيف يكون الذي لم يكن ثم حصل نِدًّا للذي لم يَزَلْ . . . ولا يزال كما لم يزل؟! ذلك ربُّ العالمين .

١٠

الجبالُ أوتادُ الأرضِ في الصورة ، والأولياءُ أوتادٌ ورواسٍ للأرض في الحقيقة .

{ وَبَارَكَ فِيهَا } : البركةُ الزيادة . . فيأتيهم المطرُ ببركاتِ الأولياء ، ويندفع عنهم البلاء ببركات الأولياء .

{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } : وجعلها مختلفةً في الطَّعْمِ والصورةِ والمقدار . وأرزاقُ القلوبِ والسرائر كما مضى ذكره فيما تقدم .

١١

{ اسْتَوَى } أي قَصَدَ ،

وقيل فعل فعلاً هو الذي يعلم تعيينه .

ويقال رتَّبَ أقطارها ، وركَّبَ فيها نجومَها وأزهارَها .

{ فَقَالَ لَهَا وَللأرْضِ ائْتِنَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } : هذا على ضرب المَثَل؛ أي لا يتعسَّر عليه شيءٌ مما خلقه ، فله مِنْ خَلْقِه ما أراده .

وقيل بل أحياهما وأعقلهما وأنطقهما فقالتا ذلك . وجعل نفوسَ العابدين أرضاً لطاعته وعبادته ، وجعل قلوبهم فَلكاً لنجومِ علمه وشموسِ معرفته .

وأوتادُ النفوسِ الخوفُ والرجاءُ ، والرغبةُ والرهبة . وفي القلوب ضياءُ العرفانِ ، وشموس التوحيد ، ونجوم العلوم والعقولِ والنفوسِ . والقلوبُ بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه .

١٢

زَيَّنَ السماء الدنيا بمصابيح ، وزيَّنَ وجهَ الأرضِ بمصابيحَ هي قلوب الأحباب؛ فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب الأولياء بالليل فذلك متنزههم كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء استأنسوا برؤية الكواكب .

١٣

أي أخْبِرْ المُكَذِّبين لَكَ أنَّ لكم سَلَفاً . . فإن سلكتم طريقهم في العناد ، وأبيتم إلاَّ الإصرار ألحقناكم بأمثالكم .

١٥

ركنوا إلى قوة نفوسهم فخانتهم قواهم ، واستمكنت منهم بلواهم .

١٦

فلم يغادر منهم أحداً .

١٧

قيل إنهم في الابتداء آمنوا وصدَّقوا ، ثم ارتدُّوا وكذَّبوا ، فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستئصال .

١٨

{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } : منهم من نجَّاهم من غير أن رأوا الناس؛ فعبروا القنطرة ولم يعلموا ، وقومٌ كالبرق الخاطف وهم أعلاهم ، وقومٌ كالراكض . . وهم أيضاً من الأكابر ، وقومٌ على الصراط يسقطون ويردُّهم الملائكة على الصراط . فبعد وبعد . . قومٌ بعدما دخلوا النار فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ثم إلى ركبتيه ثم إلى حَقْوَيه ، فإذا ما بلغت النار القلب قال الحقُّ لها : لا تحرقي قلبه؛ فإنه محترقٌ فيَّ . وقومٌ يخرجون من النار بعدما امْتُحِشوا فصاروا حُمَماً .

١٩-٢٢

شهدت عليهم أجزاؤهم ، ولم يكن في حسابهم أن اللّه سيُنْطِقها وهو الذي أنطق كلَّ شيء ، ولم يَدُرْ بخَلدهم ما استقبهم من المصير الأليم .

٢٣

{ ذلكم ظنكم } : وكذا مَنْ قعد في وصف الأقوال ، ووَسَمَ موضِعَه ، وحَكَمَ لنفسه انه مُقَدَّمُ بلده . فلا يُسْمَعُ منه إلا ببرهانٍ ودليلٍ من حاله ، فإن خالف الحالُ قولَه فلا يُعتمد عليه بعد ذلك .

