سورة الطور

١-٣

قوله جلّ ذكره : { وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِى رَقِّ مَّنشُورٍ } .

أقسم اللّه بهذه الأشياء ( التي في مطلع السورة ) ، وجواب القَسَم قوله : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } . والظورُ هو الجبلُ الذي كُلِّم عليه موسى عليه السلام؛ لأنه مَحَلُّ قَدَم الأحباب وقتَ سماع الخطاب . ولأنه الموضعُ الذي سَمِعَ فيه موسى ذِكْرَمحمدٍ صلى اللّه عليه وسلم وذِكْرَ أُمَّته حتى نادانا ونحن في أصلاب آبائنا فقال : أعطيتكم قبل أن تَسألوني { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } مكتوب في المصاحف ، وفي اللوح المحفوظ .

وقيل : كتاب الملائكة في السماء يقرؤون منه ما كان وما يكون .

ويقال : ما كتب على نفسه من الرحمة لعباده .

ويقال ما كتب من قوله : ( سبقت رحمتي غضبي ) .

ويقال : هو قوله : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ }[ الأنبياء : ١٠٥ ] .

ويقال : الكتاب المسطور فيه أعمال العباد يُعْطَى لعباده بأَيْمانهم وشمائلهم يوم القيامة . { فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ } يرجع إلى ما ذكرنا من الكتاب .

٤

{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } .

في السماء الرابعة ويقال : هو قلوب العبادين العارفين المعمورة بمحبته ومعرفته . ويقال : هي مواضع عبادتهم ومجالس خلواتهم .

وقيل : الكعبة .

٥

{ وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ } .

هي السماء .

وقيل سماء هِمَمِهم في الملكوت .

٦

{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } .

البحار المملوءة .

٧

أقسم بهذه الأشياء : { إنَّ عذابَه لواقع } وعذابُه في الظاهر ما توعَّدَ به عبادَه العاصين ، وفي الباطن الحجابُ بعد الحضور ، والسترُ بعد الكشف ، والردُّ بعد القبول .

٨

{ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } .

إذا رَدَّ عَبْداً أَبرمَ القضاءَ بردِّه :

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... إليه بوجه آخَر - الدهر- تُقْبِلُ

٩-١٠

قوله جلّ ذكره : { يَومَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً } .

{ تَمُورُ } : أي تدور بما فيها ، وتسير الجبالُ عن أماكنها ، فتسير سيراً .

١١-١٢

{ فَوَيْلٌ يَوْمئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } .

الويلُ كلمة تقولها العرب لمن وقع في الهلاك .

{ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } : في باطل التكذيب يخوضون .

١٣-١٥

{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إلَى نَارٍ جَهَنَّمَ دَعًّا هَذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَآ أَمْ أَنتُمْ لا َتُبْصِرُونَ } .

يومَ يُدْفَعون إلى النارِ دَفْعاً ، ويقال لهم : هذه هي النار التي كنتم بها تُكذِّبون . . .

ثم يسألون : أهذا من قبيل السحر على ما قلتم أم غُطِّيَ على أبصاركم؟!

١٦

قوله جلّ ذكره : { اصْلُوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

والصبرُ على الجزاء في العاقبة لا قيمة له ، لأنَّ عذابَهم عقوبةٌ لهم :

١٧-١٨

قوله جلّ ذكره : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ } .

المتقون في جنات ونعيم عاجلاً وآجلاً . { فَاكِهِينَ } أي مُْعْجَبِين بما آتاهم ربهم وما أعطاهم .

ويقالك فاكهون : أي ذوو فاكهة : كقولهم رجل تامر أي ذو تمر ، ولابنٌ أي ذو لَبن .

١٩

قوله جلّ ذكره : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

قوم يصير لهم ذلك هنيئاً بطَعْمِه ولَذَّتِه ، وقومٌ يصير هنيئاً لهم سماعُ قولهم عنه- سبحانه- هنيئاً ، وقوم يصير لهم ذلك هيناَ ليِّناً وهم بمشهد منه :

فاشرب على وجهها كَغُرَّتِها ... مُدامةً في الكؤوس كالشَّررِ

٢٠

{ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } .

يظلَّون في سرور وحبور ، ونصيب من الأنْس موفور .

٢١

قوله جلّ ذكره : { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } .

يُكْملُ عليهم سرورهم بأَنْ يُلْحِق بهم ذُرِّياتِهم؛ فإنَّ الانفرادَ بالنعمة عَمَّنْ القلبُ مشتغِلٌ به من الأهل والولد الذرية يوجِب تَنَغص العيش .

وكذلك كلُّ مْن قلبُ الوليِّ يلاحِظه من صديق وقريب ، ووليٍّ وخادم ، قال تعالى في قصة يوسف : { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ }[ يوسف : ٩٣ ] .

وفي هذا المعنى قالوا :

إنيِّ على جفواتها - فبربِّها ... وبكلِّ مُتَّصلٍ بها متوسِّلِ

لأحُّبها ، وأُحِبُّ منزلَها الذي ... نزلت به وأحب أهل المنزِل

{ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } .

أي ما أنقصنا من أجورهم من شيءٍ بل وفينا ووفَرنا . وفي الابتداء نحن أَوْليْنا وزدنا على ما أعطينا .

{ كُلُّ امْرِى بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } مُطَالَبٌ بعمله ، يوفىَّ عليه أَجره بلا تأخير ، وإنْ كان ذنباً فالكثيرُ منه مغفور ، كما أنه اليوم مستور .

٢٢-٢٣

قوله جلّ ذكره : { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهونَ يَتَنَازَعُونَ فِيهَ كَأْساً لاَ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } .

أي لا يجري بينهم باطلٌ ولا يؤثمهم كما يجري بين الشَّربِ في لدنيا ، ولا يَذْهبُ الشُّرْبُ بعقولهم فيجري بينهم ما يُخْرِِجهم عن حَدِّ الأدبِ والاستقامة .

وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ومِن المعلوم من يسقيهم ، وهم بمشهد منه وعلى رؤية منه؟

٢٤

قوله جلّ ذكره : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } .

والقومُ عن الدارِ وعمَّن في الدار مُخْتَطَفون لاستيلاء ما يستغرقهم؛ فالشرابُ يؤنِسُهم ولكن لا بِمَنْ يجانسهم؛ وإذا كان - اليومَ - للعبد وهو في السجن في طول عمره ساعة ُ امتناع عن سماع خطاب الأغيار ، وشهود واحدٍ من المخلوقين - وإنْ كان ولداً عزيزاً ، أو أخاً شفيقاً - فمِنَ المحال أنْ يُظَنْ أنه يُرَدُّ من الأعلى إلى الأدنى . . إِنْ كان من اهل القبول والجنة ، ومن المحال أن يظن أنه يكون غداً موسوماً بالشقاوة .

وإذا كان العبدُ في الدنيا يقاسي في غُرْبتَه من مُقاصاة اللتيا والتي - فماذا يجب أن يقال إذا رجع إلى منزله؟ أيبقى على ما كان عليه في سفرته؟ أم يلقى غير ما كان يقاسي في سَفْرته ، ويتجرع غير ما كان يُسْقى من كاسات كُرْبته؟

٢٥-٢٨

قوله جلّ ذكره { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللّه عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومٍ } .

لولا أَنهم قالوا : { فَمَنَّ اللّه عَلَيْنَا } لكانوا قد لاحظوا إشفاقَهم ، ولكن الحقّ - سبحانه - اختطفهم عن شُهود إِشفاقهم؛ حيث أَشهدهم مِنَّتَه عليهم حتى قالوا : { فَمَنَّ اللّه عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ }{ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } .

٢٩

قوله جلّ ذكره : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بَكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } .

أي أنهم يعلمون أَنَّكَ ليست بك كَهَانةٌ ولا جُنونٌ ، وإنما قالوا ذلك على جهة التسفيه؛ فالسّفيهُ يبسط لسانُه فيمن يَسُبُّه بما يعلم أنه منه بريء .

٣٠

{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَِإنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } .

نتربص به حوادث الأيام؛ فإنّ مِثْل هذا لا يدوم ، وسيموت كما مات مِنْ قبْله كُهّانٌ وشعراء .

