٤٨

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا (٤٨)

الآيةُ - واللّه أعلم - كأنها مؤخرة في المعنى وإن كانت في الذكر مقدمة؛ لأَنه قال: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، ثم ذكر الأَفضال والمنَنَ فقال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. . .} الآية،

وقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ}،

وقوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.

ذكَّرهم - عَزَّ وَجَلَّ - عظيم نعمه ومنَنِه عليهم؛ ليشكروا له، وليعرفوا أنها مِنَّةٌ، وأَنه فضلٌ مِنْهُ،

ثم حذَرهم - جل وعز - فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا. . .} الآية؛ ليكونوا على حذر؛ لئلا يصيبهم ما أَصاب الأُمم السالفة من الهلاك وأَنواع العذاب بعد الأَمن، والتوسع عليهم، كقوله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} إلى قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ. . .} الآية.

ثم في الآية دليل لقول أبي حنيفة وأصحابه: إن الولد يصير مشتومًا مقذوفًا بشتم والديه؛ لما عيرهم - جل وعز - بصنع آبائهم بقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ}، وهم لم يتخذوا العجل، وإنما اتخذ ذلك آباؤهم.

وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - صنعه ومننه عليهم، من نحو النجاة من الغرق، وإخراجهم من أَيدي العدو، وفَرق البحر بهم، وإهلاك العدو. وإنما كان ذلك لآبائهم دونهم، لكن ذكرهم - جل وعز - عظيم منته على آبائهم؛ ليشكروا له على ذلك، وكذلك عَيرهم بصنيع آبائهم من اتخاذ العجل، وإظهار الظلم؛ ليكونوا على حذر من ذلك، واللّه أعلم.

وفي قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: بما كان إنعامي عليهم باتباعهم الرسول موسى - عليه السلام - وطاعتهم له، فاتبِعوا اسم الرسول مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأَطيعوا له، ولا تتركوا اتباعه.

وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا}.

قيل: أي لا تُؤدي نفس عن نفس شيئا؛ كقوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥).

وقوله: {وَلَا يُقبَلُ منهَا شَفَاعَة}.

قيل فيه بوجهين:

قيل: لا يكون لهم شفعاء يشفعون؛ كقوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}، وكقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ}.

وقيل: لو كان لهم شفعاء لا تقبل شفاعتهم؛ كقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي: لا يؤْذَنُ لهم بالشفاعة؛ كقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}.

وقوله: {وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}.

والعدل: هو الفداءُ، إما من المال، وإما من النفس.

وذلك أيضًا يحتمل وجهين:

يحتمل: ألا يكون لهم الفداء، على ما ذكرنا في الشفيع.

ويحتمل: أَن لو كان لا يقبل منهم؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}.

ثم الوجوه التي تخلص المرء في الدنيا إذا أَصابته نكبة بثلاث:

إما بفداءِ يفدى عنه -مالًا أو نفسًا- وإما بشفعاء يشفعون له، وإما بأَنصارٍ ينصرون له؛ فيتخلص من ذلك.

فقطع - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم جميع وجوه التخلص في الآخرة.

والآية نزلت - واللّه أعلم - في اليهود والنصارى، وهم كانوا يؤمنون بالبعث، والجنة، والنار، كقوله: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}

وقوله: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}.

ولذلك ذكر اسم الفداءِ والشفيع، وما ذكر، وأَما من لم يؤمن بالآخرة فلا معنى لذكر ذلك.

﴿ ٤٨