تفسير الماتريدي: تأويلات أهل السنةأبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي الشيخ الإمام الزاهد شمس العصر، رئيس أهل السنة والجماعة في أصول التوحيد الحنفي (ت ٣٣٣ هـ ٩٤٤ م) _________________________________ مقدمة المصنف بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي، رضي اللّه تعالى عنه: الفرق بين التأويل والتفسير هو ما قيل: التفسير للصحابة، رضي اللّه عنهم، والتأويل للفقهاء، ومعنى ذلك: أن الصحابة شهدوا المشاهد، وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن. فتفسير الآية أهم لما عاينوا وشهدوا، إذ هو حقيقة المراد، وهو كالمشاهدة، لا تسمح إلا لمن علم، ومنه قيل: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار؛ لأنه فيما يفسر يشهد على اللّه به. وأما التأويل: فهو بيان منتهى الأمر، مأخوذ من: آل يؤول، أي يرجع، ومعناه - كما قال أبو زيد: لو كان هذا كلام غيره يوجه إلي كذا وكذا من الوجوه، فهو توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه، ولا يقع التشديد في هذا مثل ما يقع في التفسير، إذ ليس فيه الشهادة على اللّه؛ لأنه لا يخبر عن المراد، ولا يقول: أراد اللّه به كذا، أو عنى، ولكن يقول: يتوجه هذا إلى كذا وكذا من الوجوه، هذا مما تكلم به البشر. واللّه أعلم ما صحته من الحكمة. ومثاله: أن أهل التفسير اختلفوا في قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّه}: قَالَ بَعْضُهُمْ: إن اللّه تعالى حمد نفسه. وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمر أن يُحمد. فمن قال: عنى هذا، دون هذا، فهو المفسر له. وأما التأويل - فهو أن يقول: يتوجه الحمد إلى الثناء والمدح له، وإلى الأمر بالشكر للّه عَزَّ وَجَلَّ، واللّه أعلم بما أراد. فالتفسير -ذو وجه واحد، والتأويل- ذو وجوه. بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ١بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١) التَّسمِيةُ هِيَ آيةٌ مِنَ الْقُرْآن، وَلَيسَتْ مِنْ فاتِحةِ الكِتاب. دليل جعلها آية: ما رُويَ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأبي بن كعب: " لأُعلمنَّكَ آيةً لَم ثم فيه الإقرار بوحدانيته في إنشاءِ البرِية كلها، وتحقيق الربوبية له عليها بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكل واحد منها يجمع خصال خير الدارين، ويوجب القائل به -عن صدق القلب- درك الدارين. ثم الوصف للّه -عَزَّ وَجَلَّ- بالاسمين يتعالى عن أن يكون لأَحد من معناهما حقيقة، أو يجوز أن يكون منه الاستحقاق نحو " اللّه " و " الرحمن ". ثم الوصف بالرحمة التي بها نجاة كل ناج، وسعادة كل سعيد، وبها يتقي المهالكَ كلها مع ما من رحمته خلق الرحمة التي بها تعاطف بينهم وتراحمهم. ثم الإيمان بالقيامة بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مع الوصف له بالمجد، وحسن الثناء عليه. ثم التوحيد، وما يلزم العباد من إخلاص العبادة له، والصدق فيها، مع جعل كل رفعة وشرف منالًا به عَزَّ وَجَلَّ. ثم رفع جميع الحوائج إليه، والاستعانة به على قضائها، والظفر بها على طمأْنينة القلب وسكونه، إذ لا خيبة عند معونته، ولا زيغ عند عصمته. ثم الاستهداء إلى ما يرضيه، والعصمة عما يغويه في حادث الوقت، على العلم بأنه لا ضلال لأَحد مع هدايته في التحقيق. والرجاء والخوف من اللّه لا من غيره. وعلى ذلك جميع معاملات العباد، ومكاسبهم على الرجاء من اللّه تعالى أَن يكون جعل ذلك سببًا به يصل إلى مقصوده، ويظفر