سورة الإنسان١قوله جلّ ذكره : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } . في التفسير : قد أتى على الإِنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً له خَطَرٌ ومقدار . قيل : كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحاً جَسَدُه بين مكة والطائف . ثم من صلصالٍ أربعين سنة ، ثم من حملٍ مسنون أربعين سنة ، فتمَّ خَلْقُه بعد مائة وعشرين سنةٍ . ويقال : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهَرِ . . . } : أي لم يأتِ عليه وقتٌ إلا كان مذكوراً إليَّ . ويقال : هل غَفلْتُ ساعةً عن حِفْظِك؟ هل ألقيتُ - لحظةً - حَبْلَكَ على غارِبِك؟ هل أخليتُك - ساعةً - من رعاية جديدة وحمايةٍ مزيدة . ٢قوله جلّ ذكره : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } . { مِن نُّطْفَةٍ } : أي من قطرة ماءٍ ، { أَمْشَاجٍ } : أَخلاط من بين الرجل والمرأة . ويقال : طوراً نطفة ، وطوراً عَلَقَة ، وطوراً عَظْماً ، وطوراً لَحْماً . { نَّبْتَلِيهِ } : نمتحنه ونختبره . وقد مضى معناه . { فَجَعَلْنَهُ سَمِيعاً بَصِيراً } . ٣{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وإِمَّا كَفُوراً } . أي : عَرَّفْناه الطريقَ؛ أي طريقَ الخيرِ والشرِّ . وقيل : إمَّا للشقاوة ، وإمَّا للسعادة ، إمَّا شاكراً من أوليائنا ، وإما ان يكون كافراً من أعدائنا؛ فإنْ شَكَرَ فبالتوفيق ، وإنْ كَفَرَ فبالخذلان . ٤قوله جلّ ذكره : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلا وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } . أي : هَيَّأْنا لهم سلاسلَ يُسْحَبون فيها ، { وَأغْلاَلاً } لأعناقهم يُهانون بها ، { وَسَعِيراً } : ناراً مستعرة . ٥{ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } . قيل : البَرُّ : الذي لا يُضْمِرُ الشَّرَّ ، ولا يؤذي الذَّرّ . وقيل :{ الأَبْرَارَ } : هم الذين سَمَتْ هِمَّتهُم عن المستحقرات ، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مُسَاكنةٍ الدنيا . { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } رائحتها كرائحة الكافور ، أو ممزوجة بالكافور . ويقال : اختلفت مشاربهُم في الآخرة؛ فكلٌّ يُسْقَى ما يليق بحاله . . . وكذلك في الدنيا مشاربهُم مختلفة؛ فمنهم مَنْ يُسقَى مَزْجاً ، ومنهم من يُسقَى صِرْفاً ، ومنهم من يسقى على النُّوَب ، ومنهم من يُسقى بالنُّجُب ومنهم من يُسْقى وحدَه ولا يُسقي مما يُسقى غيره ، ومنهم مَنْ يسقى هو والقوم شراباً واحداً . . . وقالوا : إن كنت من ندماي فبالأكبر اسْقِني ... ولا تَسْقِني بالأصغر المتثلم وفائدة الشرابِ - اليومَ - أن يشغلهم عن كل شيءٍ فيريحُهم عن الإحساس ، ويأخذهم عن قضايا العقل . . كذلك قضايا الشراب في الآخرة ، فيها زوالُ الأرَبِ ، وسقوطُ الطلبِ ، ودَوَامُ الطَّرَب ، وذَهَابُ الحَرَب ، والغفرة عن كلِّ سبب . ولقد قالوا : عاقِرْ عقارك واصْطبِحْ ... واقدَحْ سرورَك بالقَدحَ واخلع عذارك في الهوى ... وأَرِحْ عذولَك واسترحْ وافرَحْ بوقتِك إنما ... عُمْرُ الفتى وقتُ الفَرَح ٦قوله جلّ ذكره : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } . يُشَقَّقونها تشقيقاً ، ومعناه أَن تلك العيون تجري في منازلهم وقصورهم على ما يريدون . واليومَ- لهم عيونٌ في أسرارهم من عين المحبة ، وعين الصفاء ، وعين الوفاء ، وعين البسط ، وعين الروح . . وغير ذلك ، وغداً لهم عيون . ٧{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } . ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال : يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين اللّه على وجهٍ مخصوص : { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } . قاسياً ، منتشراً ، ممتداً . ٨{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } . أي : على حُبِّهم للطعام لحاجتهم إليه . ويقال : على حُبِّ اللّه ، ولذلك يُطْعِمون . ويقال : على حُبِّ الإطعام . وجاء في التفسير : أَن الأسير كان كافراً - لأنَّ المسلَم ما كان يُستأسَرُ في عهده - فطاف على بيت فاطمة رضي اللّه عنها وقال : تأسروننا ولا تطعموننا! ٩{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } . إنما نطعمكم ابتغاءَ مرضاةِ اللّه ، لا نريد من قبِلكُم جزاءً ولا شكراً . ويقال : إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم ، ولكن كان ذلك بضمائرهم . ١٠{ إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } . أي : يوم القيامة . ١١{ فَوَقَهُمُ اللّه شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ } . { وَلَقَّاهُمْ } أي : أعطاهم { نَضْرَةً وَسُرُواً } . ١٢{ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } . كافَأَهُم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنَّةً وحريراً . ١٣{ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ } . واحدها أريكة ، وهي السرير في الحجال . { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } . أي : لا يتَأَذْون فيها بِحَرًٍّ ولا بَرْدٍ . ١٤{ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } . يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة؛ فإِن كانوا قعوداً تُدلَّى لهم ، وإن كانوا قياماً - وهي على الأرض - ارتقت إليهم . ١٥-١٦{ وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِئَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } . الاسم فضة ، والعين لا تشبه العين . { وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيراْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } . أي : في صفاء القوارير وبياض الفضة . . . قَدَّرَ ذلك على مقدار إرادتهم . ١٧{ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } . المقصود منه الطِّيب . فقد كانوا ( أي العرب ) يستطيبون الزنجبيل ، ويستلذون نكهته ، وبه يشبِّهون الفاكهة ، ولا يريدون به ما يقرص اللسان . ١٨{ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً } . أي : يُسْقَوْنَ من عين - أثبت المَسْقِيَّ وأَجْمَلَ مَنْ يسقيهم؛ لأنَّ منهم من يسقيه الحقُّ - سبحانه - بلا واسطة . ١٩قوله جلّ ذكره : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنتُوراً } . أي : يخدمهم { وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } وصفا لا يجوز واحد منهم حدَّ الوصائف . وجاء في التفسير : لا يَهْرَمون ولا يموتون . وجاء مُقَرَّطون . إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤاً منثوراً . وفي التفسير : ما من إنسانٍ من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام . ٢٠قوله جلّ ذكره : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } . { ثُمَّ } : أي في الجنة . { وَمُلْكاً كَبِيراً } : في التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول . وقيل : هو قوله : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا }[ ق : ٣٥ ]ويقال : أي لا زوالَ له . ٢١{ عَالَيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } . يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار . ويصح أن يكون للولدان وهو أَوْلَى ، والاسم يوافق الاسم دون العين . { شََراباً طَهُوراً } : الشراب الطهورُ هو الطاهر في نفسِه المُطَهَّرُ لغيره . فالشراب يكون طهوراً في الجنة - وإنْ لم يحصل به التطهيرُ لأن الجنة لا يُحتاجُ فيها إلى التطهير . ولكنه - سبحانه - لمَّا ذَكَرَ الشرابَ - وهو اليومَ في الشاهد نجَسٌ - أخبر أنَّ ذلك الشرابَ غداً طاهرٌ ، ومع ذلك مُطَهِّر؛ يُطَهِّرُهم عن محبة الأغيار ، فمن يَحْسِ من ذلك الشرابِ شيئاً طَهَّرَه عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات . ويقال : يُطَهِّرُ صدورهم من الغِلِّ والغِشِّ ، ولا