سُورَةُ آلِ عِمْرَانَبِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١انظر تفسير الآية:٢ ٢قوله: (الم (١) اللّه). قَالَ بَعْضُهُمْ: تفسيره ما وصل به من قوله: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ). هو تفسير (الم)، و (الم (١) اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ): تفسير (الم)، و (المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ)، وجميع ما وصل به الحروف المقطعة فهو تفسيرها، وللّه أن يسمي نفسه بما شاء: سمى نفسه مجيدًا؛ كقوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} وسمى القرآن مجيدًا؛ كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ}. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحروف المقطعة هي مفتاح السورة. وقال آخرون: إن كل حرف منها اسم من أسماء اللّه تعالى. ومنهم من يقول بأنها من المتشابه التي لا يوقف عليها. ومنهم من يقول: هو على التشبيب؛ إذ من عادة العرب ذلك، وقد مضى الكلام فيه في قوله: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ)، بما يكفي. وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (٢) هو الْحَيُّ بذاته، وكل حي سواه حي بحياة هي غيره، فإذا كان هو حيًّا بذاته لم يوصف بالتغاير والزوال، ولما كان كل حي سواه حيًّا بغيره احتمل التغاير والزوال؛ وكأن الحياة عبارة يوصف بها مَنْ عَظُمَ شَأنُهُ، وشَرُفَ أمره عند الخلق. ألا ترى أن اللّه - تعالى - وصف الأرض بالحياة عند نباتِها؛ لما يعظم قدرها ويشرف منزلتها عند الخلق عند النبات؟! وكذلك سمى المؤمن حيا؛ لعلو قدره عند الناس، والكافر ميتا؛ لدون منزلته عند الناس؛ فكذلك اللّه - سبحانه - سمى نفسه حيًّا؛ لعظمته وجلاله وكبريائه؛ وعلى هذا يخرج قوله في الشهداء؛ حيث قال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}، أي: مكرمون معظمون مشرفون عند ربِّهم. وقوله: {الْقَيُّومُ}، قَالَ بَعْضُهُمْ: هو القائم على كل نفس بما كسبت. وقال آخرون: القيوم: الحافظ. وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " هو الْحَيُّ الْقَيَّامُ " وكله يرجع إلى واحد: القائم. والقيوم، والقيام، يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: يحفظه حتى لا يغيب عنه من أمره شيء. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " إنَّ اسمَ اللّه الأعْظَمَ هُوَ: الْحَيُّ الْقَيُّومُ ". ٣وقوله: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ (٣) ظاهر. {بِالْحَقِّ} قيل فيه بوجوه: يحتمل بالحق، أي: دعاء الخلق إلى الحق، ويحتمل بالحق، أي: هو الحق نفسه حجة مجعولة، وآية معجزة، أيس العرب عن أن يعارضوه أو يأتوا بمثله، وتحقق عند كُلٍّ أنهُ من عند اللّه، إلا من أعرض عنه، وكابر وعاند. وقيل: بالحق، أي: بالصدق والعدل. وقيل: بالحق الذي للّه عليهم، وما يكون لبعضهم على بعض. ثم قال: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}. أي: موافقًا لما قبله من الكتب السماوية، وهي غير مختلفة ولا متفاوتة، وفيه دلالة نبوة سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر أنه موافق لتلك الكتب غير مخالف لها، ولو كان على خلاف ذلك لتكلفوا إظهار موضع الخلاف؛ فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم عرفوا أنه من اللّه، وأن محمدًا رسوله، لكنهم كابروا وعاندوا. وقوله: (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) من بعد. ٤وقَالَ بَعْضُهُمْ: {هُدًى لِلنَّاسِ}. أي: بيانا لهم، وحجة لمن اهتدى، وحجة على من عمي؛ إذ لا يحتمل أن يكون له هدى، وعليه حجة فيه الهلاك؛ إنما يكون حجة له وهدى إذا اهتدى، وعليه إن ترك الاهتداء؛ فبان أنه يخالف ما يقوله المعتزلة. وقوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}: قد ذكرنا فيما تقدم أنه إنما سمي فرقانًا؛ لوجهين: أحدهما: لما فرق آياته وفرق إنزاله. والثاني: لما يفرق بين الحق والباطل، وبين الحرام والحلال، وبين ما يتقى ويؤتى؛ فعلى هذا كل كتاب مبيّن فيه الحلال والحرام، وبُيّن ما يتقى ويؤتى. والإنجيل فيه سمي إنجيلًا؛ لما يجلي، وهو الإظهار في اللغة. وَقِيل: سمي التوراة تَوْراة من أوريت الزند؛ وهو كذلك. واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللّه. . .}: قيل: بحجج اللّه. وقِيل: كفروا بآيات اللّه، أي: باللّه؛ لأنهم إذا كفروا بآياته كفروا به، وكذلك الكفر بدينه كفر به، والبراءة من دينه براءة منه، والبراءة من رسوله براءة منه. وقوله: {وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}. قيل فيه بوجهين: قيل: ذو انتقام لأوليائه من أعدائِه. وقيل: ذو انتقام: ذو انتصار على الأعداء. وقيل: ذو بطش شديد. ٥وقوله: (إِنَّ اللّه لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (٥) هو وعيد؛ كأنه - واللّه أعلم - قال: لا يخفى عليه ما في السماوات، وأما في، الأرض من الأمور المستورة الخفية على الخلق؛ فكيف يخفى عليه أعمالكم وأفعالكم، التي هي ظاهرة عندكم؟! ويحتمل: إذا لم يخف عليه ما بطن، وخفي في الأصلاب والضمائر والأرحام؛ فكيف يخفى عليه أفعالكم وأقوالكم، وهي ظاهرة؟!. ألا ترى أنه قال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ}؛ إذ علم ما في الأرحام وصوَّرها على ما شاء وكيف شاء، وهم {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}. ٦وقوله: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ (٦) فيه دليل نقض قول من يقول بالقائف؛ لأنه جعل علم التصور في الأرحام لنفسه، لم يجعل لغيره، كيف عرف بالقائف تصوير الأول، حتى قال اللّه: إنه على صورته وعلى تصويره، وإنه من مائه، ثم اختلف في خلق الأشياء: قَالَ بَعْضُهُمْ بخلق الفروع من الأصول، وهن أسباب للفروع. وقال آخرون: يكون بأسباب وبغير أسباب، فإن كان بعض الأشياء يكون بأسباب؛ من نحو الإنسان من النطفة، إلا أن النطفة تتلف؛ فتكون علقة، ثم مضغة؛ فدل أنه يخلق الخلق كيف شاء من شيء ولا من شيء، بسبب وبغير سبب، وهو القادر على ذلك، وباللّه التوفيق. ٧وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (٧) اختلف فيه: فقيل: المحكمات: هن النَّاسخات المعمولات بهن، والمتشابهات: هن المنسوخات غير معمول بهن، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رضي اللّه عنه. وقال آخرون: المحكمات: هن ثلاث آيات في آخر سورة الأنعام: قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ. . .}، إلى قوله: (. . . تَتَّقُونَ)، وما ذكر في سورة " بني إسرائيل " من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، إلى آخر هذه الآيات، سميت محكمة؛ لأن فيها توحيدًا وإيمانًا باللّه وغيره من المتشابه. ثم قيل بعد هذا بوجوه: قيل: المحكمات: هي التي يعرفها كل أحد إذا نظر فيها، وتأمَّل فيها. والمتشابه: هو المبهم الذي يعرف عند البحث فيه والطلب. وقيل: المحكمات: ما يوقف ويفهم مراده. والمتشابه: هو الذي لا يوقف عليه ألبتَّة، بعد ما قضى حوائج الخلق من البيان في المحكم منه، ولكن يلزم الإيمان به، وهو من اللّه محنة على عباده، وللّه أن يمتحن خلقه بما شاء من أنواع المحن؛ لأنها دار محنة. وغيرها لا يفهم مرادها. ويحتمل أن يكون المحكمات: هن ما ظهر لكل أحد من أهل الإسلام؛ حتى لم يختلفوا فيها. والمتشابه: هو الذي اشتبه على الناس؛ لاختلاف الألسن فاختلفوا فيها، ولما يؤدي ظاهره إلى غير ما يؤدي باطنه؛ فتعلق بعضهم بالظاهر فقالوا به، وتعلق آخرون بالباطن؛ لما رأوا ظاهره جورًا وظلمًا أو تشبيهًا، على اتفاقهم على نفي الجور والظلم عنه، ويجوز لمن يوقف على المتشابه بمعرفة المحكم. وقال آخرون: المحكم: هو الواضح المبين، فلو كان على ما قالوا لم يكن لاختلاف الناس فيه، وادعاء كلٌّ أن الذي هو عليه هو المحكم؛ لأنه لو كان ظاهرًا مبيّنًا لتمسكوا به، ولم يقع بينهم اختلاف. وفيه دليل ونقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون بالأصلح في الدِّين: أنه لا يفعل إلا ذلك، ثم لم يبين لهم المحكم من غير المحكم، ولو بين كان أصلح لهم في الدِّين؛ فدل أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد يجوز أن يفعل بهم ما ليس بأصلح لهم في الدِّين؛ امتحانًا وابتلاءً منه لهم، واللّه أعلم. لكن لا يخرج من الحكمة، ثم ما قالوه في الأمر حق؛ لأنه لا يأمر إلا أن يفعل بهم ما لهم فيه الأصلح، وقد يفعل ما هو حكمة في حق المحنة وإن كان غير ذلك أصلح لهم في الذين، بمعنى: أقرب وأدعى إليه، واللّه الموفق. وَقال قوم: المحكم: ما في العقل بيانه. والمتشابه: ما لا يدرك في العقل؛ وإنَّمَا يعرف بمعونة السمع. وقال قوم: لا متشابه فيما فيه أحكام من أمر ونهي وحلال وحرام؛ وإنَّمَا ذلك فيما ليس بالناس حاجة إلى العلم به، نحو: الإنباء عن منتهى الملك، وعن عدد الملوك، وعن الإحاطة بحقيقة الموعود، ونحو ذلك. ولا قوة إلا باللّه. لكن يمكن أن يكون سمي متشابهًا؛ بما تشابه على أُولَئِكَ القوم حقيقة ما راموا من الوجه الذي طلبوا. وقد بيّنا الحق في أمر المتشابه، وما يجب في ذلك من القول، وباللّه العصمة والنجاة. وقوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}: يحتمل وجهين: يحتمل أم الكتاب، أي: أصل الكتاب. ويحتمل أم الكتاب، أي: المتقدم على غيرها؛ وعلى هذا يُخَرّجُ: {أُمَّ الْقُرَى} أعني: مكة؛ لأنها هي المتقدمة على غيرها من القرى، ويحتمل هي أصل القرى؛ كما سمى " فاتحة الكتاب ": " أم القرآن "؛ لأنها أصل؛ أو لأنها هي المتقدمة على غيرها من السور، واللّه أعلم. ويحتمل قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، أي: مقصود الكتاب، يعني: المحكمات، والمتشابهات مما فيه شبه من غيره؛ فيتشابه؛ فهو متشابه؛ كقولهم: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}؛ وكذلك المشكل سمي مشكلًا؛ لما يدخل فيه شكل من غيره فسمي مشكلًا؛ فكذلك المتشابه يدخل فيه شبه غيره؛ فصار متشابهًا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قيل: ميل عن الحق. وقيل: الزيغ: هو الريب والشك. {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ولو كان ثم اتباع لعذروا؛ إذ الاتباع للشيء اتباع ما فيه من المراد؛ وعلى هذا يقولون في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}: أي يتبعونه حق اتباعه، وكذلك قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}. والمتشابه قد أنزل إلينا من ربنا؛ فيحمد متبعه في الحقيقة؛ فثبت أنه لم يكن ثم اتباع في الحقيقة، وأنه لو كان لعذروا، ولكنه كان - واللّه أعلم - اتباع الآراء في التأويل بالآراء الفاسدة؛ ألا ترى أنهم طلبوا بالتأويل منتهى ملك هذه الأمَّة؟! وفي الوقوف عليه وقوف على علم الساعة وسبب القيامة، وذلك علم لم يُطْلِعِ اللّه الرسلَ على ذلك، فضلًا أن يطلع عليه غيرهم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: ويحتمل أن يكون اتباعهم نظرهم فيما تقصر أفهامهم عن الإدراك في الوقوف عليه، ولو كان نظرهم في المحكم من ذلك، لكان لهم في ذلك بلاغ وكفاية فيما إليهم به حاجة، ولا قوة إلا باللّه. قال الشيخ - رحمه اللّه -: في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: أي: ميل عن الحق، وذلك همتهم، أو كان ذلك اعتقادهم، فإن كان المراد من ذلك في الكفرة فهو الأوّل، وإن كان في أصحاب الهوى من الذين يدينون دين الإسلام - فهو الثاني؛ وكذلك نجد كل ذي مذهب في الدِّين - ممن اعتقد حقيقة الأمر في قوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. . .} الآية - يتعلق بظاهر الآية؛ يدعي أنها محكمة بما عنده أنه الحق، بعد أن أجهد نفسه في طلب الحق، ويسوي غير ذلك عليه، فإن كان على ذلك فحقه التسليم لما عليه توارث الأمة ظاهرًا؛ على ما روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه أخبر عن تفرق الأمة، ثم أشار إلى التمسُّك بما عليه هو وأصحابه - رضي اللّه عنهم -، فعلى ذلك أمر المتوارث؛ فيجب جعله محكمًا وبيانًا لما اختلف عليه، ولا قوة إلا باللّه. ويكون المبتدع في ابتغاء تأويله؛ يريد التلبيس على من لزم تلك الجملة، وكذلك لأهل جمل في الدِّين مرفوع عليه، كذا التنازع وترك الاشتغال بتأويل ما اعترضه، لكان متبع المحكم عند الأمة مطيعًا المتشابه، ولا قوة إلا باللّه. وإن كان هو الأوَّل فقد ذكر أن ذلك في استخراج منتهى ملك هذه الأمة، وأن نهايته الساعة، والعلم به لم يطلع عليه الرسل فضلًا عمن دونهم، أو كان ذلك في أشياء تقصر عقول الضعفاء عن الإحاطة بذلك؛ يريدون بذلك التلبيس على العوام وأهل الغباوة؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بما ذكر أنه لا يعلمه إلا اللّه كان ذلك فيما يعلمه غيره أو لا، فإن كان أطلعه فباللّه علم، لا أن في العقول بلوغ ذلك، ومعنى الاتباع ما قد بين. وقوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، أي: من القرآن بقول ما اشتبه حسابهم. {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}. وقيل: الفتنة: الكفر، ويحتمل " الفتنة ": المحنة، أي: يمتحنون أهل الإسلام. وقوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. منتهى ما كتب اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لهذه الأمَّة من المدة لهم والوقت، وأصل التأويل: هو المنتهى. قال اللّه - تعالى -: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه}. أي: وما يعلم منتهي تلك الأمة إلا اللّه. ثم المتشابه: إن كان ما يوقف فيه فهو، وإن كان مما يعرفه أهل المعرفة، ويعلمه بالواضح - فهو هو، وأصل هذا: أن كل ذي مذهب في الإسلام يدعي على خصمه بما ذهب إليه من الحجاج بالآيات -الوقوع في المتشابه، ولنفسه- الوقوع في الواضح، وعنده أن ما ذهب إليه هو الحق؛ فلا فرق بين أن يدعي عليه ذهابه إلى غير الحق، أو تعديه إلى المتشابه وترك الواضح، فسبيل مثله الفحص والبحث عما ذهب إليه إن جاء بشيء يضطر العقل إلى قبوله سلم له ما جاء به، وإلا فخصمه منه في دعوى مثله: بالوقوع له في المتشابه بمحل دعواه. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللّه}: قال قوم: موضع الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، ثم ابتدأ فقال: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}: " يقولون "، بمعنى: قالوا، " آمنا به ": بما عرفنا، وذلك جائز في اللغة؛ " يقول " بمعنى: " قال ". وقال آخرون: موضع الوقف على قوله: {إِلا اللّه}، ثم استأنف الكلام فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}: المحكم والمتشابه وغيره. قيل: الراسخون: هم المتدارسون. وقيل: المتثابتون؛ رسخ، بمعنى: ثبت. وقيل: الراسخون: الناتجون. يقال: رسخ في العلم: نتج فيه. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في إنزال المتشابه؟. قيل: إذا كان مما يعلم فهو يحتمل وجهين: يحتمل: ليعلم فضل العالم على غير العالم. ويحتمل: أن جعل عليهم طلب المراد فيه، والفحص عما أودع فيه. وإن كان مما لا يعلم يحتمل المحنة؛ امتحنهم في ذلك بالوقف فيه؛ إذ الدار دار محنة، وللّه أن يمتحن عباده بجميع أنواع المحن. وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. ْأي: ما يتعظ إلا أولو الحجج والعقل. * * * ٨قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) وقوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} فيه وجهان على المعتزلة: أحدهما: أنه أضاف الزيغ إلى نفسه، وهو حرف مذموم عند الخلق، إذا قيل: فلان أزاغ فلانًا عن الحق، فإذا أضاف اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إلى نفسه حرف الزيغ، دل أن فيه معنى سوى ظاهره؛ حتى جاز إضافته إليه، وهو أن خلق منهم فعل الزيغ، وكذلك هذا في الضلال، وأضاف -أيضًا- الهداية إلى نفسه بقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}، فلو كان الهدى: البيان؛ على ما يقوله المعتزلة، لجاز أن يضاف ذلك إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ هو يملك البيان؛ لأنه بعث مبينًا معلمًا، فإذا لم يجز ذلك دل أن فيه معنى سوى البيان وهو التوفيق والعصمة؛ حتى جاز إضافته إليه، ولا يجوز إلى غيره، واللّه الموفق. والثاني: أنهم سألوا العصمة عن الزيغ والضلال، فلو كان عليه أن يفعل، وأن يبذل لهم العصمة، لم يكن للسؤال عن ذلك معنى؛ فدل أنه تفضل منه ببذل ذلك لهم، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية: فيه وجهان: أحدهما: أنه لو لم يكن له إلا الأصلح في الدِّين؛ فتركه جور، فالقول بـ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} - لا يخلو من أن يكون الإزاغة أصلح له، وهو يدعو بأن يجور أو لا يكون أصلح، فهو يدعو بأنه لا يجور، ومُحَالٌ الدعاء على خوف الجور؛ ومن خاف جور الخالق فهو غير عارف به. والثاني: أن الداعي -فيما جبل عليه الخلق- يدعو على أمر أنه لو أجابه لكان لا يزيغ قلبه، وكذلك سؤال العصمة والهداية؛ ولهذا يؤمر به -أيضًا- ولو كان معه زيغ، لكان الأفضل في الأمر بين الدعاء بالإزاغة، وأن " لا تزغ "؛ إذ الخوف مع الأمرين قائم، واللّه الموفق. وفي ذلك -أيضًا- وجهان آخران: أحدهما: أن الإزاغة إذا أضيفت إلى أحد، خرجت مخرج الشتم له والتعيير؛ فثبت أن فيما أضيفت إلى اللّه - تبارك وتعالى - معنى ليس فيما أضيفت إلى أحد آخر غيره، وهو - واللّه أعلم - أن الإزاغة من كل أحد فعل هو زيغ بنفسه فيه ذم، ومن اللّه ليست بذم؛ فيكون فيه أن خلق فعل الزيغ ليس بزيغ، وإن كان فعله زيغا، واللّه أعلم. وفيه أن خلق الشيء ليس هو ذلك، والشيء ذاته يكون من اللّه ما يوصف بالإزاغة، ويصير لديه الآخر زائغا، ولا شيء يوجد يكون كذلك سوى خلق فعل الإزاغة من العبد، واللّه الموفق. والثاني: قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}: ولو لم يكن من اللّه في الهداية سوى البيان، لكان يصح ذلك لكل كافر، ويجوز الإضافة إلى الرسل؛ فإذ لم يصح ذلك ولم يجز، ثبت أن ثم فضلاً، وهو خلق فعل الهداية، والتوفيق الذي معه الاهتداء لا محالة، وباللّه التوفيق والمعونة. وقوله: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}: يحتمل وجوهًا: يحتمل الهدى والإسلام؛ إذ به يستفاد. ويحتمل الجنة. ويحتمل أنهم سألوه كل رحمة. قال أبو بكر الأصم: الرحمة: السعة في الدنيا، والثواب في الآخرة. وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}: فهو -على قول المعتزلة- ليس بوهاب؛ لأن الوهاب هو الْمُفْضِل الذي يهب ويبذل ما ليس عليه، وهو - على قولهم - عليه أن يعطي الخلق كل ما هو أصلح لهم في الدِّين؛ فالآية تكذبهم، وترد عليهم قولهم الوَخْش في اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرًا. ويحتمل: هب لنا ما يُستوجب به الرحمة، وهو عمل الخير؛ كقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. ٩وقوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ (٩) إقرار بالإيمان والبعث بعد الموت. وقوله: {إِنَّ اللّه لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} في هذا خاصة: يراد به القيامة والبعث. ويحتمل: لا يخلف الميعاد في كل شيء، مما يصيب الخلق: من الخير والشر، والفرح والحزن والأسف، يقولون: إنه كان بوعده ووعيده، وإنه كان مكتوبًا عليهم ولهم، وإنه لا يكون على خلاف ما كان مكتوبًا عليهم؛ ليصبروا على الشدائد والمصائب، فلا يجزعوا عليها، ولا يحزنوا، وليشكروا على الآلاء والنعماء ولا يفرحوا عليها، وهو كقوله: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}. ١٠وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا}، وذلك أنهم كانوا يستنصرون بأولادهم وأموالهم في الدنيا، ويستعينون بهما على غيرهم؛ فظنوا أنهم يستنصرون بهم في الآخرة، ويدفعون بهم عن أنفسهم العذاب؛ وهو كقولهم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؛ فأخبرهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن أموالكم وأولادكم لا تغني عنكم من عذاب اللّه شيئًا. وقوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}: أي: حطب النار؛ فهو - واللّه أعلم - أن الإنسان إذا وقع في النار في هذه الدنيا لا يحترق احتراق الحطب؛ ولكنه يذوب ويسيل منه الصديد، فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: إنهم يحترقون في النار في الآخرة احتراق الحطب، لا احتراق الإنسان في الدنيا؛ لأنها أشد بطشًا، وأسرع أخذًا، وأطول احتراقًا؛ وعلى هذا يخرج قوله: {وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}: ليس عذاب الدنيا أنه على الانقضاء والنفاد؛ ولكن على الدوام فيها والخلود أبد الآبدين؛ فنعوذ باللّه منها. ١١وقوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ (١١) قيل: كأشباه آل فرعون، وقيل: كعمل آل فرعون وكصنيعهم، وكله واحد، ثم يحتمل بعد هذا وجهين: يحتمل: صنيع هَؤُلَاءِ وعملهم - كصنيع آل فرعون ومن كان قبلهم بموسى، في التكذيب والتعنت. ويحتمل بصنيع هَؤُلَاءِ بما يلحقهم من العذاب بالتكذيب والتعنت؛ فألحق أُولَئِكَ من العذاب بتكذيب الرسل، وتعنتهم عليهم. {وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} قد ذكرناه. ١٢وقوله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) وهذا - واللّه أعلم - في قوم قد علم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ لذلك قال تعالى لنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن قل لهم: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ. . .