سورة ق

١

قوله جلّ ذكره : { ق وَالقُرْءَانِ المَجِيدِ } .

ق مقتاح أسمائه : ( قوي وقادر وقدير وقريب ) . . . أقسم بهذه الأسماءِ وبالقرآن المجيد .

وجوابُ القسَم محذوف ومعناه لَتُبْعَثُنَّ في القيامة .

ويقال جوابه : { قَدْ عِلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مْنْهُمْ وَعِندَنَا كتابٌ حَفِيُظ } أي لقد علينا . . وحفت اللام لمَّا تطاول الخطاب .

ويقال : جوابه قوله : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ } .

٢

قوله جلّ ذكره : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ } .

{ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } : هو محمد صلى اللّه عليه وسلم .

والتعجُّبُ نوعٌ من تعبير النَّفْسِ عن استبعادها لأمرٍ خارج العادة لم يقع به عِلْمٌ من قَبْل . وقد مضى القولُ في إنكارهم للبعث واستبعادهم ذلك :

٣

{ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } .

أي يَبْعُدُ عندنا أَنْ نُبْعثَ بعد ما مَتْنا . فقال جل ذكره :

٤

{ قَدْ عَلِمْنا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ } .

في هذا تسليةٌ للعبد فإنه إذا وُسِّدَ التراب ، وانصرف عنه الأصحاب ، واضطرب لوفاته الأحباب . فَمَنْ يَتَفَقَّدُه ومَنْ يَتَعَهَّدُه . . . وهو في شفيرقبره ، وليس لهم منه شيءُ سوى ذكرِه ، ولا أحدَ منهم يدري ما الذي يقاسيه المسكين في حُفْرته؟ فيقول الحقُّ - سبحانه : { قَدْ عَلِمْنَا } ولعلَّه يخبر الملائكة قائلاً : عَبدي الذي أخْرَجته من دنياه - ماذا بقي بينه مَنْ يهواه هذه أجزاؤه قد تَفرَّقَتْ ، وهذه عِظامُه بَلِيَتْ ، وهذه أعضاؤه قد تَفَتَّتَتْ!

{ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظُ } : وهو اللَّوحُ المحفوظ؛ أَثْبَتنا فيه تفصيل أحوالِ الخَلْقِ من غير نسيانٍ ، وبيَّنَّا فيه كلَّ ما يحتاج العبدُ إلى تَذكُّره .

٥

قوله جلّ ذكره : { بَلْ كَذَّبُوا بِالحَقِّ لمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمرٍ مَّرِيجٍ } .

{ مَّريجٍ } أي مختلط ومُلتبس؛ فهم يتردَّدون في ظُلُمات تحيُّرهم ، ويضطربون في شكَّهم .

٦

وقوله جلّ ذكره : { أَفَلَمْ يَنُظُرُواْ إلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } .

أَوَلَمْ يعتبروا؟ أَوَ لَمْ يَسْتَدِلُّوا بما رفعنا فوقهم من السماء ، رفعنا سَمْكها فَسَوَّيْناها ، وأثبتنا فيها الكواكبَ وبها زَيَّناها ، وأَدَرْنا فيها شَمْسَها وقمرَها؟ أو لم يروا كيف جَنَّسْناعَيْنَها ونَّوعْنا أَثَرَها؟

٧

{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَ رَوَاسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .

والأرض مددناها؛ فجعناها لهم مِهاداً ، وجَعَلْنا لها الجبالَ أوتاداً ، وأَنْبَتْنا فيها أشجاراً وأزهاراً وأنواراً . . . كل ذلك :

٨

{ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } .

علامةً ودلالةً لكل من أناب إلينا ، ورجع من شهودِ أفعالنا إلى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهودِ حقِّنا وذاتنا .

٩

قوله جلّ ذكره : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } .

أنزلنا من السماء ماءً مباركاً كثيرَ النفعِ والزيادة ، فأنبتنا به { جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } :

أي الذي يُحْصَد - كما تقول مسجد الجامع .

