سورة الفتح١قوله جلّ ذكره : { إِنَّا فِتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } . قضينا لك قضاءَ بَيَّناً ، وحكمنا لك َ بتقويةِ دينِ الإسلام ، والنصرةِ على عدوِّك ، وأكرمناكَ بفتح ما انغلق على قلبِ مَنْ هو غيرك - مِنْ قِبْلِك- بتفصيلِ شرائعِ الإسلام ، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات اللّه عليه . نزلت الآيةُ في فتحِ مكة ، ويقال في فتح الحُديبية . ويقال : هديناك إل شرائع الإسلام ، وَيَسَّرْنا لك أمورَ الدين . ٢قوله جلّ ذكره : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } . كلا القسمين - المتقدِّم والمتأخِّر - كان قبلَ النبوة . ويقال : { مَا تَقَدَّمَ } من ذَنْبِ آدمِ بحُرْمتك ، { وَمَا تَأَخَّرَ } : من ذنوب أُمَّتك . وإذا حُمِلَ على تَرْك الأوْلَى فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك ، قبل النبوة وبعدها . ولمَّا تزلت هذه الآية قالوا : هنيئاً لك! فأنزل اللّه تعالى : { لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } . . . ويقال . حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين . { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } . يتم نعمته عليك بالنبوة ، وبوفاء العاقبة ، ويبسط الشريعة ، وبشفاعته لأمته ، وبرؤية اللّه غداً ، وبإظهار دينه على الأديان ، وبأنه سيد ولد آدم ، وبأنه أقْسَمَ بحياتِهِ ، وخصَّه بالعيان . وبسماعِ كلامه سبحانه ليلةَ المعراج ، وبأن بَعَثَه إلى سائِرِ الأمم . . وغير ذلك من مناقبه . { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } يثبتك على الصراط المستقيم ، ويزيدك هدايةً على هداية ، ويهدي بك الخَلْقَ إلى الحقِّ . ويقال : يهديك صراطاً مستقيماً بترك حَظِّك . ٣قوله جلّ ذكره : { وَيَنصُرَكَ اللّه نَصْراً عَزِيزاً } . لا ذُلَّ فيه ، وتكون غالباً لا يَغْلِبُكَ أحَدٌ : ويقال : ينصرك على هواك ونَفْسِك ، وينصرك بحُسْنِ خُلُقِك ومقاساةِ الأذى من قومك . ويقال نصراً عزيزاً : مُعِزَّاً لك ولمن آمن بك . وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوهٍ من الأفضال أكْرَمَ بها نبيَّه - صلى اللّه عليه وسلم - وخصَّه بها من الفتح والظَّفَرِ على النَّفْس والعدو ، وتيسير ما انغلق على غيره ، والمغفرة ، وإتمام النعمة والهداية والنصرة . . ولكلٍّ من هذه الأشياء خصائصُ عظيمةٌ . ٤قوله جلّ ذكره : { هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤمِنِينَ } السكينةُ ما يسكن إليه القلبُ من البصائر والحُجَج ، فيرتقي القلبُ بوجودِها عن حدِّ الفكرة إلى رَوْحِ اليقين وثَلَج الفؤاد ، فتصير العلومُ ضروريةٌ . . . وهذا للخواصَّ . فأمّا عوامُّ المسلمين فالمرادُ منها : السكون والطمأنينة ُواليقين . ويقال : من أوصافِ القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة . وفي التفاسير : السكينة ريح هفَّافة . وقالوا : لها وجهٌ كوجه الإنسان . وقيل لها جناحان . { لِيَزْدَادُواْ إِيَماناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } . أي يقيناً مع يقينهم وسكوناً مع سكونهم . تطلع أقمارُ عين اليقين على نجوم علم اليقين ، ثم تطلع شمسُ حقِّ اليقين على بَدْرِ عين اليقين . { وَللّه جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً } . { جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } وقيل : هي جميع القلوب الدالَّةِ على وحدانية اللّه . ويقال : مُلْكُ السمواتِ والأَرضِ وما به من قوىً تقهر أعداءَ اللّه . ويقال : هم أنصارُ دينه . ويقال : ما سلَّطه الحقُّ على شيءٍ فهو من جنوده ، سواء سلَّطَه على ولِّيه في الشدة والرخاء ، أو سلَّطَه على عدوِّه في الراحة والبلاء . ٥يَسْتَرُ ذنوبَهم ويحطها عنهم . . وذلك فوزٌ عظيم ، وهو الظَّفَرُ بالبغية . وسُؤْلُ كلِّ أحدٍ ومأمولُه ، ومُبْتغاه ومقصودُه مختلِفٌ . . . وقد وَعَدَ الجميعَ ظَفَراً به ٦-٧قوله جلّ ذكره : { وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ باللّه ظَنَّ السُّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ } . يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم . و { ظَنَّ السَّوْءِ } : هو ما كان بغير الإذن؛ ظنوا أَنَّ اللّه لا ينصر دينَه ونَبيَّه عليه السلام . { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ } : عاقبته تدور عليهم وتحيقُ بهم . { وَلَعَنَهُمْ } : أبعدهم عن فضله ، وحقت فيهم كلمتُه ، وما سبقت لهم- من اللّه سبحانه - قِسْمِتُه . ٨قوله جلّ ذكره : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } . { أَرْسَلْناكَ شَاهِداً } : على أُمَّتِكَ يوم القيامة . ويقال : شاهداً على الرُّسُلِ والكتب . ويقال : شاهداً بوحدانيتنا وربوبيتنا . ويقال : شاهداً لأمتك بتوحيدنا . { وَمُبَشِّراً } : لهم مِنَّ بالثواب ، { وَنَذِيراً } للخَلْق؛ زاجِراً ومُحَذِّراً من المعاصي والمخالفات . ويقال : شاهداًمِنْ قِبَلنا ، ومُبَشِّراً بأمرنا ، ونذيراً من لَدُنَّا ولنا ومِنَّا . ٩قوله جلّ ذكره : { لِّتُؤْمِنُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } . قرئ : ( ليؤمنوا ) بالياء؛ لأن ذكر المؤمنين جرى ، أي ليؤمن المؤمنون باللّه ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول ، ويوقروه : أي : يُعَظِّموا الرسولَ . وتُسَبِّحوه : أي تُسَبِّحوا اللّه وتنزهوه بكرة وأصيلاً . وقرىْ : ( لتؤمنوا ) - بالتاء - أيها المؤمنون باللّه ورسوله وتُعَزروه - على المخاطَبة . وتعزيرُه يكون بإيثاره بكلِّ وجه على نَفْسك ، وتقديمِ حُكْمهِ على حُكمِك . وتوقيرُه يكون باتباع سُنَّتِه ، والعلم بأنه سيِّدُ بَريَّته . ١٠قوله جلّ ذكره : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَأ يُبَايِعُونَ اللّه } . وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سَمُرَة . وذلك أن رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - بعث عثمانَ رضي اللّه عنه إلى قريش ليُكلِّمَهم فأرجفوا بقَتْلِه . وأتى عروة بن مسعود إلى النبي - صلى اللّه عليه وسلم - وقال : جئتَ بأوشاب الناس لتفضَّ بَيْضَتَكَ بيدك ، وقد استعدت قريش لقتالك ، وكانِّي بأصحابك قد انكشفوا عنك إذا مسَّهم حرُّ السلاح! فقال أبو بكر : أتظن أنَّ نسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فبايعهم النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم على ان يُقاتِلوا وألا يهربوا ، فأنزل اللّه تعالى : { إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّه } : أي عقْدُك عليهم هو عقد اللّه . قوله جلّ ذكره : { يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيِهمْ } . أي { يَدُ اللّه } : في المنة عليهم بالتوفيق والهداية : { فَوْقَ أَيْدِيِهمْ } بالوفاء حين بايعوك . ويقال : قدرة اللّه وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيِّه صلى اللّه عليه وسلم فوقَ نَصْرِهم لدين اللّه ولرسوله . وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع كما قال : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّه رَمَى }[ الأنفال : ١٧ ] . قوله جلّ ذكره : { فَمَنَ نَّكَثَ فإِِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } . أي عذابُ النكثِ عائدٌ عليه . قوله جلّ ذكره : { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّه فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } . أي من قام بما عاهد اللّه عليه على التمام فسيؤتيه أجراً عظيماً . وإذا كان العبد بوصف إلخلاصِه ، ويعامِل اللّه في شيءٍ هو به متحقِّقٌ ، وله بقلبه شاهدٌ فإنَّ الوسائطَ التي تُظْهِرُهاَ أماراتُ التعريفاتِ تجعله محواً في أسرارِه . . . والحكم عندئذ راجعٌ . ١١قوله جلّ ذكره : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسٍنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } . لمَّا قَصَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلَّفَ قومٌ من الأعراب عنه . قيل : هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة واشجع ، وقالوا : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } وليس لنا مَنْ يقوم بشأننا وقالوا : انظروا ماذا يكون؛ فما هم من قريش إلاَّ أكَلَهُ رأسٍ . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه مُعْتَذِرين بأنه لم يكن لهم أحدٌ يقوم بأَمورهم! وقالوا : استغفر لنا . فأطلعه اللّه -سبحانه- على كذبهم ونفاقهم؛ وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصاً ، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . قوله جلّ ذكره : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللّه شَيْئاً إِِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَأدَ بِكُمْ نَفْعَا بَلْ كَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا } . فضَحَهم . ويقال : ما شغل العبد عن اللّه شُؤمٌ عليه . ويقال : عُذْرُ المماذِقِ وتوبةُ المنافِق كلاهما ليس حقائق . ١٢قوله جلّ ذكره : { بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السُّوءِ وَكُنتُمْ قَوْمَاً بُوراً } . حسبتم أن لن يرجعَ الرسول والمؤمنون من هذه السفرة إلى اهليهم أبداً ، وزَيَّنتْ لكم الأماني ألا يعودوا ، وأنَّ اللّه لن ينصرهم . { وَكُنتُمْ قَوْمَا بُوراً } أي هالكين فاسدين . ويقال : إنَّ العدوَّ إذا لم يقدر أن يكيدَ بيده يتمنَّى ما تتقاصر عنه مُكنتُهُ ، وتلك صفةُ كلِّ عاجز ، ونعتُ كلّ لئيم ، ثم إن اللّه - سبحانه- يعكس ذلك عليه حتى لا يرتفع مراده { وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }[ فاطر : ٤٣ ] . ويقال : من العقوبات الشديدة التي يعاقِبُ اللّه بها المُبْطِل أنْ يتصوَّرَ شيئاً يتمنَّاه يوطّن نَفَسْه عليه لفرط جَهْله . ويُلقى الحقُّ في قلبه ذلك التمني حتى تسول له نفسهُ أن ذلك كالكائن . . ثم يعذبه اللّه بامتناعه . ١٣قوله جلّ ذكره : { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللّه وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرينَ سَعِيراً } . وما هوآتٍ فقريب . . . وإنَّ اللّه ليرخي عنانَ الظَّلَمةِ ثم لا يفلتون من عقابه . وكيف - وفي الحقيقة - ما يحصل منهم هو الذي يجريه عليهم؟ ١٤قوله جلّ ذكره : { وَللّه مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً } . يغفرُ - وليس له شريك يقول له : لا تفعل ، ويعذّب من يشاء - وليس هناك مانعٌ عن فعله يقول له : لا تفعل . ١٥قوله جلّ ذكره : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انَطَلْقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللّه قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } . وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين لما رجعوا من الحديبية وعدهم اللّه خيبرَ ، وأنَّ فيها سيظفرُ بأعدائه ، فلمَّا هَمَّ بالخروج أراد هؤلاء المخلفون أن يتبعوه لما علموا في ذلك من الغنيمة ، فقال النبي صلى اللّه عليه ويسلم : ( إنما يخرج معي إلى خيبر من خرج إلى الحديبية واللّه بذلك حكم ألا يخرجوا معنا ) . فقال المتخلفون : إنما يقول المؤمنون ذلك حَسداً لنا؛ وليس هذا من قول اللّه! فأنزل اللّه تعالى ذلك لتكذيبهم ، ولبيان حكمه ألا يستصحبَهم فهم أهل طمع ، وكانت عاقبتُهم أنهم لم يجدوا مرادَهم ورُدُّوا بالمذلة وافتضح أمرهم . ١٦جاء في التفاسير انهم أهلُ اليمامة أصحاب مسيلمة - وقد دعاهم أبو بكر وحاربهم ، فالآية تدل على إمامته . . . وقيل هم أهل فارس - دعاهم عمر بن الخطاب وحاربهم؛ فالآيةُ تدل عل صحة إمامته . وصحة إمامته تدل على صحة إمامة أبي بكر . { أُوْلِى بَأسٍ شَدِيدٍ } أولى شدَّة . فإنْ أطعتُم استوجبتم الثواب ، وإن تخلَّفْتم استحقَقْتُم العقاب . ودلت الآيةُ على أن يجوز ان تكون للعبد بدايةٌ غيرُ مُرضية ثم يتغير بعدها إلى الصلاح - كما كان لهؤلاء وأنشدوا : إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه ... فَرِّج له عَوْدَ الصلاح . . لعلَّه ١٧قوله جلّ ذكره : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرجٌ وَمَن يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهّارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } . وهؤلاء اصحاب الأعذار . . . رفع عنهم الحَرَج في تخلفهم عن الوقعة في قتال المشركين . وكذلك مَنْ كان لهُ عذرٌ في المجاهدة مع النفس . ( فإنَّ اللّه يحُبُّ أن تؤتى رُخصَهُ كما يحب أن تؤتى عزائمه ) ١٨-١٩قوله جلّ ذكره : { لَّقَدْ رَضِىَ اللّه عَنِ المُؤْمِنينَ إِذْ يُبَايِعُونكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } . هذا بيعة الرضوان ، وهي البيعة تحت الشجرة بالحديبية ، وسميت بيعة الرضوان لقوله تعالى : { لَّقَدْ رَضِىَ اللّه عِنِ . . . الْمُؤْمِنِينَ } . وكانوا ألفاً وخمسمائة وقيل وثلاثمائة وقيل وأربعمائة . وكانوا قصدوا دخولَ مكة ، فلما بلغ ذلك المشركين قابلوهم صادِّين لهم عن المسجد الحرام مع أنه لم يكن خارجاً لحرب ، فقصده المشركون ، ثم صالحوه على أن ينصرفَ هذا العام ، ويقيم بها ثلاثاً ثم يخرج ، ( وأن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضا ) وكان النبي قد رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، فبشر بذلك أصحابه ، فلما صدهم المشركون خامر قلوبَهم ، وعادت إلى قلوب بعضهم تهمةٌ حتى قال الصَّدِّيقُ : لم يَقُلْ العام! فسكنت قلوبهم بنزول الآية؛ لأن اللّه سبحانه علم في قلوبهم من الاضطراب والتشكك . فأنزل السكينة في قلوبهم . وثبَّتهم باليقين . { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } هو فتحُ خيبر بعد مدة يسيرة ، وما حصلوا عليه من مغانم كثيرةٍ من خيبر . وقيل ما يأخذونه إلى يوم القيامة . وفي الآية دليلٌ على أنه قد تخطر ببال الإنسان خواطرُ مُشكِّكة ، وفي الرَّيب موقعة ولكن لا عبرة بها؛ فإنّ اللّه سبحانه إذا أراد بعبد خيراً لازم التوحيدُ قلبَه ، وقارن التحقيق سِرَّه فلا يضرُّه كيدُ الشيطان ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّن الشَّيَطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }[ الأعراف : ٢٠١ ] . ٢٠{ وَعَدَكُمُ اللّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } ويدخل في ذلك جميعُ ما يغنمه المسلمون إلى القيامة فعجَّل لكم هذه - يعني خيبر ، وقيل : الحديبية . { وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ } لما خرجوا من المدينة حرسهم اللّه ، وحفظ عيالهم ، وحمى بَيْضَتهم حين هبَّ اليهود في المدينة بعد خروج المسلمين ، فمنعهم اللّه عنهم . أويقال : كفَّ أيدي الناس من أهل الحديبية . { وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } . لتكون هذه آيةٌ للمؤمنون وعلامةٌ يَسْتدلُّون بها على حراسة اللّه لهم . { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } : في التوكل على اللّه والثقة به . ويقال : كفُّ أيدي الناس عن العبد هو أنْ يَرْزُقَه من حيث لا يحتسب ، لئلا يحتاجَ إلى أن يتكفَّفَ الناس . ويقال : أنْ يَرْفَعَ عنه أيدي الظَّلَمة . ويقال : ألا تحمله المطالبةُ بسبب كثرة العيال ونفقتهم الكبيرة على الخطر بدينه؛ فيأخذ من الأشياء - برخصة التأويل - ما ليس بطيِّبٍ . ٢١قوله جلّ ذكره : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّه بِهَا وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً } . قيل : فتح الروم وفارس . وقيل : فتح مكة . وكان اللّه على كل شيءٍ قديراً : فلا تُعلِّقوا بغيره قلوبكم . ٢٢قوله جلّ ذكره : { وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } . يعني : خيبر وأسد وغطفان وغيرهم- لو قاتلوكم لانهزموا ، ولا يجدون من دون اللّه ناصراً . ٢٣قوله جلّ ذكره : { سُنَّةَ اللّه الَّتِى قَدْ خَلتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه تَبْدِيلاً } . أي سُنَّةُ اللّه خذلانُهم ولن تَجد لسنة اللّه تحويلاً . ٢٤قوله جلّ ذكره : { وهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وََأيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } . قيل إن سبعين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون قتله ( فأخذناهم سِلْماً فاستحييناهم ) فأنزل اللّه هذه الآيةَ في شآنهم . وقيل أخذ اثنى عشر رجلاً من المشركين - بلا عَهْدٍ - فَمنَّ عليهم الرسولُ صلى اللّه عليه وسلم وقيل : هم أهل الحديبية كانوا قد خرجوا لمنع المسلمين ، وحصل ترامي الأحجار بينهم؛ فاضطرهم المسلمون إلى بيوتهم ، فأنزل اللّه هذه الآية يمن عليهم حيث كف أيدي بعضهم عن بعض عن قدرة المسلمين ، لا من عجزٍ؛ فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعْباً وخوفاً؛ وأمَّا المسلمون فَنَهياً مِنْ قِبَلِ اللّه ، لما في أصلابهم من المؤمنين_ أراد اللّه أن يخرجوا ، أو لِمَا عَلِمَ أن قوماً منهم يؤمنون . والإشارة فيه : أن من الغنيمة الباردة والنعم السنية أن يَسْلَم الناسُ منك ، وتسلم منهم . وإن اللّه يفعل بأولياءه ذلك ، فلا من أَحد عليهم حَيف ، ولا منهم على أحد حيفٌ ولا حسابٌ ولا مطالبة ولا صلحٌ ولا معاتبة ، ولا صداقة ولا عداوة . وكذا من كان بالحق - وأنشدوا : فلم لي يبْقَ وقتٌ لِذكرِ مُخَالِفٍ ... ولم يبق لي قلبٌ لذكر موافق ٢٥قوله جلّ ذكره : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَالهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } . { كَفَرُواْ } وحجدوا ، { وَصَدُّكُمْ } ومنعوكم عن المسجد الحرام سنة الحديبية . { وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً } : أي منعوا الهَدْيَ أن يبلغَ مَنحرَه ، فمعكوفاً حالٌ من الهدي أي محبوساً . وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم قد ساق تلك السَّنَة سبعين بَدَنَةٌ . قوله جلّ ذكره : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدخِلَ اللّه فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } . لو تسلطتم عليهم لأصابتهم معرة ومضرَّة منكم بغير علم لَسَّلْطناكم عليهم ولأظفرناكم بهم . وفي هذا تعريفٌ للعبد بأن أموراً قد تنغلق وتَتَعَسّر فيضيق قلب الإنسان . . وللّه في ذلك سِرُّ ، ولا يعدم ما يجري من الأمر أن يكون خيراً للعبد وهو لا يدري . . . كما قالوا : كم مرة حفَّت بك المكاره ... خير لك اللّه . . . وأنت كاره ٢٦قوله جلّ ذكره : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمْيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِليَّةِ فَأَنزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أحقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } . يعني الأنفة؛ أي دَفَعْتهم أنفةُ الجاهليه أن يمنعوكم عن المسجد الحرام سَنَةَ الحديبية ، فأنزل اللّه سكينته في قلوب المؤمنين حيث لم يقابلوهم بالخلاف والمحاربة ، ووقفوا واستقبلوا الأمر بالحِلْم . { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } وهي كلمة ُ التوحيد تَصْدُرُ عن قلبِ صادق : فكلمةُ التقوى يكون معها الاتقاءُ من الشَّرْك . { وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا } حسب سابق حُكْمِه وقديم علمه . . . { وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً } . ويقال : الإلزامُ في الآية هو إلزامُ إكرامٍ ولطف ، لا الإلزام إكراهٍ وعُنْفٍ؛ وإلزامُ برِّ لا إلزام جبر . . . وكم باسطين إلى وَصْلنا ... أكفهمو . . لم ينالوا نصيبا! ويقال كلمة التقوى : التواصي بينهم بحفظ حق اللّه . ويقال : هي أن تكون لك حاجةٌ فتسأل اللّه ولا تُبديها للناس . ويقال : هي سؤالك من اللّه أن يحرُسَك من المطامع . ٢٧قوله جلّ ذكره : { لَّقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدُخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَآءَ اللّه ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } . أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه؛ صدقه فيما أره من دخول مكة { ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } كذلك أراه لما خرج إلى الحديبية وأَخبر أصحابه . فوطَّن أصحابه نفوسهم على دخول مكة في تلك السنة . فلمَّا كان من امر الحديبية عاد إلى قلوب بعض المسلمين شيء ، حتى قيل لهم لم يكن في الرؤيا دخولهم في هذا العام ، ثم أَذن اللّه في العام القابل ، فأنزل اللّه : { لَّقَدَ صََدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ } فكان ذلك تحقيقاً لما أراه ، فرؤياه صلوات اللّه حق؛لأن رؤيا الأنبياء حق . وكان في ذلك نوعُ امتحانٍ لهم : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } أنتم من الحكمة في التأخير . وقوله : { إِن شَآءَ اللّه } معناه إذا شاء اللّه كقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } . وقيل قالها على جهة تنبيههم إلى التأدُّب بتقديم المشيئة في خطابهم . وقيل يرجع تقديم المشيئة إلى : إن شاء اللّه آمنين أو غير آمنين . وقيل : يرجع تقديم المشيئة إلى دخول كلِّهم أو دخول بعضهم؛ فإنْ الدخول كان بعد سنة ، ومات منهم قومٌ . ٢٨قوله جلّ ذكره : { هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللّه شَهِيداً } . أرسل رسولَه محمداً صلى اللّه عليه وسلم بالدين الحنفي ، وشريعة الإسلام ليظهره على كل ما هو دين؛ فما من دينٍ لقوم إلا ومنه في أيدي المسلمين سِرُّ؛ وللإسلام العزة والغلبة عليه بالحجج والآيات . وقيل : ليظهره وقت نزول عيسى عليه السلام . وقيل : في القيامة حيث يظهر الإسلامُ على كل الأديان . وقيل : ليظهره على الدين كله بالحجة والدليل . ٢٩قوله جلّ ذكره : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّه وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } . { أَشِدَّآءُ } جمع شديد ، أي فيهم صلابةٌ مع الكفار . { رُحَمَآءُ } جمع رحيم ، وصَفَهَم بالرحمة والتوادِّ فيما بينهم . { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللّه وَرِضْوَاناً } . تراهم راكعين ساجدين يطلبون من اللّه الفضل والرضوان . { سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } . أي علامة التخشع التي على الصالحين . ويقال : هي في القيامة يوم تَبْيَضُّ وجوهٌ ، وأنهم يكونون غداً محجلين . وقد قال صلى اللّه عليه وسلم : ( من كثرت صلاته بالليل حَسُنَ وجههُ بالنهار ) ويقال في التفسير : ( معه ) أبو بكر ، و { أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ } عمر؛ و { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } عثمان ، و { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } عليُّ رضي اللّه عنهم . وقيل : الآيةُ عامةٌ في المؤمنين . { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَطَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } هذا مثلهم في التوراة ، وأما مثلهم في الإنجيل فكزرع أخرج شطأه أي : فراخه . يقال : أشطأ الزرعُ إذا أخرج صغاره على جوانبه . { فَئَازَرَهُ } أي عاونه . { فَاسْتَغْلَظَ } أي غلظُ واستوى على سوقه؛ وآزرت الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض . يعجب هذا الزرعُ الزرَّاع ليغيظ بالمسلمين الكفار؛ شَبَّهَ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بالزرع حين تخرج طاقة واحدة ينبت حولها فتشتد ، كذلك كان وحده في تقوية دينه بمن حوله من المسلمين . فمَنْ حمل الآية على الصحابة : فمن أبغضهم دخل في الكفر ، لأنه قال : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } أي بأصحابه الكفارَ . ومَنْ حمله على لمسلمين ففيه حُجَّة على الإجماع ، لأنَّ من خالف الإجماع - فاللّه يغايظ به الكفارَ- فمخالفُ الإجماع كافرٌ . قوله جلّ ذكره : { وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرةً وَأَجْراً عَظِيماً } وَعد المؤمنين والمؤمنات مغفرة للذنوب ، وأجراً عظيماً في الجنه فقوله : ( منهم ) للجنس أو للذين ختم لهم منهم بالإيمان . |
﴿ ٠ ﴾