سورة الدخان

١-٢

الحاء تشير إلى حقِّه؛ والميم تشير إلى محبته . ومعناه : بحقي وبمحبتي لِعِبادي ، وبكتابي العزيز إليهم : إنِّي لا أُعِذِّبُ أهل معرفتي بفرقتي .

٣

{ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } : قيل هي ليلة القَدْر ،

وقيل هي النصف من شعبان وهي ليلة الصَّك . أنْزَلَ القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كلَّ سَنَةٍ بمقدار ما كان جبريلُ ينزل به على الرسول صلى اللّه عليه وسلم .

وسمَّاها : { لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } لأنها ليلة افتتاح الوصلة . وأشدُّ الليالي بركةً ليلةٌ يكون العبدُ فيها حاضراً ، بقلبه ، مشاهداً لربَّه ، يتَنَعَّمُ فيها بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة .

وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة ، كما قالوا :

لا أظْلِمُ الليلَ ولا أدَّعي ... أنَّ نجومَ الليل ليست تزولُ

لَيْلِي كما شاءت : قصيرٌ إذا ... جادَتْ ، وإن ضنَّتْ فَلَيْلِي طويلُ

٤

{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكٍيمٍ } يكتب من أمِّ الكتاب في هذه الليلة ما يحل في السنة كلّها من أقسام الحوادث في الخير والشرِّ ، في المحن والمِنَنِ ، في النصر والهزيمة ، في الخصب والقحط .

ولهؤلاء القوم ( يعني الصوفية ) أحوالٌ من الخصب والجدب ، والوصل والفصل ، والوفاق والخلاف ، والتوفيق والخذلان ، والقبض والبسط . فكم مِنْ عبدٍ ينزل له الحكم والقضاء بالبُعْدِ والشقاء ، وآخر ينزل حكمه بالرِّفد والوفاء .

٥-٦

{ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } : وهي الرسولُ - صلى اللّه عليه وسلم ، قال صلوات اللّه عليه : ( أنا رحمة مهداة ) .

ويقال : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } رحمةً لنفوسُ أوليائنا بالتوفيق ، ولقلوبهم بالتحقيق .

{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } : ( السميع ) لأنين المشتاقين ، ( العليم ) بحنين المحبين .

٧

مالك السموات والأرضين ، ومالك ما بينهما - وتداخل في ذلك اكسابُ العباد .

وتَمْلُّكُها بمعنى القدرة عليها ، وإذا حَصَلَ مقدورٌ في الوجود دَلَّ على أنه مفعولُه؛ لأن معنى الفعل مقدورٌ وجِدَ .

٨

قوله جلّ ذكره : { لآَ إِلَه إِلاَّ هُوَ يُحىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ ورَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ } .

هذه الكلمة فيها نَفْيُ ما أثبتوه بجهلهم ، وإثباتُ ما نَفَوْه بجحدهم .

{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِِينَ } : مُرَبِّي أصْلَكُم ونَسْلَكُمْ .

٩

قوله جل ذكره : { بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ } .

اللَّعِبُ فِعْلٌ يجري على غير ترتيبٍ تشبيهاً باللُّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص؛ فَوَصَفَ المنافقَ باللَّعبِ؛ وذلك لتردُّدِه وتحيُّرِه نتيجةَ شكِّه في عقيدته .

١٠

قوله جل ذكره : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينَ } .

هذا من اشراط الساعة؛ إذ يتقدم عليها .

وقيامة هؤلاء ( يقصد الصوفية ) معجَّلة ( أي تتم هنا في هذه الدنيا ) فيومُهم الذي تأتي السماء فيه بدخان مبين هو يومُ غيبةِ الأحباب ، وانسداد ما كان مفتوحاً من الأبواب ، أبوابِ الأُنسِ بالأحباب في معناه قالوا :

فما جانبُ الدنيا بسَهْلٍ ولا الضُّحى ... بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياةٍ بباردِ

١١

قوله جل ذكره : { يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } .

وعذابُ هؤلاء ( يقصد الصوفية ) مقيمٌ في الغالب ، وهو عذابٌ مُسْتَعذْبٌ ، أولئك يقولون :

١٢

{ رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } .

وهؤلاء يستزيدون - على العكس من الخَلْق - العذاب ، وفي ذلك يقول قائلهم :

فكلُّ مآربي قد نِلْتُ منها ... سوى ملذوذِ وجدي بالعذاب

فهم يٍسألون البلاََءَ والخَلْقُ يستكشفونه ، ويقولون :

أنت البلاءُ فكيف أرجو كَشْفَه ... إنَّ البلاَءَ إذا فَقَدْتُ بلائي

١٣

إن خالفوا دواعي قلوبهم من الخواطر التي تَرِدُ من الحقِّ عليهم عوقبوا- في الوقت بما لا يتَّسعُ لهم ويُسْعِفهم ، فإذا أخذوا في الاستغاثة يقال لهم : أنَّى لكم الذكرى وقد جاءكم الرسول على قلوبكم فخالفتم؟!

١٥-١٦

قوله جلّ ذكره : { إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } .

حيث نورثكم حزناً طويلاً ، ولاتجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً .

١٧-١٨

قوله جل ذكره : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إلَىَّ عِبَادَ اللّه إِنِّى لَكَمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } .

فتَنَهم بعد ما أصَرُّوا على جحودهم ولم يرجعوا إلى طريق الرشد من نفرة عنودهم .

{ وَجَآءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } : يطالبهم بإزالة الظلم عن بني إسرائيل ، وأن يستبصروا ، واستنفرهم للّه ، وأظهر الحُجَّةَ من قِبَلِ اللّه .

٢٣-٢٤

{ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَبَعُونَ } .

أمَرَه بأن يَسْرِيَ بعباده المؤمنين ، وعرَّفهم أنهم سيُنْقَذون ، وأنَّ عدوَّهم { جُندٌ مُّغْرَقُونَ } .

٢٥-٢٧

قوله جل ذكره : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } .

ما خلفوه من أحوالهم ومن رياشهم ، وما تركوه من أسباب معاشهم استلبناه عنهم .

٢٨

{ كَذِلَكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ } .

وأسْكَنَّا قوماً آخرين في منازلهم ودورهم .

٢٩

قوله جل ذكره : { فَمَا بَكَتْ عَليْهِمُ السَّمَآءُ والأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } .

لم يكن لهم من القَدْرِ والخَطَرِ ما يتحرك في العالَم بِسببَهم ساكنٌ ، أو يسكن متحركٌ فلا الخضراء بسببهم اغبرَّتْ ، ولا الغبراءُ لغيبتهم اخضَّرتْ . لم يبقَ منهم عينٌ ولا أثر ، ولم يظهر مِنْ قِبَلِهم على قلبِ أحدٍ من عبادِنا أثرٌ . وكيف تبكي السماءُ لفقْدِ من لم تستبشر به من قَبْلُ؟ بعكس المؤمن الذي تُسَرُّ السماءُ بصعود ِعمله إليها ، فإنها تبكي عند غيابه وفَقْدِه .

٣٠-٣١

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ } .

نجَّاهم ، وأقمى عدوَّهم ، وأهلكه .

٣٢

{ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ } أي عَلِمنا ما يحتقبون من أوزارهم ، فرفعنا - باختيارنا- من أقدارِهم ما وَضعَه فِعْلُهم وتدنسُّهم بأوضارهم .

ويقال : ( على علمٍ منا ) بأحوالهم أنهم يُؤثِرون أمرنا على كل شيء .

ويقال : ( على علمٍ منا ) بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا .

ويقال : ( على علم منا ) بما نودع عندهم من اسرارنا ، وما نكاشفهم به من حقائق حقِّنا .

٣٣

قوله جل ذكره : { وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الأَيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينَ } .

من مطالبته بالشكر عند الرخاء ، والصبر عند الكَدَرِ والعناء .

٣٤-٣٦

قوله جل ذكره : { إِِنَّ هَؤُلآَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا تَحنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِئَابَآئِنآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

اقترح أبو جهلٍ على النبي - صلى اللّه عليه وسلم - أن يحييَ لهم نَفْساً :

( لتخبرنا : هل أنت صادق أم لا؟ ) فأخبر اللّه - سبحانه - أنهم اقترحوا هذا بعد قيامِ الحُجَّةِ عليهم ، وإظهار ما أزاح لهم من العُذْر :

٣٧

ثم قال جل ذكره : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمٌ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .

( تُبّع ) هو ملك لليمن ، وكان مسلماً ، وكان في قومه كثرة ، وأهلك اللّه سبحانه قومَه على كثرة عددهم ، وكمال قُوَّتِهم .

٣٨-٣٩

قوله جل ذكره : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } .

ما خلقناهما إلا بالحقِّ ، بالحُكْمِ الحقِّ ، وبالأمرِ الحقِّ . . . ( فأنا مُحِقُّ في خَلْقِهما ) : أي كان لي خَلْقُهما .

٤٠-٤٢

قوله جل ذكره : { إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلىً عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إلاَّ مَن رَّحِمَ اللّه إِنَّهُ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } .

يومئذٍ لا يُغْني ناصرٌعن ناصر ولا حميمٌ عن حميم ، ولا نسيبٌ عن نسيبٍ . . . شيئاً . ولا ينالهم نصرٌ إلا من رَحِمَه اللّه؛ وبفَضْلِه ونِعْمته .

٤٣-٤٦

قوله جلّ ذكره : { إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى البُطُونِ كَغَلْىِ الحَمِيمِ } .

( الأثيم ) مرتكبُ الذنوب . ( المهل ) المذاب . ( الحميم ) : الماء الحار .

٤٧-٤٨

قوله جل ذكره : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } .

ادفعوا به إلى وسط الحميم . ويقال له :

٤٩-٥٠

{ ذُقْ إِِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } .

أنت كذلك عند قومك ، ولكنك عندنا ذليلٌ مَهينٌ .

٥١-٥٢

قوله جل ذكره : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } .

آمنين من المحن من جميع الوجوه ، لِباسُهم من حرير ، وفراشُهم من سُندسٍ واستبرق ، ( متقابلين ) : لا يبرحون ولا يبغون عنها حِوَلاً .

٥٤

تُباح لهم صُحْبَتُهن ، ولا يكون في الجنة عقد تزويج ولا طلاقٌ ، ويمكَّن الوليُّ بهذه الاوصاف من هذه الألطاف . ثم قد يُخْتطفُ قومُ من بين هذه الأسباب ، فيتحررون عن هذه الجملة؛ فكما انهم في الدنيا مُختَطَفُون عن كلِّ العلائق فإنهم في الآخرة تطمع الحورُ العينُ في صحبتهم فيستلبهم الحقُّ عن كلِّ شيء .

الزاهدُ في الدنيا يحميه منها ، والعارفُ في الجنة يحميه من الجنة .

٥٦

الموتة الأولى هي بقبض أرواحهم في الدنيا ، ويقيهم اللّه في الآخرة العذاب بفضله ، وذلك هو الظَّفَرُ بالبغية ، ونجاح السُّؤل .

٥٨

قوله جلّ ذكره : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } .

يا محمد ، ليذكر به أهلُك ، فارتقِبْ العواقب تَرَ العجائب . إنهم يرتقبون ، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون .

﴿ ٠