الأجزاء متجانسة . . ولكنَّ أوصافَها في الطعوم والروائحِ والألوانِ والهيئاتِ والمقادير مختلفة .

١٠-١١

قوله جلّ ذكره : { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } .

والنخلُ باسقاتٌ : طويلاتٌ ، لها طَلْعٌ منضود بعضُه فوق بعض لكثرة الطَّلْع أو لما فيها مِن الثمار . وكيف جعلنا بعض الثمار متفرقة كالتفاح والكمثرى وغيرهما ، وكيف جعلنا بعضها مجتمعة كالعنب والرطب وغيرهما . . كلًَّ ذلك جعلناه رزقاً للعباد ولكي ينتفعوا به .

{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } .

وكما سقنا هذا الماء إلى بلدةٍ جفَّ نباتُها ، وكما فَعلْنا كُلَّ هذه الأشياء ونحن قادرون على ذلك - كذلك نجمعكم في الحشر والنشر ، فليس بَعْثُكُم بأبعدَ من هذا .

١٢-١٤

قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } .

إنا لم نَعْجزْ عن هؤلاء- الذين ذكر أسماءَهم- وفيه تهديدٌ لهم وتسلةٌ للرسول .

١٥

{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُم فِى لَبْسِ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } .

أي إنَا لم نعجز عن الخَلْق الأول . . فكيف نعجز عن الخلق الثاني- وهو الإعادة؟ لم يعتص علينا فعلُ شيءٍ ، ولم نتعب من شيء . . فكيف يشق علينا أمر البعث؟ أي ليس كذلك .

١٦

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } .

نعلم ما توسوس به نَفْسُه من شهواتٍ تطلب استنفاذها ، مثل التصنُّع مع الخَلْق ، وسوءِ الخُلُق ، والحقد . . وغير ذلك من آفات النَّفْس التي تُشَوِّش على القلب والوقت .

{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } فَحَبْلُ الوريد أقربُ أجزاءِ نَفْسِه إلى نَفْسِه ، والمرادُ من ذلك العلم والقدرة ، وأنه يسمع قولهم ، ولا يشكل عليه شيءٌ من امرهم .

وفي هذه الآية هَيْبَةٌ وفَزَعٌ وخوفٌ لقومٍ ، ورَوْحٌ وسكونٌ وأُنْسُ قلبٍ لقومٍ .

١٧

قوله جلّ ذكره : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } .

خوَّفَهم بشهود الملائكة وحضور الحَفَظَة ، وبكتابتهم عليهم أعمالَهم ، فهما قَعيدا كلِّ احدٍ : ويقال : إذا كان العبدُ قاعداً فواحدٌ عند رأسِه وواحد عند قَدَمِه ، وإذا كان ماشياً فواحدٌ قائم بين يديه وآخرُ خَلْقَه .

ويقال : هما اثنان بالليل لكلِّ واحدٍ ، واثنان بالنهار .

ويقال : بل الذي يكتب الخيراتِ اليومَ يكون غيره غداً ،

وأمَّا الذي يكتب الشر والمعصية بالأمس فإنه يكون كاتباً للطاعة غداً حتى يشهد طاعتك .

ويقال : بل الذي يكتب المعصية اثنان؛ كل يوم اثنان آخران وكل ليلةٍ اثنان آخران لئلا يُعْلَمَ من مساويك إلا القليل منها ، ويكون عِلْمُ المعاصي متفرقاً بهم .

