سورة الجاثية

١-٢

قوله جلّ ذكره : { حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللّه العَزِيزِ الْحَكِيمِ } .

{ الْعِزِيزِ } : في جلاله ، { الْحَكِيمِ } : في أفعاله .

{ العْزِيزِ } : في آزاله ، { الْحِكِيمِ } : في لطفه بالعبد بوصف إقباله .

٣

قوله جل ذكره : { إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لأَيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } .

شواهد الربوبية لائحةٌ ، وأدلةُ الإلهية واضحةٌ؛ فمَنْ صحا مِنْ سَكْرَةِ الغفلة ، ووضعَ سِرَّه في محالِّ العِبرة حَظِيَ - لا محالةَ - بحقائق الوصلة .

٤

قوله جل ذكره : { وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .

إذا أنعم العبدُ نَظَرَه في استواء قدِّه وقامته ، واستكمال عقله وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه ، ثم فكَّرَ فيما عداه من الدواب؛ في أجزائها وأعضائها . . ثم وقف على اختصاص وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم ، ثم في الإيمان والعرفان ووجوهِ خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان - عَرَفَ تخصُّصَهم بمناقبهم ، وانفرادَهم بفضائلهم ، فاستيقن أن اللّه كَرَّمهم ، وعلى كثيرٍ من الخلوقات قدَّمَهُم .

٥

قوله جل ذكره : { وَاخْتَلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .

جَعَلَ اللّه العلومَ الدينية كسبيةً مُصَحَّحةً بالدلائل ، مُحَقِّقةً بالشواهد . فَمَنْ لم يَسْتَبْصِرْ بها زّلَّتْ قَدَمُه عن الطراط المستقيم ، ووقع في عذاب الجحيم؛ فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد ، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد .

٦

قوله جل ذكره : { تِلْكَ ءَايَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللّه وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } .

فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديثٍ يؤمن؟ ومن أي أصل يستمد بعده؟ ومن أي بَحْرٍ في التحقيق يغترف؟ هيهات! ما بقي للإشكال في هذا مجال .

٧-٨

قوله جل ذكره : { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللّه تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكَبِراً كّأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .

كلُّ صامتٍ ناطقٌ ، يصمت عن الكلام والقول وينطق بالبرهان في الحكم .

فَمَنْ استمع بسمع الفهم ، واستبصر بنور التوحيد فاز بذُخْرِ الدارين ، وتصدَّى لِعِزِّ المنزلين . ومَنْ تصامم بحكم الغفلة وقع في وهدة الجهل ، ووُسِم بكيِّ الهَجْر .

٩

قوله جلّ ذكره : { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .

قابله بالعناد ، وتأوَّله عَلَى ما يقع له من وجه المراد مِنْ دون تصحيح بإسناد . . . فهؤلاء { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } : مُذِلٌّ .

وقد يُكاشَفُ العبدُ من بواطن القلب بتعريفاتٍ لا يتداخله فيها ريبٌ ، ولا يتخالجه منهاشكٌّ فيما هو به من حاله . . . فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجبة وهونٍ الفرقة .

١٠

قوله جلّ ذكره : { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُمْ مَّا كَسَبُواْ شَيْئًا وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللّه أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

فعند هذه الفترة ، وفي وقت هذه المحنة فلا عُذْرَ يُقْبَلُ منهم ، ولا خطابَ يُسْمَعُ عنهم ، ولهم عذابٌ متصل ، ولا يُرَدُّونَ إلى ما كانوا عليه من الكشف :

فَخَلِّ سبيلَ العينِ بعدك للبكا ... فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ

١٢

عندما يركبون البحرَ فلربما تَسْلَمُ السفينةُ ولربما تغرق .

وكذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير ، تمشي به رياح العناية ، وأَشْرِعَةُ التوكل مرفوعةٌ ، والسُّبُلُ في بحر اليقين واضحة . وطالما تهب رياحُ السلامة فالسفينةُ ناجيةٌ . أمَّا إنْ هبَّت نكباتُ الفتنةِ فعندئذٍ لا يبْقى بيد الملاَّحِ شيءٌ ، والمقاديرُ غالبةٌ ، وسرعان ما تبلغ قلوبُ أهلِ السفينةِ الحناجرَ .

١٣

قوله جلّ ذكره : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .

{ جَمِيعاً مِّنْهُ } : كلُّ ماخَلَقَ من وجوه الانتفاع بها - كلُّه منه سبحانه؛ فما من شيءٍ من الأعيان الظاهرة إلاّ - ومن وجهٍ - للأنسان به انتفاع . . . وكلها منه سبحانه؛ فالسماءُ لهم بناء ، ولأرضُ لهم مهاد . . . إلى غير ذلك . ومِنَ الغَبْنِ أن يستسخرَك ما هو مُسَخَّرٌ لك! وَلْيتأملْ العبدُ كلَّ شيءٍ . . كيف إنْ كان خَلَلٌ في شيءٍ منها ماذا يمكن أن يكون؟! فلولا الشمسُ . . كيف كان يمكن أن يتصرَّف في النهار؟ ولم لم يكن الليلُ كيف كان يسكن بالليل . ؟ولو لم يكن القمر . . كيف كان يهتدي إلا الحساب والآجال؟ . . . إلى غير ذلك من جميع المخلوقات .

١٤

قوله جلّ ذكره : { قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .

نَدَبَهم إلى حُسْنِ الخُلق ، وجميلِ العِشْرَة ، والتجاوزِ عن الجهل ، والتنقي من كدورات البشرية . ومقتضياتِ الشُّحِّ .