بمراده. ولا قوة إلا باللّه. ٢قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: (الْحَمْدُ للّه (٢) احتمل: أن يكون جلَّ ثناؤُه حمدَ نفسه؛ ليُعلِم الخلقَ استحقاقَه الحمد بذاته؛ فيَحمَدوه. فَإِنْ قِيلَ: كيف يجوز أن يحمدَ نفسه، ومثلهُ في الخلق غير محمود؟! قيل له: لوجهين: أحدهما: أنه استحق الحمدَ بذاته، لا بأَحدٍ؛ ليكون في ذلك تعريفُ الخلقِ لما يُزلفُهم لديه بما أَثْنَى على نفسه؛ ليُثْنُوا عليه. وغيرُه إنما يكون ذلك له به -جل وعز- فعليه: توجيه الحمد إليه لا إلى نفسه؛ إذ نفسُه لا تستوجبه بها، بل باللّه تعالى. وقد يتوجه اسم الرب إلى المالك؛ إذ كل من يُنْسب إليه الملك يُسمَّى أنه مالكه، ولا يُسمَّى أنه سيد إلا في بني آدم خاصةً. واسم الرب يجمع ذلك كلَّه؛ لذلك كان التوجيه إلى المالك أقرب، وإن احتمل المروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إذ هو في الحقيقة سيدُ من ذُكِر ورَبُّهم. واللّه الموفق. ثم اختلَف أهلُ التفسير في العَالَمِين: فمنهم من رد إلى كل ذي روح دب على وجه الأرض. ومنهم من رد إلى كل ذي روح في الأَرض وغيرها. ومنهم من قال: للّه كذا، كذا عالم. والتأويل عندنا ما أجمع عليه أهل الكلام: أن العالَمين: اسم لجميع الأَنام والخلق جميعًا. وقول أَهلِ التفسير يرجع إلى مثله، إلا أَنهم ذكروا أَسماءَ الأَعلام، وأَهل الكلام ما يجمع ذلك وغيرَهم. ثم العالَم اسم للجميع، وكذلك الخلق، ثم تعريف ذلك بالعالَمين والخلائق يتوجه إلى جمع الجمع، من غير أن يكون في التحقيق تفاوتٌ، وقد يتوجه إلى عالم كل زمان وكذا خلقِ كل زمان على حكم تجدد العالم. وباللّه التوفيق. وفي ذلك أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ادعى لنفسه: رب العالمين كلهم، من تقدم وتأَخر، ومن كان ويكون، ولم يَقْدر أَحد أَن ينطق بالتكذيب، يدّعي شيئًا من ذلك لنفسه؛ فدل ذلك على أن لا رب غيره، ولا خالق لشيء من ذلك سواه؛ إذ لا يجوز أَن يكون حكيم أَو إله ينشئ ويبدع ولا يدعيه، ولا يفصل ما كان منه ما كان لغيره، وبنفسه قام ذلك لا بغيره؛ وعلى ذلك معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خلق} فهذا - مع ما في اتساق التدبير، واجتماع التضاد، وتعلق حوائج بعضٍ ببعض، وقيام منافع بعضٍ ببعض، على تباعد بعضٍ من بعض وتضادها - دليلٌ واضح على أن مدبر ذلك كله واحد، وأَنه لا يجوز كون مثل ذلك من غير مُدبِّر عليم. واللّه المستعان. * * * ٣وقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) اسمان مأْخوذان من الرحمة، لكنه رُوِى فيهما: رقيقان أَحدُهما أَرقُّ من الآخر، وكأن الذي رُوِي عنه هذا أَراد به لطيفان أحدُهما أَلطف من الآخر، دليل ذلك وجهان: أَحدهما: مجيء الأَثر في ذلك -اللطيف- في أسماء اللّه تعالى مع ما نطق به الكتاب، ولم يذكر في شيء من ذلك رقيق. ومعنى اللطيف: استخراج الأُمور الخفية وظهورها له؛ كقوله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} إلى قوله: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، وباللّه التوفيق. والثاني: أن اللطيفَ حرف يدل على البر والعطفِ. والرقة على رقة الشيء التي هي نقيض الغلظ والكثافة، كما يقال: فلان رقيق القلب. وإذا قيل: فلان لطيف، فإنما يراد به بارٌّ: عاطف؛ فلذلك يجوز: لطيف، ولا يجوز: رقيق، وكذلك فسر من فسر " الرحمن " بالعاطف على خلْقه بالرزق. وذهب بعضهم -وهو الأول- إلى اللطافة وذلك بعيد، وإنَّمَا هو من اللُّطف. وقوله: أَحدُهما أَرق من الآخر، بمعنى