١٩

إذا أشرفت النَّفْسُ على الخروج من الدنيا فأحوالُهم مختلفة؛ فمنهم مَنْ يزداد في ذلك الوقت خوفُه ولا يَتَبيَّنُ إلا عند ذهابِ الروح حالَه . ومنهم مَنْ يُكاشَفُ قبلَ خروجه فَيسكن رَوْعُه ، ويُحْفَظُ عليه عَقْلُه ، ويتم له حضورُه وتمييزُه ، فيُسْلِمَ الرُّوحَ على مَهَلٍ مِنْ غير استكراهٍ ولا عبوس . . . ومنهم ، ومنهم . . . وفي معناه يقول بعضهم :

أنا إنْ مِتُّ- والهوى حشو قلبي- ... فبِداءِ الهوى يموت الكرامُ

٢٠-٢١

ثم قال جلّ ذكره : { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الوَعِيدِ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } .

سائقٌ يسوقها إمّا إلى الجنة أو إلى النار ، وشهيدٌ يشهد عليها بما فعلت من الخير والشرِّ .

٢٢

ويقال له : { لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حِدِيدٌ } .

المؤمنون - اليومَ بَصَرُهم حديد؛ يُبصرون رُشْدَهم ويحذرون شرَّهم .

والكافر يقال له غداً : { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : ها أنت عَلِمْتَ ما كنتَ فيه من التكذيب؛ فاليومَ لا يُسْمَعُ منكَ خطابٌ ، ولا يُرْفَعُ عنكَ عذابٌ .

٢٣

قوله جلّ ذكره : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } .

لا يَخْفَى من أحوالهم شيءٌ إلى ذُكِرَ ، إنْ كان خيراً يُجَازون عليه ، وإن كان غير خيرٍ يُحَاسَبونَ عليه : إِمَّا برحمةٍ منه فيغفر لهم وينجون ،

وإمَّا على مقدار جُرْمِهم يُعَذَّبون .

٢٤-٢٦

{ أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } .

منَّاعٍ للزكاة المفروضة .

ويقال : يمنع فَضْلَ مائِه وفَضْلَ كَلَئِه عن المسلمين .

ويقال : يمنع الناسَ من الخيرِ والإحسان ، ويسيءُ القول فيهما حتى يُزَهّدُ الناسَ فيهما .

ويقال : المناعُ للخير هو المِعْوانُ على الشَّرِّ .

ويقال : هو الذي قيل فيه : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ }[ الماعون : ٧ ] .

{ مُرِيبٍ } : أي يُشَكِّكُ الناسَ في أمره لأنه غير مخلص ، ويُلَبِّسُ على الناس حالَه لأنه منافق .

٢٧

قوله جلّ ذكره : { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِى ضَلاَلٍ بَعَيدٍ } .

يقول المَلَكُ من الحَفظَةِ المُوَكَّلُ له : ما أَعْجَلْتُه على الزَّلَّة .

وإنمنا كَتَبْتُها بعدما فَعَلَها- وذلك حين يقول الكافر : لم أفعلْ هذا ، وإنما أعجلني بالكتابة عليّ ، فيقول المَلكُ : ربَّنا ما أعجلته .

ويقال : هو الشيطانُ المقرونُ به ، وحين يلتقيان في جهنم يقول الشيطانُ : ما أكرهته على كفره ، ولكنه فعل - باختياره - ما وسوسْتُ به إليه .

٢٨-٢٩

فيقول جلّ ذكره : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .

لا تختصموا لديَّ اليومَ وقد أَمَرْتُكم بالرُّشْدِ ونَهَيْتُكم عن الغَيّ .

٣٠

قوله جلّ ذكره : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مَن مَّزِيدٍ } .

{ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ }{ وَتَقُولًُ } : القولُ هنا على التوسُّع؛ لأنه لو كانت جهنم ممن يجيب لقالت ذلك بل يُحْييها حتى تقولَ ذلك .

{ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } : على جهة التغليظ ، والاستزداة من الكفار .

ويقال : بل تقول : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } : أي ليس فيَّ زيادة كقوله عليه السلام لمَّا قيل له :

يومَ فتح مكة : هل ترجع إلى دارك؟ فقال :( وهل ترك لنا عقيل داراً )؟! أي لم يترك ، فإن اللّه - تعالى- يملأ جهنمَ من الكفارِ والعصاةِ ، فإذا ما أُخرِجَ العصاةُ من المؤمنين ازدادَ غيظُ الكفارِ حتى تمتلىء بهم جهنم .