وَبيَّنَ أَنَّ اللّه - سبحانه - لا يفوته أحدٌ . فَمَنْ أراد أَنْ يعرِفَ كيف يحفظ أولياءَه ، وكيف يُدَمِّر أعداءَه . فَلْيَصبِرْ أياماً قلائلَ لَيَعْلَمَ كيف صارت عواقبُهم .

١٥

قوله جلّ ذكره : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .

مَنْ عَمِلَ صَالحاً فله مَهْناه ، ومن ارتكب سيئةً قاسى بلواه . . . ثم مرجعه إلى مولاه .

١٦-١٧

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ والنُّبُوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِبّاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } .

كَرَّر في غير موضع ذِكْرِ موسى وذِكْرَ بني إسرائيل . . . بعضه على الجملة وبعضه على التفصيل . وهنا أجْمَلَ في هذا الموضِع ، ثم عقبه حديث نبيِّنا صلى اللّه عليه وسلم ، فقال :

١٨

قوله جلّ ذكره : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } .

إفردناك بلطائفَ فاعرفْها ، وسَنَنَّا لكَ طرائقَ فاسلُكْها ، وأثبتنا لك حقائقَ فلا تتجاوزْها ، ولا تجنحْ إلى متابعة غيرك :

١٩

{ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللّه شَيْئاً } .

إن أرادَ بكَ نعمةً فلا يمنعها أحدٌ ، وإن أراد بك فتنةً فلا يَصْرِفها عنك أحدٌ . فلا تُعَلِّقْ بمخلوقٍ فكْرَك ، ولاتتوجهْ بضميرك إلى شيء ، وثِقْ بربِّك ، وتوكَّلْ عليه .

٢٠

قوله جلّ ذكره : { هَذَا بَصَآئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .

أنوارُ البصيرةِ إذا تلألأتْ انكشفت دونها تهمةُ التجويز .

وَنَظَرُ الناسِ على مراتب : فمِنْ ناظرٍ بنور نجومه - وهو صاحب عقل ، ومن ناظرٍ بنو فراسته وهو صاحب ظنِّ يُقَوِّيه لَوْحٌ - ولكنه من وراء السَّرِّ ، ومن ناظرٍ بيقين عِلْم بحكم برهانٍ وشَرْطِ فكْرٍ ، ومِنْ ناظرٍ بعين إيمان بوصف اتَّباع ، ومن ناظرٍ بنور بصيرةٍ هو على نهار ، وشمسُه طالعة وسماؤه من السحاب مصحية .

٢١

قوله جلّ ذكره : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السِّيِئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } .

أَمَنْ خفضناه في حضيض الضَّعةِ كَمَنْ رفعناه إلى أعالي المَنَعَة؟

أَمَن ْأخذنا بيده ورحمناه كَمَنْ داسَه الخذلانُ فرجمناه . ؟

أَمَنْ وهبناه بَسْطَ وقتٍ وأُنْسَ حالٍ ورَوْحَ لُطْفٍ حتى خَصَصْناه ورَقَيْنَاه ، ثم قَرَّبْناه وأَدْنَيَْناه كَمَنْ ترك جُدَه واستفراغَ وسعه وإسبالَ دَمْعِه واحتراق قلبه . . . فما أنعشناه .

٢٣

قوله جلّ ذكره : { أَفَرَءَيْتَ مِنَ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } .

مَنْ لم يَسْلُكْ سبيلَ الاتباع ، ولم يستوفِ أحكامَ الرياضة ، ولم يَنْسلِخْ عن هواه بالكليَّة ، ولم يؤدَّبْه إمامٌ مُقْتَدَىٌ فهو ينجرفُ في كل وَهَدَةٍ ، ويهيمُ في كلِّ ضلالة ، ويضلُّ في كل فجِّ ، خسرانُه أكثر من ربْحِه!! أولئك في ضلالٍ بعيد؛ يعملون القُرَبَ على ما يقع لهم من نشاطِ نفوسهم ، زمامُهم بيد هواهم ، أولئك أهل المكر . . . اسْتدْرِجُوا وما يَشْعُرون! .

٢٤

قوله جلّ ذكره : { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } .

لم يَعْتَبِروا بما اوجدوا عليه خَلَفَهم وسَلفَهم ، وأَزْجَوْا في البهيمية عَيْشَهم وعُمْرَهم ، وأعفوا عن كَدِّ الفكرة قلوبهم . . . فلا بالعلم استبصروا ، ولا من التحقيق استمدوا . رأسُ مالِهم الظنُّ - وهم غافلون .

٢٥

طلبوا إحياءَ موتاهم ، وسوف يَرَوْن ما استبعدوا .

ثم أخبر أنَّ مُلْكَ السمواتِ والأرضِ للّه ، وإذا أقام القيامةَ يُحْشَرُ أصحابُ البطلان ، فإذا جاءهم يومُ الخصام .

٢٨

كلٌّ بحسابه مطالَبٌ . . . فأمَّا الذين آمنوا فلقد فازوا وسادوا ،

وأمَّا الذين كفروا فهلكوا وبادوا . . ويقال لهم : أأنتم الذين إذا قيل لكم حديثُ عُقباكم كّذَّبتم مولاكم؟ فاليومَ - كما نسيتمونا - ننساكم ، والنارُ مأواكم .

٣٦-٣٧

للّه الحمدُ على ما يُبْدي ويُنْشي ، ويحيي ويُفْني ، ويُجْرِي ويُمْضِي . . إذ الحكْمُ للّه ، والكبرياءُ للّه ، والعظمةُ والسَّناءُ للّه ، والرفعة والبهاءُ للّه .

﴿ ٠