} الآية، وإلا فلا يلحقه ذلك الوعيد، واللّه أعلم؛ لأن من الكفار من يسلم ومن لا يسلم، وإلا فلا يلحق بالوعيد من الكفار من أسلم. ١٣وقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا (١٣) وفيه: فإن قال قائِل: ما في فئة قليلة، وهي فئة أهل الإسلام، في غلبة فئة كثيرة، وهي فئة المشركين؛ حيث غلبت فئةُ المسلمين -وهم قليل- فئةَ المشركين -وهم كثير- يوم بدر، وقد يكون لأهل الكفر إذا كانوا قليلًا، فغَلَبُوا على أهل الإسلام - آيةٌ. قيل: ليست الآية في الغلبة خاصة؛ لكن الآية فيها واللّه أعلم، وفي غيرها من وجوه: أحدها: أن غلبة المسلمين، مع ضعف أبدانهم، وقلة عددهم، وخروجهم لا على وجه الحرب والقتال - المشركين مع قوة أبدانهم، وكثرة عددهم، واستعدادهم للحرب، وخروجهم على ذلك، والقتال - آية، وعلم العدو أنْ ليس لهم فئة، ولا لهم رجاء المدد، وأنْ لا غياث لهم من البشر، وذلك آية الجرأة وعلامة الشجاعة، ومعه آمَنُ، واللّه أعلم. والثاني: أن ما روي أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذ كفًّا من تراب، فرماه على وجوههم، وقال: " شَاهَتِ الوُجُوُه "؛ فامتلأت أعينهم من ذلك وعموا؛ حتى أنهزموا؛ فصار آية. والثالث: ما قيل: إن أبا جهل قام فدعا فقال: " أينا أَحَقُّ دِينًا، وَأوصَلُ رَحِمًا؟ فَانْصُرهُ، واجْعَلِ الغَلَبَةَ والْهَزِيمَةَ عَلَى الآخَرِ "، فاستجيبت؛ فكانت الغلبة والهزيمة عليهم؛ فكان آية. والرابع: ما أعان الملائكةُ المسلمين، وبعثهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - مددًا لنصرة المؤمنين على الكافرين يوم بدر؛ فذلك آية. ووجه آخر: ما ذكرنا أن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا خرجوا شبه العير بغير سلاح، غير مستعدين للقتال على علم منهم بذلك، وأُولَئِكَ خرجوا مستعدين لذلك، فكان ما ذكر، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: في ذكر القليل في الأعين من الجانبين آيةٌ عظيمة؛ إذ هي حسية، والحواس تؤدي عن المحسوسات حقائقها، فجعلها اللّه بحيث لا تؤدي؛ لما قال: {لِيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}؛ فيحتمل أن يكون المراد مما ذكر من الآية في أمر الفئتين - هذا، واللّه أعلم. وقوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}. وفي بعض القراءات: " ترونهم " بالتاء: يرى المؤمنون أُولَئِكَ مثلي أنفسهم لا أكثر، وهم كانوا ثلاثة أمثالهم، على ما روي في القصة؛ وهذا لما جعل الحق عليهم قيام الواحد من المسلمين بالاثنين منهم، مع ضعفهم؛ لجهدهم في العبادات، وبلوغهم الغاية من احتمال الشدائد والمشقات. أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بمعرفتهم أمر أهل الحرب، وشدة رغبتهم في تعلمهم ما يحتاجون في الحرب والقتال؛ ولهذا قالوا: إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - علم المؤمنين جميع ما يحتاجون في الحرب من الآداب وغيرها في الكتاب؛ كقوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: أمرهم بالتثبت، ثم قال: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ}، وقال: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}: فجعل التنازع الواقع بينهم - على خلاف بعضهم بعضًا - سببَ الهزيمة؛ ففيه أمر بالاجتماع، وجعل التدبير واحدًا، والطاعة لإمامهم. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}: وإِنَّمَا كان عبرة؛ لما ذكرنا من خروج المؤمنين بقلة عددهم، وضعف أبدانهم، بلا استعداد للحرب والقتال، إنما هو خروج شبه العير، وخروج أولئِك بالعدة مع قوة أبدانهم، وكثرة عددهم، وطمع المدد لهم، ولم يكن للمسلمين ذلك؛ ففي مثل غلبة المؤمنين الكافرين، والظفر بهم، والنصر لهم عليهم، على الوصف الذي وصفناهم - عبرةٌ، وآية لأولي الأبصار والعبر. * * * ١٤وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} أي: الشهيات. {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} وما ذكر. . . إلى آخره. قال الحسن: واللّه ما زيَّنها إلا الشيطان؛ إذ لا أحد أذم لها ولأهلها من اللّه تعالى، وإليه يذهب المعتزلة، لكن الأصل في هذا وفي أمثاله: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - زيَّن هذه الأشياء، والتزيين من اللّه - سبحانه وتعالى - يقع لوجهين، وكذلك الكراهة - أيضًا- تقع لوجهين: تزين في الطباع، والطبع يرغب فيما يتلذذ ويُشْتَهى، وإن لم يكن في نفسه حَسَنًا. وتزين في العقل، فلا يتزين في العقل إلا فيما ثبت حسنه بنفسه، أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك، ثم جعل العقل مانعًا له، رادًّا عما يرغب إليه الطبع ويميل؛ لأن الطبع أبدًا يميل ويرغب إلى ما هو ألذّ وأشهى وأخف عليه، وينفر عما يضره ويؤلمه. والعقل لا ينفر إلا عما هو القبيح في نفسه، ويرغب فيما هو الحسن في نفسه؛ وعلى ذلك يخرج قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حُفَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَالنَّارُ بِالشَهَوَاتِ ": ليس على كراهة العقل، ولا على شهوة العقل؛ ولكن على كراهة الطبع وشهوته؛ وكذلك قوله: ({كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}: ليس على كراهة الاختيار، ولكن كراهة الطبع؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار، وكذلك رغبة العقول رغبة الاختيار، وفيها تجري الكلفة -أعني: على اختيار العقل، لا اختيار الطبع- بما يميل ويرغب في الألذ، وينفر عن الضار؛ دليله قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجًا؛ فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما يكون على اختيار العقل وكراهيته، لا على اختيار الطبع؛ لذلك قلنا: إنه يجوز التزيين في الطبع من اللّه تعالى، وكذلك الكراهة في الطبع تكره من اللّه تعالى. فأمّا قولهم: إن الشيطان هو الذي زينها: فإن عنوا أنه يزينها لهم، أي: يرغبهم ويدعوهم إليها، ويريهم زينتها - فنعم. وإن عنوا أنّه يزينها بحيث نَفَّسَهَا لهم - فلا؛ لأن اللّه - تعالى - وصف الشيطان بالضعف، ونفى عنه هذه القدرة بقوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، فلو جعلنا له التزيين لهم على ما قالوا، لم يكن كيده على ما وصفه - عزّ وجلّ - بالضعف؛ ولكن كان قويا، ولكنه يدعوهم إليها، ويرغبهم فيها، ويريهم المزين لهم، ثم دعاؤه إياهم، وحخثه في ذلك، وقوته من حيث ما لا يطلع عليه بقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، فالعدو الذي يَرَى هو من يعاديه، ولا يُرَى هو - كان يجب أن يكون أحذر منه، وأخوف ممن يرى. ووجه آخر: أن الشهوات التي أضاف التزيين إليها لا خلاف بينهم في أنها مخلوقة للّه تعالى، فما بقي للشيطان إلا الدعاء إليها، والترغيب فيها. وفيه وجه آخر: أنه لو لم يجعل هذا مزينًا من اللّه تعالى، زال موضع استدلال الشاهد على الغائب، وبالدنيا على الآخرة. وقد جعل ما في الدنيا نوعين: مستحسنا ومستقبحًا. وجعل ذلك عيارًا لما أوعد ووعد، فلما لم يكونا منه-لا يصح موضع التعيير، لأنه - جلّ وعلا - بلطفه سخر كل مرغوب في الدنيا، ومدعو إليه من جوهره- في الآخرة، وحسنه؛ ليرغب الناسَ هذا إلى ما في الجنة بحسنه ولطفه وزينته، ويدعوهم إلى ترك ما في الدُّنيَا من الفاني إلى نعيم دائم أبدًا، فلو جعل هذا من تزيين الشيطان - لعنه اللّه - ومصنوعه لهم، لذهب عظيم موضع الاستدلال الذي ذكرنا؛ فدلّ أنه مزين منه عَزَّ وَجَلَّ، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. ثمّ امتحنهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بترك ما زين لهم في الطباع؛ بما ركب لهم من العقول الوافرة؛ ليختاروا ما حسن في العقول وتزين، وعلى ذلك جرت الكلفة والخطاب، لا بما مالت إليه الطباع، ونفرت عنه العقول، وباللّه التوفيق. ثم في الآية دلالة وجوب الحق في كل ما ذكر في الآية من المال، وكذلك الخيل، وأمَّا في النساء والبنين: فلما مُتِّعوا بهم - أوجب عليهم النفقة كذلك. وقوله - عز وجل - {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}: أوجب في النساء عليهم النفقة، وكذلك البنين، وأوجب في الذهب والفضة حقا، ثم ذكر الخيل المسومة: إن كان المراد منه جعلها سائمة؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي اللّه عنه -: إِنَّ فِي الخَيلِ صَدَقَةً، ثم اختلف في المسومة؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هي المسيَّبة الراعية. وقال آخرون: هي المعلمة، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " الْمُسَوَّمَةُ الراعِيَة ". وقال غيرهم: الْمُطَهَّمَة، وهي الْمُحَسَّنة. ثم أخبر أن ما ذكر في الآية {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وأمرهم بترك ذلك، وأخبر أن لهم عنده: {حُسْنُ الْمَآبِ}، إن هم تركوا مما امتُحِنُوا به، ثم قال: إن من اتقى في الدنيا له خير من ذلك بقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .} إلى آخره. ثم اختلف في {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ}؛ منهم من قال: ألف ومائتا أوقية. ومنهم من قال: اثنا عشر ألفًا. ومنهم من يقول: سبعون ألف دينار. ومنهم من يقول: هو بلسان الرومية: ملء مَسْكِ ثور ذهبًا أو فضة. ومنهم من يقول: كل مائةٍ قنطار من كل شيء، وهو اسم المال العظيم الكثير لا يُدرَى ما مقداره، وليس لنا إلى معرفة قدره حاجة ولا فائدة؛ إنما الحاجة إلى معرفة الرغبة فيما كثر من المال؛ إذ ليس قدر أحق بأن يحمل عليه الرغبة من الآخر، واللّه أعلم. ١٥وقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (١٥) قيل: مُطَهَّرَةٌ: من الآفات كلها، من الأخلاق السيئة، والأقذار والعيوب كلها، وقد ذكرنا فيما تقدم في صدر السورة؛ قال: وكل أهل الجنة مطهر من جميع المعايب؛ لأن العيوب في الأشياء عَلَم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، إلا أن الذكْر جَرَى للنساء؛ لما ظهر في الدنيا فيهن من فضل المعايب والأذى. ١٦وقوله: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ... (١٦) قد رضي منهم بهذا القول، وفيه تزكية لهم، ولو كان الإيمان: جميعَ الطاعات - لم يرض منهم التزكية بها، وقد أخبر اللّه نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن للذين اتقوا عند ربهم في الجنة خيرا من هذا الذي زُيِّن، للناس في الدنيا من النساء، وما ذكر إلى آخره. وقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}: يحتمل: اتقوا الشرك. ويحتمل: للذين اتقوا الفواحش والمعاصي كلها. ١٧وقوله: (الصَّابِرِينَ (١٧) قيل: الصابرين على طاعة اللّه. وقيل: الصابرين، على أداء الفرائض. وقيل: الصَّابرين على المرازئ والمصائب والشدائد. والصبر: هو حبس النفس عن جميع ما تهوى وتشتهي. وقوله: {وَالصَّادِقِينَ}. قيل: في إيمانهم. وقيل: الصَّادِقِينَ بما وَعَدوا. وقيل: الصادقين في جميع ما يقولون ويخبرون. {وَالْمُنْفِقِينَ}. يحتمل الإنفاق: ما لزم من أموالهم من الزكاة والصدقات. ويحتمل: المنفقين المؤدين حقوق بعضهم بعضًا من حق القرابة والصلة. {وَالْقَانِتِينَ}. قيل: القانت: الخاضع. وقيل: القانت: المطيع. وقيل: الخاشع، وكله يرجع إلى واحد، وأصله: القيام، وكل من قام لآخر كان مطيعًا وخاشعًا وخاضعًا ومقرًا. وقيل: القانت: المقر كقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}، أي: مقرون. وقال قتادة: {الصَّابِرِينَ}: الذين صبروا على طاعة اللّه، وصبروا عن محارمه. {وَالصَّادِقِينَ}: الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم، وصدقوا في الشر والعلانية {وَالْقَانِتِينَ}: المطيعين. {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}، {وَالْمُنْفِقِينَ}: يعني: نفقة أموالهم في سبيل اللّه. {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}: قيل: المصلين بالأسحار. وقيل: المصلين في أول الليل، والمستغفرين في آخره. وأصل الاستغفار: طلب المغفرة مما ارْتُكِب من المآثم، على ندامة القلب، والعزيمة على ترك العود إلى مثله أبدًا، ليس كقول الناس: نستغفر اللّه، على غير ندامة القلب، وأصل الاستغفار في الحقيقة: طلب المغفرة بأسبابها، ليس أن يقول بلسانه: اغفر لي؛ كقول نوح - عليه السلام -: لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}، أمرهم بالتوحيد، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الجنة هي للصابرين والصادقين إلى آخر ما ذكرنا، واللّه أعلم. ١٨وقوله: {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. وقيل فيه بوجوه: قيل: شهد اللّه شهادة ذاتية، أي: هو بذاته، {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}؛ إذ في ذاته ما تليق الشهادة بمثله له من الألوهية والربوبية، وليس ذلك في ذات غيره، وباللّه العصمة. وقيل: شهد اللّه بما خلق من الخلائق أنه لا إله إلا هو، أي: خلق من الخلائق ما يشهد خلقه كل أحد على وحدانيته وإلهيته، لو نظروا في خلقتهم وتدبروا فيها؛ وكذلك الملائكة، وأولو العلم شهدوا أنه لا إله إلا هو، على تأويل الأول. وعلى تأويل الثاني: أن خلقَه الملائكةَ -وأولي العلم- يشهد على وحدانيته؛ فشهدوا على ذلك، إلا الجهّال؛ فإنهم لم يتأمّلوا في أنفسهم، ولا تفكروا في أنفسهم؛ فلم يشهدوا به؛ لأنه أمر الرسل والأنبياء بأن يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، فقوله وأمره به - شهادةٌ منه، ويحتمل شهادة القول؛ كقوله: {إِنَّ اللّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، وذلك من اللّه: الربوبية، ومن الخلق: العبودية له؛ فيجب أن تعرف الربوبية من العبودية؛ ففيه دلالة خلق الإيمان؛ فمن قال: إنه غير مخلوق - لم يعرف ذا من ذاك، وباللّه التوفيق. وقيل: " شهد اللّه " أي: علم اللّه أنه لا إله إلا هو، وكذلك علم الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، فإن قال لنا ملحد: كيف صح، وهو دعوى؟! قيل: لأن دعوى من ظهر صدقه في شهادته إذا شهد، وهو مقبول، وهو بما ادعى من الألوهية والربوبية؛ إذا لم يَسْتَقِلهُ أحد - ظهر صدقه، وقهر كل مكذب له في دعواه، وباللّه النجاة. وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ}: أي: حافظ ومتولٍّ؛ كقوله: {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، أي: حافظ لها ومتولٍّ؛ كما يقال: فلان قائم على أمر فلان، أي: حافظ لأمره، ومتعاهد لأسبابه. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وقيل: هو عادل، أي: لا يجور، لا أن ثم معنى القيام؛ كقوله: {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}: مقسطين، لا أن ثم للقيام فيه معنى يسبق الوهمُ إليه، واللّه أعلم. ١٩وقوله: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ (١٩) وقال قائلون: إن الدِّين الذي هو حق مِنْ بين الأديان، وهو الإسلام؛ لأن كل أحد منهم ممن دان دينًا يدعي أنَّه هو دين اللّه الذي أمر به. وقال قوم: إن الدِّين الذي أمر به الآمر من عند اللّه هو دين الإسلام؛ لأنهم. كانوا مع اختلافهم مقرين بالإيمان، لكن بعضهم لا يقرون بالإسلام؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذين الذي أمر به وفيه التوحيد هو دين الإسلام، لا غيره؛ ألا ترى أنه قال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا. . .