سورة التحريم

١

جاء في القصة : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم حَرَّم على نفسه مارية القبطية ، وفي الحال حَلَفَ ألاَّ يطأَها شهراً مراعاةً لقلب حفصة حيث رأت النبي صلى اللّه عليه وسلم معها في يومها .

وقيل : حَرَّمَ على نَفْسِه شرْبَ العسل لمَّا قالت له زوجاته ، إِنَّا نشم منك ريح المغافير!

- والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة ، ويقال : بقلة كريهة الرائحة . . . فعاتَبَه اللّه على ذلك .

وهي صغيرةٌ منه على مذهب مَنْ جَوَّزَ الصغائر عليه ، وتَرْكٌ للأُوْلَى على مذهب مَنْ لم يجوِّز .

وقيل : إنه طَلَّقَ حفصة طلقةً واحدة ، فأمره اللّه بمراجعتها ، وقال له جبريل : إنها صوَّامَةٌ قوَّامَة .

وقيل : لم يطلقها ولكن هَمَّ بتطليقها فَمَنَعه اللّه عن ذلك .

وقيل : لمَّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها : إنِّي مُسِرٌّ إليك سِرّاً فلا تخبري أحداً : إنَّ هذا الأمر يكون بعدي لأبي بكر ولأبيك .

ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة ، وأوحى اللّه له بذلك ، فسأل النبيُّ حفصة : لِمَ أخبرتِ عائشة بما قلت؟

فقالت به : ومَنْ أخبرك بذلك؟قال أخبرني اللّه ، وعَرَّفَ حفصةَ بعضَ ما قالت ، ولم يصرِّحْ لها بجميع ما قالت ، قال تعالى : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ، فعاتبها على بعضٍ وأعرْضَ عن بعض - على عادة الكِرام .

ويقال : إن النبي - صلى اللّه عليه وسلم - لمَّا نزلت هذه الآية كان كثيراً ما يقول : ( اللّهم إني أعوذ بك من كل قاطعِ يقطعني عنك ) .

وظاهرُ هذا الخطاب عتاب على أنَّه مراعاةً لقلب امرأته حَرَّمَ على نفسه ما احلَّ اللّه له .

والإشارةُ فيه : وجوبُ تقديم حقِّ اللّه - سبحانه - على كل شيء في كل وقت .

٢

أنزل اللّه ذلك عنايةً بأمره عليه السلام ، وتجاوزاً عنه .

وقيل : إنه كَفَّرَ بعتق رقبة ، وعاوَدَ مارية .

واللّه - سبحانه - أجرى سُنَّتَه بأنه إذا ساكَن عَبْدٌ بقلبه إلى أحدٍ شَوَّشَ على خواصِّه محلَّ مساكنته غَيْرَةً على قلبه إلى أَنْ يُعَاوَدَ رَبَّه ، ثم يكفيه ذلك - ولكن بعد تطويل مدةٍ ، وأنشدوا في معناه :

إذا عُلِّقَت روحي حبيباً تعلَّقت ... به غَيرُ الأيام كل تَسْلَبَنِّيَهُ

وقد ألقى اللّه في قلبِ رسوله صلى اللّه عليه وسلم تناسياً بينه وبين زوجاته فاعتزلهن ، وما كان من حديث طلاق حفصة ، وما عاد إلى قلب أبيها ، وحديث الكفاية ، وإمساكه عن وطء مارية تسعاً وعشرين ليلة . . كل ذلك غَيْرَةً من الحق عليه ، وإرادتُه - سبحانه - تشويشُ قلوبهم حتى يكون رجوعُهم كلُّهم إلى اللّه تعالى بقلوبهم .

٤-٥

قوله جلّ ذكره : { إِن تَتُوبَآ إِلَى اللّه فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّه هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ظَهِيرٌ } .

عاتبهما على السير من خَطَراتِ القلب ، ثم قال : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ . . . . } .

{ وَصَالحُ الْمُؤْمِنِينَ } مَنْ لم يكن منهم في قلبه نفاق ، مثل أبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما .

وجاء : أن عمر بن الخطاب لما سَمِعَ شيئاً من ذلك قال لرسول اللّه :

لو أمرتني لأضربنَّ عُنُقَها!

والعتاب في الآية مع عائشة وحفصة رضى اللّه عنهما إذ تكلمتا في أمر مارية .