٣١

قوله جلّ ذكره : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } .

يقال : أنَّ الجنَّةَ تُقَرَّبُ من المتقين ، كما أَنَّ النّار تُجَرُّ بالسلاسل إلى المحشر نحو المجرمين .

ويقال : بل تقرب الجنة بأن يسهل على المتقين حشرهم إليها . . . وهم خواص الخواص .

ويقل : هم ثلاثةُ أصناف : قوم يُحْشَرون إلى الجنة مشاةً وهم الذين قال فيهم : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً }[ الزمر : ٧٣ ] - وهم عوام المؤمنين وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصوَّرة لهم بصورة حيوان ، وهم الذين قال فيهم جَلَّ وعلا : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إلَى الرَّحْمَانِ وَفداً }[ مريم : ٨٥ ] - وهؤلاء هم الخواص

وأمَّا خاص الخاص فهم الذين قال عنهم : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقَينَ } أي تُقَرَّبُ الجنةُ منهم .

وقوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } : تأكيدٌ لقوله : ( وأزلفت ) .

ويقال : { غَيْرَ بَعِيدٍ } : من العاصين تطييباً لقلوبهم .

٣٢

قوله جلّ ذكره : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } .

الأوَّابُ : الراجعُ إلى اللّه في جميع أحواله .

{ حَفِيظُ } : أي محافظ على أوقاته ، ( ويقال محافظ على حواسه في اللّه حافظ لأنفاسه مع اللّه ) .

٣٣

قوله جلّ ذكره : { مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقْلبٍ مُّنِيبٍ } .

الخشيةُ من الرحمنِ هي الخشية من الفراق ( والخشية من الرحمن تكون مقرونة ) بالأُنْس؛ ولذلك لم يقل : من خشي الجبَّار ولا من خشي القهَّار ) .

ويقال الخشية من اللّه تقتضي العلم بأنه يفعل ما يشاء وأنه لا يسْأَلُ عمَّا يفعل .

ويقال : الخشيةُ ألطفُ من الخوف ، وأنها قريبةٌ من الهيبة .

{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } : لم يقل بَنَفْسٍ مطيعة بل قال : بقلبٍ منيب ليكونَ للعصاةِ في هذا أملٌ؛ لأنهم - وإن قَصَّروا بنفوسهم وليس لهم صِدْقُ القَدَمِ - فلهم الأسفُ بقلوبهم وصدق الندَّم .

٣٤

قوله جلّ ذكره : { ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } .

أي يقال لهم : ادخلوها بسلامةٍ من كل آفةٍ ، ووجودِ رضوان ولا يسخطُ عليكم الحقُّ أبداً .

ومنهم مَنْ يقول له المَلَكُ : ادخلوها بسلامٍ ، ومنهم من يقوله له : لكم ما تشاؤون فيها - قال تعالى :

٣٥

{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } .

لم يقل : ( لهم ما يسألون ) بل قال : { لَهُمُ مَّا يَشَآءُونَ } : فكلُّ ما يخطر ببالهم فإنَّ سؤلَهم يتحقق لهم في الوَهْلة ، وإذا كانوا اليوم يقولون : ما يشاء اللّه فإنَّ لهم غداً منه الإحسان . . . وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

{ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } : اتفق أهل التفسير على أنه الرؤية ، والنظر إلى اللّه سبحانه وقومٌ يقولون : المزيد على الثواب في الجنة - ولا منافاة بينهما .

٣٦

قوله جلّ ذكره : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطَشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } .

أي عْتَبِروا بالذين تَقَدَّموكم؛ انهمكوا في ضلالتهم ، وأَصَرُّوا ، ولم يُقْلِعوا . . فأهلكناهم وما أَبْقَيْنَا منهم أحداً .

