سورة القمر١أجمع أهلُ التفسير على أنَّ القمرَ قد انشقَّ على عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم . قال ابن مسعود : ( رأيت حراء بين فلقتي القمر ) ولم يوجد لابن مسعود مخالف في ذلك؛ فقد روي أيضاً عن أنس وابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم . . كلهم رووا هذا الخبر . وفيه إعجازٌ من وجهين : أحدهما رؤية مَنْ رأى ذلك ، والثاني خفاء مثل ذلك على مَنْ لم يَرَه؛ لأنه لا ينكتم مثله في العادة فإذا خفي كان نقض العادة . وأهل مكة رأوا ذلك ، وقالوا : إنَّ محمداً قد سحر القمر . ومعنى { اقْتَرَبَتِ السَّاعِةُ } : أي ما بقي من الزمانِ إلى القيامةِ إلا قليلٌ بالإضافةِ إلى ما مضى . ٢قوله جلّ ذكره : { وَإِن يَرَوْا ءِايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌ } . يعني أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها ، ولو نظروا لحصل لهم العلمُ واجباً . { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } : أي دائمٌ قويٌّ شديد . . . ويقال إنهم قالوا : هذا ذاهب لا تبقى مدته فاستمر : أي ذهب . ٣{ وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ } : التكذيب واتباع الهوى قريبان؛ فإِذا حَصَل اتباعُ الهوى فمِنْ شُؤْمِه يحصل التكذيب؛ لأنَّ اللّه يُلَبِّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر الرشد . أما اتباع الرضا فمقرونٌ بالتصديق؛ لأنَّ اللّه ببركاتِ اتباع الحقِّ يفتح عينَ البصيرة فيحصل التصديقِ . وكلُّ امرىءٍ جَرَتْ له القِسْمةُ والتقدير فلا محالةَ . يستقر له حصولُ ما قُسِمَ وقدِّر له . { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } : يستقر عملُ المؤمنِ فتُوجَبُ له الجنة ، ويستقر عملُ الكافرِ فَيُجَّازَى . ٤قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنبآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةُ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } . جاءهم من أخبارِ الأنبياءِ والأممِ الذين مِنْ قَبْلهِم والأزمنةِ الماضية ما يجب أَنْ يحصلَ به الارتداعُ ، ولكنَّ الحقَّ - سبحانه - أَسْبَلَ على بصائرهم سُجُوف الجهلِ فَعَموا عن مواضع الرشد . ٥{ حِكْمَةُ بَالِغَةٌ . . . } : بدل من ( ما ) فيما سبق : ( ما فيه مزدجر ) . والحكمةالبالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها . { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } : وأي شيء يغني إنذارُ النذيرِ وقد سَبَقَ التقديرُ لهم بالشقاء؟ ٦-٨قوله جلّ ذكره : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } . { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } : ها هنا تمام الكلام - أي فأعرِضْ عنهم ، وهذا قبل الأمر بالقتال . ثم استأنف الكلامَ : { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ . . . } والجواب : { يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ } - أراد به يوم القيامة . ومعنى { نُّكُرٍ } : أي شيءٌ ينكرونه ( بِهَوْله وفظاعته ) وهو يوم البعث والحشر . وقوله : { خُشَّعاً } منصوب على الحال ، أي يخرجون من الأجداث - وهي القبور- خاشعي الأبصار . { . . . كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } . كأنهم كالجراد لكثرتهم وتفَرقهم ، { مُّهْطِعِينَ } : أي مُديمي النظر إلى الداعي- وهو إسْرافيل . { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } : لتوالي الشدائد التي فيه . ٩-١٢قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنهْمَرٍ } . كذب قوم نوح نبيَّهم ، وقالوا : إنه مجنون ، وزجروه وشتموه . وقيل :{ وَازْدُجِرَ } : أي استطار عَقْلهُ ، أي قومُ نوحٍ قالوا له ذلك . فدعا ربَّه فقال : إِني مغلوب؛ أي بتسلُّطِ قومي عليَّ؛ فلم يكن مغلوباً بالحُجَّة لأنَّ الحُجَّةَ كانت عليهم ، فقال نوح للّه : اللّهمَّ فانتَصِرْ منهم أي انْتَقِمْ . ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْصَبٍّ ، وشَقَقْنَا عيوناً بالماء ، فالتقي ماء السماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد قُدِّرَ في اللوح المحفوظ ، وَقُدِرَ عليه بإهلاكهم! وفي التفاسير : أن الماء الذي نَبَعَ من الأرضِ نَضَبَ . والماء الذي نزل من السماء هو البخارُ اليومَ . ١٣{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ } . وحملنا نوحاً على { ذَاتِ أَلْوَاحٍ } أي سفينة ، و { وَدُسُرٍ } يعني المسامير وهي جمع دسار أي مسمار . ١٤{ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } . { بَأعْيُنِنَا } أي بمرأَى مِنَّا . وقيل : تجري بأوليائنا . ويقال : بإعين ملائكتنا الذين وكلناهم لحفظهِم . ويقال : بأعين الماء الذي أنبعتاه من أوجه الأرض . { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } : أي الذين كفروا بنوح . ١٥قوله جلّ ذكره : { وَلَقَد تَّرَكْنَاهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّذَّكَرِ } . جعلنا أَمْرَ السفينةِ علامةً بَيِّنَةً لِمَنْ يعتبر بها . { فَهَلْ مِن مُُّذَّكِرٍ } : فهل منكم من يعتبر؟ . أمَرَهم بالاعتبار بها . ١٦قوله جلّ ذكره : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } . قالها على جهةالتعظيم لأمرِه . وقد ذَكَرَ قصة نوخٍ هنا عل أفصحِ بيانٍ وأقصرِ كلام وَأَتَمِّ معنًى . وكان نوحٌ - عليه السلام- أطول الأنبياء عمراً ، وَأشَدَّهم للبلاءِ مقاساةً . ثم إن اللّه - سبحانه - لما نَجَّى نوحاً متَّعه بعد هلاك قومه ومتع أولادَه ، فكلُّ مَنْ على وجه الأرض من أولا د نوح عليه السلام . وفي هذا قوةٌ لرجاء أهل الدين ، وإذا لقوا في دين اللّه محنةً؛ فإنَّ اللّه يُهلِكُ - عن قريب- عَدوَّهم ، ويُمكِّنُهم من ديارهم وبلادهم ، ويورثهم ما كان إليهم . وكذلك كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه ، وسنةُ اللّه في جميع أهل الضلال أن يُعِزَّ أولياءَه بعد أن يزهق أعداءَه . ١٧قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . يَسَّرنا قراءَتَه على ألسنةِ الناس ، ويسَّرنا عِلْمه على قلوبِ قوم ، ويسَّرنا فَهْمَه على قلوب قوم ، ويَسَّرْنا حِفْظَه على قلوبِ قومٍ ، وكلُّهم أهلُ القرآن ، وكلُّهم أهلُ القرآن ، وكلُّهم أهل اللّه وخاصته . ويقال : كاشَفَ الأرواحَ من قوم - بالقرآن - قبل إدخالها في الأجساد . { فَهَلْ مِن مُّدَّكَرٍ } لهذا العهد الذي جرى لنا معه . ١٨-٢٠قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِِنَّآ أَرْسْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمٍ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } . كَذَّبوا هوداً ، فأرسلنا عليهم { رِيحاً صَرْصَراً } أي : باردةً شديدة الهُبوب ، يُسْمَعُ لها صوت . { فِى يَوْمِ نَخْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } أي : في يوم شؤم استمرَّ فيه العذابُ بهم ، ودام ذلك فيهم ثمانيةَ أيام وسَبْعَ ليالٍ ، وقيل : دائم الشؤم تنزع رياحُه الناسَ عن حُفَرِهم التي حفروها . حتى صاروا كأنهم أسافلُ نخلٍ مُنْقَطِع . وقيل : كانت الريح تقتلع رؤوسهم عن مناكبهم ثم تُلْقي بهم كأنهم أصول نخلٍ قطت رؤوسُها . ٢٢{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . هَوَّنا قراءَتَه وحِفْظَه؛ فليس كتابٌ من كُتُبِ اللّه تعالى يُقْرَأُ ظهراً إلاََّ القرآن . ٢٣-٢٤قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُذُّرِ فَقَالُوآ أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } . هم قوم صالح . وقد مضى القولُ فيه ، وما كان من عقرهم للناقة . . إلى أن أرسل اللّه عليهم صيحةً واحدةً أوجبت هذا الهلاك ، فَصيَّرَهم كالهشيم ، وهو اليابس من النبات ، { الْمُحْتَظِرِ } : أي : المجعول في الحظيرة ، أو الحاصل في الحظيرة . ٣٣-٣٥فأرسلنا عليهم { حَاصِباً } : أي : حجارةً رُمُوا بها . { كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ } : أي : جعلنا إنجاءَهم في إِهلاك أعدائهم . وهكذا نجزي من شكر؛ فمثل هذا نعامِلُ به مَن شَكَرَ نعمتنا . والشُّكْرُ على نِعَم الدفع أتمُّ من الشكر على نِعَم النفع - ولا يَعْرِفُ ذلك إلا كلُّ مُوَفَّق كَيِّس . ٣٧جاء جبريلُ ومَسَحَ بجناحه عَلى وجوههم فَعمُوا ، ولم يهتدوا للخروج - وكذلك أجرى سُنَّتَه في أوليائه أنْ يَطْمِسَ على قلوبِ أعدائهم حتى يلبس عليهم كيف يؤذون أولياءَه ثم يُخَلِّصُهم من كيدهم . ٤٥أخبر أنه يفعل هذا بأعداء الرسول صلىللّه عليه وسلم ، وحقٌّق ذلك يوم بَدر ، فصار ذلك معجزاته صلوات اللّه عليه وسلامه . ٤٨سَحْبُهم على الوجوهِ أمارةٌ لإذْلالهم ، ولو كان ذلك مرةً واحدةً لكانت عظيمة - فيكيف وهو التأبيد والتخليد؟! وكما أنََّ أمارةَ الذُلِّ تظهر على وجوههم فعلامةُ إعزازِ المؤمنين وإكرامهم تظهر على وجوههم ، قال تعالى : { وُجُوةٌ يَؤمَئِذٍ نَّاَضِرَةٌ }[ القيامة : ٢٢ ] . وقال : { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ }[ المطففين : ٢٤ ] . ٤٩قوله جلّ ذكره : { إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدرٍ } . أي بِقَدَرٍ مكتوب في اللوح المحفوظ . ويقال : خلقناه بقدر ما عَلِمْنا وأردْنا وأخبرْنا . ٥٠قوله جلّ ذكره : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ } . أي إذا أردنا خَلْقَ شيءٍ لا يتعسَّرُ ولا يتعَذَّرُ علينا ، نقول له : كُنْ - فيكون بقدرتنا . ولا يقتضي هذا استئناف قولٍ في ذلك الوقت ولكن استحقاق أن يقال لقوله القدم أن يكون أمراً لذلك المكون إنما يَحصل في ذلك الوقت . { كَلَمْحِ بِالْصَبرِ } : أي كما ان هذا القَدْرَ عندكم أي قَدْرَ ما يلمح أحدُكم ببصره لا تلحقكم به مشقةٌ - كذلك عندنا : إذا أردنا نخلق شيئاً- قلّ أو كَثُرَ ، صَغُرَ أو كَبُرَ لا تلحقنا فيه مشقة . ٥١قوله جلّ ذكره : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . أي أهلكنا القرونَ التي كانت قبلكم فكلُّهم أمثالكم من بني آدم . . . ٥٢{ وَكُلُّ شَئٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ } . في اللوح المحفوظ مكتوبٌ قبل أن يعمله . وفي صحيفة الملائكة مكتوب . لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها . . ٥٣{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } . كلُّ صغيرٍ من الخَلْق ، وكلُّ كبيرٍ من الخَلْقِ- تخترمه المنيَّةُ . ويقال : كلُّ صغيرٍ من الأعمال وكبيرٍ مكتوبٌ في اللوح المحفوظ ، وفي ديوان الملائكة . وتعريف الناس عما يكتبه الملائكة هوعلى جهة التخويف؛ لئلا يتجاسر العبدُ على الزَّلَّةِ إذا عرف المحاسبة عليها والمطالبة بها . ٥٤قوله جلّ ذكره : { إِنَّ الْمُتَقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر } لهم بساتين وأنهار ، والجمعُ إذا قوبل بالجمع فالآحادُ تُقابَلُ بالآحاد . فظاهرُ هذا الخطاب يقتضي أن يكون لكل واحدٍ من المتقين جنةٌ ونَهْرٌ . ٥٥{ فِى مَقْعَدٍ صِدْقٍ } : أي في مجلس صِدْقٍ . { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } : أراد به عِنْديََّةَ القْرْبة والزلفة . ويقال : مقعد الصدق أي مكان الصدق ، والصادق في عبادته مَنْ لا يتعبَّدُ على ملاحظة الأطماع ومطالعة الأعواض . ويقال : مَنْ طلب الأعواض هَتَكَتْه الأطماع ، ومَنْ صَدَقَ في العبوديَّة تحرَّرَ عن المقاصد الدَّنِيَّة . ويقال : مَنْ اشتغل بالدنيا حَجَبَتْه الدنيا عن الآخرة ، ومَنْ أَسَرَه نعيمُ الجنة حُجِبَ عن القيامة بالحقيقة ، ومَنْ قام بالحقيقة شُغِلَ عن الكوْن بجملته . |
﴿ ٠ ﴾