والظنُّ باللّه إذا كان جميلاً فلعمري يُقَابَلُ بالتحقيق ، أمَّا إذا كان نتيجةَ الغرورِ وغيرَ مأذونِ به في الشرع فإنه يُرْدِي صاحبه .

٢٤

فإن يصبروا على موضع الخسف فسينقلبون إلى النار ، وإن يستعتبوا -فعلى ما قال - فما هم بمعتبين .

٢٥

إذا أراد اللّه بعَبْدٍ خيراً قَيَّضَ له قرناءَ خير يُعِينونه على الطاعات ، ويَحْمِلونه عليها ، ويدعونه إليها . وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ حملوه على المخالفات ، ودَعَوْه إليها . . . ومن ذلك الشيطانُ؛ فأنهُ مُقَيَّضٌ مُسَلَّطٌ على الإنسان يوسوس إليه بالمخالفات . وشرٌّ من ذلك النَّفْسُ . فإنها بئس القرين!! فهي تدعو العبدَ -اليومَ - إلى ما فيه هلاكه ، وتشهد عيه غداً بفعل الزلَّة . فالنفسُ - وشرُّ قرينٍ للمرءِ نفسهُ - والشياطينُ وشياطينُ الإنْسِ . . كلها تُزيِّن لهم { مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من طول الأمل ، { وَمَا خَلْفَهُمْ } من نسيان الزَّلَلِ ، والتسويف في التوبة ، والتقصير في الطاعة .

٢٦

استولى على قلوبهم الجَحْدُ والإنكارُ ، ودام على العداوة فيهم الإصرارُ؛ فاحتالوا بكل وجهٍ ، وتواصَوْا فيما بينهم بألا يستمعوا لهذا القرآن لأنه يغلب القلوب ، ويسلب العقول ، وكل مَنْ استمع إليه صَبَا إليه .

وقالوا : إذا أَخّذَ محمدٌ في القرآن فأَكْثِرُوا عند قراءته اللَّغوَ واللغطَ حتى يقع في السهو الغَلَط .

ولم يعلموا أن الذي نُوِّرَ قلبُه بالإيمان ، وأُيِّدَ بالفهم ، وأُمِّدَ بالنصرة ، وكوشف بسماع السِّرِّ من الغيب هو الذي يسمع ويؤمن . والذي هو في ظلمات جهله لا يدخل الإيمانُ قلبَه ، ولا يباشر السماعُ سِرَّه .

٢٧

اليومَ بإدامة الحرمان الذي هو الفراق ، وغداً بالتخليد في النار التي هي الاحتراق .

٢٨

لهم فيها الخزي والهوان بلا انقطاع ولا انصرام .

٢٩

من الجنِّ إبليس . ومن الإنس قابيل من آدم فهو أول منْ سَنَّ المعصية ( حين قتل أخاه ) .

{ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } ؛ هذه الإرادة وهذا التمني زيادة في عقوبتهم أيضاً؛ لأنهم يتأذون بتلك الإرادة وهذا التمني؛ فهم يجدون أنه لا نَفْعَ لهم من ذلك إذ لن يُجَبوا في شيء ، ولن يُمْنَعَ عنهم العذاب .

ويفيد هذا الإخبار عنهم عن وقوع التبَرِّي فيما بينهم ، فبعضهم يتبرأ من بعض ، كما يفيد بأن الندمَ في غير وقته لا جدوى منه .

٣٠

( ثم ) استقاموا : ثم حرف يقتضي التراخي ، فهو لا يدل على انهم في الحال لا يكونون مستقيمين ، ولكنه معناه استقاموا في الحال ، ثم استقاموا في المآل بأن استداموا إيمانَهم إلى وقت خروجهم من الدنيا ، وهو آخرُ أحوالِ كونِهم مُكَلَّفين .

ويقال : قالوا بشرط الاستجابة أولاً ، ثم استبصروا بموجب الحجة ، ولم يثبتوا على وصف التقليد ، ولم يكتفوا بالقالة دون صفاء الحالة .

( استقاموا ) : الاستقامة هي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها من غير إخلالٍ بشيءٍ من أقسامها . ويقال : هم على قسمين .