٣٧

قوله جلّ ذكره : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } .

قيل :{ لِمَن كَانَ لُهُ قَلْبٌ } : أي من كان له عقل .

وقيل : قلب حاضر . ويقال قلبٌ على الإحسان مُقْبِل . ويقال : قَلْبٌ غيرُ قُلَّب .

{ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } : استمع إلى ما يَنادى به ظاهرُه من الخَلْق وإلى ما يعود إلى سِرِّه من الحق . ويقال : لمن كان له قلبٌ صاح لم يَسْكر من الغفلة . ويقال قلبٌ يعد أنفاسَه مع اللّه . ويقال : قلبٌ حيٌّ بنور الموافقة . ويقال : قلبٌ غيرُ مُعْرِضٍ عن الاعتبار والاستبصار .

ويقال : ( القلبُ - كما في الخبر- بين إصبعين من أصابع الرحمن ) : أي بين نعمتين؛ وهما ما يدفعه عنه من البلاء ، وما ينفعه به من النَّعماء ، فكلُّ قلب مَنَعَ الحقُّ عنه الأوصافَ الذميمَةَ وأَلْزَمَه النعوتَ الحميدةَ فهو الذي قال فيه : { إِنَّ فِى ذَالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } .

وفي الخبر : ( إن للّه أوانيَ ألاَ وهي القلوب ، وأقربها من اللّه مارقَّ وصفا ) شبَّه القلوب بالأواني؛ فقلبُ الكافرِ منكوسٌ لا يدخل فيه شيء ، وقلبُ المنافقِ إناء مكسور ، ما يُلْقى فيه من أوَّله يخرج من أسفله ، وقلبُ المؤمنِ إناءٌ صحيح غير منكوس يدخل فيه الإيمانُ ويَبْقَى .

ولكنَّ هذه القلوبَ مختلفةٌ؛ فقلبٌ مُلَطَّخٌ بالانفعالات وفنون الآفات؛ فالشرابُ الذي يُلْقَى فيه يصحبه أثر ، ويتلطخ به .

وقلبٌ صفا من الكدورات وهو أعلاها قَدْراً .

٣٨

قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } .

وأَني يَمَسُّه اللُّغوبُ . وهو صَمَدٌ لا يحدث في ذاته حادث؟!

٣٩

قوله جلّ ذكره : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } .

إِنْ تَأذَّ سَمْعُكَ بما يقولون فيَّ من الأشياء التي يتقدَّس عنها نَعْتي فاصبِرْ على ما يقولون ، واستروِحْ عن ذلك بتسبيحك لنا .

٤٠

{ وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } .

فالليلُ وقتُ الخلوة - والصفاءُ في الخلوة أتَمُّ وأصْفى .

٤١-٤٢

قوله جلّ ذكره : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } .

النداءُ من الحق - سبحانه - واردٌ عليهم ، كما انَّ النجوى تحصل دائماً بينهم . والنداءُ الذي يَردُ عليهم يكون بغتةً ولا يكون للعبد في فِعْلِه اختيارٌ .

٤٣

قوله جلّ ذكره : { إِِنَا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } .

إلينا مَرْجِعُ الكُلِّ ومصيرُهم .

٤٤

قوله جلّ ذكره : { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } .

هذا يسيرٌ علينا : سواء خلقناهم جملةً أو فرادى؛ قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسِ وَاحِدَةٍ }[ لقمان : ٣١ ] .

٤٥

قوله جلّ ذكره : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَآ أَنْتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .

ما انت عليهم بُمتَسَلِّطٍ تُكْرِههم .

وإنما يُؤَثِّرُ التخويفُ والإنذارُ والتذكيرُ في الخائفين ، فأمّا مَنْ لا يخاف فلا ينجحُ فيه التخويف - وطيرُ السماء على أُلاَّفها تقعُ .

﴿ ٠