ويقال : قالوا : إنَّ أباه مات شابّاً ، ورَجَوْا أَنْ يموت كما مات أبوه ، فقال تعالى :

٣١

{ قُل تَرَبَّصُواْ . . . } فإننا منتظرون ، وجاء في التفسير أَنّ جميعَهم ماتوا . فلا ينبغي لأحدٍ أن يُؤمِّلَ موتَ أحدٍ . فَقَلْ مَن تكون هذه صَنعتُه إلاّ سَبَقَتْه المَنيَّةُ - دون أَنْ يُدْرِكَ ما يتمنّاه مِنْ الأمنيّة .

٣٢

قوله جلّ ذكره : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُم بِهَذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } .

أتأمرهم عقولهم بهذا؟ أَم تحملهم مجَاوزة الحدّ في ضلالهم وطغيانهم عَلَى هذا؟

٣٣-٣٤

قوله جلّ ذكره : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاٍَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } .

إذا كانوا يزعمون أنك تقول هذا القول من ذاتِ نَفْسك فليأتوا بحديثٍ مثلِه إنْ كانوا صادقين فيما رَمَوْك به!

٣٥

كلاَ ليس الامرُ كذلك ، بل اللّه هو الخالق وهم المخلوقون .

أم هم الذين خلقوا السمواتِ والأرضَ؟

٣٧-٣٨

{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } .

-أي خزائن أرزاقه ومقدوراته؟ { أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرونَ } المُتَسلِّطون عَلَى الناس؟

أم لهم سُلّمٌ يرتقون فيه فيستمعون ما يجري في السموات؟ { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ثم إنه سفّهَ أحلامهم فقال :

٣٩-٤٠

{ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } .

أم تسألهم عَلَى تبليغ الرسالة أجراً هلم مثقلون من الغُرم والإلزام في المال ( بحيث يزهدهم ذلك في اتباعك؟ ) .

٤١

{ أَمْ عِنَدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ذلك؟

٤٢

{ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } أي أن يمكروا بك مكراً { فَالَّذِينَ كَفرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ } .

٤٣

{ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّه } يفعل شيئاً مما يفعل اللّه؟ تنزيهاً له عن ذلك!

٤٤

قوله جلّ ذكره : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } .

أي إِنْ رأوْا قطعةً من السماء ساقطةً عليهم قالوا : إنه سحابٌ مركوم رُكم بعضه عَلَى بعض والمقصود أنهم مهما رَأَوْ من الآيات لا يُؤمِنون . ولو فتحنا عليهم باباً من السماء حتى شاهدوا بالعين لقالوا : إنما سُكرَتْ أبصارنا ، وليس هذا عياناً ولا مشاهدةً .

٤٥-٤٦

قوله جلّ ذكره : { فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَ قُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } .

أي فأعرضْ عنهم حتى يُلاقوا يومَهم الذي فيه يموتون ، يوم لا يُغْني عنهم كيدُهم شيئاً ، ولا يُمْنَعون من عذابنا .

٤٧

قوله جلّ ذكره : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَالِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .

دونَ يوم القيامة لهم عذابُ القَتْلِ والسّبْيِ ، وما نَزَلَ بهم من الهوان والخزي يوم بدر وغيره .

{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : أَنَّ اللّه ناصرٌ لدينه .

٤٨

قوله جلّ ذكره : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } .

أنت بمرأىً مِنَّا ، وفي نصرةٍ منَّا .

{ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } : في هذا تخفيفٌ عليه وهو يقاسي الصبر .

{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ }

أي تقوم للصلاةِ المفروضةِ عليك .

٤٩

{ وَمِنَ الَّيْلِ فِسَبِّحهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } .

قيل : المغرب والعشاء وركعتا الفجر .

وفي الآية دليل وإشارة إلى أنه أَمَرَه أَنْ يَذْكُرَه في كلَّ وقت ، وألا يخلوَ وقتٌ من ذِكْره .

والصبرُ لحُكمِ اللّه شديدٌ ، ولكن إذا عَرَفَ اطلاعَ الربِّ عليه سَهُلَ عليه ذلك وهان .

﴿ ٠