سورة القيامة

١

قوله جلّ ذكره : { لآَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ } .

أي : أقسم بيوم القيامة .

٢

{ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } .

أي : أقسم بالنفس اللَّوَّامة ، وهي النََّفْسُ التي تلوم صاحبَها ، وتعرِف نقصانَ حالِها .

ويقال : غداً . . . كلُّ نَفْسِ تلوم نَفْسَها : إمَّا على كُفْرِها ،

وإمَّا على تقصيرها - وعلى هذا فالقَسَمُ يكون بإضمار ( الرَّب ) أي : أقسم بربِّ النفس اللوامة . وليس للوم النَّفْسِ في القيامةِ خطرٌ - وإنْ حُمِلَ على الكُلِّ ولكنَّ الفائدة فيه بيان أنَّ كلِّ النفوس غداً - ستكون على هذه الجُملة . وجوابُ القسَم قولُه : { بَلَى } .

٣

قوله جلّ ذكره : { أَيَحْسَبُ الإنسَانُ ألَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } .

أيظن أنَّا لن نبعثَه بعد موته؟

٤

{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ } .

{ قَادِرِينَ } نصب على الحال؛ أي بلى ، نسوي بنانه في الوقت قادرين ، ونقدر أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخُفِّ البعير وظلف الشاة . . فكيف لا نقدر على إعادته؟!

٥

{ بَل يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيفْجُرَ أَمَامَهُ } .

يُقدِّم الزّلّةَ ويؤخر التوبة . ويقول : سوف أتوب ، ثم يموت ولا يتوب . ويقال : يعزم على ألا يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته ، وبهذا لا تَنْحَلُّ - في الوقت - عقدةُ الإصرار من قلبه ، وبذلك لا تصحُّ توبتُه؛ لأن التوبة من شرطها العزم على ألا يعودَ إلى مثل ما عَمِلَ . فإذا كان استحلاءُ الزلّةِ في قلبه ، ويفكر في الرجوع إلى مثلها - فلا تصح ندامتُه .

٦

قوله جلّ ذكره : { يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } .

على جهة الاستبعاد ، فقال تعالى :

٧

{ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ } .

{ بَرِقَ } بكسر الراء معناها تحَيَّرَ ، { وَبَرْقٌ } بفتح الراء شَخَصَ ( فلا يَطْرِف ) من البريق ، وذلك حين يُقَاد إِلى جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك ، لها زفير وشهيق ، فلا يَبْقى مَلَكٌ ولا رسول إلاَّ وهو يقول : نفسي نفسي!

٨-٩

{ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } كأَنهما ثوران عقيران .

ويقال : يجمع بينهما في ألاَّ نورَ لهما .

١٠

{ يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيِنَ الْمَفَرُّ } ؟ والمفرّ موضع الفرار إليه ، فيقال لهم :

١١

{ كَلاَّ لاَ وَزَرَ } .

اليومَ ، ولا مَهْربَ من قضاءِ اللّه .

١٢

{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُ } .

أي : لا مَحِيدَ عن حُكْمِه .

١٣

{ يُنَبَّؤُاْ الإِنَسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } .

أي : يَعْرِف ما أسْلَفَه من ذنوب أحصاها اللّه - وإن كان العبدُ نسيَها .

١٤-١٥

{ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } .

للإِنسان على نفسه دليل علامة وشاهد؛ فأعضاؤه تشهد عليه بما عملِه .

ويقال : هو بصيرةً وحُجّةً على نفْسه في إنكار البعث .

ويقال : إنه يعلم أَنه كان جاحداً كافراً ، ولو أَتى بكلِّ حجةٍ فلن تُسْمع منه ولن تنفعه .

١٦-١٨

قوله جلّ ذكره : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعَجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِع قُرْءَانَهُ } .

لا تستعجِلْ في تَلَقُّفِ القرآنِ على جبريل ، فإنَّ عينا جَمْعَه في قلبك وحِفْظَه ، وكذلك علينا تيسيرُ قرءاته على لسانك ، فإذا قرأناه أي : جمعناه في قلبك وحفظك فاتبع بإقرائك جَمْعَه .

١٩

{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } .

نُبيِّنُ لك ما فيه من أحكام الحلال والحرام وغيرها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعجل في التلقفِ مخافةَ النسيان ، فنُهِيَ عن ذلك ، وضمن اللّه له التيسير والتسهيل .

٢٠

قوله جلّ ذكره : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الأَخِرَةَ } .

أي : إنما يحملهم على التكذيب للقيامة والنشر أنهم يحبون العاجلة في الدنيا ، أي : يحبون البقاء في الدنيا .

٢١

{ وَتَذَرُونَ الأَخِرَةَ } : أي : تتركون العملَ للآخرة . ويقال : تكفرون بها .