مستقيم ( في أصول ) التوحيد والمعرفة . . وهذه صفة جميع المؤمنين .

ومستقيم في الفروع من غير عصيان . . وهؤلاء مختلفون؛ فمنهم . . ومنهم ، ومنهم .

{ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ } : الذي لهم البشارة هم كل من استقام في التوحيد ، ولم يشرك . فله الأمان من الخلود . ويقال : مَنْ كان له أصل الاستقامة أَمِنَ من الخلود في النار ، ومن كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد من غير أن يلحقه سوءٌ بحالٍ . . ثم الاستقامة لهم على حسب أحوالهم؛ فمستقيمٌ في عهده ، ومستقيم في عقده ، ومستقيم في جهده ومراعاة حدِّه ، ومستقيم في عقده وجهده حدِّه وحبِّه . وودِّه . . وهذا أتمُّهم .

ويقال : استقاموا على دوام الشهود وعلى انفراد القلب باللّه .

ويقال : استقاموا في تصفية العقد ثم في توفية العهد ثم صحة القصد بدوام الوجد .

ويقال : استقاموا بأقوالهم ثم بأعمالهم ، ثم بصفاء أحوالهم في وقتهم وفي مآلهم .

ويقال : أقاموا على طاعته ، واستقاموا في معرفته ، وهاموا في محتبه ، وقاموا بشرائط خدمته .

ويقال : استقامةٌ الزاهدِ ألا يرجعَ إلى الدنيا ، وألا يمنعَه الجاهُ بين الناس عن اللّه . واستقامةُ العارفِ ألا يشوبَ معرفتَه حظٌّ في الداريْن فيحجبه عن مولاه . واستقامةُ العابدَ ألا يعودَ إلى فترته واتباع شهوته ، ولا يتداخله رياءٌ وتصنُّع واستقامة المُحِبِّ ألا يكون له أرَبٌ من محبوبه ، بل يكتفي من عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده .

{ أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُواْ } : إنما يكون الخوف في المستقل من الوقت ، ومن حلولِ مكروهِ أو فوات محبوبٍ فالملاكةُ يبشرونهم بأن كل مطلوبٍ لهم سيكون ، وكل محذورٍ لهم لا يكون .

والحزن من حُزُونه الوقت ، ومن كان راضياً بما يجري فلا حزنَ له في عيشه . والملائكة يبشرونهم بأنهم لا حزنه في أحوالهم ، وإنما هم الرَّوْح والراحة .

{ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ } : أي بحسن المآب ، وبما وَعَدَ اللّه من جميل الثواب .

والذي هو موعودٌ للأولياء بسفارة الملَكِ موجودٌ اليومَ لخواصٌ عباده بعطاء المَلِكِ؛ فلا يكون لأحدهم مطالعةٌ في المستقبل من حاله بل يكون بحكم الوقت؛ فلا يكون له خوفٌ؛ لأن الخوف -كما قلنا من قبل- ينشأ من تطلع إلى المستقبل إمَّا من زوالِ محبوبٍ أو حصولِ مكروه ، وإن الذي بصفة الرضا لا حزونة في حاله ووقته .

ويمكن القول : { لا تخافوا } من العذاب ، { ولا تحزنوا } على ماخلفتم من الأسباب ، { وأبشروا } بحسن الثواب في المآب .

ويقال : { لا تخافوا } من عزل الولاية ، { ولا تحزنوا } على ما أسلفتم من الجناية ، ( وأبشروا ) بحسن العناية في البداية .

ويقال : { لا تخافوا } مما أسلفتم ، { ولا تحزنوا } على ما خلفتم ، { وأبشروا } بالجنة التي لها تكلفتم .

ويقال : { لا تخافوا } المذلَّة ، { ولا تحزنوا } على ما أسلفتم من الزلَّة ، { وأبشروا } بدوام الوصلة .

٣١

الولاية من اللّه بمعنى المحبة ، وتكون بمعنى النصرة .

وهذا الخطاب يحتمل أن يكون من قِبَلِ الملائكة الذين تنزلوا عيلهم ، ويحتمل أن يكون ابتداءَ خطابِ من اللّه .