}: أخبر عز وجل، أن إبراهيم - عليه السلام - ليس على دين سوى دين الإسلام، والإسلام هو الإخلاص، على ما ذكرنا فيما تقدم، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ: أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ، وَأنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ، وَالْقِسْطُ: هُوَ العَدْلُ فِي جَمِيعِ القُرآنِ ". وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: يحتمل وجهين. يحتمل الاختلاف: التفرق، أي: تفرقوا في الكفر؛ كقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية. ويحتمل: الاختلاف: نفس الاختلاف في الدِّين؛ كقوله: {وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كفَرَ}: أخبر أنهم لم يختلفوا عن جهل؛ ولكن عن علم وبيان؛ كقوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ}. ثم يحتمل قوله: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} وجهين: أي: لم يختلفوا إلا من بعد ما علموا وعرفوا. ويحتمل: أي: لم يختلفوا إلا من بعد ما أوتوا أسباب: ما لو تفكروا وتدبروا - لوقع العلم لهم بذلك والبيان، لكنهم تعنتوا وكابروا؛ فاختلفوا. ثم في الآية دليل ألا يجوز أن يُفسَّر قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ}، وقوله: {إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه}، ونحوه: بالانتقال من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؛ لأنه ذَكَرَ مجيءَ العلم، والعلم لا يوصف بالمجيء ولا ذهاب، وكذلك قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}: ذكر مجيء الحق وزهق الباطل؛ فهما لا يوصفان بمجيء الأجسام، وذهابهم بالانتقال والتحول من مكان إلى مكان، ولا يعرف ذلك ولا يصرف إليه؛ فعلى ذلك لا جائز أن يصرف قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ}، {استَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، ونحوه - إلى المعروف من استواء الخلق ومجيئهم؛ لتعاليه عن ذلك، قال: والمجيء لا يكون عن الانتقال خاصة؛ بل يكون مرة ذاك وأخرى غيره، وكذلك الإتيان، واللّه أعلم. وقوله: {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} قيل: حسدًا بينهم؛ لأنهم طمعوا أن يبعث الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بني إسرائيل، على ما بعث سائر الرسل بعد إسرائيل منهم، فلما بعث من غير بني إسرائيل حسدوه، وخالفوا دينه الإسلام، ويحتمل " بغيًا ": من البغي، وهو الجور. وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه} أي: من المختلفين {فَإِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ}: كأنه على الإضمار - أنْ قل يا مُحَمَّد: ومن يكفر بآيات اللّه من بعد ما جاءهم العلم والبيان، فإن اللّه سريع الحساب. وله ثلاثة أوجه؛ لأن ظاهر الجواب على غير إضمار أن يكون: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه فَإِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ}، أي: العذاب - واللّه أعلم - سمى به؛ لأن بعد الحساب عذاب؛ لقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ نُوقشَ الحِسَابَ عُذِّبَ "، فجعل الحساب عذابًا. ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه سريع الحساب، لا كحساب الذي يكون بين الخلق؛ لأن الخلق تشغلهم أسباب، وتمنعهم أشياء يحتاجون إلى التفكر والتدبر، واللّه يتعالى عن أن يشغله شيء أو يمنعه معنى، جل اللّه عن ذلك. وقيل: على التقريب حسابه سريع " كَأْن قد جاء لقربه، واللّه أعلم. قوله: {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: هو شهادة ربوبية، لا يتوهم له كيفية، ولا يخطر بالبال له المائية، ولا يحتمل الوصول إلى حقيقة ذلك بالتفكر، ولا أن يُحتمل بلوغُ العقل الوقوفَ على ذلك؛ إذ هو خَلْق قصر عن الإحاطة بمائية نفسه، وعن إدراك وجه قيامه بالذي ركب أو تجديد من حيث نفسه، وهو تحت جميع ما ذكرت، إذ هو خلق وحَدَث جرى عليه التدبير، ودخل تحت التقدير؛ فالربوبية أحق أن ينحسر عنها الأوهام، وتَكِلُّ عن توهم إدراكها الأفهام؛ وعلى ذلك أمر تكوين اللّه الأشياءَ، على ما شهدت الأشياء، التي هي تحت التكوين في العبارة، لا على توهمٍ في التكوين معنى تحتمله الأفهام، أو تبلغه العقول؛ وإنما هو عبارة بها جعل لا يقف على العبارات عن المتعالي عن صفات الخلق، المحقق له الجلال عن جهاتهم إلا من حيث المفهوم في الخلق، للتقريب إلى الأفهام دون تحقيق المفهوم، مما عن العبارة عنه -قدرت العبارات في الإخبار عن اللّه تعالى، عن ذلك وعلى هذا القول اللّه والرحمن وجميع ما يتعارف الخلق من الأسماء على ما يقرب من الأفهام- المراد بها لا تحقيق الحروف، أو إدخال تحت تركيب الكلام وتأليف العبارة، وهذا معنى معرفة وحدانيته من جهة ضرورات توجب المعرفة، على الوصف بالسبحانية له عن معاني جميع المعروفين، وباللّه العصمة والمعونة. ثم قد يحتمل أن يؤذن في العبارة عن ذلك بما هو ألطف وأدفع للتوهم: توهم ما لعل للقلب عند ذكر الشهادة فضل حيرة، ليس عند تلك العبارة، وذلك يخرج على وجوه في الاحتمال؛ لما يسعه عقولنا دون القطع على شيء مما وقع عندنا من الرجوع إليه واللّه - سبحانه - أعلم من ذلك بشهادة الخلائق كلهم: ما فيها من آثار الصنعة، ودلالة الربوبية، وشهادة الألوهية؛ لتكون شهادة بالذي ذكر: بأن. لا إله إلا هو، إذ في كل شيء سواه هذه الشهادة بالصفة التي جعلها هو فيه له، واللّه أعلم. والثاني: أن يكون بذاته متعاليًا عن جميع معاني من سواه من المعاني التي أدخلتها اسم مربوب، وظهر كل شيء في الحقيقة له عند توهم المعبود، لا يستحق غيرُه غير آثار الحدثيَّة وجهات المدخلة تحت القدرة والتدبير، وهو بذاته متعالٍ عن كلية الجهات والمعاني، التي كانت بها بعد أن لم تكن، وبها صارت مربوبة عبدًا، وهو متعال أيضًا عن الوصف بالجهات والمعاني؛ بل هو خلق الخلق، ولا قوة إلا باللّه. ويحتمل: شهد: علم، وكذلك مَنْ شهد الشيء فقد علم مخبره خلقته بإله العالم، وأنه واحد لا شريك له، إله الكل وخالقهم؛ ليعلموا أنما أعلمهم أنه كما أخبر، وذلك في نقض قول كثير ممن ينفون عن اللّه - تعالى - أنه عالم وشاهد كل شيء، واللّه الموفق. ويحتمل: شهد على الخلائق أن يكون عليهم القول والاعتقاد أنه لا إله غيره؛ بمعنى: قضى وأمر، واللّه الموفق.، وليس فيما جمعه اللّه بشهادة من ذكر توهم معنى لشهادته بما هو بشهادة من ذكر، مع ما قد يحتمل لما جمع إلى شهادته شهادة من ذكر وجهان: أحدهما: فضل من ذكر بما ذكر شهادته عند ذكر شهادتهم؛ على نحو قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ} الآية؛ ذكر ما له، وإن كان له الخلق كله؛ بوجهين: أحدهما: بما جعل ذلك لوجوه العبادة؛ كما أضاف إليه المساجد على أنها وغيرها له، وذكر في الملائكة الذين عنده في أمر القيامة، وإليه المصير، ونحو ذلك، إما مخصوص لما ذكر من الأوقات في فضل أو غير جعل له، أو لما كان ذلك لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نسب إليه، أو كان لكلية المعاني للعبادة؛ فمثله أمر شهادات من ذكوتها بشهادة اللّه؛ تفضلًا لأُولَئِكَ وتخصيصًا، من بين الخلائق، واللّه أعلم. والثاني: على كون الشهادة من الإخبار بحق الأمر، نسبه إليه؛ كما نسب إليه كتابة الألواح ونفخ جبريل الروح بما كان منه أمر به، فكذا فعله في الإضافة إليه، واللّه أعلم. ثم حق ذلك -فيما على التحقيق- أن يفهم ما عن اللّه ربوبيّة وعن العبد عبودية، على جميع ما يضاف إلى اللّه أنه يفهم من غير الوجه الذي يضاف إلى لخلق؛ فمثله أمر الشهادة، واللّه أعلم. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: {شَهِدَ اللّه} إلى قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه الْإِسْلَامُ} على معنى جَعْلِ {أَنَّهُ} صِلَة في الكلام، وحقيقته: شهد اللّه الذي لا إله إلا هو، والملائكة، ومن ذكر: أن الدِّين عند اللّه الإسلام، والإسلام في -الحقيقة-: جعل كلية الأشياء للّه له، لا شريك له فيها: في ملك، ولا إنشاء، ولا تقدير. والإيمان: التصديق بشهادة كلية الأشياء للّه تعالى، بأنه ربها وخالقها على ما عليها، جل عن الشركاء. وقد قيل: الإسلام: خضوع. وقيل: الإخلاص، وهو يرجع إلى ما بيّنا، وذلك كقوله: {ضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}، والإيمان: هو التصديق للّه تعالى، بما أخبر أنه رب كل شيء، وأن له الخلق والأمر. وقيل: هو التصديق بما جاءت به الرسل، وذلك يرجع إلى ما بينا أيضًا. واللّه أعلم. وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ}: قيل: هو عادل لا يجور، لا أن للقيام معنى في ذلك؛ كقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، بمعنى: كونوا عادلين مقسطين، واللّه أعلم. وقيل: قيام تولٍّ وحفظ، أو كفاية وتدبير؛ كما يقال: فلان قائم بأمر كذا، لا على توهم انتصاب؛ وعلى ذلك قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}. ٢٠وقوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ (٢٠) ولم يقل: في ماذا يحاجوك؟ فيحتمل - واللّه أعلم - أن يكون هذا. ما علم اللّه أنهم لا يؤمنون ولا يقبلون الحجة - أمره بترك المحاخة بقوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّه}؛ وكذلك: من اتبعني أسلموا أنفسهم للّه؛ كقوله: {وَتَوَلَّى عَنْهُم} {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، أيأسه عن إيمانهم، وأمره بترك المحاجة معهم. وقوله: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّه}: أي: أخلصت. ثم يحتمل قوله: {وَجْهِيَ للّه}، أي: نفسي للّه لا أشرك فيها أحدًا، ولا أجعل لغير اللّه فيها حقا، على ما جعل الكفار في أنفسهم شركاء وأربابًا. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وقيل: الإسلام أن يجعل نفسه بكليتها للّه - تعالى - سالمة، لا شركة فيها لأحد؛ كما قال: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}، والإيمان: هو التصديق لشهود الربوبية للّه من نفسه وغيره؛ لأنه ما من شيء إلا وفيه شهادة الربوبية. وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ}: أي: ومن اتبع ديني، فقد أسلموا أنفسهم للّه تعالى، أيضًا، لم يشركوا فيها شركاء وأربابًا. ويحتمل قوله: {وَجْهِيَ للّه}، أي: أسلمت أمر ديني وعملي للّه؛ وكذلك من اتبعني واتبع ديني، فقد أسلموا أعمالهم وأمورهم للّه؛ كقوله - أتعالى، -: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللّه إِنَّ اللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، وفي حرف ابن مسعود رَضِيَ اللّه عَنْهُ، " ومن اتبعني " أي: ومن معي. وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ}: قيل: الذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والأميين: العرب الذين لا يقرءون الكتاب، ولا لهم كتاب. {أَأَسْلَمْتُمْ} أنتم للّه؛ كما أسلمت أنا وجهي للّه، ومن اتبعني. {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا}: وأخلصوا وجوههم للّه وأعمالهم. {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}: أي: فإن أبوا أن يسلموا فليس عليك إلا البلاغ كقوله - تعالى -: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وكقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ}، وكقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. وقوله: {وَاللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}: هو حرف وعيد. قيل: {بَصِيرٌ}: غير غافل. وقيل: بصير بجزاء أعمالهم. وقيل: بصير بما أسروا وأعلنوا، وفي كل وجه وعد ووعيد. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ}: ولم يبين في ماذا، فقد يجوز ترك الإخبار عن القصة بوجهين: أحدهما: بعلم أهله. والثاني: بما في الجواب؛ دليله: قوله: {يَسْتَفتُونَكَ}، {يَسْأَلُونَكَ} في غير موضع، على غير البيان أنه عن ماذا؟ وهو - واللّه أعلم - داخل تحت ذينك الوجهين. ثم يحتمل أن تكون المحاجة قد كثرت فيما قال: {فَإِنْ حَاجُّوكَ}، والحجة قد ظهرت فيه؛ فكانوا يعودون إليها مرة بعد مرّة؛ عود تعنت وعناد؛ فأكرم اللّه رسوله بالإعراض عن محاجتهم، ذلك كما ظهر تعنتهم فقال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للّه} على الإعراض عن محاجتهم، واللّه أعلم. وعلى ذلك يخرج معنى الأمر بالتولي عنهم في غير موضع. ويحتمل أن تكون المحاجة في عبادة الواحد القهار والأوثان التي كانوا يعبدونها من دون اللّه؛ فبين - جل ثناؤه - في ذلك بالذي يقول لهم هو ومن اتبعه على ذلك؛ نحو قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} الآية، ونحو ذلك، واللّه أعلم. * * * ٢١وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه}: قيل: بآيات اللّه التي في كتابهم: من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وصفته. وقيل: {بِآيَاتِ اللّه}: بالقرآن، وبمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. {وَيَقْتُلُونَ}: يحتمل قوله: {وَيَقْتُلُونَ} أي. يهمون يريدون قتلهم؛ كقوله: (فَإِنْ قَتَلُوكُمْ (١) فَاقْتُلُوهُمْ)، فلو كان على حقيقة القتل، فإذا قتلونا لم نقدر على قتلهم؛ وكقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّه}، أي: إذا أردت أن تقرأ القرآن؛ وكقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} كذا، أي: إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة؛ لأنه إذا قام إلى الصلاة لم يقدر على الغسل؛ فكذلك الأول. ويحتمل أن يريد: الرضا بقتل آبائهم الأنبياء، فأضاف ذلك إليهم. وقيل: إنه أراد آباءهم الذين قتلوا الأنبياء. __________ (١) هذه قراءة حمزة والكسائي -بغير ألف- واللّه أعلم. وقيل: جاءَ أنهم كانوا يقتلون ألف نبي كل يوم، قال الشيخ: لا أعرف هذا، فإن صح فهو على أنهم تمنوا ذلك، أو قتلوا نبيا وأنصاره، فسموا أنبياء؛ لما كان ينبئ بعضهم بعضا، واللّه أعلم. وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}: لو كان أراد آباءَهم كيف يأمر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالبشارة وهم موتى؟! دل هذا على أن التأويل هو الأول: أنهم هموا بقتلهم، أو ورضوا بصنع آبائهم، واللّه أعلم. والبشارة المطلقة إنما تستعمل في الشرور والخيرات خاصة، إلا أن تكون مقيدة؛ فحينئذ تجوز في غيرها؛ كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قيدها هنا؛ لذلك قال أصحابنا - رحمهم اللّه -: أن ليست الحقائق أولى من المجاز، ولا الظاهر أولى من الباطن؛ إلا بدليل على ما صرفت أشياء كثيرة عن حقائقها بالعرف؛ من نحو: الإيمان، وغيرها. ٢٢وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (٢٢) يحتمل وجوهًا: يحتمل: أعمالهم التي فعلوا؛ قبل أن يبعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما بعث كفروا به، فبطلت تلك الأعمال. ويحتمل: ما كان لهم من الأعمال: من صلة المحارم، والقربات، والصدقات، فبطلت لما لا قوام لها إلا بالإيمان، فلما لم يأتوا به - بطلت. وقوله: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: أما في الآخرة: فثوابها، وأما في الدنيا: فحمدها وثناؤها. ويحتمل في الدنيا: ثواب الدنيا؛ كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه}: فالآيات أعلام وحجج، وهن أنواع: منها حسِّيات، نحو: الخلائق؛ في الدلالة على وحدانية اللّه تعالى. والخارجة منها عن احتمال وسع البشر يظهر عند أداء الرسل الرسالة، يشهد على أن الذي أرسلهم هو الذي تولاها؛ ليعلم بها محجة ويوضح بها رسالتهم. ومنها: السمعيات: وهي التي جاءت بها الرسل من الأنباء؛ عما لا سبيل إلى الوقوف عليها، إلا بالتعلم بلا تقدم تعليم، أو ما لا يعلم حقيقة ذلك إلا اللّه؛ ليعلم أن اللّه هو الذي أطلعهم عليها؛ ليكون آية لهم، واللّه أعلم. ومنها العقليات: وهي التي تعرف بالمحن، والبحث عنها مما بها يوصل إلى معرفة التوحيد والرسالة ونحوها، ثم قد جعلها كلها لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فمن يكفر بها يخرج على وجهين: أحدهما: على الكفران بحقيقة الآيات؛ أن يكون هن آيات لما أقيمت له، وهن من الوجوه التي ذكرت، فقضى اللّه - تعالى - لمن يكفر بها بما ذكرت؛ لتعنتهم ومعاندتهم، واللّه أعلم. والثاني: أن يريد بالكفر بالآيات: الكفر بمن له الآيات؛ فنسب إلى الآيات؛ لما بها تعلم الحقيقة، كما تنسب الأشياء إلى أسبابها التي بها يوصل إليها، فذلك معنى الكفر بالآيات، ثم كانت الكتب السماوية، وما فيها من النعوت، وما أعجزهم عن إتيان مثل القرآن، وغير ذلك من الحسّيات، واللّه أعلم. فعلى ما ذكرنا يخرج معنى الكفر بالآيات؛ لأنها بحيث يأخذها الحواس، ويحيط بها الأوهام والعقول؛ ولكن على أنهن آيات للذي دَلَّكُم عليه، أو على الكفر بالذي له آيات توجب تحقيقه، واللّه أعلم. وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} وقال في ذلك الكتاب: (لا رَيبَ فِيهِ)، وقد ارتاب فيها أكثر أهل الأرض؛ قيل: قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} قد يتكلم به على تثبيت المقول به عند قائله، لا على نفي الشك عن كل من سمعه؛ إرادة التأكيد؛ فعلى ذلك أمكن أن يخرج معناه؛ إذ هو مخاطبة على ما عليه كلامهم؛ وكذلك قولهم أبدًا على دوامه وامتداده، لا على حقيقة الأبدية؛ وكذلك يقولون: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}، وأمر قديم: لا على حقيقة القدم؛ التي تخرج على الكون بعد أن لم يكن، واللّه الموفق. والثاني: على أنه لا يرتاب فيه المتأمّل المنصف بما جعل اللّه لذلك من الآيات، وعليه من الأدلة التي من تدبر فيها - أظهرته له، حتى يصير كالمعاين، ولا قوة إلا باللّه. والثالث: أن يخبر به رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن قوم مخصوصين مما كانوا ينازعون فيه، بعد علمهم بصدقه؛ ليعرف به تعنتهم، ويؤيسه عن الطمع فيهم، ولا قوة إلا باللّه. ٢٣وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} قوله: {أَلَمْ تَرَ} إنما يتكلم به لأحد معنيين: إما للتعجب من الأمر العظيم؛ يقول الرجل لآخر: ألم تر فلانا يقول كذا، أو يعمل كذا؟! يقول ذلك له؛ لعظيم ما وقع عنده. وإمّا للتنبيه. فأيّهما كان ففيه تحذير للمؤمنين؛ ليحذر المؤمنون عن مثل صنيعهم؛ كقوله: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} من قبل الآية؛ حذر المؤمنين أن يكونوا مثل أُولَئِكَ الذين أوتوا الكتاب، ولا يخالفوا كتابهم كما خالفوا هم. وقوله: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّه}: يحتمل أن يكون أراد بالكتاب: التوراة؛ على ما قيل: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهم: " أَسْلِمُوا تَهْتَدُوا، وَلَا تَتَكَبَّرُوا " فقالوا: نحن أهدى وأحق بالهدى منك. وما أرسل اللّه رسولًا بعد موسى - عليه السلام - فقال لهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " بَيّنِى وَبَيّنَكُمُ التَورَاةُ وَالإنْجِيلُ؛ فَإِنَهُ مَكْتُوبٌ فِيهِمَا " يعني: وإني رسول اللّه، فأبوا ذلك خوفًا وإشفاقًا على ظهور كذبهم. وقيل: أراد بالكتاب: القرآن، دعوا إليه؛ لأنه مصدق لما معهم من الكتاب، فأبوا ذلك. ٢٤وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ (٢٤) الأيام التي عبد آباؤهم العجل، فظنوا أنهم إنما يعذبون بقدر ما عبد آباؤهم العجل، وأنهم لا يخلدون في النار؛ لأنهم زعموا أنهم أبناء اللّه وأحباؤه. ويحتمل أن يكون آباؤهم قالوا لهم: إنكم لا تعذبون في النار إلا قدر عبادتنا