٢٢-٢٣

قوله جلّ ذكره : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرةٌ } .

{ نَّاضِرَةٌ } : أي مشرقة حسنة ، وهي مشرقة لأنها إلى ربها ( ناظرة ) أي رائية للّه .

والنظر المقرون ب ( إلى ) مضافاً إلى الوجه لا يكون إلاَّ الرؤية ، فاللّه تعالى يخلق الرؤية في وجوههم في الجنة على قَلْبِ العادة ، فالوجوه ناظرة إلى اللّه تعالى .

ويقال : العين من جملة الوجه فاسم الوجه يتناوله .

ويقال : الوجهُ لا ينظر ولكنَّ العينَ في الوجهِ هي التي تنظر؛ كما أنَّ النهرَ لا يجري ولكنَّ الماءَ في النهر هو الذي يجري ، قال تعالى : { جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }[ البقرة : ٢٥ ] .

ويقال : في قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } دليل على أنهم بصفة الصحو ، ولا تتداخلهم حيرة ولا دَهَش؛ فالنضرة من أمارات البسط لأن البقاء في حال اللقاء أتمُّ من اللقاء .

والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي ، وعندهم استهلاكُ العبدِ في وجود الحقِّ أتمُّ؛ فالذين أشاروا إلى الوجود رأوا الوجود أعلى من الرؤية .

٢٤-٢٥

قوله جلّ ذكره : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } .

{ بَاسِرَةٌ } : أي كالحةٌ عابسة . { فَاقِرَةٌ } أي : داهية وهي بقاؤهم في النار عَلَى التأييد . تظن أن يخلق في وجوههم النظر .

ويحتمل أن يكون معنى { تَظُنُّ } : أي يخلق ظنَّا في قلوبهم يظهر أَثَرُه على وجوههم .

٢٦

{ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقَي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } .

أي ليس الأمر على ما يظنون؛ بل إِذا بلغت نفوسُهم التراقيَ ،

٢٧

{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } . أي يقول مَنْ حَولَه : هل أحدٌ يَرْقِيه؟ هل طبيبٌ يداويه؟ هل دواءٌ يشفيه؟

ويقال : مَنْ حَوْله من الملائكة يقولون : مَنْ الذي يَرْقى برُوحه؛ أملائكةُ الرحمة أو ملائكة العذاب؟ .

٢٨

{ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ } : وعلم الميت أنه الموت! .

٢٩

{ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } : ساقا الميت . فتقترِنُ شِدَّةُ آخرِ الدنيا بشدَّة أوَّلِ الآخرة .

٣٠

{ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } أي الملائكةُ يسوقون روحَه إلى اللّه حيث يأمرهم بأن يحملوها إليه : إِمّا إلى عليين - ثم لها تفاوت درجَات ، وإِمّا إلى سجِّين - ولها تفاوت دَرَكات .

ويقال : الناسُ يُكَفًِّنون بَدنَ الميت ويغسلونه ، ويُصَلُّون عليه . . والحقُّ سبحانه يُلْبِسُ روحَه ما تستحق من الحُلَلِ ، ويغسله بماء الرحمة ، ويصلي عليه وملائكتُه .

٣١-٣٢

قوله جلّ ذكره : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } .

يعني : الكافر ما صدٌّق اللّه ولا صلَّى له ، ولكن كذَّب وتولَّى عن الإيمان . وتدل الآيةُ على أنَّ الكفارَ مُخَاطَبون بتفصيل الشرائع .

٣٣

{ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } .

أي : يتبختر ويختال .

٣٤-٣٥

{ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } .

العَربُ إذا دَعَتْ على أحدٍ بالمكروه قالوا : { أَوْلَى لَكَ } وهنا أتبع اللفظَ اللفظَ على سبيل المبالغة .

ويقال : معناه الويلُ لَكَ يومَ تَحيا . والويلُ لكَ يوم تَموت ، والويلُ لكَ يومَ تُبْعَث ، والويلُ لكَ يومَ تدخل النار .

٣٦

{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } .

مُهمَلاً لا يُكلَّفُ!؟ . ليس كذلك .

٣٧-٣٩

{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } .

{ مِّن مَّنِِىٍّ يُمْنَى } أي تُلْقى في الرَّحم { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } أَي : دماً عبيطاً ، فسوَّى أَعضاءَه في بطن أُمه ، ورَكَّبَ أجزاءَه على ماهو عليه في الخِلْقَة ، وجعل منه الزوجين : إن شاء خَلَقَ الذَّكَرَ ، وإن شاء خَلَقَ الأنثى ، وإن شاء كليهما .

٤٠

أَليس الذي قدر على هذا كلِّه بقادر على إحياء الموتى؟ فهو استفهام في معنى التقرير .

﴿ ٠