اللطف - يحتمل وجهين: أحدهما: التحقيق بأَن اللطف بأَحد الحرفين أَخص وأَليق، وأَوفر وأكمل، فذلك رحمته بالمؤمنين أنه يقال: رحيم بالمؤمنين على تخصيصهم بالهداية لدينه؛ ولذا ذكر أُمته وإن أشركهُم في الرزقِ فيما يراهم غيرهم؛ ألا ترى أنه لا يقال: رحمن بالمؤمنين، وجائز القول: رحيم بهم، وكذلك لا يقال: رحيم بالكافرين، مطلقًا؟! وباللّه التوفيق. ووجه آخر: أَن أحدهما أَلطف من الآخر؛ كأنه وصف الغاية في اللطف حتى يتعذر وجه إدراك ما في كل واحد منهما من اللطف، أو يوصف بقطع الغاية عما يتضمنه كل حرف. وباللّه التوفيق. ثم في هذا أن اسم " الرحمن " هو المخصوص به اللّه لا يسمى به غيره، و " الرحيم " يجوز تسمية غيره به؛ فلذلك يوصف أن " الرحمن " اسم ذاتي، و " الرحيم " فِعْلي، وإن احتمل أن يكونا مشتقين من الرحمة؛ ودليل ذلك: إنكار العرب " الرحمن "، ولا أحد منهم أنكر " الرحيم "، حيث قالوا: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}، وذلك قوله: {قُلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا}، يَدُل على أنه ذاتي لا فعلي، وإن كان الفعل صفة الذات؛ إذ محالٌ صفته بغيره؛ لما يوجب ذلك الحاجة إلى غيره ليحدث له الثناءَ والمدح. وفي ذلك خَلَق الخلق لنفع الامتداح، وهو عن ذلك متعالٍ، بل بنفسه مستحق لكل حمدٍ ومدح، ولا قوة إلا باللّه. ورُوي في خبر القسمة: " أن العبد إذا قال: الرحمن الرَّحيم، قال اللّه تعالى: أَثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدِّين، قال: مجدني عبدي ". وذكر أنه قال في الأول: بالتمجيد، وفي الثاني: بالثناء، وذلك واحد؛ لأن معنى الثناء الوصف بالمجد والكرم والجود، والتمجيد هو الوصف بذلك، وباللّه التوفيق. ٤ثم أُجمع على أن قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) أنه يوم الحسابِ والجزاءِ. وعلى ذلك القول: {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللّه دِينَهُمُ الْحَقَّ} وهو الجزاء. ومن ذلك قول الناس: " كما تدين تدان ". وجائز أن يكون {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} على جعل ذلك اليوم لما يدان اليوم؛ إذ به يظهر حقيقتُه، وعِظمُ مرتبته، وجليلُ موقعه عند ربه. وفي الآية دلالة وصف الرب بملكِ ما ليس بموجود لوقت الوصفِ بملكه، وهو يوم القيامة. ثبت أن اللّه بجميع ما يستحق الوصف به يستحقه بنفسه لا بغيره. ولذلك قلنا نحن: هو خالق لم يزل، ورحيم لم يزل، وجواد لم يزل، وسميع لم يزل -وإن كان ما عليه وقع ذلك لم يكن- وكذلك نقول: هو رب كل شيء، وإله كل شيء في الأزل -وإن كانت الأَشياء حادثة- كما قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وإن كان اليومُ بعدُ غير حادثٍ. وباللّه التوفيق. ٥* * * قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. فهو -واللّه أعلم- على إضمار الأَمر، أي: قل: ذا. ثم لم يجعل له أن يَستثني في القول به، بل ألزمه القول بالقول فيه. ثم هو يتوجه وجهين: أحدهما: يحال القول به على الخبر عن حاله؛ فيجب ألا يستثنى في التوحيد، وأن من يَستَثْني فيه عن شَكٍّ يُستَثْنَى. واللّه - تعالى - وصف المؤمنين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا. . .