العجل؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن قد غرهم في دينهم ما كانوا يفترون، ثم خوفهم فقال: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ}. ٢٦وقوله: {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} يحتمل قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} وجهين: أحدهما: مالك ملك كل ملك في الدنيا له حقيقة الملك. والثاني: أن الملك له، يؤتي من يشاء من ملكه، وينزع ممن يشاء الملك، وهو المالك لذلك، والقادر عليه. والآية ترد على القدرية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللّه لا يعطي الكافر الملك، وهو قد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يؤتي من يشاء الملك، وقد يؤتي الكافر به الملك، فإن قالوا: أراد بـ " الملك ": الدِّين، فقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أيضا أنه ينزع، فكيف يستقيم على قولكم في الأصلح هذا. ثم في الآية تقوية لمن قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، بالألف لأنه أعم وأجمع؛ لأنه قال: {مَالِكَ الْمُلْكِ} وهو أعمّ. والثاني: أن (الملك) إنما يعبر عن الولاية والسلطان، و " المالك ": إنما يعبر عن حقيقة الملك، ومن له في الشيء حقيقة الملك - فله ولاية التغلب والتصرف فيه ولاية السلطان، ولا كل من له ولاية السلطان يكون له ولاية التغلب فيه؛ لذلك كان بالألف أقرب، ومن قرأ: " ملك يوم الدِّين " بغير ألف ذهب إلى أن هذا كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ}، ومن الملك يقال: ملك؛ لا يقال: مالك؛ لذلك كان ما ذكر، واللّه أعلم. والمالك -على الإطلاق- لا يقال إلا على اللّه؛ وكذلك الرب -على الإطلاق- لا يقال إلا على اللّه، وأما العبد فإنه يقرن الشيء إليه؛ فيقال ربّ الدار ومالكها، ورب الدابة ومالكها، واللّه أعلم. وقوله: {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}: قال قائلون: الخطاب لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وقال آخرون: الخطاب بذلك لكل عاقل؛ وهو كقوله: {قُل هُوَ اللّه أَحَدٌ} إلى آخر الآية، ذلك الخطاب لكل أحد لا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وقال الشيخ - رحمه اللّه -: ليس هو خطاب؛ ولكنه أمر بالبلاغ ليقوله كل أحد؛ لأنه لو خوطب به لم يذكر " قل " عند قراءته. وقوله: {اللّهمَّ}: قال قائلون: " اللّهم ": يعني: يا آلهتهم. وقال آخرون: (اللّه) - على القطع - " أمِّنَّا " اقصدنا بالخير، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية: فكأنه - عَزَّ وَجَلَّ - امتحن من رغب في الملك، أو نال حظًّا منه - أن يصرفوا وجه الرغبة إليه، أو يروا حقيقة ما نالوه منه؛ فيوجهون إليه الشكر، ويخضعون له بالعبادة والطاعة فيما أمرهم به؛ لينالوا شرفه ويدوم له عزه؛ وذلك كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، ليريهم أن الذي يملك هذا النوع الذي رغبت فيه أنفسكم، ومنعتكم عن القيام بحقهِ - هو الذي يملك ذلك؛ فإليه فاصرفوا سعيكم، وبشكره استديموا، الذي له اخترتم جل كدحكم؛ فإنه يملك ذلك دون غيره؛ وجملة ذلك في قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه}، ومعقول فيما عليه طبع البشر، وإليه دعاهم عقولهم: أن كل شيء تؤثره أنفسهم - كان الذي يحق عليهم طلبه عند من به يوصل إليه، واختيارهم ما به يبلغون ما يأملون من أنواع الحيل التي تقربهم إلى ذلك، فمثله يلزم أمر الملك ولذات الدنيا، وتقرر في قلوبهم وجود ذلك لقوم؛ لو كان ينال بالتدبير أو بحسن السياسة، وطلب ذلك من الوجوه التي يطلب بها البشر - لم يكن الدِّين لهم ذلك بأحق من غيرهم؛ بل كان فيمن حرموا مَنْ هم أولى بذلك، وأحق أن يكون في ذلك متبوعًا لا تابعًا من الذين نالوه؛ ليعلم أن الذي يملك دفع ذلك إلى أحد أو تمليكه أحدًا، غير الذين صرفوا كدحهم، وجعلوا له سعيهم؛ فيكون للّه في كل أمر مما عليه أمر البشر آية عظيمة، وعلامة لطيفة على تفرده بملك ذلك، وتوحُّدِهِ بالتدبير فيه لمن له بصيرة ولمن به يمتحن عباده. وعلى ذلك إذ ثبتت في ذلك أدلة التوحيد، ولزوم الاعتبار به؛ ليعرف من له الحق ثبت القول ببطلان ما ينكره كثير من المعتزلة؛ أن الملك الذي ناله الجبابرة، والسعة التي تصل إلى الكَفَرَة- لم يكن نالوه بتقدير اللّه، ولا وصلوا إليه بتدبيره؛ إذ حقه ما ذكرت من عظيم ما فيه من النعم؛ ليلزمهم به أرفع المحن وأعلى الشكر، وله أن يبلو بالحسنات والسيئات؛ كما وعد عَزَّ وَجَلَّ؛ وجملته: أن الدنيا إذ هي دار محنة ومكان ابتلاء، فليس الذي يعطى منه على الاستحقاق، ولا ما يمنع على العقوبة -وإن احتمل الدفع والمنع لذلك- ولكن له وللمحن، والمحنة أكثرها على مخالفة الأهواء، وتحمل المكاره، ويكون ذلك على إعطاء ما يعظم في أنفسهم، أو التمكين ليمتحنوا؛ فيتبين الإيثار والترك لوجه اللّه، والرغبة فيمن إليه حقيقة ملك كل شيء، أو الميل إلى من إليه أنواع التغرير والمخادعات من غير تحقيق، ولا قوة إلا باللّه. وعلى ذلك قوله: {أَنْ آتَاهُ اللّه الْمُلْكَ}، يبيِّن ذلك احتجاجه على إبراهيم - عليه السلام -، بالذي ذكر، وإغضاء إبراهيم عنه، ولو كان الذي آتاه اللّه، الملك إبراهيم - عليه السلام -، لم يكن ليجترئ على تلك المقالة بقوله: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، ولا قوة إلا باللّه. ثم على قول المعتزلة: إنّ اللّه - تعالى - إنما يشاء أن يؤتي الملك أولياءه، وينزع عن أعدائه في الجملة، فكيف ادعى لنفسه هذا السلطان والملك، وكان الوجوب على ضدّ ذلك؟! أيظن المعتزلة أن الملحدة تطعن ما هو يوجب الشبهة في حجج التوحيد بأوضح مما أعطاهم المعتزلة بهذا القول، أو يمكنهم من الطعن في نقض ما ادعت الموحدة من علو الرب وقدرته وجلاله بأبلغ مما لقنتهم المعتزلة بما لبست ثوب التوحيد، واستترت بستره في الظاهر، ثم أعطت للملحدة هذا؛ ليظنوا أنهم بلغوا ما به نقض التوحيد، ودفع حجج أهله، جل اللّه عما وصفته الملحدة، وتعالى، فبه العصمة والنجاة. ولما أعطتهم المعتزلة في الجملة سبقهم به إبليس، حتى كانوا بمثله يحتجون؛ فيظنون أنهم أحق بالنبوة منهم، بما أعطوا من الملك والثروة في الدنيا؛ فظنوا أنهم أجل عند اللّه - تعالى - وأرفع في المنزلة منهم، من لم يكن ليؤثرهم بالرسالة عليهم، لكن أُولَئِكَ حققوا حقائق النعم للّه، ونيل ما نالوا من الملك والشرف به، والمعتزلة رامت إزالة ذلك عن اللّه؛ ليزيلوا عنهم ما لزمهم من الشكر له، والطاعة لمن بعثه اللّه، وأسأل اللّه تمام نعمه في الدِّين والدنيا. وقوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، وقوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ونحو ذلك: وجوه من الأدلة: أحدها: أن يعلم أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيما يخلق - لا يخلق على معونة الأسباب، وتوليد الطبائع؛ لأن الأسباب تكون بموضع الإشكال؛ وكذلك الطباع تولد الذي في جوهره؛ نحو: الحار يولد الحرارة، والبارد يولد البرودة؛ فبين اللّه - تعالى - الإنشاء على أحوال التضاد؛ ليعلم أنه القادر على اجتماع ما شاء مما شاء بلا معونة من ذلك ولا توليد، ولا قوة إلا باللّه. والوجه الثاني: أنه جرى تقدير ذلك على ما لا تفاوت له، ولا اختلاف في اختلاف الأعوام؛ ليعلم أنها مسوَّاة على التدبير، أحكمه على ذلك العزيز الحكيم، الذي لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه أمر؛ وليعلم أن الذي قدر على ذلك واحد؛ إذ لم يختلف ولم يتناقض، ولا قوة إلا باللّه. وأيضًا، أنه قد صير كل جوهر بأحداث الآخر؛ كأنه لم يكن قط، ولا كان بقي له أثر، ثم رده بالوصف الذي كان؛ حتى لا يفوت منه شيء، حتى لا سبيل إلى العلم بالتفصيل بينهما؛ ليعلم أن قدرته على البعث، بعد أن يفنى كل الأجزاء والآثار، على ما كان، ولا قوة إلا باللّه. وأيضًا، أنه إذ بني الأمر على ما فيه من عظيم الحكمة، وعجيب التدبير - لم يجز أن يكون فعله خارجًا على العبث، ثم في رفع المحنة، وإبطال الرسالة في تعليم ما في ذلك من الحكمة، وما يلزم بمكان ذلك التدبير من الشكر والمعرفة، ثم من الترغيب فيما يملك من النعمة، والترهيب عما عنده من النقمة - إبطال الحكمة، وتقرير العالم مَع ما ذكرت على العبث، وذلك فاسد في العقول، وموجود في الجواهر عظيم حكمة منشئها، ثبت بذلك العبادة والرسالة والجزاء، ولا قوة إلا باللّه. ٢٧وقوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} إلى آخره: يحتمل وجهين: يحتمل أن تؤتي ابتداء من غير أن كان آتاهم مرة؛ وكذلك تنزع -أي تمنع- ابتداء من غير أن كان آتاهم، ثم ينزع؛ كقوله: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ}، رفع ابتداء من غير أن كانت موضوعة فرفعها؛ وكقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، إخراج الابتداء، لا أن كانوا فيها ثم أخرجهم، فعلى ذلك هذا، وعلى ذلك قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} إيلاج ابتداء، لا أن كان أحدهما في الآخر؛ كقوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، و {النَّهَارَ سَرْمَدًا}، أخبر أنه لم يجعل واحدًا منهما مؤبدا؛ وكذلك قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} إخراج ابتداء؛ أن يخلق الحي من الميت ابتداء، ويخلق الميت من الحي من غير أن كان فيه؛ ويحتمل هذا كله أن كان يؤتي الملك بعد أن لم يكن، ويعزّ بعد الذل، وينزع الملك بعد أن كان، ويذل بعد أن كان العز؛ وكذا قوله: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (٢٧) أن يدخل بعض هذا في هذا، وهذا في هذا. وقوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}: قيل: أن يخرج حي الأقوال من ميت الأفعال، وميت الأفعال من حي الأقوال، يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن؛ على ما سمى اللّه - تعالى - الكافر ميتًا، والمؤمن حيًّا في غير موضع من القرآن. وقيل: يخرج حي الجوهر من ميت الجوهر، وميت الجوهر من حي الجوهر. وقيل: يخرج الحي من المني، ويخرج المني من الحي. وقيل: البيضة من الحي، والحي من البيضة. وقيل: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة. وقوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قيل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: يعرف الخلق عدده ومقداره. وقيل: بغير تبعة ولا طلبة؛ أي: لا يحاسبهم فيما أعطاهم من بعد ما أعطاهم. ويحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، أي: لا يعطيهم بحساب أعمالهم، ولكن بتفضل، خلافًا للمعتزلة. ويحتمل: {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: في الآخرة. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " بغير هنداز - فارسية معربة ". وعن مقاتل: " لا يقدر ذلك غيره؛ يقول: ليس فوقي ملك يحاسبني، أنا الملك أُعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني ". واللّه أعلم. * * * ٢٨وقوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} يحتمل وجهين: يحتمل: {لَا يَتَخِذِ}، أي: لا يكونون أولياء لهم، وإن اتخذوا أولياء؛ بل هم لهم أعداء؛ كقوله: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .}، إلى آخر الآية. ويحتمل: على النهي، أي: لا تتخذوا أولياء؛ كقوله: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وكقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}. وقوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: اختلف فيه: قيل: إلا أن يكون بينكم وبينهم قرابة ورحم؛ فتصلون أرحامهم من غير أن تتولوهم في دينهم، على ما جاء عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما مات أبوه أبو طالب -: " إِنَّ عَمَّكَ الضَّالَّ تُوفي "، فقال له رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " اذْهَبْ فَوَارِهِ ". ويحتمل قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا} على أنفسكم {مِنْهُمْ تُقَاةً}، إلا أن تخافوا منهم فتظهروا لهم ذلك مخافة الهلاك، وقلوبكم على غير ذلك. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " التَّقِيَّةُ: التكلُّمُ بِاللسَانِ، وَقَلْبُه مُطْمَئِن بِالإيمَانِ ". وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ}: قيل: عقوبته. وقيل: نقمته؛ يقول الرجل لآخر: احذر فلانًا، إنما يريد نقمته وبوائقه؛ فعلى ذلك قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ} عقوبته. وبوائقه، التي تكون من نفسه لما يكون ذلك به لا بغيره، واللّه أعلم. ٢٩وقوله: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ... (٢٩) يحتمل: ما تخفوا من ولاية الكفار وتبدوه - يعلمه اللّه، فيه إخبار أن في قلوبهم شيئًا. ويحتمل: أن يكون أراد جميع ما يخفون ويبدون {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية. * * * ٣٠وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}: قيل: تجد ثواب ما عملت من خير حاضرًا؛ لأن عمله إنما كان للثواب لا لنفس العمل. {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}: يحتمل: ما عملت من سوء تجده مكتوبًا يتجاوز عنه؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وعد المؤمنين، وأطمع لهم قبول حسناتهم، والتجاوز عن سيئاتهم؛ كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}؛ فيجد المؤمن ثواب ما عمل من خير حاضرًا، ويتجاوز عن مساوئه. وأمَّا الكافر: فيجد عقاب ما عمل من سوء في ْالدنيا؛ كقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}، فلا يتجاوز عنهم، ويبطل خيراتهم. وقوله: {أَمَدًا بَعِيدًا}: قيل: بعيدًا من حيث لا يرى. وقيل: بعيدًا تودّ: ليت أن لم يكن، ما من نفس مؤمنة ولا كافرة إلا ودّوا البعد عن ذنبه، وأنه لم يكن. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ}: قد ذكرناه. وقوله: {وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}: إن أراد رأفة الآخرة -يعني بالمؤمنين خاصة، وإن أراد رأفة الدنيا- فهو بالكل. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}: فالرحمة من اللّه - جلّ ثناؤه - والرأفة نوعان: أحَدهما: في حق الابتداء، أن خلق خلقًا ركب فيهم ما يميزون به بين مختلف الأمور، ويجمعون بين المؤتلف، ثم لم يأخذ كلا منهم بما استحق من العقوبة؛ بل رحم وأمهل للتوبة والرجوع إليه، وهذه الرحمة رحمة عامة لا يخلو عنها عبد. ورحمة في حق الجزاء؛ من التجاوز والمغفرة وإيجاب الثواب للفعل، فهذه لا ينالها أعداؤه؛ لما يوجب التجهيل في التفريق بين الذي جعل في العقول التفريق؛ ولما يكون وضع الإحسان في غير أهله، والإكرام لمن لا يصرف الكرم به؛ ولما في الحكمة تعذيبهم تخويفًا وزجرًا عما يختارون، وينالها من تقرب واعتقد الموالاة، وكان هو أعظم في قلوبهم وطاعته من جميع لذَّات الدارين، وإن كانوا يبلون بالمعاصي على الجهالة، أو على رجاء الرحمة والعفو؛ إذ هو كذلك في شرطهم الذي به والوه، وبالغلبة، واللّه أعلم، فهي رحمة خاصة، أي: هي بالمؤمنين، وبالعباد الذين بذلوا أنفسهم له بالعبودة بحق الاختيار، وإن كانوا يغلبون على ذلك في أحوال، واللّه الموفق. ٣١وقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه (٣١) قيل: إن ناسًا كانوا يقولون في عهد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنا نحبُّ اللّه حبًّا شديدًا؛ فأنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية، وبين فيها لمحبته عَلَمًا. وقيل: إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء اللّه وأحباؤه؛ فأنزل اللّه - تبارك وتعالى -: قل يا مُحَمَّد: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه} وذلك أن من أَحبَّ ملكًا من الملوك يحبُّ رسوله، ويتبعه في أمره، ويؤثر طاعته لحبِّه، فإذا أظهرتم أنتم بغضكم لرسولي، وتركتم اتباعه في أمره، وإيثار طاعته - ظهر أنكم تكذبون في مقالتكم: نحن أبناء اللّه وأحباؤه؛ لأن من أَحبَّ آخر يحب المتصلين به ورسله وحشمه، والمحبَّة -هاهنا-: الإيثار بالفعل طاعة من يحبه فيما أحبه وكرهه، والطاعة له في جميع أمره، واللّه أعلم. ٣٢وقوله: (قُلْ أَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ ... (٣٢) قد تقدم ذكرها. ٣٣وقوله: {إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ}: اختلف فيه؛ قيل: {اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} ومن ذكر لرسالته ولنبوته. وقيل: اختارهم لدينه، وهو الإسلام. وقيل: اختارهم في النية والعمل الصالح والإخلاص للّه. قال الشيخ - رحمه اللّه -: الاصطفاء: أن يجعلهم أصفياء من غير تكدر بالدنيا، وغيرهم اختارهم لأمرين: لأمر الآخرة، ولأمر المعاش؛ ألا ترى إلى قوله: " إِنَا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ؛ نَمُوتُ مَوْتَ العَئبدِ لِسَيِّدِه ". وقال الشيخ - رحمه اللّه - أيضًا في قوله: إن اللّه اصطفى من ذكر: فهو - واللّه أعلم - ذكر اللّه أولياءه وأهل صفوته، ثم أعداءه وأهل الشقاء؛ ترغيبًا فيما استوجبوا الصفوة؛ وتحذيرًا عما به صاروا أهل الشقاء؛ إذ هما أمران يتولَّدان عن اختيار البشر، ويقومان بأسبابهما أهل المحن، لا بنفس الخلقة والجوهر؛ فصار الذكر للمعنى الذي ذكرت؛ وعلى ذلك وجه ذكر عواقب الفريقين في الدنيا، وما إليه يصير أمرهم في المعاد؛ وعلى هذا ما ضرب اللّه من الأمثال بأنواع الجواهر الطيبة والخبيثة في العقول والطبائع ترغيبًا وترهيبًا؛ وعلى هذا جميع أمور الدنيا، أنها كلها عبر ومواعظ، وإن كان فيها شهوات ولذات، وآلام وأوجاع؛ ليعلم أنها خلقت لا لها لكن لأمر عظيم، كان ذلك هو المقصود من مدبر العالم أن بالعواقب يذم أهل الاختبار ويحمدون؛ فجعل اللّه عواقب الحكماء وأهل الإحسان حميدة لذيذة؛ ترغيبًا فيها، وعواقب السفهاء وأهل الإساءة دميمة وجيفة؛ تزهيذا فيها؛ فخرج جميع فعل اللّه على الحكمة والإحسان، وإن كانت مختلفة في اللذة والكراهة؛ لأنه كذلك طريق الحكمة في الجزاء، وفي ابتداء المحنة، إلا أن المحنة تكون مختلفة، والجزاء نوع لما هو كذلك في الحكمة والإحسان؛ إذ كذلك سبق من أهله الاختيار والجزاء على ما اختاره من له وعليه حكمة وإحسان؛ أعني: بالإحسان فيما يجوز الامتحان بلا جزاء بحق الشكر لما أولى وأبلى، والحكمة فيما كان لازمًا ذلك في التدبير، ولا قوة إلا باللّه. ٣٤وقوله: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ (٣٤) قيل: بعضها من بعض في النسب من ذرية آدم، ثم من ذرية نوح، ثم من ذرية إبراهيم، عليهم السلام. وقيل: بعضهم من ذرية بعض. وقيل: بعضهم من جوهر بعض؛ فلا تتكبروا؛ كقوله: {وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}، منع الحر عن التعظيم على العبد. واختلف في الذرية: قَالَ بَعْضُهُمْ: " الذرية ": الأولاد والآباء؛ كقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ}، وكانوا الأولاد والآباء، والذرية مأخوذة، وهو الخلقة. وقِيل: " الذرية: الأولاد خاصة، يقال: ذرية فلان، إنما يراد، أولاده خاصة؛ دليله قوله {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}. وقوله: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ}. واختلف في الآل؛ قيل: آل الرجل: المتصلون به. وقيل: آل الرجل: أتباعه. وقيل: أقرباؤه. وروي أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُل تَقِي فَهُوَ مِنْ آلِي ". وقيل: إن عمران من ولد سليمان بن داود. ٣٥وقوله: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا (٣٥) لما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه اصطفي آل عمران واختارهم على سائر العالمين، وكان أقل ما في صفوته واختياره أن جعلت امرأة عمران ما في بطنها مُحَرَّرًا. {والْمُحَرَّر}: هو العتيق عن المعاش بالعبادة. وقيل: " الْمُحَرَّر " هو الذي يعبد اللّه - نعالى - خالصًا مطيعًا، لا يشغله شيء عن عبادته، فارغًا لذلك، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ. وقيل: " الْمُحَرَّر " هو الذي يكون للّه صافيًا. وقيل: " الْمُحَرَّر " هو مَنْ خَدَمَ المسجد. وقوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} جعلت ما في بطنها للّه خالصًا، لم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم، وذلك من الصفوة التي ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - وهكذا الواجب على كل أحد أنه إذا طلب ولدًا أن يطلب للوجه الذي طلبت امرأة عمران وزكريا، حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}، وما سأل إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، وكقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا. . .