سورة الأحقاف

١-٢

قوله جلّ ذكره : { حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللّه العَزِيزِ الحَكِيمِ } .

حَمَيْتُ قلوبَ أهلِ عنايتي فَصَرَفْتُ عنها خواطرَ التجويز ، وَثَبَّتُها في مشاهدِ اليقينِ بنور التحقيق؛ فلاحت فيها شواهدُ البرهان ، فأضَفْنا إليها لطائفَ الإحسان؛ فكَمُلَ منالُها من عين الوصلة ، وغذيناهم بنسيم الأَنْس في ساحات القربة .

{ الْعَزِيزِ } : المُعزِّ للمؤمنين بإنزال الكتاب عليهم .

{ الْحَكِيم } ، المُحْكِم لكتابِه عن التبديل والتحويل .

٣

قوله جلّ ذكره : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاًَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } .

الكافرون مُعْرِضُون عن موضع الإنذار ، مقيمون على حَدِّ الإصرار .

٤

قوله جلّ ذكره : { قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .

أروني . . أي أثر فيهم في الملك ، أو القدرة على النفع والضر؟ إن كانت لكم حُجَّةٌ فأَظْهِرُوها ، أو دلالة فَبَيِّنوها . . وإذا قد عَجَزْتُم عن ذلك فهلاَّ رجعتم عن غيْكم وأقلعتم؟

٥

قوله جلّ ذكره : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّه مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } .

مَنْ أشدُّ ضلالاً مِمَّنْ عَبَدَ الجمادَ الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات؟ .

٦

قوله جلّ ذكره : { وَإذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } .

إذا حُشِرَ الناسُ للحساب وقعت العداوةُ بين الأصنام وعابديها .

٧

رموا رُسُلَنا بالسِّحر ثم بالافتراء والمكر . . قُلْ - يا محمد - كفى باللّه بيني وبينكم شهيداً؛ أنتم أشركتم به ، وأنا أخلصت له توحيداً . وما كنت بدعاً من الرسل؛ فلستُ بأول رسولٍ أُرْسِل ، ولا بغيرما جاءوا به من أصول التوحيد جئتُ ، إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد ، والصدقِ في العبودية ، والدعاءِ إلى محاسن الأخلاق .

٩

قوله جلّ ذكره : { وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىِّ وَمَآ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .

وهذا قبل أن نزل قوله تعالى : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأَخَّرَ }[ الفتح : ٢ ] .

وفي الآية دليلٌ على فساد قول أهل القَدَرِ والبدِعِ حيث قالوا : ( إيلامُ البريء قبيحٌ في العقل ) . لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول : أَعْلَمُ - قطعاً- أني رسول اللّه ، وأني معصومٌ . . . فلا محالةَ يغفر لي ، ولكنه قال : وما أدري ما يُفْعَلُ بي ولا بكم؛ لِيُعْلَمَ أن الأمرَ أمرُه ، والحكمَ حكمُه ، وله أن يفعلَ بعباده ما يريد .

١٠

قوله جلّ ذكره : { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِِن كَانَ مِنْ عِندِ اللّه وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .

تبيَّنَ له أنه لا عُذْرَ لهم بحال ، ولا أمانَ لهم من عقوبةِ اللّه . وما يستروحون إليه من حُجَجِهم عند انفسهم كلُّها - في التحقيق - باطلٌ . واخبر ان الكفار قالوا : لو كان هذا الذي يقوله من الحشر والنشر حقًّ لم تتقاصر رتبتُنا عند اللّه عن رتبة أحدٍ ، ولتَقَدَّمنا - في الاستحقاق - على الكُلِّ . ولمَّا لم يجدوا لهذا القول دليلاً صرَّحوا :

١١

{ فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } .

ولقد بَعَثَ اللّه أنبياءَه - عليهم السلام - وأنزل عليهم الكتب ، وبيَّنَ في كلِّ كتابٍ ، وعل لسانِ كلَِّ رسولٍ بأنه يبعث محمداً رسولاً ، ولكن القومَ الذين في عصر نبيِّنا- صلى اللّه عليه وسلم - كتموه ، وحسدوه .

١٣

مضى تفسيرُ الاستقامة . وإنَّ مِنْ خرج على الإيمان والاستقامة حَظِيَ بكلِّ كرامة ، ووصل إلى جزيل السلامة .

وقيل : السين في ( الاستقامة ) سين الطَّلَب؛ وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى اللّه تعالى في أن يُقيمَه على الحق ، ويُثَبِّتُه على الصدق .

١٥

قوله جلّ ذكره : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } .

أَمَرَ الإنسانَ برعاية حقِّ والديه على الاحترام ، لما لهما عليه من حق التربية والإنعام ، وإذا لم يُحْسِنْ الإنسانُ حُرْمةَ مَنْ هو مِنْ جنسه فهو عن حُسْنِ مراعاة سِّده أبعد . ولو لم يكن في هذا الباب إلا قوله - صلى اللّه عليه وسلم : ( رضا الرب من رضا الوالدين وسخطه في سخطهما ) لكان ذلك كافياً . ورعايةُ حق الوالد من حيث الاحترام ، ورعاية حق الأم من حيث الشفقة والإكرام . ووَعَدَ الوالدين قبولَ الطاعة بقوله جلَّ ذكره :

١٦

{ أُؤلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِئَّاتِهِم فِى أَصْحَبِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوْعَدُونَ } .

