١٩

وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (١٩)

ثم ما ذكر من " الظلمات " يخرج على وجوه ثلاثة:

أَحدها: ظلمات كفرهم بقلوبهم؛ إذ أظهروا الإيمان أولًا.

والثاني: المتشابه في القرآن، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. . .} الآية.

والثالث: ما في الإسلام من الشدائد، والإفزاع من الجهاد، والحدود وغير ذلك.

وأَمكن صرف الأَول، والآخر إلى الفريقين: الكافر، والمنافق، وصرف تأْويل المتشابه إلى الكافر.

على أنا بينا أَن لكل من ذلك حَظًّا، ويدل آخر الآية -وهو قوله: {وَاللّه مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} - على أن المثل لهم، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر، واللّه الموفق.

وجائِز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين:

صنف ينتحل الكتاب الذي هو عندهم مما جاءَ به الرسل، لكن أَئمتهم قد غيروا ما في كتبهم من دين اللَّه وأَحكامه حتى عطلوا ذلك، وأَبدعوا غير الذي جاءَت به الرسل من الدِّين والأَحكام.

بَين ذلك قولُه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. . .) الآية.

وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ).

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ. . .) الآية.

ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم؛ كقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .) الآية.

تبين ما ظهر من التفرق فيهم، ومن القول في أَنبيائهم، وفي اللَّه سبحانه. ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف، وبما كان من الفترة اندرست الكتب، وذهبت الرسوم؛ فصاروا في ظلمة الضلالة، وحَيرة الزيغ، وتاهوا في سبيل الشيطان، وانقطع من بين أظهرهم الأَئمة الذين يوثق بهم في الدِّين، بما ليس لأَحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياءِ، والاعتصام بكتبهم؛ إِذْ كلهم يدعي ذلك - وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة، وَلا يصبر عليه العقل.

وصنف: لا ينتحل الكتاب، ولا يؤمن بنبي من الأَنبياءِ، بل يعبدون الأَوثان والنيران والأحجار، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع، ليس لهم شرع، بل هم حيارى، لا يعرفون معبودًا، ولا يبصرون طريقا، وليس فيهم مَنْ إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة، وأطلعهم على الحق، بل هم في الضلال تائهون، وفي الظلمات متحيرون.

فأحوج الفريقين جميعًا ما حل بهم من الحيرة والتيه، إلى من يشفيهم من داءِ الضلالة بنور الهدى، ومن ظلمة الاختلاف بضياءِ الائتِلاف، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل اللَّه، ويَدُلهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أَربابًا.

فبعث إليهم - عند شدة حاجتهم - رسولا، وأكرمهم بما أَراهم من الآيات التي يعلمهم بها أَنه أنعم بها عليهم؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أَطاعوه، وشكروا نعمة اللَّه.

فكانوا كقوم بُلُوا بظلماتِ الليل والسحاب، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم، وتعذر عليهم الوجه في وضع أَقدامهم، فتاهوا، فدفعهم التيهُ إلى استيقاد النار؛ ليبلغوا حوائجهم، ويأمنوا العَطَبَ في وضع الأَقدام.

وكقوم بُلُوا في شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجَدْبِهِ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأَغاثهم بالمطر.

ثم منهم من عرف نعمة من أَنعم عليهم بالوقود وأَغاثهم بالمطر، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك، ووصلوا إلى حوائِجهم بالنار والمطر.

وذلك مثل من اتبع محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعرف نعم اللّه فشكره.

ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه، ونسي ما كان عليه، وهو قوله: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} آيات فيها ذكر ما بَينت،

وقوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ. . .} الآية، فأَذهب اللّه نورَهُ فلا ينتفع بنور النار، ولا وَصل إلى حاجته التي بها يقضي.

وذلك مثل الذين كفروا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنهم لم ينتفعوا به، ولا قضوا حاجاتهم، بل زادهم ذلك ظلمةً وحيرة، كمستوقد النار إذا ذهب بصرهُ.

وكذلك قوم بُلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جُعل لهم لوضع أَقدامهم بنور البرق فأَذهب اللّه نوره، وسَكَنَ لمعانُ البرق؛ فعاد الغياث له هلاكا، والمطر -الذي وجهه- عليه بلاء.

فمثله من كابر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واعترض على الاستماع إليه، ولا قوة إلا باللّه.

﴿ ١٩