} الآية هكذا الواجب أن يطلب الولد لا ما يطلبون من الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم. وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. أي: تقبل مني قرباني، وما جعلت لك خالصًا، إنك أنت السميع لنذري، العليم بقصدي في التحرير. وقيل: {السَّمِيعُ}: المجيب لدعائي، (العليم) بنيتي. ٣٦وقوله: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى (٣٦) ومعنى قولها: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} -مع علمها أن اللّه عالم بما في بطنها وبما وضعتها- وجهان: أحدهما: اعتذارًا لما لم يكن يُحَرَّر في ذلك الزمان إلى الذكور من الأولاد؛ فاعتذرت: إني ما وضعت لا يصلح للوجه الذي جعلت. والثاني: أن الإنسان إذا رأى شيئا عجيبا قد ينطق بذلك، وإن كان يعلم أن غيره علم ما علم هو، وأنه رأى مثل ما رأى هو. أو يحتمل أن طلبت ردّها إلى منافعها إذا وضعت الأنثى؛ لما رأت الأنثى لا تصلح لذلك. ويحتمل قولها: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}: التعريض لإجابة اللّه - تعالى - لها فيما قصدت من طاعته بالنذور إن لم تكن صلحت لما قصدت، وقد أجيبت في ذلك بقوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} نحو ما يتقبل لو كان ذكرًا في الاختيار والإكرام، وجعلها خير نساء العالمين. وقوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}. اختلف فيه: قيل: إن ذلك قولها، قالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} على إثر قولها: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}؛ لما تحتاج الأنثى إلى فضل حفظ وتعاهد، والقيام بأسبابها ما لا يحتاج الذكر. وقيل: إن ذلك قول قاله - عَزَّ وَجَلَّ - لما قالت: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، جوابًا لها، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} فيما قصدت، واللّه أعلم. وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}. فيه دليل على أن تسمية الأولاد إلى الأمهات في الإناث دون الآباء، ثم التجأت إلى اللّه تعالى، حيث أعاذتها به -وذريتَها- من الشيطان الرجيم. وفيه دلالة أن الذكور يكونون من ذرية الإناث؛ لأنه لم يكن منها إلا عيسى، عليه السلام. ٣٧وقوله: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ (٣٧) يحتمل قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}: أن أعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم على ما سألت. ويحتمل أن جعلها تصلح للتحرير ولما جعلت، وإن كانت أنثى. وقوله: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}. يحتمل -أيضًا- نباتًا حسنًا؛ أن لم يجعل للشيطان إليها سبيلًا. ويحتمل أن ربَّاها تربية حسنة؛ أن لم يجعل رزقها وكفايتها بيد أحد من الخلق؛ بل هو الذي يتولى ذلك لما يبعث إليها من ألوان الرزق، كقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}، وكقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا}. وقوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}. فيه لغتان: إحداهما: بالتخفيف، والأخرى: بالتشديد؛ فمن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه ضمَّها زكريا إلى نفسه، ومن قرأ بالتشديد؛ فمعناه: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ضمَّها إلى زكريا. وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}. قيل: وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - قال زكريا: {أَنَّى لَكِ هَذَا}. قيل فيه بوجهين: قيل: استخبار عن موضعه، أو كيف لك هذا، على الاستيصاف؛ إنكارًا عليها واتهامًا؛ لما لا يدخل عليها غيره، ولا يقوم بكفايتها سواه، فوقع في قلبه أنَّ أحدًا من البشر يأتيها بذلك. وقيل: إنه قال ذلك؛ تعجبًا منه لذلك لما رأى من الفاكهة والطعام في غير حينه غير متغير؛ فقال: {أَنَّى لَكِ هَذَا}؛ تعجبًا منه لذلك. ثم قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. أي: يرزق من حيث لا يحتسب. * * * ٣٨وقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} قيل: فعند ذلك دعا زكريا ربه لما كانت نفسه الخاشية تحدث بالولدان تهب له، لكنه لم يدعو لما رأى نفسه متغيرة عن الحال التي يطمع منها الولد، فرأى أن السؤال في مثل ذلك لا يصلح؛ فلما رأى عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف غير متغيرة عن حالها - علم عند ذلك أن السؤال يصلح، وأنه يجاب للدعاء في غير حينه، فذلك معنى قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}، واللّه أعلم. ويحتمل أنه لما رأى ما أكرمت امرأة عمران في قبول دعوتها وتبليغ ابنتها في الكرامة المبلغ الذي رأى فيها مما لعل أطماع الأنفس لا تبلغ ذلك - دعا اللّه - جل جلاله - أن يكرمه ممن يبقى له الأثر فيه والذكر، وإن كانت تلك الحال حال لا تطمع الأنفس فيما رغب - عليه السلام - مع ما كان يعلم قدرة اللّه - تعالى - على ما يشاء من غير أن كان يحس على طلب الإكرام بكل ما يبلغه قدره، حتى رأى ما هو في الأعجوبة قريب مما كانت نفسه تتمنى، واللّه أعلم بالمعنى الذي سأل. وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}. أي: مجيب الدعاء. ٣٩وقوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ (٣٩) دل هذا أن المحراب هو موضع الصلاة. {أَنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}. فيه دلالة لقول أصحابنا - رحمهم اللّه - أن الرجل إذا حلف ألا يبشر فلانًا فأرسل إليه غيره يبشره - حنث في يمينه؛ لأنه هو البشير، وإن كان المؤدي غيره؛ ألا ترى أن البشارة -هاهنا- أضيفت إلى اللّه - تعالى - فكان هو البشير؛ فكذلك هذا. وقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه}. {بِكَلِمَةٍ} قيل: عيسى - عليه السلام - كان بكلمة من اللّه، فيحيى صدقه برسالته. وقيل: أول من صدق عيسى - يَحْيَى بن زكريا، ولهذا وقع على النصارى شبهه؛ حيث قالوا: عيسى ابن اللّه، بقوله: {بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّه}، {وَرُوحٌ مِنْهُ}، ظنوا أنه في معنى (فيه)؛ لكن ذلك إنما يذكر إكرامًا لهم وإجلالا، ولا يوجب ذلك ما قالوا؛ ألا ترى أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه}، ونحو ذلك، لم يكن فيه أن النعمة منه في شيء؛ فعلى ذلك الأول. وقوله: {وَسَيِّدًا}: قيل: سَيِّدًا في العلم والعبادة. وقيل: السيِّد: الحكيم هاهنا. وقيل: السيد: الذي يطيع ربه ولا يعصيه، فكذلك كان صلوات اللّه عليه. وقيل: السيد: الحسن الخلق. وقيل: السيد: التقي. وقيل: اشتق يَحْيَى من أسماء اللّه - تعالى - من: " حي "، واللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الذي سماه يحيى؛ وكذلك عيسى - روح اللّه - هو الذي سماه مسيحًا؛ بقوله: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، وذلك إكرامًا لهم وإجلالًا، على ما سمى إبراهيم: خليل اللّه، ومُحَمَّد: حبيب اللّه، وموسى: كليم اللّه؛ إكرامًا لهم وإجلالًا؛ فكذلك الأول. وجائز أن يكون " يَحْيَى " بما حيي به الدِّين. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {بِيَحْيَى}: قيل: سماه به؛ لما حيي به الدِّين والمروءة، أو حيي به العلم والحكمة، أو حيي به الأخلاق الفاضلة، والأفعال المرضية؛ ولهذا - واللّه أعلم - سمي سيدًا؛ لأن السؤدد في الخلق يكتسب بهذا النوع من الأحوال. وسمي مسيحًا بما مسح بالبركة، أو يبارك في كل شيء يمسحه بيده؛ نحو أن يبرأ به وَيَحْيَى، واللّه أعلم. وحقيقة السؤدد أنه يكتسب بالأخلاق الحسنة، والأفعال المرضية، وجائز أن يكون - عليه السلام - جمعهما فيه؛ فسمي به، واللّه أعلم. والأصل في هذا ونحوه: أن الأسماء إن جعلت للمعارف، ليعلم بها المقصود - فالكف عن التكلف في المعنى الذي له سموا له أسلم، وإن كان في الجملة يختار ما يحسن منه في الأسماع، دون ما يقبح على المقال، أو على الرغبة في ذكره على ما يختار من كل شيء، واللّه أعلم. وقوله: {وَحَصوُرًا}: قيل: الحصور: الذي لا ماء له ولا شهوة. وقيل: هو المأخوذ عن النساء، والممنوع منهن. وقيل: هو الذي لا يشتهي النساء. وكله واحد، واللّه أعلم. {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}: ذكر أنه من الصالحين، وإن كان كل نبي لا يكون إلّا صالحًا؛ على ما سمي كل نبي صديقا، وإن كان لا يكون إلا صديقًا، ووجه ذكره صالحًا: أنه كان يتحقق فيه ذلك؛ لأن غيره من الخلق، وإن كان يستحق ذلك الاسم - إنما يستحق بجهة، والأنبياء - عليهم السلام - يتحقق ذلك فيهم من الوجوه كلها. والثاني: دعاء أن يلحق بالصالحين في الآخرة، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: ما ذكر في كل نبي أنه كان من الصالحين - يخرج على أوجه: على جميع الصلاح، وعلى البشارة لهم في الآخرة أنهم يلحقون بأهل الصلاح، وعلى أنهم منهم؛ لولا النبوة؛ ليعلم أن النبوة إنما تختار في الدِّين لمن تم لهم وصف الصلاح، وعلى الوصف به أنهم كذلك على ألسن الناس، وأن الذين ردوا عليهم - ردّوا بعد علمهم بصلاحهم، أو على الوصف به كالوصف بالصديق، وإن كان كل نبي كذلك؛ مع ما لعل لذلك حد عند اللّه؛ لذلك أراد لم يكن أطلع غيره عليه، واللّه أعلم. وجائز أن يكون " يَحْيَى " بما حي به الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية؛ ولذلك سمى سيدًا؛ وجملته أن للّه أن يسمي من شاء بما شاء، وليس لنا تكلف طلب المعنى، فيما سمى اللّه الجواهر به؛ إذ الأسماء للتعريف، لكن يختار الأسماء الحسنة في السمع على التفاؤل، واللّه أعلم. وقوله: وروح اللّه وكلمته - كقوله: خليل اللّه وحبيبه، وذبيح اللّه، وكليم اللّه، ليس على توهم معنى يزيل معنى الخلقة، ويوجب معنى الربوبية أو النبوة، وذلك على ما قيل: من بيوت اللّه، وعلى ما قيل لدينه: نور اللّه، وقيل لفرائضه: حدود اللّه، لا على معنى يخرج عن جملة خلقه؛ بل على تخصيص لذلك في الفضل على أشكاله، وذلك كما قال لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، وقال في الجملة: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه}، لا على ما توهمته النصارى في المسيح، فمثله الأول، ولا قوة إلا باللّه. وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}: بشارة ببقائه إلى أن يصير كهلًا. وفيه وجه آخر: وهو أن في ذلك بيان أن كلامه في المهد كلام مختار؛ إذ ذلك وصف كلام الكهل؛ ليعلم أن قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللّه}، إلى آخره: إنما هو حقيقة الخضوع للّه، والإنباء عنه، لا على خلقه؛ كنطق الجوارح في الآخرة، واللّه أعلم. أو لتكون آية له دائمة؛ إذ لم يكن على ما عليه أمر البشر: من التغيير، على أن آيات الجوهرية تزول عند الفناء، نحو العصا فيما تعود إلى حالها، واليد، ونحو ذلك؛ ليخص هو بنوع من الآيات الحسية بالدوام، ولا قوة إلا باللّه. ٤٠(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ (٤٠) يحتمل هذا الكلام وجوهًا: أحَدها: على الإنكار، أي: لا يكون، لكن هاهنا لا يحتمل؛ لأنه كان أعلم باللّه وقدرته أن ينطق به، أو يخطر بباله. والثاني: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} أي: كيف وجهه ولسببه، وكذلك قوله: {أَنى لَك هَذَا}، وقوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا}، {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا}، أي: كيف وجهه وما سببه. والثالث: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} في الحال التي أنا عليها، أو أردّ إلى الشباب؛ فيكون لي الولد. هذان الوجهان يحتملان، وأمَّا الأول فإنه لا يحتمل. وقوله: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} وذكر في سورة مريم: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}: ذكر على التقديم والتأخير. وكذلك قوله: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} أو {ثَلَاثَ لَيَالٍ}، والقصة واحدة؛ ذكر على التقديم والتأخير، وعلى اختلاف الألفاظ واللسان؛ دل أنه ليس على الخلق حفظ اللفظ واللسان؛ وإنما عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها، وباللّه التوفيق، ويعلم أنه لم يكن على كلا القولين، ولم يكن بهذا اللسان. وقوله: {قَالَ كَذَلِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}، وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ}، وإن اختلف في اللسان. ٤١وقوله: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً (٤١) طلب من ربِّه آية؛ لما لعله لم يعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة، أو وساوس؛ فطلب آية ليعرف أن تلك البشارة بشارة الملائكة من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا بشارة إبليس؛ لأنه لا يقدر أن يفتعل في الآية؛ لأن فيها تغير الخلقة والجوهر، وهم لا يقدرون على، ذلك، ولعلهم يقدرون على الافتعال في البشارة؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات اللّه على نبينا وعليه - لما نزل به الملائكة لم يعرفهم بالكلام وهابوه، حتى قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ}، حتى قالوا: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}، فذهب ذلك الروع منه بعد ما أخبروه أنهم ملائكة، رسل اللّه، أرسلهم إليه. وقوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} قال بعض أهل التفسير: حبس لسانه عقوبة له بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ}؛ لكن ذلك خطأ، والوجه فيه: منعه من تكليم الناس، ولم يمنعه عن الكلام في نفسه؛ ألا ترى أنه أمره أن يذكر ربَّه، ويسبح بالعشي والإبكار؛ كقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}؟!. ويحتمل أن يكون أراه آية في نفسه من نوع ما كان سؤاله؛ إذ كان عن العلم بالولد في غير حينه، فأراه بمنع اللسان عن النطق، وأعلى أحوال الاحتمال؛ ليكون آية للأوّل. وقيل في قوله: {اجْعَلْ لِي آيَةً}: أنه طلب آية؛ لجهله بعلوق الولد، وجعلها ليعرف متى يأتيها؟. وقوله: {إِلَّا رَمْزًا}: قيل: الرّمز: هو تحريك الشفتين. وقيل: هو الإيماء بشفتيه. وقيل: هو الإشارة بالرأس. وقيل: هو الإشارة باليد، واللّه أعلم بذلك. ٤٢وقوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ}: قال أهل التفسير: هو جبريل - عليه السلام - لكن ذلك لا يعلم إلا بالخبر، فإن صح الخبر - فهو كذلك، وإلا لم يقل من كان مِنَ الملائكة قال ذلك. وقوله: {إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ}: أن صفاها لعبادة نفسه، وخصها له، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء؛ فيكون ذاك صفوتها. وقيل: اصطفاها بولادة عيسى - عليه السلام - إذ أخرج منها نبيًّا مباركًا تقيًّا، على خلاف ولادة البشر. وقوله: {وَطَهَّرَكِ}: قيل: من الآثام والفواحش. وقيل: وطهرك من مس الذكور، وما قذفت به. {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}: هو ما ذكرنا من صفوتها؛ إذ جعلها لعبادة نفسه خالصا، أو ما قد ولدت من ولد من غير أب، على خلاف سائر البشر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " خَط رَسُولُ اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَربَعَةَ خُطُوط، ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ؟ قَالوُا: اللّه وَرَسُولُهُ أعْلَمُ، قَالَ: " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنةِ: خَدِيجَةُ، وَفَاطِمَةُ، وَمَريَمُ، وآسيَةُ امْرَأةُ فِرْعَونَ ". وكذلك روى أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -قال: " خَيرُ نِسَاءِ العَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَريَمُ بِنْتُ عِمرَانَ، وآسيَةُ بِنْتُ مُزَاحِم، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ". ٤٣وقوله: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ (٤٣) يحتمل وجهين: الأمر بالقنوت: القيام، ثم الأمر بالسجود، أي: الصَّلاة، ثم الأمر بالركوع مع الراكعين؛ وهو الصلاة بجماعة؛ ففيه الأمر بالصلاة بالجماعة، على ما هو علينا؛ لأنه قال: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}؛ وعلى ذلك روي في الخبر: أنه سئل عن أفضل الصَّلاة؟ فقال: " طُولُ القُنُوتُ ". ويحتمل أنه الأمر بالركوع، ثم بالسجود؛ فيدل أن السجود -وإن كان مقدمًا ذكره على الركوع- فإنه ليس في تقديم ذكر شيء على شيء، ولا تأخير شيء عن شيء في الذكر دلالة وجوب الحكم كذلك. وقيل: القنوت: هو الخضوع والطاعة؛ كقوله: {وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ} أي: خاضعين مطيعين. فَإِنْ قِيلَ: كيف أُمِرَتْ بالركوع مع الراكعين؟! قيل: كانوا - واللّه أعلم - ذوي قرابة منها ورحم؛ ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمها وإمساكها، حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه، وأنه الأحق بذلك؟! دل أن بينهم وبينها رحمًا وقرابة. وقيل في قوله: {اقْنُتِي}: أي: أطيلي الركوع في الصَّلاة واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: يحتمل {مَعَ الرَّاكِعِينَ}: أي: ممن يركع ويخضع له بالعبادة، لا على الاجتماع - واللّه أعلم - كيف كان الأمر في ذلك؟. ٤٤وقوله: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (٤٤) أي: من أخبار الغيب لم تشهده أنت يا مُحَمَّد ولم تحضر، بل نحن أخبرناك وذكرناك عن ذلك. ثم في ذلك وجوه الدلالة: أحدها: أراد أن يخبره عن صفوة هَؤُلَاءِ وصنيعهم؛ ليكون على علم من ذلك. والثاني: دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أخبر على ما كان من غير أن اختلف إلى أحد، أو أعلمه أحد من البشر على علم منهم ذلك؛ دل أنه إنما علم ذلك باللّه - عَزَّ وَجَلَّ -. والثالث: أن يتأمل وجه الصفوة لهم؛ أنهم بما نالوه؛ فيجتهدوا في ذلك، واللّه أعلم. وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أن ظهر ذلك بإلقاء الأقلام. وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} الآية. قيل: إنهم ألقوا أقلامهم على جرية الماء، فذهبت الأقلام كلها مع الجرية؛ إلا قلم زكريا؛ فإنه وقف على وجه الماء. وقِيل: طرحوا أقلامهم في الماء، وكان من شرطهم أن من صعد قلمه عاليًا مع الجرية، فهو أحق بها، ومن سفل قلمه مع الجرية فهو المقروع، فصعد قلم زكريا، وتسفلت أقلامهم؛ فعند ذلك ضمها زكريَّا إلى نفسه. ثم من الناس من احتج بجواز القرعة والعمل بها - بهذه الآية؛ حيث ضمها زكريا -مريم- إلى نفسه، لما خرجت القرعة له؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره؛ لوجهين: لحق الوحي. والثاني: لظهور إعلام في نفس القرعة؛ ما يعلم أنه كان باللّه ذلك لا بنفسه؛ كارتفاع القلم على الماء، ومثل ذلك لا يكون للقلم، والمحق من المبطل، وفيما بين سائر الخلق؛ لدفعهم التهم؛ فهي لا تدفع أبدا. ويحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك، أو علموا ذلك بالوحي، فليس اليوم وحي؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم، واللّه أعلم. أو كان ذلك آية، والآية لا يقاس عليها غيرها؛ نحو: قبول قول قتيل بني إسرائيل - آية، ليس به معتبر في جواز قول قتيل آخر قبل الموت. ٤٥وقوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ (٤٥) يحتمل: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}: أن قال: " كن " - فكان من غير أب ولا سبب، وسائر البشر لم يكونوا إلا بالآباء والأسباب: من النطفة، ثم من العلقة، ثم من مضغة مخلقة على ما وصف - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه، وكان أمر عيسى - عليه السلام - على خلاف ذلك. ويحتمل {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}: ما ذكر أنه كلم الناس في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ} وذلك مما خص به عيسى، وهو بكلمة من اللّه قال ذلك. فَإِنْ قِيلَ: ما معنى قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} والكهل: مما يكلم الناس؟ قيل: لأن كلامه في المهد آية، والآية لا تدوم؛ كقوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ} الآية، وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد وتنطق أبدًا، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد - وإن كانت آية - فإنه ليس بالذي لا يدوم، ولا يكون إلا مرّة. والثاني: أمنٌ من اللّه لمريم، وبشارةٌ لها عن وفاته إلى وقت كهولته، واللّه أعلم. وقوله: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ}. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " المسيح: المبارك "، أي: مسح بالبركة. وقيل: سمي مسيحًا؛ لأنه كان يمسح عين الأعمى والأعور فيبصر. وقيل: المسيح: العظيم؛ لكنه - واللّه أعلم - بلسانهم؛ فيسأل: ما المسيح بلسانهم. وقوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا}: بالمنزلة، ومكينًا في الآخرة، {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} في الدرجة والرفعة، ومن كان وجيهًا في الدنيا والآخرة فهو مقرب فيهما. ٤٧وقوله: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ (٤٧) عرفت مريم أن الولد يكون بمس البشر، وعلمت -أيضًا- أنها لا تتزوج، ولا يمسها بشر أبدًا؛ لأنها قالت: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك، فلعله يمسها في حادث الوقت؛ فيكون لها منه الولد، فلما لم يقل لها يمسسك؛ ولكن قال: {كَذَلِكِ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبدًا؛ لأنها كانت محررة للّه، مخلصة له في العبادة، واللّه أعلم. ويحتمل قوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} أي: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة؛ لأنها بشرت أن يهب لها ولدًا، فقالت: من أي وجه يكون لي ولد بالهبة، {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟ ثم قال: {كَذَلِكِ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} تأويله: ما ذكر في سورة مريم حيث قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} الآية، ثم قال: {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أي: خلق الخلق عَلَيَّ هَيِّنٌ: بِأبٍ، وبغير أبٍ، وبمس بشر، وبغير مس، وبسبب، وبغير سبب؛ على ما خلق آدم بغير أب ولا أم؛ فعلى ذلك يخلق بتوالد بعض من بعض، وبغير توالد بعض من بعض؛ كخلق الليل والنهار، يخلق بلا توالد أحدهما من الآخر؛ فكذلك يخلق لك ولدًا من غير أب ولا مس بشر، وباللّه الحول والقوة. وقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: أي: إذا قضى أمرًا بتكوين أحد، أو بتكوين - فإنما يقول له: كن، لا يثقل عليه، ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم؛ كقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: خلق الخلق كلهم ابتداء، وبعثهم بعد الموت - كخلق نفس واحدة؛ أن يقول: {كُنْ فَيَكُونُ}؛ وإنَّمَا يثقل ذلك على الخلق ويصعب؛ لموانع تمنعهم وأشغال تشغلهم، فاقا اللّه - سبحانه وتعالى - عن أن بشغله شغل، أو يمنعه مانع، أو يحجب عليه حجاب. وقوله: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: ذكر - واللّه أعلم - هذا الحرف؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف أو جزء منه يعبر فيفهم معناه، لا أن كان منه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف أو نون، أو حرف، أو هجاء، أو صفة يفهم ويعرف حقيقته، أو يوصف هو بمعنى من معاني كلام الخلق أو صفاتهم، أو يكون لتكوينه وقت أو مدة أو حال، أو يكون تكوين بعد تكوين، على ما يكون من الخلق، إنما هو أوجز حرف يفهم معناه، بالعبارة إخبار منه - عَزَّ وَجَلَّ - الخلق عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته. * * * ٤٨وقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ}: بشارة منه لها -أيضًا-: أنه يعلمه الكتاب، ثم اختلف في {الْكِتَاب}؛ قيل: {الْكِتَاب}: الخط هاهنا يخط بيده، ويحتمل {الْكِتَاب}: الكتاب نفسه: التوراة والإنجيل، ويحتمل {الْكِتَاب}: كتب النبيين. {وَالْحِكْمَةَ}؛ قيل: الحكم بين الخلق، وقيل: الفقه، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: السنة. {وَالْحِكْمَةَ}: هي الإصابة، وقد ذكرناه فيما تقدم. ٤٩وقوله: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٩) أي: أجعله رسولًا إلى بني إسرائيل، وهذا -أيضًا- بشارة لها منه، وكان عيسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من أوَّل أمره إلى آخره آية؛ لأنه ولد من غير أب، على خلاف ما كان سائر البشر، يكلم الناس في المهد، وأقرَّ بالعبودية له، ولم يكن لأحد من البشر ذلك، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وأنباء ما كانوا يأكلون ويدخرون، وما كان له مأوى يأوى إليه، ولا عيش يتعيش هو به، والبشر لا يخلو عن ذلك، ثم ألقى شبهه على غيره؛ فقتل به، ورفع هو إلى السماء؛ وذلك كله آية، وكانت آياته كلها حسية يعلمها كل أحد، وآيات رسول اللّه - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - كانت حسية وعقلية: أمَّا الحسية: فهو انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وكلام الشاة المسمومة، وقطع مسيرة شهر في ليلة، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها؛ هذه كلها كانت حسية. وَأفَا العقلية: فهذا القرآن الذي نزل عليه، وهو بين أظهرهم، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء، يتلى عليهم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ. . .} الآية، وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}، فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله، لجهدوا كل جهد، وتكلفوا كل تكلف؛ حتى يطفئوا هذا النور؛ ليتخلصوا عن قتلهم، وسبي ذراريهم، واستحياء نسائهم، فلما لم يفعلوا ذلك - دَلَّ أنه كان آية معجزة، عجزوا جميعًا عن إتيان مثله، فأي آية تكون أعظم من هذا؟! وباللّه المعونة والنجاة. وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}: أي: بعلامة أني رسول منه إليكم، ثم فسَّر الآية، فقال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّه} قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} هو على المجاز، لا على التخليق والتكوين؛ لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق، وإنَّمَا هو من فعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأن التخليق: هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وذلك فعل اللّه - تعالى - لا يقدر المخلوق على ذلك؛ فهو على المجاز؛ ألا ترى أنه قال في آخره: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، وليس إلى الخلق تحليل شيء أو تحريمه، إنما ذلك إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فمعناه: أني أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم؛ فعلى ذلك قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أي: أظهر لكم بيدي ما خلق اللّه من الطين طائرًا؛ فيكون آية لرسالتي إليكم؛ وكذلك الآيات ليس مما ينشئ الأنبياء، ولكن تظهر على أيديهم. وإنَّمَا لم يجز إضافة التخليق إلى الخلق؛ لما ذكرنا: أنه إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وذلك ليس إلى الخلق. والثاني: أن التخليق هو إخراج الفعل على التقدير، وفعل العبد إنما يخرج على تقدير اللّه، لا يخرج على تقديره؛ لذلك لم يجز إضافة ذلك إلى الخلق، إلا على المجاز. واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصَّة، وآيات الأنبياء - عليهم السلام - هي التي تخرج على خلاف الأمر المعتاد فيما بينهم، يجريها اللّه - سبحانه وتعالى - على أيديهم؛ ليعلموا أن ذلك لم يكن بهم، إنما كان ذلك بالمُرسِل الذي أرسلهم؛ ليدل على صدقهم، ولا قوة إلا باللّه. وإبراء الأكمه والأبرص " هو من آيات النبوة؛ لخروجها عن الأمر المعتاد فيما بينهم. فَإِنْ قِيلَ: إن إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص من آيات النبوة؛ لعجزهم عن إتيان مثله، وخروجه عن المعتاد فيما بينهم، ولكن أنباء ما يأكلون وما يدخرون لِمَ كان من آيات النبوة، ويجوز أن يكون ذلك من منجم؟ قيل: له جوابان -إن كان يكون مثل ذلك بالنجوم-: أحَدهما: أنه مضموم إلى الآيات؛ فصار آية بما ضم إليها. والثاني: أن هذا -وإن كان يعلم بالنجوم- فعيسى - عليه السلام - لما علم قومه أنه لم يختلف إلى أحد في تعلم علم النجوم، ثم عرف ذلك وأنبأهم بذلك - دل أنه إنما علم ذلك باللّه؛ فكان آية، وباللّه التوفيق. مع ما كان في قومه أطباء وحكماء وبصراء - لم يَدَّعِ أحد شيئًا من هذه الآيات التي جاء بها عيسى - عليه السلام - دل ترك اشتغالهم في ذلك على إقرارهم بأنها آية سماوية، لكنهم تعاندوا وكابروا فلم يؤمنوا به. قال الشيخ - رحمه اللّه -: الخلق: اسم المجاز والحقيقة، والتخليق: فعل حقيقة خاصة. وقوله {بِإِذْنِ اللّه}. قيل: بأمر اللّه. وقيل: بمشيئة اللّه. واختلف في " الأكمه ": عن مجاهد، قال: " الأكمه: الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " الأكمه: الأعمى الممسوح العين "، وقيل: هو الذي ولد من أمه أعمى لا يتكلف أحد من الأطباء إبراء مثله، ولا اشتغل بدوائه، دل أنه عرف ذلك باللّه تعالى، والأطباء يتكلفون في دفع العلل العارضة الحادثة، وأما ما كان خلقة من جِبِلَّة - فلا. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: قيل: قال: إن هذا آية لكم؛ إن كنتم صدقتم أني رسول اللّه إليكم. وقيل: قال: إن في ذلك لآية لكم في رسالتي؛ إن كنتم مؤمنين بالمُرسِل. ويحتمل (إن كنتم تُؤمِنُونَ) أي: بالآيات أنها تُعَرِّفُ مَا جُعِلْنَ له، واللّه أعلم. ٥٠وقوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... (٥٠) الآية: ما ذكر. وقوله: {فَاتَّقُوا اللّه}: يحتمل: فاتقوا اللّه في تكذيبي في الآيات، و {وَأَطِيعُونِ} في تصديقي. ٥١وقوله: (إِنَّ اللّه رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) ظاهر، قد ذكرنا فيما تقدم. ٥٢وقوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}: قيل: أَحَسَّ: علم. وقيل: أحسَّ: رأى؛ وهو كقوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ}. وقيل: أحسَّ، أي: وجد، وهو قول الكيساني، وقيل: عرف؛ وهو كله واحد. ثم قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه}: يحتمل - واللّه أعلم - أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ تكون لهم آية لرسالته وصدقه؛ ففعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من كفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا، فكفروا به؛ فعلم أن العذاب ينزل عليهم؛ فأَحبَّ أن يخرج بمن آمن به؛ لئلا يأخذهم العذاب، فقال: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه}؛ يؤيد ذلك قوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ. . .} الآية. ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد همُّوا على قتله، قال عند ذلك: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللّه}؛ أحبَّ أن يكون معه أنصار مع اللّه ينصرونه؛ فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم اللّه على أعدائهم؛ ليظهر المؤمنون من غيرهم، وهو قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}. ومن الناس من يقول: إنه لم يكن في سُنَّةِ عيسى - عليه السلام - الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}، أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم؛ فلا يخلو إمَّا أن يكون قتالًا أو غلبة بحجة أو بشيء ما يقهرهم، واللّه أعلم. وقوله: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه}: اختلف في الحواريين: قَالَ بَعْضُهُمْ: هم القصَّارون الغسَّالون للثياب، ومبيضوها. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " إِنَّمَا سُمُّوا الحَوَارِيينَ؛ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِم "، وكانوا يصيدون السَّمك. وقيل: الحواري: الوزير، والناصر، والخاص؛ على ما جاء عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِن لِكُلِّ نَبِي حَوَارِيِّينَ، وَحَوَارِيي فُلان وفُلان "، ذكر نفرًا من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين، - وإنما أراد - واللّه أعلم - الناصر والوزير. ويحتمل أن يكونوا سمُّوا بذلك؛ لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى - عليه السلام -. كذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - واللّه أعلم بهم. وقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه} إن اللّه يتعالى عن أن يُنصَر، ولكن يحتمل {نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه}، أي: أنصار دين اللّه، أو أنصار نبيه، أو أنصار أوليائه؛ تعظيمًا. وكذلك قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}: إن اللّه لا يُنْصَرُ؛ ولكن يُنْصَرُ دِينُهُ أو رسلُهُ أو أولياؤه؛ وهو كقوله: {يخادعُونَ اللّه}: إن اللّه لا يُخَادَعُ، ولا يمكر، ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه، أضاف ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لما نصروا دين اللّه ونبيه ووليّه، أضاف ذلك إلى نفسه. وقوله: {آمَنَّا بِاللّه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} الآية: ينقض قول من يجعل الإيمان غير الإسلام؛ لأنهم أخبروا أنهم آمنوا، وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما، وكذلك قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦): لم يفصل بينهما، وجعلهما واحدًا، وكذلك قول موسى لقومه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّه فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}: لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقًا، وهو قولنا: إن العمل فيهما واحد؛ لأن الإيمان: بأن تصدق بأنك عبد اللّه، والإسلام: أن تجعل نفسك للّه سالمًا. وقيل: الإيمان: اسم ما بطن، والإسلام: اسم ما ظهر؛ ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة، وفي الإيمان التصديق؟!. ٥٣وقوله: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ ... (٥٣) يعني - واللّه أعلم -: بما أنزلت من الكتب السماوية التي أنزلها على الرسل جميعًا، فإن أرادوا بما أنزلت على عيسى - عليه السلام - فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل: إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعًا، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. ٥٤وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّه}. مكروا بنبي اللّه عيسى - عليه السلام - حيث كذبوه وهمُّوا بقتله، {وَمَكَرَ اللّه}، أي: يجزيهم جزاء مكرهم؛ وإلا حرف المكر مذموم عند الخلق؛ فلا يجوز أن يسمى اللّه به إلا في موضع الجزاء؛ على ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع الجزاء؛ كقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .}، والاعتداء منهي عنه غير جائز؛ كقوله: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ فكان قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. . .