والنصرة تصدر من المحبة؛ فلو لم تكن المحبة الأزلية لم تحصل النصرة في الحال . ويقال : { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بتحقيق المعرفة ، { وَفِى الأَخِرَةِ } بتحصيل المغفرة .

ويقال { نَحْنُ أَوْليَآؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بالعناية ، { وَفِى الأَخِرَةِ } بحسن الكفاية وجميل الرعاية .

{ وفِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بالمشاهدة ، { وَفِى الأَخِرَةِ } بالمعاينة .

في الدنيا الرضاء بالقضاء ، وفي الأخرة باللقاء في دار البقاء .

في الدنيا بالإيمان ، وفي الآخرة بالغفران .

في الدنيا بالمحبة ، وفي الآخرة بالقربة .

{ وَلَكُمْ فِيهَا } أي في الجنة { مَا تَشْتَهِى أَنْفُسُكُمْ } : الولايةُ نقدٌ ، وتحصيل الشهوات وعدٌ ، فَمَنْ يشتغل بنقده قلَّما يشتغل بوعده .

{ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } : أي ما تريدون ، وتدعون اللّه ليُعطيَكم .

٣٢

{ نُزُلاً } : أي فضلاً وعطاءً ، وتقدمةً لما يستديم إلى الأبد من فنون الأفضال ووجوه المبارِّ .

{ مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } : وفي ذلك مساغٌ لآمال المذنبين؛ لأنهم هم الذين يحتاجون إلى المغفرة ، ولولا رحمته لما وصلوا إلى مغفرته .

٣٣

أي لا أحدَ أحسنُ قولاً منه ، ويكون المراد منه النبي صلى اللّه عليه وسلم ويحتمل أن يكون جميع الأنبياء عليهم السلام .

ويقال هم المؤمنون . ويقال هم الأئمة الذين يدعون الناس إلى اللّه .

وقيل هم المؤذنون . ويقال الداعي إلى اللّه هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاءِ باللّه وتَرْكِ طالب العِوَض من اللّه ، ويَكِلُ أمره إلى اللّه ، ويرضى من اللّه بقسمة اللّه .

{ وَعَمِلَ صَالِحًا } : أي كما يدعو الخَلْقَ إلى اللّه يأتي بما يدعوهم إليه .

ويقال هم الذين عرفوا طريقَ اللّه ، ثم سلكوا طريقَ اللّه ، ثم دعوا الناسَ إلى اللّه .

ويقال بل سلكوا طريق اللّه؛ فبسلوكهم وبمنازلاتهم عرفوا الطريق إلى اللّه . ثم دعوا الخَلْقَ إليه بعد ما عرفوا الطريق إليه .

٣٤

ادفعْ بالخصلة التي هي أحسن السيئةَ يعني بالعفو عن المكافأة ، وبالتجاوز والصفح عن الزلة ، وترك الانتصاف .

{ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } يُشْبِه الوليَّ الحميمَ - ولم يَصِرْ ولياً مخلصاً . . . وهذا من جملة حُسْنِ الأدب في الخدمة في حقِّ صحبتك مع اللّه؛ تحلم مع عباده لأَجْلِه .

ومن جملة حُسْن الخُلُق في الصحبة مع الخَلْقِ ألا تنتقم لنفسك ، وأَنْ تعفوَعن خصمك .

٣٥

لا يقوم بحق هذه الأخلاق إلاّ مَنْ أُكْرِم بتوفيق الصبر ، ورُقِّي عن سفساف الشيم إلى معالي الأخلاق . ولا يصل أحسنَ الدرجاتِ إلا مَنْ صبر على مقاساة الشدائد .

٣٦

إذا اتصلَتْ بقلبك نزغاتُ الشيطان فبادِرْ بذكر ربِّك ، وارجعْ إليه قبل أية خطوة . . فإنك إن لم تخالف أولَ هاجسٍ من هواجس الشيطان صار فكرة ، ثم بعد ذلك يحصل العزم على ما يدعو إليه الشيطان . . فإذا لم تتداركْ ذلك تجري الزلَّة ، وإذا لم تتداركْ ذلك بحُسْنِ الرُّجعي صار فسقاً . . . وبتمادي الوقت تصبح في خَطَرِ كل آفة .