يُبْقِي لبعضهم مع بعض خصيمة ولا عداوة ولا دَعْوَى ولا شيء . ويقال : يُطهِّرُ قلوبهم عن محبة الحور العين . ويقال : إن الملائكة تعرض علهيم الشرابَ فيأبون قبولَه منهم ، ويقولون : لقد طال أَخْذُنا مِنْ هؤلاء ، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواهَهَم بغير أكُفٍّ؛ من غيبٍ إلى عَبْدٍ . ويقال : اليومَ شرابٌ وغداً شراب . . . اليوم شرابُ الإيناس وغداً شرابُ الكاس ، اليومَ شرابٌ من اللُّطْفِ وغداً شرابٌ يُدار على الكفّ . ويقال : مَنْ سقاه اليومَ شرابَ محبَّتهِ آنسَه وشَجَّعُه؛ فلا يستوحِش في وقته من شيء ، ولا يَضِنُّ بروحه عن بَذْل . ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كلِّ أحدٍ بالكونين من غير تمييز ، ولا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار . ومن آثارِ شُرْبِه تذللّه لكلِّ أحدٍ لأجل محبوبه ، فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم ، لا يتحرَّكُ فيه للتكبُّر عرْقٌ . وقد يكون من مقتضى ذلك الشارب أيضاً في بعض الأحايين أَنْ يَتِيه على أهل الدارين . ومن مقتضى ذلك الشراب أيضاً أَنْ يمْلِكَه سرورٌ ولا يَتَمَالَكُ معه من خَلْعِ العذار وإلقاء قناع الحياء ويظهر ما هو به من المواجيد : يخلع فيك العذارَ قومٌ ... فكيف مَنْ مالَه عذارُ؟ ومن موجِبات ذلك الشراب سقوط الحشمة ، فيتكلم بمقتضى البسط ، أو بموجب لفظ الشكوى ، وبما لا يَستخرجُ منه - في حال صَحْوه - سفيه بالمناقيش . . . وعلى هذا حَمَلُوا قول موسى : { رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ }[ الأعراف : ١٤٣ ] . فقالوا : سَكِرَ من سماع كلامه ، فَنَطَقَ بذلك لسانُه . وأمَّا مَنْ يسقيهم شرابَ التوحيد فَيَنْفي شهودَ كلِّ غَيْرِ فَيهيمون في أودية العِزِّ ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء ، وتتلاشى جملتهُم في هوء الفرادنية . . . فلا عقلَ ولا تمييزَ ولا فَهْمَ ولا إدراك . . . فكلُّ هذه المعاني ساقطة . فالعبدُ يكون في ابتداء الكَشْفِ مُستوْعَباً ثم يصير مستغْرقاً ثم يصيرُ مُسْتَهْلَكا . . . { وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى }[ النجم : ٤٢ ] . ٢٢قوله جلّ ذكره : { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } . يقال لهم : هذا جزاءٌ لكم ، { مَّشْكُوراً } : وشُكْرُه لسعيهم تكثيرُ الثوابِ على القليل من العمل - هذا على طريقة العلماء ، وعند قومٍ شُكْرُهم جزاؤهم على شكرهم . ويقال : شُكْرُه لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام . ٢٣قوله جلّ ذكره : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً } . في مُدَّةٍ سنين . ٢٤{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفَوراً } . أي : ارْضَ بقضائه ، واستسلمْ لِحُكْمِه . { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } : أي : ولا كفوراً ، وهذا أمرٌ له بإفرادِ ربِّه بطاعته . ٢٥-٢٦{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدُ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } . الفَرْضُ في الأول ، ثم النَّفْل . ٢٧{ إِنَّ هَؤءُلآَءِ . . . } . أي كفَّار قريش : { يُحِبُّونَ الْعَاجِلََةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِِيلاً } . أي : لا يعلمون ليوم القيامة . ٢٨قوله جلّ ذكر ه : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } . أعدمناهم ، وخلقنا غيرَهم بدلاً عنهم . ويقال : أخذنا عنهم الميثاق . ٢٩{ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ . . . . } . أي : القرآن تذكرة . { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } . بطاعته . ٣٠-٣١{ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللّه إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ عَذَاباً أَلِيمَا } . أي : عذاباً أليماً موجِعاً يخلص وَجَعُه إلى قلوبهم . |
﴿ ٠ ﴾