} الآية. وكذلك سئل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن أفضل الأعمال فقال: " إيمان لا شكَّ فيه ". والثاني: عن الأحوال التي ترد في ذلك. لكنه إذا كان ذلك على اعتقاد المذهب لم يجز الشك فيه؛ إذ المذاهب لا تعتقد لأوقات، إنما تعتقد للأبد؛ لذلك لم يجز الثناء فيه في الأبد. وباللّه التوفيق. ثم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} يتوجه وجهين: أحدهما: إلى التوحيد، وكذا رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - أنه قال: " كُلُّ عبادةٍ في القرآنِ فهو توحيد ". والوجه الآخر: أن يكون على كل طاعة أن يعبد اللّه بها، وأصلها يرجع إلى واحد؛ لما على العبد أن يوحد اللّه - تعالى - في كل عبادة لا يُشرك فيها أحدًا، بل يخلصها فيكون موحدًا للّه تعالى بالعبادة والدِّين جميعًا. وعلى ذلك قطعُ الطمع، والخوف، والحوائج كلها عن الخلقِ. وتوجيهُ ذلك إلى اللّه تعالى بقوله: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّه وَاللّه هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وعلى ذلك المؤمن لا يطمعُ في الحقيقة بأحدٍ غير اللّه، ولا يرفع إليه الحوائج، ولَا يخاف إلا من الوجه الذي يخشى أن اللّه جعله سببًا لوصول بلاءٍ من بلاياه إليه على يديه؛ فعلى ذلك يخافُه، أو يرجو أن يكون اللّه تعالى جعلَ سببَ ما دفعه إليه على يديه، فبذلك يرجو ويطمع، فيكون ذلك من الضالين، فيكون في ذلك التعوُّذُ من جميع أنواع الذنوب، والاستهداءُ إلى كل أنواع البر. وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فذلك طلب المعونة من اللّه تعالى على قضاء جميع حوائجه دينًا ودنيا. ويحتمل أن يكون هو على أثر الفزع إلى اللّه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على طلب التوفيقِ لما أَمر به، والعصمة عما حذره عنه، وكذلك الأَمر البين في الخلق من طلب التوفيق، والمعونة من اللّه، والعصمةِ عن المنهي عنه جرت به سنة الأَخيار. واللّه الموفق. ثم لا يصلح هذا على قول المعتزلة؛ لأن تلك المعونةَ على أَداءِ ما كلف قد أعطى؛ إذ هو على قولهم لا يجوز أن يكون مكلفًا قد بقي شيء -مما به أَداءُ ما كلف- عند اللّه، وطلبُ ما أُعْطِي كتمانُ العطيةِ، وكتمانُ العطيةِ كفرانٌ؛ فيصير كأن اللّه أَمر أن يَكْفُر نعمَهُ ويكتمها ويطلبها منه تعنتًا. وظنُ مثله باللّه كفر. ثم لا يخلو من أَن يكون عند اللّه ما يُطْلب فلم يُعطه التمام إذًا، أوْ ليس عندهُ فيكون طلبه استهزاءً به، إذ مَنْ طَلَب إلى آخَرَ مَا يَعْلم أنه ليس عنده فهو هازئ به في العرف، مع ما كان الذي يُطلب إما أن يكون للّه ألا يعطيه مع التكليف فيبطل قولهم؛ إذ لا يجوز أَن يكلف وعنده ما به الصلاح في الدِّين فلا يعطى، أوْ ليس له أَلا يعطى فكأَنه قال: اللّهم لا تَجُر. وَمَنْ هذا عِلْمهُ بربه فالإسلام أَولى به، وهذا مع ما كان لا يدعو اللّه أَحد بالمعونة إلا ويطمئن قلبهُ أَنه لا يذل عند المعونة، ولا يزيغ عند العصمة، وليس مثلهُ يملك اللّه عند المعتزلة. ولا قوة إلا باللّه. وقد رُويَ عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في خبر القسمة: " اللّه يقول: هذا بَيني وبينَ عبدي نِصْفين ". وذلك يحتمل: أن يكون كل حرف من ذلك بما فيها جميعًا الفزعُ إلى اللّه بالعبادة، والاستعانة ورفع الحاجة إليه، وإظهار غناه -جل وعلا- عنه؛ فيتضمن ذلك الثناء عليه، وطلب الحاجة إليه. ويحتمل: أن يكون الحرفُ الأَول للّه بما فيه عبادتُه وتوحيدهُ، والثاني للعبد بما فيه طلبُ معونته وقضاءُ حاجته. ويؤيد ذلك بقية السورة أنه أُخرج على الدعاء فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: " هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ". ٦وقوله: (اهدِنَا (٦) قال ابنُ عباس - رضي اللّه عنهما -: أرْشِدْنا. والإرشاد، والهداية