ثم قال تعالى زيادةً في العتاب وبيان القصة :

{ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلًَّقَكُنَّ أن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خِيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَآئِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَآئِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .

٦

قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُوُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ } .

أي : فَقَّهوهم ، وأَدِّبوهم ، وادعوهم إلى طاعة اللّه ، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم .

ودلَّت الآيةُ : على وجوبِ الأمرِ بالمعروف في الدَّين للأقرب فالأقرب .

وقيل : أظْهِرُا من أنفسكم العبادات ليتعلَّموا منكم ، ويعتادوا كعادتكم .

ويقال : دلُّوهم على السُّنَّةِ والجماعة .

ويقال : عَلِّموهم الأخلاقَ الحِسان .

ويقال : مُرُوهم بقبول النصيحة .

{ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارةُ } : الوقود : الحطب .

ويقال : أمر الناس يصلح بحجرة أومَدَرَة ، فإن أصل الإنسان مدرة ، ولو أنه أقام حَجَرَةٌ مقامَ مَدَرة فلا غروَ من فَضْلِ اللّه .

اللّهمَّ فأَلْقِ فيها بَدَلنا حَجَراً وخلِّصْنا منها .

٧

قوله جلّ ذكره : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

إذا فاتَ الوقتُ استفحل الأمرُ ، وانغلق البابُ ، وسقطت الحِيَلُ . . . . فالواجبُ البِدارُ والفرارُ لتصل إلى رَوْحِ القَرار .

٨

قوله جلّ ذكره : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللّه تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ } .

التوبةُ النصوحُ : هي التي لا يَعقُبها نَقْصٌ .

ويقال : هي التي لا تراها من نَفْسِك ، ولا تبى نجاتَكَ بها ، وإنما تراها بربِّك .

ويقال : هي أنْ تجدَ المرارةَ في قلبك عند ذكر الزَّلَّة كما كُنْتَ تجد الراحة لنفسِك عند فِعْلِها .

قوله جلّ ذكره : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللّه النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } .

لا يُخزِي اللّه النبيَّ بِتَرْكِ شفاعته ، والذين آمنوا معه بافتضاحِهم بعد ما قَبِلَ فيهم شفاعته .

{ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أََيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } عبَّر بذلك عن أنَّ الإيمانَ من جميع جهاتهم .

ويقال : بأَيمانهم كتابُ نجاتهم : أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم ، وما يخصُّهم اللّه به من الأنوارِ في ذلك اليوم .

{ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْممْ لَنَا نُورَنَا } : يستديمون التضرُّعَ والابتهالَ في السؤال .

٩

قوله جلّ ذكره : { يَأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ والمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ } .

أمَرَه بالمُلايَنَةِ في وقت الدعوة ، وقال : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }[ النحل : ١٢٥ ] ثم لمَّا أصرُّوا - بعد بيان الحُجَّةِ - قال : { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } : لأن هذا في حالِ إصرارهم ، وزوالِ أعذارهم .

١٠

قوله جلّ ذكره : { ضَرَبَ اللّه مَثَلاً لِّلَذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّه شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } .

لمَّا سَبَقَتْ لهما الفُرْقةُ يومَ القِسْمة لم تنفعْهما القربةُ يومَ العقوبةُ .

١١

قوله جلّ ذكره : { وَضَرَبَ اللّه مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكمَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .

قالوا : صغرت هِمَّتُها حيث طلبت بيتاً في الجنة ، وكان من حقِّها أنْ تطلب الكثير . . . ولا كما تَوهمَّوا : فإنها قالت : { رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ } فطلبَتْ جوارَ القربة ، ولَبيْتٌ في الجِوار أفضلُ من ألف قصرٍ في غير الجوار . ومن المعلوم أنَّ عِنديَّةَ هنا العِنديَّةُ القربة والكرامة . . ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره ، وله خصوصية . وفي معناه أنشدوا :

إني لأحْسُد جارَكم لجواركم ... طُوبى لِمَن أضحى لدارِكَ جارا

يا ليت جارَك باعني من داره ... شِبْراً لأُعطيه بِشِبْر دارا

١٢

خَتَم السورة بِذكْرها بعد ما ذكر امرأةُ فرعون ، وهما من جملة النساء ، ولمَّا كثُر في هذه السورة ذكْرُ النساء أراد اللّه سبحانه أَلاَّ يُخْلَى السورة من ذكرها تخصيصاً لقدْرِها .

﴿ ٠