سورة التغابن

١

قوله جل ذكره : { يُسَبِّحُ للّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ } .

المخلوقاتُ كلُّها بجملتها للّه سبحانه مُسَبِّحةٌ . . ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَنْ به طَرَشُ النكرة .

ويقال : الذي طَرَأَ صَمَمُه فقد يُرْجَى زواله بنوعِ معالجة ، أمَّا مَنْ يولَدُ أصَمَّ فلا حيلةَ في تحصيل سماعه . قال تعالى : { فإنك لا تسمع الموتى }[ الروم : ٥٢ ] وقال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ }[ الأنفال : ٢٣ ] .

٢

قوله جل ذكره { هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .

منكم كافرٌ في سابق حُكْمِه سَمَّاه كافراً ، وعَلِمَ أنه يكفر وأراد به الكفر . . وكذلك كانوا . ومنكم مؤمنٌ في سابق حُكْمِه سمَّاه مؤمناً ، وعِلِمَ في آزاله أنه يُؤمِن وخَلَقَه مؤمناً ، وأراده مؤمناً . . . واللّه بما تعلمون بصير .

٣

قوله جل ذكره : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .

{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ َالأَرْضَ بِالْحِقِّ } : أي وهو مُحِقُّ في خَلْقِه .

{ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } لم يَقُلْ لشيءٍ من المخوقات هذا الذي قال لنا ، صوَّر الظاهرَ وصوَّر الباطنَ؛ فالظاهر شاهدٌ على كمال قدرته ، والباطن شاهدٌ على جلال قربته .

٤

قوله جل ذكره : { يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُّسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } .

قصِّروا حِيَلكُم عن مطلوبكم ، فهو تتقاصر عنه علومُكم ، وأنا أعلمُ ذلك دونَكم . . فاطلبوا منِّي ، فأنا بذلك أعلم ، وعليه أقدر .

ويقال : { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } . فاحذورا دقيقَ الرياء ، وخَفِيَّ ذات الصدور { وَمَا تُعْلِنُونَ } : فاحذروا ان يخالِفَ ظاهرُكم باطنكم .

في قوله : { مَا تُسِرُّونَ } أمرٌ بالمراقبة بين العبد وربه .

وفي قوله : { ما تعلنون } أمرٌ بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخَلْق .

٥

قوله جل ذكره : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نََبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللّه واللّه غَنِىٌّ حَمِيدٌ } .

المراد من ذلك هو الاعتبار بِمَنْ سَلَفَ ، ومَنْ لم يعتبِرْ عَثَرَ في مَهْوَاةٍ من الامَلِ ، ثم لا يَنْتَعِشُ إلاّ بعد فواتِ الأمرِ من يده .

٦

{ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُم } . شاهدوا الأمر من حيث الخَلْقِ فتَطَوَّحوا في متاهاتِ الإشكالِ المختلفةِ الأحوال . ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلَّصوا من تفرقة الأباطيل ، واستراحوا بشهود التقدير من اختلاف الأحوال ذات التغيير .

٧

قوله جل ذكره : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عِملِْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرٌ } .

الموتُ نوعان : موتُ نَفْسٍ ، وموتُ قلب ، ففي القيامة يُبْعَثون من موت النَّفْس ،

وأمَّا موتُ القلبِ فلا بَعْثَ منه - عند كثيرٍ من مخلصي هذه الطائفة ، قال تعالى مُخْبِراً عنهم : { قَالُواْ يَاوَيْلَنَا مَن بَعَثَننَا مِن مَّرْقَدِنَا }[ يس : ٥٢ ] فلو عرفوه لَمَا قالوا ذلك؛ فموتُ قلوبِهم مُسَرْمَدٌ إلى أنْ تصيرَ معارفُهم ضروريةً ، فهذا الوقتُ وقتُ موتِ قلوبهم .

٨

قوله جل ذكره : { فَئَامِنُواْ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذَى أَنزَلْنَا وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .

{ النور الذي أنزلنا } : القرآن . ويجوز ان يكون ما أنزل في قلوب اوليائه من السكينة وفنون الألطاف .

٩

قوله جل ذكره : { يَوْمَ يَحْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللّه وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .

المطيعُ - يومئذٍِ- في غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة ، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلَّة .

وليسَ كلُّ الغبنِ في تفاوت الدرجات قلَّةً وكثرة ، فالغبن في الأحوال أكثر .

١١

قوله جل ذكره : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه وَمَن يُؤْمِن بِاللّه يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } .

أيُّ حُصْلةٍ حَصَلت فمِنْ قِبَلِه خَلْقاً ، وبعلمه وإرادته حُكماً .

{ يَهْدِ قَلْبَهُ } حتى يهتدي إلى اللّه في السَّراء والضَّراء - اليومَ - وفي الآخرة يهديه إلى الجنة .

ويقال : { يَهْدِ قَلْبَهُ } للأخلاق السنيَّة ، والتنقِّي من شُحِّ النَّفْس .

ويقال : { يَهْدِ قَلْبَهُ } لاتِّباع السُّنَّةِ واجتنابِ البِدْعة .

١٢

قوله جل ذكره : { وَأَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُواْ الرَّسُولً فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } .

طاعةُ اللّه واجبة ، وطاعةُ الرُّسُل - الذين هم سفراءٌ بينه وبين الخَلْقِ - واجبةٌ كذلك . والأنوار التي تظهر عليك وتطالَبُ بمقتضياتها كلُّها حقٌّ ، ومن الحقِّ . . فتجب طاعتُها أيضاً .

١٤

قوله جل ذكره : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوَّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُو وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمُ } .

إذا دَعَوْكَ لتجمَع لهم الدنيا فهم عدوٌّ لك ، أمَّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف فليسوا لكم أعداء .

١٥

قوله جل ذكره : { إِنَّمآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللّه عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .

{ فِتْنَةٌ } : لأنهم يشغلونك عن أداء حقِّ اللّه؛ فما تَبْقَ عن اللّه مشغولاً بجمعه فهو غيرُ ميمونٍ عليك .

ويقال : إذا جمعتم الدنيا لغير وَجْهِه فإنكم تُشغَلُون بذلك عن أداءِ حقِّ مولاكم ، وتشغلكم أولادُكم ، فتبقون بهم عن طاعة اللّه - وتلك فتنةٌ لكم . . ترومون إصلاحَهم . فتفسدون أنتم وهم لا يًصْلَحون!

١٦

قوله جل ذكره : { فَاتَّقُواْ اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا للّه . والتقوى عن شهود التقوى بعد إلا يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى .

{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } حتى ترتفعَ الاخطارُ عن قلبه ، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات ، { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }

١٧

قوله جل ذكره : { إِن تُقْرِضُوا اللّه قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه شَكُورٌ حَلِيمُ } .

يتوجَّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء بِبَذْلِ أموالهم ، وللفقراء في إخلاءِ أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثارِ مرادِ الحقِّ على مرادِ أنفسِهم .

فالغنيُّ يُقال له : آثِرْ حُكْمي على مرادك في مالِك ، والفقيرُ يقال له : آثِرْ حُكْمي في نَفْسِك وقلبك ووقتك وزمانك .

١٨

{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .

جلَّ شأنه .

﴿ ٠