ولا يتخلص البعدُ من نزغات الشيطان إلا بصدق الاستعانة وصدق الاستغاثة وبذلك ينجو من الشيطان ، وقد قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[ الإسراء : ٦٥ ] ؛ فكلما ازداد العبدُ في تبرِّيه من حَوْلِه وقوته ، وأخلص بينْ يدي اللّه بتضرعه واستعانته واستعاذته زاد اللّه في حِفْظه ، ودَفَع الشيطان عنه .

٣٧

أَوْضَحَ الآياتِ ، وأَلاحَ البينَاتِ ، وأَزاحَ عِلَّةَ مَنْ رام الوصول . واختلاَفُ الليل والنهار ، ودورانُ الشمسِ والقمر من جملة أمارات قدرته ، ودلالات توحيده .

{ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ } في علائها ، { وَلاَ لِلْقَمَرِ } في ضيائه ، { وَاسْجُدُواْ للّه } فقد غار عليك أن تسجد لغيره .

والشمسُ - وإِنْ عَلَتْ ، والقمر - وإنْ حَسُنُ . . . فلأجْلِكَ خلقناهما ، فلا تسجدْ لهما ، واسجُدْ لنَا .

ويقال : خَلقَ الملائكة -ومع كثرة عبادتهم ، ومع تقدمهم في الطاعة- قال لهم : اسجدوا لآدم ، وحين امتنع واحدٌ منهم لُعِنَ إلى الأبد . وقال لأولاد آدم العصاةِ المذنبين : { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } فشتِّان ما هما!! .

والحقُّ -سبحانه وتعالى- يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر . . وأنت لأجْلٍ كلِّ حظِّ خَسِيسٍ تنقل قَدَمَكَ إلى كلِّ أحدٍ؛ وتدخل بمحياك عَلَى كلِّ أحدٍ!! .

٣٨

أي إنْ تَرَفّعَ الكفارُ فلا خَلَلَ؛ لأن الحقَّ غنيٌّ عن كل أحد ، ثم إن الملائكة - الذين هم سكان الآخرَ - يسجدون له بالليل والنهار ، وهم لا يسأَمون من عبادته .

٣٩

الأرضُ تكون جَدْبةً يابسةً في الشتاء ، فإذانزل عليهما المطر اهتزت بالنبات واخضرّت وكذلك القلوب إذا خشعت لاستشعارها بما ألمَّتْ به من الذنوب أقبل عليها الحق سبحانه ، فظهر فيها بركاتُ الندم ، وعفا عن أربابها ما قصرُّوا في صِدْق القدَم؛ وكذلك وقعت للعبد قترةٌ في معاملاته- أو غيبةٌ عن بساط طاعاته ، ثم تغمَّده الحقُّ - سبحانه - بما يدخل عليه من التذكر تظهر في القلب أنوارُ الوفاق ، فيعود إلى مألوف مقامه ، ويرجع عود سداده غضَّا طرياً ، ويصير شجر وفاقه - بعد ما أصابته الجدوبة - بماء العناية مستقياً .

وكذلك إذا بدت لأهل العرفان وقفة ، أو حدثت لهم من جرَّاء سوء أدبٍ بَدَرَ منهم حجبةٌ ثم نظر الحقِّ - سبحانه - إليهم بالرعاية . . اهتزّت رياضُ أُنْسِهم ، واخضرَّت مشاهدُ قربهم ، وانهزمت وفودُ وقفتهم .

{ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } : إن الذي أحيا الأرضَ بعد موتها قادرٌ على إحياء النفوس بالحشر والنشر . وكذلك هو قادر على إحياء القلوب بنور العناية بعد الفترة والحجبة .

٤٠

سيلقون من العذاب ما يستوجبونه . . فَلْيَعْمَلوا ما شاءوا . . فليسوا . . يَسْعَونْ إلاَّ في ذَمَّهم ، وليسوا يمشون إلا إلى هلاكهم بأَقدامهم .

