٢٦٦وقوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ ... (٢٦٦) ليس لهذا الخطاب جواب؛ لأن جوابه أن يقول: يود، أو لا يود. لكن الخطاب من اللَّه تعالى يخرج على وجوه ثلاثة: خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع. وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكر والتدبر، وهو كقوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وكقوله عز وجل: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ). وخطاب لا يفهم مراده إلا بالسؤال عنه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو من له علم في ذلك؛ كقوله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، وكقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). فإذا كان ما ذكرنا، فيحتمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث عنه والتفحص. ثم إن هذا الخطاب يحتمل أن يكون في أهل النفاق؛ وذلك أن المنافق يرى من نفسه الموافقة لأهل الإسلام في الظاهر، وهو مخالف لهم في السر، وعنده أنه يستحق الثواب بذلك وقت الثواب، كان كصاحب الضيعة التي ذكرت في الآية: أن صاحبها يغرس فيها الغرس، وينبت فيها النبات في حال شبابه وقوته؛ رجاء أن يصل إلى الانتفاع بها في وقت الحاجة والضعف، فإذا بلغ ذلك واحتاج - حيل بينه وبين الانتفاع فيها. فكذلك المنافق الذي كان دينه لمنافع في الدنيا وسعة لها، إذا بلغ إلى وقت الحاجة حرم ذلك. وكذلك هذا في الكافر؛ لأنه رأى لنفسه النفع بعمله لوقت تأمله كصاحب الضيعة، ثم عند بلوغه الحاجة حرم عنه ذلك لاعتراض ما اعترض من الآفة، وهو كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)؛ لأن الكافر بما يدين من الدِّين إنما يدين لنفع يتأمله في الدنيا، والمؤمن إنما يدين بما يدين لنفع يتأمله ويطمع في الآخرة. فرجاء الكافر في غير موضعه؛ لذلك كان ما ذكر. والله أعلم. ثم الأمثال التي ضربت ينتفع بها المؤمنون؛ لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيها، لم ينظروا إلى أعينها. وأما الكفار إنما ينظرون إلى أعين الأمثال، لا إلى ما فيها، فاستحقروها واستبعدت عقولهم ذلك؛ لذلك قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، و (يَعْقِلُونَ). ووجه ضرب هذا المثل: هو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه حين كبرت سنه وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ. وقوله تعالى: (إِعْصَارٌ). قال ابن عَبَّاسٍ: الإعصار: ريح فيها سموم. وقيل: الإعصار: ريح فيها نار تحرق الأشجار. وقيل: هي الريح تسطع إلى السماء، وهي أشد. قال الشيخ - رحمه اللَّه تعالى - في قوله: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ. . .) الآية: فمعناه - واللَّه أعلم - أن يكون ألا يود أحد أن تكون له جنة ينال منافعها في وقت قوته وغناه بقوته عنها وبغيرها من وجوه المعاش، ثم يحرم نفعها لوقت الحاجة إليها بضعف بدنه وارتكاب مؤن الذرية، فكذلك لا ترضوا من أنفسكم في وقت قوتها وغناها الغفلة عنها لوقت حاجتها إلى الأعمال والاضطرار إلى ثوابها. واللَّه أعلم. وأن يكون المعنى من ذلك أي: لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا، وبما تنالون من النافع بالذي أظهرتم من موافقة المؤمنين، كاغترار من ذكرت بجنسه في خاص ما عليه حاله إلى أن صار إلى ما أراه اللَّه من عاقبته أنه يود عنه نهاية ذلك، أن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه ذلك بتلك الحال؛ فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق. ويحتمل: أن يكون ذلك مثلًا لمن كفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممن يؤمن بالبعث، أن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز، كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة؛ فكذا ما ينبغي لهم إذ بين لهم عواقب الكفر بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يؤثروا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة. واللَّه أعلم. والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه؛ لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث مبينًا أو بما في الحال التي لها نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد اللَّه امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي عقل فضله، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم إليهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم. واللَّه أعلم. وجملة ذلك: أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب، وما إليه مرجع الفاعل مقصود في الابتداء، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته لما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم يكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر: الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار إليها صاحبها. واللَّه الموفق. |
﴿ ٢٦٦ ﴾