واحد، بل الهدايةُ في حق التوفيق أقربُ إلى فهم الخلق من الإرشاد بما هي أعم في تعارفهم. ثم القول بالهداية يُخرَّج على وجوهٍ ثلاثة: أحدها: البيانُ. ومعلومٌ أن البيانَ قد تقدم من اللّه لا أحد يريد به ذلك لمضي ما به البيان من كتابٍ وسنةٍ، وإلى هذا تذهب المعتزلة. والثاني: التوفيقُ له، والعصمةُ عن زيغه. وذلك معنى قولهم: " اللّهمَّ اهْدِنَا فيمَنْ هَدَيْتَ "، وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ)، ووصَفَهم إلى آخر السورة، ولو كان على البيان على ما قالت المعتزلة فهو والمغضوب عليهم في ذلك سواء، فثبت أَنه على ما قلنا دون ما ذهبوا إليه. والثالث: أَن يكون على طلب خلق الهداية لنا؛ إذ نسب إليه من جهة الفعل، وكل ما يفعله خلق؛ كأَنه قال: اخلُق لنا هدايتنا، وهو الاهتداءُ منا. وباللّه التوفيق. ثم تأْويل طلب الهداية، ممن قد هداه اللّه يتوجه وجهين: أحدهما: طلب الثبات على ما هداه اللّه، وعلى هذا معنى زيادات الإيمان، أنها بمعنى الثبات عليه، وذلك كرجلين ينظران إلى شيء فيرفع أَحدهما بصره عنه، جائز القول بازدياد نظر الآخر. ووجه آخر: على أن في كل حال يخاف على المرءِ ضد الهدى، فيهديه مكانه أبدًا فيكون له حكم الاهتداءِ؛ إذْ في كل وقت إيمان منه دفع به ضده. وعلى ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه. . .} الآية، ونحو ذلك من الآيات. وقد يحتمل أيضًا معنى الزيادةِ هذا النوعُ. وباللّه التوفيق. وأما {الصِّرَاطَ} فهو الطريق والسبيل في جميع التأويل وهو قوله: {وَأَن هَذَا صِرَاطِي .. } هو الآية، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}. ثم اختلفوا فيما يراد به: فقَالَ بَعْضُهُمْ: هو القرآن. وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الإيمان. وأيهما كان فهو القائم الذي لا عوج له، والقيم الذي لا اختلاف فيه، مَنْ لزِمهُ وصَلَ إلى ما ذكر. وباللّه التوفيق. وقوله: {الْمُسْتَقِيمَ}. قيل: هو القائم بمعنى الثابت بالبراهين والأَدلة، لا يُزيله شيء، ولا ينقضُ حُجَجه كيدُ الكائدين، ولا حيلُ المريبين. وقيل: {الْمُسْتَقِيمَ} والذي يستقيم بمن تمسك به حتى يُنجيه، ويدخله الجنة. وقيل: {الْمُسْتَقِيمَ} بمعنَى: يُستقامُ به؛ كقوله: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، أي: يُبصَرُ به. يدل عليه قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُوا. . .} الآية. فالمستقيم هو المتبع له. وباللّه التوفيق. ثم ذكر من ذكر من الْمُنعَم عليهم؛ وللّه على كل مؤمن نعَمٌ بالهداية. وما ذكر دليل على أن " الصراط " هو الدِّين؛ لأَنه أنعم به على جميع المؤمنين. لكن تأْويل من يردُّ إلى الخصُوص يتوجه وجهين: أحدهما: أنه أَنعم عليهم بمعرفة الكتب والبراهين، فيكون على التأْويل الثاني من القرآن والأدلة. والثاني: أن يكون لهم خصوص في الدِّين قُدِّموا به على جميع المؤمنين؛ كقول داود، وسليمان: {الْحَمْدُ للّه الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}، وعلى هذا الوجه يكون {اهدِنَا}. ووجه آخر: وهو المخصوص الذي خص به كثيرًا من المؤمنين من بين غيرهم، لكن الثنْيَا يدل على صرف الإرادة إلى جملة المؤمنين؛ إذ انصرف إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ٧وقولَهُ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (٧) على قول المعتزلة: ليس للّه على أحد من المؤمنين نعمة ليست على المغضوب عليهم ولا الضالين؛ إذ لا نعمة من اللّه على أحد إلا الأَصلح في