٤١

الجواب محذوف ومعناه : بقوا عنَّا ، ووقعوا في هوانهم وشقوا إلى الأبد .

{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } : كتابٌ عزيزٌ لا مِثْلَ له حيث قد عجزوا عن الإتيان بمثله . كتابٌ عزيز غالبٌ لِشُبَهِ المبتدعين والكفار .

عزيزٌ لا يقدر على معارضته أحدٌ . . من قولهم أرض عزاز .

كتاب عزيزٌ لأنه كلامُ ربٍّ عزيز إلى رسولٍ عزيزٍ بسفارة مَلَكٍ عزيزٍ إلى أُمَّةٍ عزيزة .

كتاب عزيزٌ على المؤمنين لأنه كتابُ حبيبِهم . . وكتابُ الحبيبِ إلى الحبيب . عزيزٌ .

٤٢

أي لا ينقضه كتابٌ آخر لا مما تقدَّمه من الكتب ، ولا مما يأتي من بعده . . أي لا كتابَ بعده ، ولا نسخَ له .

ويقال لا يدفع معناه لفظَه ، ولا يخالف لفظُه معناه . .

ويقال لا يقدر أحدٌ أنْ يأتيَ بمثله .

٤٣

أصولُ التوحيدِ لا تختلف بالشرائع؛ فجوهرُها في الأحكام واحد : هو أنه تجب موافقة أوامره ، واجتناب مزاجره . ثم إن اللّه تعالى قال في كل كتابٍ ، وشَرَعَ لكل أمة أَنْ يعرفوا أنه للمطيعين مُثيبٌ ، وللكافرين ذو عذاب شديد .

٤٤

أخبر أنه أزاح العِلَّةَ أَنْ يعرفَ صِدْقَ الدعوة ، وصحة الشريعة .

ثم وصفَ الكتابَ بأنه شفاءٌ للمؤمنين ، وسببُ شقاء للكافرين .

وهو شفاءٌ حيث استراحوا به عن كَدِّ الفكر وتحيُّر الخواطر .

وهو شفاءٌ لضيق صدور المريدين لما فيه من التنعم بقراءته ، والتلذُّذ بالتفكُّر فيه .

وهو شفاءٌ لقلوب المحبين من لواعِج الاشتياق لما به من لُطْفِ المواجيد .

وهو شفاءٌ لقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق ، وآثار خطاب الرب العزيز .

{ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } : هم لا يسمعون بقلوبهم من الحق ، ولا يستجيبون . . بقوا في ظلمات الجحد والجهل .

{ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } : لا يزدادون على مر الأيام إلا ضلالاً .

٤٥

آتينا موسى التوراةَ ، وأرسلناه إلى قومه ، فاختلفوا في أمره . . فَمَنْ كَحَّلْنا سرَّه بنور التوحيد صَدَّقه ، ومَنْ أعميناه عن مواقع البيان قابله بالتكذيب وجحده .

{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } وهي أن عقوبتَهم في النار بعد قيام القيامة لَعَجَّلنا استئصالهم ، ولأذقناهم في الحال وبالَهم .

٤٦

( فلنفسه ) لأن النفعَ عائدٌ إليه . ومَنْ عمل عملاً سيئاً فإنما ظَلَمَ نَفْسَه ، وأساء إليها؛ لأنه هو الذي يقاصي ضرَّه ويلاقي شرَّه .

٤٧

لمَّا استعجلوا وقالوا : متى تقوم هذه القيامةُ التي يَتوعَّدنا بها؟

قال اللّه تعالى : إنَّ علمَ القيامة ينفرد به الحقُّ فلا يعلم غيره ، فكما لا يعلم أحدٌ ما الذي يخرج من الاشجار من الثمار ، وما الذي تنطوي عليه أرحامُ النساءِ من أولادها ذكوراً وإناثاً ، وما هم عليه من أوصاف الخِلْقة ، ويحصل من الحيوانات من نتاجها - فلا يعلم هذه الأشياء إلا اللّه - فكذلك لا يعلم أحدٌ متى تقوم القيامة .

{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى } : يتبرؤون من شركائهم ، ولكن في وقت لا تنفعهم كثرةُ نَدَمِهم وبكائهم .