فقبولُ الطاعةِ وغفران الزَّلَّة مشروطان ببرِّ الوالدين ، وقد ذمَّ اللّه - سبحانه- الذي يتصف في حقهما بالتأفُّفِ ، وفي ذلك تنبيهٌ على ما وراء ذلك من أي تعنُّف ، وعلى أنَّ الذي يَسْلكُ ذلك يكونُ من أهل الخسران ، وبالتالي يكون ناقصَ الإيمان .

وسبيلُ العبدِ في رعاية حق الوالدين أن يُصْلِح ما بينه وبين اللّه ، فحينئذٍ يَصْلُحُ ما بينه وبين غيره - على العموم ، وأهله - على الخصوص .

وشَرُّ خصَال الولد في رعاية حق والديه أَنْ يتبَرَّم بطول حياتهما ، ويتأذَّى بما يحفظ من حقهما . وعن قريب يموت الأصلُ ويبقى النسلُ ، ولا بدَّ من أن يتبع النسلُ الأصلَ ، وقد قالوا في هذا المعنى :

رويدك إن الدهرَ فيه كفايةٌ ... لتفريق ذات البيْنِ . . فانتظر الدهرا

٢٠

سبيلُ العبد ألا ينسى في كل حالٍ معبودَه ، وأَنْ يتذكرَ أنه معه في همِّه وسروره ، وفي مناجاته عند رخائه وبلائه . فإن اتفق أَنْ حَصَلَ له أَنْسٌ ، وغَلَبَ عليه رجاءٌ وبسطٌ ثم هجم على قلبه قَبْضٌ أو مَسّهُ خوف . . فليخاطبْ ربَّه حتى لا يكونَ من جملة مَنْ قيل له : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّببَاتُكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } .

٢١

أخبر بالشرحِ عن قصة هود وقومه عاد وما جرى بينهم من الخطاب ، وتوجّه عليهم من العتاب ، وأَخْذِهم بأليم العذاب .

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ }

فلم يُغْنِ عنهم ما آتيناهم . . وانظروا كيف أهلكناهم .

٢٩

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنس . وإن قوماً أتوه ليلة الجن وآمنوا به ، ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم ، وآمن قومٌ منهم ، فاليومَ في الجن مؤمنون ، وفيهم كافرون .

{ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ } الصيحةُ على الباب وفوق البساط غيبةٌ؛ ولهذا لما حضر الجنُّ بساطَ خدمته - صلى اللّه عليه وسلم - تواصوا فيما بينهم بحفظ الأدب ، وقالوا لما حضروا بساطَه : { أَنصِتُواْ } ، فأهلُ الحضور صفتُهم الذبولُ والسكونُ ، والهيبة والوقار . والثورانُ أو الإنزعاجُ يدل على غيبة أو قِلّةِ تيقُّظِ أو نقصان اطلاع . { فَلَمَّا قَضَى } يعني الوحي { وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } وأخبروهم بما رأوه وسمعوه .

٣١

يقال الإجابة على ضربين : إجابةٌ للّه ، وإجابة للداعي؛ فإجابة الداعي بشهود الوساطة - وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم - . وإجابةُ اللّه بالجهْرِ إذا بَلَغَتْهُ الرسالةُ على لسان السفير ، وبالسِّرِّ إذا حصلت التعريفاتُ من الواردات على القلب؛ فمستجيبٌ بنفسه ومستجيبٌ بقلبه ومستجيبٌ بروحه ومستجيبٌ بسرِّه . ومن توقف عن دعاء الداعي إيِّاه ، ولم يبادرْ بالاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به .

٣٣

الرؤيةُ هنا بمعنى العلم .

{ وَلَمْ يَعْىَ } أي ولم يعجز ولم يَضْعفُ .

٣٤

قوله جلّ ذكره : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ } .

ثم يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة :

قوله جلّ ذكره : { أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } .

جزاءً لكم على كُفْركم .

٣٥

قوله جل ذكره : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } .

أولو الجد والصبر والحزم . وجاء في التفسير أنهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى اللّه عليه سلم .

وقيل : هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام .

وقيل : منهم يعقوب وأيوب ويونس .

والصبرُ هو الوقوفُ لحُكْمِ اللّه ، والثباتُ من غير بثٍ ولا استكراهٍ .

قوله جلّ ذكره : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارِ } .

ويقال مُدّةُ الخلْقِ : من مبتدأ وقتهم إلى مُنتَهى آجالهم بالإضافة إلى الأزليّة كلحظةٍ بل هي أقلُّ؛ إذ الأزلُ لا ابتداء له ولا انتهاء . . وأي خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ . . . خيراً كان أو شَرَّاً؟!

﴿ ٠