الدِّين والبيان للسبيل المرضي، وتلك قد كانت على جميع الكفرة فيبطل على قولهم الثنْيَا. واللّه الموفق. ثم اختلف في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. منهم من قال: هو واحد؛ إذ كل ضال قد استحق الغضب عليه، وكل مغضوب عليه استحق الوصف بالضلال. ومنهم من قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} هم اليهود، وإنَّمَا خصوا بهذا: بما كان منهم من فضل تمرد وعُتُو لم يكن ذلك من النصارى نحو إنكارهم بعيسى، وقصدهم قتله مما لم يكن ذلك من النصارى. ثم قولهم في اللّه: {يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ. . .} الآية. وقولهم: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ. . .} الآية. وقول اللّه تعالى فيهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ. . .} الآية. وكفرِهم برسول اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بعد استفتاحهم، وشدة تعنتهم، وظهور النفاق؛ فاستحقوا بذلك اسم الغضب عليهمِ، وإن كانوا شركاء غيرهم في اسم الضلال. وباللّه التوفيق. وفي هذا وجه آخر: أن يُحْمل الذنوب على وجهين: منها ما يوجب الغضب -وهو الكفر- ومنها ما يوجب اسم الضلال -وهو ما دونه- كقول موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنا مِنَ الضَّالِّينَ}. ورؤية الهداية لأهلها والتعوذ به من كل ضلال، ومن جميع ما يوجب مقته وغضبه -وباللّه النجاة والخلاص- مع ما في خبر القسمة، وعد جليل من رب العالمين في إجابة العبد مما يرفع إليه من الحوائج، إذْ قال: " قسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين " ثم صَير آخر السورة لعبده، وليس في صلاته سوى إظهار الفقر، ودفع الحاجة، وطلب المعونة، والاستهداء إلى ما ذكر مع التعوذ عما وصف، وليس ذلك مما يوصف به العبد أنه له؛ فثبت أن له في ذلك إجابة ربه فيما أمره به، ووعد ذلك، وهو لا يخلف وعده. فأنَّى يحتمل ذلك بعد أمره العبدَ بالذي تضمنه أول السورة، فقام به العبد مع لُؤمه وجفائه، واللّه بكرمه وجوده لا ينجز له ما وعد؟! لا يكون هذا أَلبتة، وقد قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وغير ذلك مما فيه الإنجاز، وأنه لا يخلف الميعاد. ثم قد جعلت -بما جاء من الحديث في تلاوتها- أنْ قدمها على التوراة، والإنجيل، وعدلها بثلثي القرآن، وجعلها شفاءً من أَنواع الأَدواء للدِّين، والنفس، والدنيا، وجعلها معاذًا من كل ضلال، وملجأ إلى كل نعمة. وباللّه نستعين. مع ما أَوضح -في الأَسماء التي لقب فيها فاتحة القرآنَ- عظيمَ موقعه، وجليلَ قدره، وهو أن سمَّاه فاتحة القرآن بما به يفتح القرآن، وكذلك رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يفتتح القراءَة به وسمى فاتحة الكتاب بما به يفتتح كتابة المصاحف والقرآن. وسمى أُم القرآن لما يؤم غيره في القراءَة. وقيل: الأُم بمعنى الأَصل، وهو ألا يحتمل شيء مما فيه النسخَ ولا الرفعَ فصار أصلا. وسمى المثاني؛ لما يثنى في الركعات، ولا قوة إلا باللّه. وفي قوله: {اهدِنَا} إلى آخره وجهان سوى ما ذكرنا؛ إذ قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} دعاء كاف عما تضمن إلى آخر السورة؛ إذ ليس فيها غير تفسير هذه الجملة. أحدهما: تذكير نعم اللّه على الذين يقبلون دينه في قلوبهم، والتوفيق لهم بذلك، وأفضاله عليهم بما ليس لهم عليه. والثاني: تعوذهم عن كل زيغ ومقت، وضلال، وذنب، والتجاؤهم إليه في ذلك بقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}. * * * |
﴿ ٠ ﴾