٤٩

لا يَمَلُّ الإنسانُ من إرادة النفع والسلامة ، وإنْ مَسَّه الشرُّ فيئوسٌ لا يرجو زوالَه لِعَدَمِ علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إليه .

٥٠

لئن كَشَفْنا عنه البلاَءَ ، وأوجبنا له الرجاء لادَّعاه استحقاقاً أو اتفاقاً ، وما اعتقد أن ذلك مِنَّا فضلٌ وإيجاب .

ويقول : لو كان حشرٌ ونشرٌ لكان لي من اللّه لطفٌ وخير ، وغداً يعلم الأمر ، وأنه بخلاف ما تَوَهَّمَ . . . وذلك عندما نذيقه ما يستوجبه من عذاب .

٥١

هو لا يميز بين البلاء والعطاء؛ فكثيرٌ مما يتوهمه عطاءً هو مكرٌ واستدراجٌ . . وهو يستديمه . وكثيرٌ مما فضلٌ وصَرْفٌ وعطاءٌ يظنه من البلاء فيعافُه ويكرهه .

ويقال إذا أنعمنا عليه صاحَبَه بالبَطَر ، وإذا أبليناه قابَلَه بالضجر .

ويقال إذا أنعمنا عليه أُعُجِبَ بنفسه ، وتكبَّر مختالاً في زَهْوِه ، لا يشكر ربَّه ، ولا يدرك فضلَه ، ويتباعد عن بِساط طاعته .

والمستغني عنَّا يهيم على وجهه ، وإذا مسَّه الشرُّ فذو دعاءٍ كثيرٍ ، وتضرُّعٍ عريض ، وابتهالٍ شديد ، واستكشافٍ دائم .

ثم إذا كشفنا عنه ذلك فله إلى عُتُوِّه ونُبُوِّه عَوْدٌ ، ولسوء طريقته في الجحود إعادة .

٥٢-٥٤

{ سَنُرِيهِمْ } : السن للأستقبال؛ اي سيُظهر لهم من الآيات ، ومن الأحداث التي تجري في أحوال العالمَ ، وما سيحِلُّ بهم من اختلاف الأمور ما يتبيَّن لهم من خلاله أنَّ هذا الدَّين حقٌّ ، وأنَّ هذا الكتابَ حقٌّ ، وأن محمداً - صلى اللّه عليه وسلم - حقٌّ ، وأن المُجْرِيَ لهذه الآياتِ والأحداثِ والأمورِ والمنشىءَ له هو الحقُّ - سبحانه .

ومن تلك الآيات ما كان من قَهْرِ الكفار ، وعُلُوِّ الإسلام ، وتلاشي أعداء الدين .

ويقال من تلك الآيات في الأفاق اختلافُ أحكام الأعين مع اتفاق جواهرها في التجانس . . وهذه آيات حدوثِ العالَم ، واقتضاء المُحدَثِ لصفاته .

{ وَفِى أَنفُسِهِمْ } : من أمارات الحدوثِ واختلافِ الأوصاف ما يمكنهم إدراكه .

ويقال : { فِى الأَفَاقِ } للعلماء ، { وَفِى أَنفُسِهِمْ } لأهل المعرفة مما يجدونه من العقاب إذا أَلَمُّوا بذَنْبِ ، ومن الثواب إذا أخلصوا في طاعة .

وكذلك ما يحصل لهم من اختلاف الأحوال من قبضٍ وبسط ، وجمع وفَرْقٍ ، وحجبٍ وجذبٍ . . . وما يجدونه بالضرورة في معاملاتهم ومنازلاتهم .

{ أَوَلَمْ يَكْفِ بِربِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شهِيدٌ } : هو الكافي ، ولكنهم - أي الكفار - في مِرْيةٍ من لقاء ربهم في القيامة . والإشارة فيه : أن العوامَّ لَفي شكٍ من تجويز ما يُكَاشَفُ به أهلُ الحضورِ من تعريفات السرِّ .

{ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ } : عالِمٌ لا يَخْفَى عليه شيءٌ .

﴿ ٠