} هو جزاء الاعتداء؛ فيجوز؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء: لا يجوز أن يسمى به، فيقال: يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ؛ لأنها حروف مذمومَة عند الناس؛ فيَشْتُمُ بعضهم بعضًا بذلك؛ لذلك لا يجوز أن يسمّى اللّه - تعالى - به إلا في موضع الجزاء. وباللّه العصمة. وقوله: {وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: أي: خير الجازينَ أهل الجور بالعدل، وأهل الخير بالفضل. وقيل: {وَمَكَرُوا}؛ حيث كذبوه وهمَّوا بقتله، {وَمَكَرَ اللّه}؛ حيث رفع اللّه عيسى - عليه السلام - وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه؛ فذلك خير لعيسى - عليه السلام - من مكرهم. وقيل: {وَمَكَرُوا}، أي: قالوا، {وَمَكَرَ اللّه}: قال اللّه. وقولهم الشرك، وقال لهم: قولوا التوحيد. {وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، أي: خير القائلين. قال الشيخ - رحمه اللّه -: {وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؛ بما بالحق يمكر، ويأخذ من استحق الأخذ، وهم لا، واللّه أعلم. والمكر: هو الأخذ بالغفلة، واللّه يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون؛ فسمي مكرًا لذلك؛ كما يقال: امتحنه اللّه وهو الاستظهار، ولكن لا يراد به هذا في حق اللّه. ٥٥وقوله: (إِذْ قَالَ اللّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ (٥٥) اختلف فيه: قيل: هو على التقديم والتأخير: ورافعك إليَّ، ثم متوفيك بعد نزولك من السماء، ولكن هو التقديم والتأخير، ولم يكن في الذكر فهو سواء؛ لأنا قد ذكرنا أنْ ليس في تقديم الذكر، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك؛ لأنه كَمْ مِنْ مُقَدَّمٍ في الذكر هو مؤخَّر في الحكم، وكم من مؤخَّر في الذكر هو مقدَّم في الحكم، فإذا كان كذلك: لم يكن في تقديم ذكر الشيء، ولا في تأخيره - ما يدل على إيجاب الحكم كذلك؛ كقوله: {اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}: فإنما هو قبض الأرواح؛ فيحتمل الأول كذلك، ويحتمل توفي الجسم، أي: متوفيك من الدُّنيا، أي: قابضك، وليس بوفاة موت. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}، أي: مميتك وهو ما ذكرنا؛ ليعلم أنه ليس بمعبود. وقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}: هو على تعظيم عيسى - عليه السلام - ليس على ما قالت المشبهة؛ بإثباتها المكان له؛ لأنه لو كان في قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يوجب ذلك، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}، والكفرة إليه قريب منه؛ كقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}؛ دل هذا أن ما قالوا خيال فاسد - تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرًا - ولكن على التعظيم والتبجيل، أعني: المضاف إليه. والأصل في هذا: أن الخاص إذا أضيف إلى اللّه فإنما يراد به تعظيم ذلك الخاص؛ نحو ما قال: " بيت اللّه "؛ على تعظيم البيت، {نَاقَةَ اللّه}؛ فهو على تعظيم الناقة، ونحوه مما يكثر وقوعه. وإذا أضيف الجماعة إليه، فهو على إرادة تعظيم الربِّ - جل ثناؤه - نحو: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ونحوه؛ كله على إرادة تعظيم الربِّ، جل ثناؤه. وقوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: قيل فيه بوجوه: قيل: مطهرك من أذى الكفرة، من بين أظهر المخالفين لك. وقيل: ومطهرك من الكفر والفواحش، ويحتمل: مطهرك مما قالوا فيك. وقوله: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يحتمل: يجعله فوق الذين كفروا بالقهر والغلبة والقتل، ويحتمل: بالحجة، ويحتمل: في المنزلة والدرجة في الآخرة. ويحتمل قوله: {وَمُطَهِّرُكَ} بقتل الكفرة من وجه الأرض؛ على ما ذكر في بعض القصة: أنه ينزل من السماء، فلا يبقى على وجه الأرض كافر إلا وهو يقتله مع الذين اتبعوه؛ فذلك تَطْهِيرُهُ وَجَعْلُ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا. وقوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} ذكر هذا - واللّه أعلم - وإن كان المرجع للكل إليه في كل حال؛ لأنهم يُقِرُّونَ ويعترفون في ذلك اليوم أن المرجع إليه، وكانوا ينكرون ذلك في الدُّنيا؛ وهو كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّه}، الملك كان في ذلك اليوم وفي غير ذلك اليوم، ولكن معناه: لا ينازعه أحد يومئذ في ملكه، ويقرون له بالملك، وفي الدُّنيا أنكروا ملكه؛ وهو كقوله: {وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا}، كلهم بارزون للّه في كل وقت؛ لكنهم أنكروا بروزهم في الدنيا له؛ فيقرون يومئذ بالبروز له؛ فكذلك الأول، واللّه أعلم. وقوله: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. يحتمل: أحكم بينكم مَنِ المحقُّ منكم، ومَنِ المبطلُ. ويحتمل: أحكم بينكم: أي: أجزيكم على قدر أعمالكم. ويحتمل: أحكم بينكم أي، أجزي كلا بعمله على ما يستوجبون. ٥٦وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الآية: وقوله: {فِي الدُّنْيَا}، قيل: القتل، والجزية، وفي الآخرة: العذاب. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} فقوله: {مُتَوَفِّيكَ}: يحتمل تَوَفِّي الموت بما يقبض روحه كفعله بجميع البشر؛ تكذيبًا لمن ظن أنه اللّه، أو ابنه، لا يحتمل أن يموت، وقد ألزمهم هذا أيضًا بوجهين ظاهرين -وإن كان فيما عليه خلقته وجوهره. ثم تقلبه من حال إلى حال في نفسه، ومكان إلى مكان في حق القرار والحاجة- كفاية لمن يعقل الحقائق، وبُلْغَة لمن تأمَّل الأشياء عبرا. أحدهما: بقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}، وقوله: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} حتى ينطق به لسان كل منهم، ومعلوم إحالة ابن بشر إلهًا أو ولدًا لإله؛ إذ هو يكون أصغر منهما وذلك آية حدثه، وكذلك قوله في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللّه}: إلى آخر ما ذكر، مع ما لو احتمل ذلك لكان آدم - عليه السلام - الذي هو الأصل، هو المقدم، وهو الذي لا يعرف له وَالِدَانِ أحق أو هو؟ إذ هو بجوهره فهو ولده لا غير، أو ذلك وصف الأولاد، واللّه أعلم. والثاني: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}: فأخبر عن حاجته وغلبة الجوع عليه، وفقر نفسه إلى ما يقيمها من الأغذية. ثم في ذلك حاجة إلى الخلاء، واختيار الأمكنة القذرة لقضاء حاجته، وباللّه التوفيق. والثالث: على قبضه بنفسه من بين أظهر أعدائه، ورفعه إلى ما به شرفه، وتطهيره مما كان يحسُّ منهم من الكفر وأنواع الفساد، وختمه من بين البشر على وجه آية يكون له عليهم من أول أحوال ظهوره إلى آخر أحوال مقامه فيهم؛ ليكون أوضح لمتبعيه في الآيات، وعلى مخالفيه في قطع العذر. ولا قوة إلا باللّه. وفي الدعاء إلى المباهلة دلالة ظهور التعنت والعناد، وفي تخلفهم عن ذلك دليل علمهم بتعنتهم وخوفهم مما قد وُعِدوا بالنزول عليهم، ثم لزموا مع ذلك ما كانوا عليه من السفه والعناد؛ ليعلم أن الحيل عمن اعتاد المعاندة منقطعة، ومعلوم أن الدعاء إلى المباهلة لا يكون في أول أحوال الدعوة؛ وإنَّمَا يكون بعد توفير الحجة وقطع الشبهة؛ ففي ذلك بيان أنه كانت ثَمَّ محاجاتٌ، حتى بلغ الأمر هذا، وعلى ذلك أمر القتال أنه لم يوضع في أول أحوال الإرسال، وفي الحال التي للقول وللحق وجه القبول من طريق النصف والعقل؛ وإنما كان عند ظهور معاندتهم، وكثرة سفههم، حتى همّوا بالقتل، وأكثروا الأذى، وأكرهوا أقوامًا على الكفر، وأخرجوا رسول ربِّ العزة من بين أظهرهم بما راموا قتله، وطردوا أصحابه من بلادهم حتى تحصنوا بالغيران، فأذن اللّه تعالى عند ذلك بالقتال، وفتح الفتوح؛ ليكون آيته في كل وجوه الآيات ظاهرة وحجته بينة، وفي ذلك جواز محاجة الكفرة في التوحيد والرسالة، لكن على ما قال اللّه - تعالى -: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، و {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}، نهي عن التعمق والخوض فيما تقصر عنه الأفهام، وإن كان معلومًا أن للّه حججًا ظاهرة وغامضة، ولا قوة إلا باللّه. وفي ذلك تعليم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: أنه يكون ذلك باللطف والرفق يرى المقصود به؛ ليقرر به عنده الحجة، ويزيل عنه الشبهة من الوجه الذي يحتمله عقله، ويبلغه فهمه، فإن رآه يتعامى في ذلك يوعده ويخوفه بالذي في ذاك من الوعيد. فإن رأيته يكابر عرفت شؤم طبعه وسوء عنصره، يوعده بما جاء به التعليم من الضرب والحبس، فإن نفع ذلك، وإلا بكف شره عن غيره وتطهير الأرض منه؛ فإنه النهاية في القمع، والغاية فيما يحق من معاملة السفهاء، واللّه أعلم. لكنه على منازل لا يحتمل انتهاء كل أنواع المآثم إلى هذه الغاية؛ بل فيها ما كان أعظمها دون هذا بكثير - واللّه أعلم - لذلك يلزم تعرف مقادير الآثام أولًا؛ ليعرف بها ما يحتمل كل إثم من العقوبة فيه والزجر به، ولا قوة إلا باللّه. وقوله: {وَاللّه لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}: لأنه لا يحب الظلم. ٥٨وقوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ}، قيل: ذلك الذي ذكر في هذه الآية: نثلو عليك يا مُحَمَّد. {مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} هو المحكم، وقيل: {الْحَكِيم}، أي: من نظر فيه وتفكر يصير حكيمًا؛ كما قال: {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}، أي: يبصر فيه، واللّه أعلم. ٥٩وقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (٥٩) قيل في القصة: إن نصارى من أهل نجران قدموا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا له: إنك تشتم صاحبنا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد، وهو يُحْيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فيطير، فأرنا فيما خلق اللّه عبدًا مثله يعمل هذا، والنصارى في الحقيقة مشبهة وقدرية: وأمَّا التشبيه: فإنما حملهم على ذلك ظنهم في قول إبراهيم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ حيث قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ ظنوا أن عيسى لما قال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} أنه رب وإله؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - أخبر أن ربه {الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ فسموا عيسى إلهًا بهذا، وهم كانوا يرون عيسى يأكل ويشرب وينام؛ فلولا أنهم عرفوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وإلا ما شبهوه به، تعالى اللّه عن ذلك. وأمّا القدرية: فلما لم يروا للّه في أفعال العباد صنعًا؛ إنما رأوا ذلك للخلق خاصة، فلما رأوا ذلك من عيسى - عليه السلام - ظنوا أنه ربٌّ؛ لما لم يروا ذلك من غيره، ولو كانوا عرفوا اللّه حق المعرفة، لعلموا أن لم يكن من عيسى إلا تصوير ذلك الطير وتمثيله، ويكون مثله من كل أحد؛ وإنَّمَا الإحياء كان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يدي عيسى - عليه السلام - وأظهره، وإنما كان من عيسى تصويره فقط؛ وكذلك ما كان من إبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أجراه على يديه آيات لنبوته؛ لأنهم ادعوا له الربوبية من وجهين: لكونه من غير أب، ولآياته. ثم قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللّه كَمَثَلِ آدَمَ} - يحتمل وجهين - واللّه أعلم -: أحدهما: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - صور صورة آدم من طين، ثم جعل فيه الروح، لم يجز أن يقال صار آدم حيًّا من نفسه؛ لوجود صورته، كيف جاز لكم أن تقولوا: إن عيسى لمّا صوَّر ذلك الطير من الطين، صار محييًا له بتصويره إياه دون إحياء اللّه - تعالى - إياه؟! واللّه أعلم. والثاني: أن آدم - عليه السلام - خُلِقَ لا من أب وأم، ثم لم تقولوا: إنه ربٌّ أو إله، فكيف قلتم في عيسى: إنه إله؛ وإنه خلق لا من أب؟ إذ عدم الأبوة في آدم لم يوجب أن يكون ربًّا؛ وكيف أوجب عدم الأبوة في عيسى كونه ربًّا وإلها؟! واللّه الموفق. وإنما كان عيسى بقوله: " كن " - كما كان آدم، أيضًا، بـ " كن " - من غير أب. وقوله: (كُن): قد ذكرنا أنه أوجز كلام في لسان العرب يعبر فيؤدي المعنى؛ فيفهم المراد، لا أن كان من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كاف، أو نون، أو وقت، أو حرف، أو يوصف كلامه بشيء مما يوصف به كلام الخلق، تعالى اللّه عن ذلك. وقوله: {فَيَكُونُ}: يحتمل وجهين: يحتمل " يكون "، بمعنى: كان، والعرب تستعمل ذلك ولا تأبى. والثاني: أن تكون الكائنات بأسبابها في أوقاتها التي أراد كونها على ما أراد، وأصل ذلك، إذا ذكر اللّه ووصف بذكر بلا ذكر وقت في الأزل، وإذا ذكر الخلق معه يذكر الوقت، والوقت يكون للخلق يقول: خالق لم يزل، وخالقه في وقت خلقه. ٦٠وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل أن يكون الخطاب لكل أحد قال في عيسى ما قالوا، أي: لا تكن من الممترين في عيسى أنه عبد اللّه خالصا، وأنه نبيه ورسوله إليكم. ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمراد غيره؛ وهكذا عادة ملوك الأرض أنهم إذا أرادوا أن يعرفوا رعيتهم شيئا، يخاطبون أعقلهم وأفضلهم وأرفعهم منزلة وقدرًا عندهم؛ استكبارًا منهم مخاطبة كل وضيع وسفيه؛ فكذلك (وللّه المثل الأعلى)، اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - خاطب نبيّه؛ إعظامًا له وإجلالًا، واللّه أعلم. ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم أن العصمة لا تمنع الأمر ولا النهي؛ بل تزيد أمرًا ونهيًا، وإن كان يعلم أنه لا يكون من الممترين أبدًا، واللّه الموفق. ٦١وقوله: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ (٦١) دعاهم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المباهلة، فالمباهلة في لغة العرب: الملاعنة، دعاهم إلى الدعاء باللعنة على الكاذبين، فامتنعوا عن ذلك؛ خوفًا منهم لحوق اللعنة؛ فدل امتناعهم عن ذلك أنهم عرفوا كذبهم، لكنهم تعاندوا، وكابروا؛ فلم يقروا بالحق. ٦٢وقوله: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ (٦٢) يعني: الخبر الحق. وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللّه وَإِنَّ اللّه لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: ظاهر، قد ذكرناه فيما تقدم، واللّه أعلم. وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، يحتمل: خبر الحق في أمر عيسى - عليه السلام - أنه كان عبدًا بشرًا نبيَّا، {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، أي: لا يحملنك شدة لجاجتهم وكثرتهم في القول فيه بهذا الوصف على الشك في الخبر الَّذِي جاءك عن اللّه؛ كقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إلى آخره: على الموعظة، لا على أنه يكون كذلك، أو على ما سبق ذكره، واللّه أعلم. ويحتمل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، أي: كل حق فهو عن اللّه جائز إضافته إليه، على الوجوه التي تضاف إليه، الباطل من الوجه الذي هو باطل، {فَلَا تَكُنْ} في ذلك {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، واللّه أعلم. وجائز أن يقول: جعل اللّه ذلك الفعل ممن فعله باطلًا، ولا يقال: الباطل من اللّه، واللّه أعلم. ٦٤وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}: يعني: كلمة الإخلاص والتوحيد، {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}، أي: عدل، أي: تلك الكلمة عدل بيننا وبينكم؛ لأنهم كانوا يقرون أن خالق السماوات والأرض: اللّه، بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه}، وكذلك يقرون أن خالقهم اللّه، بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه}، لكن منهم من يعبد دون اللّه أوثانًا، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ومنهم من يجعل له شركاء وأندادًا يشركهم في عبادته، فدعاهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ألا يجعلوا عبادتهم لغير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة لا تكون إلا للّه الذي أقروا جميعًا أنه خالق السماوات والأرض، وأنه ربهم، وألا يصرفوا عبادتهم إلى غير الذي أنعم عليهم؛ إذ العبادة هي لشكر وجزاء ما أنعم عليهم. {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّه وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّه}؛ لأن العبادة لواحد أهون وأخف من العبادة لعدد، وأن صرف العبادة إلى من أنعم عليكم أولى من صرفها إلى الذي لم ينعم عليكم؛ إذ ذاك جور وظلم في العقل أن ينعم أحد على آخر، فيشكر غيره. قال الشيخ - رحمه اللّه -: العدل في اللغة: وضع الشيء في موضعه، وفي إخلاص العبادة للّه والتوحيد - ذلكَ وهذا معنى سواء. وجائز أن تكون كلمة يستوي فيها أنها عدل ما شهد لنا بهذا كل أنواع الحجج. وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}: يحتمل: تولوا عن طاعة اللّه وتوحيده، وصرف العبادة إليه. {فَقُولُوا}. كذا. ويحتمل: فإن تولوا عن المباهلة والملاعنة - فقولوا {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: مخلصون العبادة له، صادقون الشكر على ما أنعم علينا، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: فإن تولوا عن قبول ما دعوتهم إليه من الاجتماع على الكلمة. ٦٥وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ}. قيل: وذلك أن اليهود قالوا: إن إبراهيم كان على ديننا اليهودية، والنصارى ادعت أنه كان على دينهم ومذهبهم، ليس على دين الإسلام؛ فنزل قوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} يعني: في دين إبراهيم. {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} يعني: من بعد إبراهيم، وهو يحتمل وجهين: يحتمل: أن التوراة والإنجيل إنما نزلا من بعده، وأنتم لم تشهدوه - يعني: إبراهيم - حتى تعلموا أنه كان على دينكم، لم تقولون بالجهل أنه كان على دينكم؟!. ويحتمل: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ}، أي: أن التوراة والإنجيل ما نزلا إلا من بعد موته، وكان فيهما أنه كان حنيفًا مسلمًا {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وأنه كان حنيفًا مسلمًا؟! ثم أكذبهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قال الشيخ - رحمه اللّه -: وفي هذه الآية دلالة أنهم علموا أنه كان مسلمًا، لكن ادعوا ما ادعوا متعنتين؛ حيث لم يقابلوا بكتابهم بالذي ادعوا من نعته، وبخلاف ما ادعى عليهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نعته. وفيه دلالة الرسالة؛ إذ في دعواهم أنّ رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعرف نعته بهم، لما ادعوا هم غير الذي ادّعى؛ فثبت أنه عرف باللّه، وذلك علم الغيب، واللّه الموفق. ٦٦وقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ (٦٦) وهو ما ذكرنا، وفيه دلالة جواز المحاجة في الدِّين على العلم به، وإنما نهي هَؤُلَاءِ عن المحاجة فيما لا علم لهم؛ ألا ترى أن الرسل - عليهم السلام - حاجوا قومهم: حاج إبراهيم قومه في اللّه، وذلك قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} وموسى - عليه السلام - حاج قومه، وما من نبي إلا وقد حاج قومه في الدِّين؛ فذلك يبطل قول من يأبى المحاجة في الدِّين. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وأيد الحق أنه كذلك - عجزُ البشر عن إيراد مثله، وعجزهم عن المقابلة بما ادعوا أنهم عرفوه باللّه. ٦٨وقوله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا (٦٨) وهكذا يكون في العقل أن من اتبع آخر وأطاعه؛ فهو أولى به، وإنما الحاجة إلى السمع بمعرفة المتبع له والمطيع أنه ذا أو ذا؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذين آمنوا والنبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هم المتبعون له؛ فهم أولى به. وقوله: {وَاللّه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} اختلف فيه؛ قيل: الولي: الحافظ. وقيل: الولي: الناصر. وقِيل: هو أولى بالمؤمنين، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. وقد يكون وليهم: بما دفع عنهم سفه أعدائهم في إبراهيم، وأظهر الحق في قولهم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: في قوله - تعالى -: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. . .} الآية، وفي قوله: {لِمَ تُحَاجُّونَ. .}، وفي قوله: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ. . .} الآية، ونوع ذلك من الآيات التي خص بالخطاب بها أهل الكتاب - وجوهٌ من المعتبر. أحدها: أن الذين خوطبوا بهذا الاسم كانوا معروفين، وأنه لم يخطر ببال مسلم أنه قصد به غير أهل التوراة والإنجيل، ولا ذكرت تلاوتها في حق المحاجة على غيرهم، ثبت أن المجوس ليسوا بأهل الكتاب، وأن المراد من ذكر أهل الكتاب غيرهم، وأن أخذ الجزية من المجوس ليس مما تضمنهم قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}؛ لكن بدليل آخر، وهو ما روي عن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال " " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَاب، غَيرَ نَاكِحِي نِسائِهِم، وَلا آكِلي ذَبَائِحِهِمْ "؛ وعلى ذلك أيَّد قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}؛ ليعلم أن الكتاب المعروف وأهله: هَؤُلَاءِ، إن كانت ثَمَّ كتب وصحف، واللّه أعلم. والثاني: أن اللّه خص أهل الكتاب بأنواع الحجج، وجعل المحاجة بينهم وبين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليوضح أنه -وإن كان مرسلا إلى جميع البشر- كان له التخصيص في المحاجة؛ وعلى ذلك عامة " سورة الأنعام " في محاجة أهل الشرك، على أن أهل المدينة كانوا أهل كتاب، وأهل مكة كانوا أهل شرك، فحاجَّ كلًّا بالذي هو أحق أن يكلم فيه، وإن كانت الحجة تلزم الفريقين؛ لأن محاجة أهل الشرك أكثرها في التوحيد وأمرِ البعث، وعلى وجوده فيه: في أهل الكتاب بعض المشاركة لهم، ومحاجة أهل الكتاب بما في كتبهم، وفيه وجهان: أحدهما: العلم بما قد غاب عنه السبب الذي يوصل إليه بالكسب؛ ليعلم أنه وصل إليه بالوحي؛ فيكون من ذلك الوجه حجة على الفريقين. والثاني: ظهور سفه أهل الكتاب بوجه يُسقِطُ عند التأمل الريبةَ والمحلَّ الذي كان يمنعهم ذلك عن اتباعه، وذلك فيما مدح كتبهم، وشهد لها بالصدق والحق، وإظهار الإيمان برسلهم؛ ليعلم أنه ليس بين الرسل والكتب اختلاف في الدعاء إلى عبادة اللّه وتوحيده، وأن أُولَئِكَ إنما كذبوا؛ لتسلم لهم الرياسة، ثم -مع ذلك- ظاهروا أهل الشرك المكذبين لكتبهم ورسلهم؛ ليعلم كلُّ ذي عقل شبههم وتمردهم في الباطل؛ إذ ظاهروا أعداءهم في الدِّين على مَنْ الذي أظهروا موالاته في الدِّين ولى له؛ فيكون في ذلك أبلغ الزجر لمتعنتيهم، وأعظم الحجة عليهم فيما آثروا من السفه وتركوا الحق، واللّه أعلم. وفي ذلك وجه آخر: أن أهل الشرك قد عرفوا حاجاتهم إلى أهل الكتاب في أمور الدِّين، وما عليه أمر السياسة؛ فيصير ما يلزم أُولَئِكَ من الحجة لازمةً لهم في محاجته بالذي في كتبهم - لزومَ الحجة، مع ما عليهم في ذلك بما قد (أقسموا باللّه جهد أيمانهم) الآية، أبلغ الحجة في محاجة أهل الكتاب؛ إذ تمنوا أن يكون منهم نذير فكان، وقد بلغ المبلغ الذي له ظهر بما خصوا من الحجج، وشاركوا أُولَئِكَ في جميع ما به كان افتخارهم عليهم ودعوى الفضل، واللّه أعلم، مع ما لم يكن له اللسان الذي به ظهر كتبهم، أخبر هو جميع ما في كتبهم بغير لسانهم؛ ليعلموا أنه أدرك ذلك ممن له حقيقة كتبهم، واللّه أعلم. وفي ذلك وجه آخر: أنه حاجهم بوجهين: أحدهما: بالموجود في كتابهم، والمعروفِ عند أئمتهم من العلم بالكلمَة التي دعاهم إليها من التوحيد وعبادة من له الخلق والأمر، وإخبارِ ما في كتبهم من أنواع البشارات به، ومن موافقة الكتب، وعلى ذلك أمر إبراهيم - عليه السلام - وغيرهم؛ ليكون أعظم في الحجة، وأقطع للشغب، واللّه أعلم. والثاني: بما قد حرفوا من كتبهم، وبدلوا من أحكامهم، وحرفوا من صفته ونعته ونعت أُمَّته؛ ليعلم كلُّ متأمل أنه لا وجه لتعلم ذلك بهم؛ إذ لا يحتمل أن يكون منهم هتك أستارهم، والاطلاع على أسرارهم بما لا يتهيأ لهم دفع دلك، ولا المقابلة في ذلك؛ ليعلم كل الخلائق: من انقاد لهم أو لا، أن ذلك لا يدركه إلا بمن له العلم بكل سرٍّ ونجوى، ولا قوة إلا باللّه. مع ما في ذلك وجهان من المعتبر: أحدهما: أن ذلك الزمان لم يكن زمان حِجاجٍ ونظرٍ في أمر الدِّين؛ إنما كان ذلك الزمانُ زمانَ تقليدٍ في أمر الدِّين، وتناهٍ في أمر الدنيا، وتفاخرٍ بكثرة الأموال والمواشي؛ فبعث اللّه - تعالى - رسولًا نشأ من بين أظهرهم، دعاهم إلى ترك التقليد في الدِّين، واتباع الحجج التي لا يبلغها أهل الحجاج بعقولهم دون أن يكون لهم المعونة من علم الوحي، وما فيه من حكمة الربوبية؛ فكيف والقوم أصحاب التقليد؟! إمّا ثقة بأئِمتهم الذين ادعوا علم الكتب المنزلة، وإما ثقة وإيمانًا بآبائهم فيما نشئوا عليه: أن الحق لا يشذ عنهم، على ما في ذلك من الاختلاف الذي يمنعهم الأمرين جميعًا، لكنهم إذا لم يكونوا أهل نظر في الدّين ومحاجةٍ فيه، لم يعرفوا أن ذلك يمنعهم التقليد؛ فأظهر لهم الحجج، وأنبأهم بالمودع من حجاج أنبيائهم في كتبهم، وألزمهم أن في آبائهم من يلزم التقليد، كانوا أحق بذلك بما كان عندهم أن آباءهم كانوا على دينهم بما بيَّن من تغييرهم وتبديلهم، وتركِ الواجب عليهم من حق الاتباع، واللّه أعلم. والثاني: أن أظهر فيهم الاختلاف في أئمتهم، على ادعاء كل منهم أن ذلك هو الذي كان عليه الأنبياء والرسل في أهل الكتاب؛ وحاجات غيرهم بما ليس عندهم إلا آراء ليس عندهم فضل على القول، ثم كان معلومًا عند الاختلاف والتفرق؛ فصارت الحاجة قد عمتهم، والعلم بهم في لزوم الأحكام إلى من يدلهم على الحجة ويعرفهم الحق الذي قد تقرر عندهم؛ فبعث اللّه بفضله من أظهر لهم بما أنطق به لسانه من الحجاج، وأراهم من علمه مما غيروا حِفظ ما كان عليه أوائلهم؛ فكان ذلك أظهر البيان، وأولى ما يعرف من أفضال اللّه عليهم بالإغاثة، والامتنان عليهم بالفرج مما قد مستهم إليه الحاجة، ودفعهم إلى العلم به الفاقة، واللّه الموفق. وفي الفصل الأول بقي حرف لم نذكره، وهو أنْ دعاهم إلى الزهد في الدنيا بعد الركون إليها، وإلى الأخوة في الدِّين بعد ظهور التفاخر بينهم بتكثير العشائر، وتقابل القبائل، والسخاء بجميع ما طبعوا عليه بما قدّر عندهم: ما إليه ترجع عواقب أمرهم، وقام بذلك على قهر العادة ومخالفة الطبيعة التي يعلم أن ذلك في مثل ذلك العصر آية سماوية خارجة عن وسع البشر؛ ليكون أقطع لعذرهم، وأسكن لقلوبهم إليه؛ فللّه الحمد على ذلك. وقوله، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ. . .} الآية. قيل فيها بأوجه: أحدها: أنها العدل، وهي كلمة التوحيد، وكانت عدلًا باتفاق الألسن؛ إذ سئلوا عمن خلق السماوات والأرض في الفزع إليه بالإجابة، وشهادة الخلقة على وحدانية من له الخلق والأمر، واللّه أعلم. ومن هذا الوجه أمكن أن يحاج جميع الخلق، وإن خص به أهل الكتاب، واللّه أعلم. وأخرى: أن يستوي فيها أنها حق وعدل، وهي عبادة الواحد الذي لم يُختلَف في أنه معبود، وأن كل من عبد غيره فعلى أن يكون له العبادة يعبده، فيرجع إلى حقيقته دون أن يكون بيننا وبينه من يعلم أنه لا يستحق العبادة، وهذا المعنى يلزم الجمع، أيضًا. والثالث: أن يكون إلى كلمة ظهر أنها عدل في كتابهم بما جاءت رسلهم، ونزلت بها كتبهم، ولا قوة إلا باللّه. ٦٩وقوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}: ذكر في القصة أن المشركين أخذوا عمارًا وحذيفة، فقالوا لهم: ديننا أفضل من دينكم، وأفضل من الأديان كلها؛ فنزل هذا. والأشبه أن يكون مثل هذا من رؤساء أهل الكتاب، وعلماؤهم هم الذين يتولون مثل هذا العمل، وأمَّا الجهَّال منهم والرذلة، فإنهم لا يفعلون هذا، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}: الإضلال: قيل فيه بوجوه: قيل: الإضلال هو الإخمال؛ أرادوا أن يَخْمُلَ ذكرُهم، ولا يُذْكَرون بعدهم أبدًا، كما ذكر أُولَئِكَ. وقيل: الإضلال: الإهلاك. وقيل: الإضلال: هو التحير، وكل ضال طريقًا فهو متحير تائه، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أي: ما يهلكون إلا أنفسهم وما يُخْمِلون إلا ذكر أنفسهم. {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم، أو يحيرون، وما يشعرون ماذا عليهم فيما ودّوا من أليم العقاب، واللّه أعلم. ويقال: نزلت في عبد اللّه بن مسعود، رَضِيَ اللّه عَنْهُ. ٧٠وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}: يحتمل وجوهًا: يحتمل: وأنتم تشهدون تلك الآيات، وتعاينونها، وتعلمون أنها آيات، لكن تكابرون وتعاندون، ولا تؤمنون بها. ويحتمل: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، أي: وأنتم تعلمون ما في التوراة والإنجيل: من بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته - أنه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أفضل المخلوقات، وأنه حق، ولكن لا تتبعونه. وقيل: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}، أي: تعلمون أنها آيات؛ والآيات تحتمل: القرآن، وتحتمل: رسول اللّه محمدًا. وتحتمل غيرها من الآيات التي جاء بها. وقَالَ بَعْضُهُمْ: لم تكفرون بدين اللّه، وأنتم تعلمون بدلالة الخلقة، وشهادة كتبكم أن دين اللّه وتوحيده حق؟!. ٧١وقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) في الآية دلالة جواز هتك الستر، وإفشاء المكنون والمكتوم من الأمر؛ إذا كان في ذلك تحذير لغيرهم عن مثله، وترغيب لهم في المحمود من الفعل. ثم فيه دلالة إثبات رسالة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه يخبرهم عما كانوا يكتمون وُيسِرُّون فيما بينهم، وذلك من إطلاع اللّه إياه على ذلك. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: ذلك؛ ألا ترى أنهم لم يتعرضوا له بشيء من ذلك، فيقولوا: متى كتمنا الحق؟ ومتى لبسنا الحق بالباطل؟! فدل أنهم علموا أنه حق، وأنه رسول اللّه، وأن ذلك إنما عُلم بإله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ثم عِلْمُ ذلك يكون بأن كان ذلك في كتابهم، أو علموا بالآيات المعجزة. ويحتمل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} - ما جزاء من لَبَسَ الحق بالباطل وكتمه، واللّه أعلم. ويحتمل: وأنتم تعلمون أنكم تلبسون الحق بالباطل. ٧٢وقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} وقيل فيه بوجوه، قيل: قوله: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}، يعني: بأول أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا النهارَ نفسه، وذلك ما روي في القصّة أن بعضهم كان يقول لبعض: إن محمدًا كان على قبلتنا وقبلته بيت المقدس، ويصلي إليها، فآمنوا أنتم به، {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}، يعني: آخر أمره، يعنون قبلة: البيت الحرام الكعبة، أي: اكفروا بقبلته التي يصلي إليها الآن، وهي الكعبة. وقيل: إن بعضهم يقول لبعض: آمنوا بمُحَمَّد في أول أمره؛ حتى يؤمن به جميع العرب، ثئم اكفروا به في آخر أمره؛ فيقولون لنا: لم كفرتم به ورجعتم عن دينه؟ فنقول لهم: إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته، فحسبنا أنه هذا؛ فآمنا به، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن نعته ولا صفته؛ فرجعنا عن دينه وكفرنا به؛ حتى يرجعوا جميعًا عن دينه؛ فذلك قوله: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}. وقيل -أيضًا-: إن رءوس اليهود قالوا للسِّفْلة: صدِّقوا بالقرآن وبمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وجه النهار، يعني: أول النهار، يعني: صلاة الغداة، فإذا كان صلاة العصر اكفروا به، فقولوا لهم: إن قبلة بيت المقدس كانت حقا؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ليرجعوا عن دينهم. فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه دلالة رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ويسرون، فذلك من إطلاع اللّه إياه. ويحتمل قوله: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ}، أي: أظهروا لهم الإسلام والموافقة، ولا تؤمنوا به في الحقيقة؛ يدل على ذلك قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} في الحقيقة، أي: آمنوا به ظاهرًا، وأمّا في الحقيقة فلا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم. وقال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} الآية -: يحتمل وجهين: أحدهما: حقيقة النهار، ثم يتوجه وجهين: أحدهما: أمر القبلة خاصّة، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم فيما خالفوا في ذلك، وإن علموا أن ذلك حق؛ ليشبهوا على الضعفة أنه لا تزال تنتقل من دين إلى دين، ومذهب إلى مذهب، وأن من لزم الدِّين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة، ولما لا يؤمن البقاء على الثاني، وهو كقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}؛ وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفهًا منهم؛ إذ ليس معنى التناسخ إلا اختلاف العبادات، لا اختلاف الأوقات، وذلك المعنى قائم، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ الأحوال في كل، على أن العبادات فيها المصلحة، ومن تعبَّدهم عالم بالذي به الأصلح في كل وقت، فله ذلك. والثاني: أن يكون الذي أول النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق، وتعاهد الدِّين؛ فأمروا بالإيمان بذلك؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذُكر، وأنهم على ذلك، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بذل من أوائلهم وتحريفهم، إلا إن كانوا كذلك؛ ليُلزموهم التقليد في الأمرين، واللّه أعلم. وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به كانت المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعًا، ومع ما أن في القرآن وصفًا بتصديق كتبهم، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو ادُّعي عليهم. وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم، المكذبين برسلهم على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغيًا وحسدًا، كما أخبر اللّه - تعالى - عنهم. والوجه الآخر من تأويل الآية: أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره، لا حقيقة بياض النهار. ثم ذلك يخرج على وجهين: أحدهما: أن يكون دُعاه في أول الأمر إلى التوحيد، والإيمان بالكتب المتقدمة، وهم يدعون إلى ذلك؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم، لما أخذهم البغي وغلبهم الحسد، وخافوا على رياستهم، وأشففوا على ملكهم، وجزاء الشح، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم؛ فكذبوه في هذا، واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق، ثم يكفرون به؛ ليكون الأول ذريعة لهم في الثاني؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك، فأطلع اللّه نبيه - عليه السلام - على ما أسروا؛ ليصير ما ظنوا أنه حجة لهم حجة عليهم، وجملة ذلك: أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسرارًا أطلع اللّه نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عليه؛ ليكون حجة له، وزجرًا لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله - عليه أفضل الصلوات - بما يهتك عليهم؛ فيفتضحون عند من راموا ستر أمرهم، وتسقط رياستهم، واللّه الموفق. وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}: اختلف فيه، قيل: هو على التقديم والتأخير؛ قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} - كان على أثر قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}: يقول بعضهم لبعض: ما أنزل اللّه كتابًا مثل كتابكم، ولا بعث نبيا مثل نبتكم؛ قالوا ذلك حسدًا منهم. وقيل: إن هذا قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمسلمين: لما نزل قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه} - قال لهم: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، يقول: دين اللّه الإسلام هو الذين {أَنْ يُؤْتَى}، يقول: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والكتاب الذي فيه الحلال والحرام، واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون قال: لن يؤتى أحد من الأنبياء قبلي من الآيات مثل ما أوتيت أنا؛ لأن آياتهم كانت كلها حسية يفهمها كل أحد، وآيات رسول اللّه كانت حسية وعقلية لا يفهمها إلا الخواصُّ من الناس وخيرتُهم. وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}: راجع إلى قوله: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} فـ {يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أنهم قد آمنوا به مرة وأقروا له؛ وهو كقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}: أنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان، ثم إذا خلوا قالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}؛ فقال بعضهم لبعض: لا تظهروا لهم الإسلام؛ فيحاجوكم عند ربكم في الآخرة؟!. ٧٣وقوله: (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) هذه الآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الفضل ليس بيد اللّه؛ وكذلك الاختصاص؛ إنما ذلك بيد الخلق؛ لأن من قولهم: إنه ليس على اللّه أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين، ليس له أن يؤتى أحدًا فضلًا، ولا له أن يختص أحدًا برسالة، إلا من هو مستحق لذلك مستوجب له؛ فذلك الفضل والاختصاص إنما استوجبوا بأنفسهم لا باللّه، على قولهم، ففي الحقيقة الفضل عندهم كان بيدهم لا بيد اللّه، فأكذبهم اللّه بذلك؛ إذ الفضل عند الخلق هو فعل ما ليس عليه لا ما عليه؛ فنعوذ باللّه من السرف في القول، والزيغ عن الرشد. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ (٧٣) يحتمل أن يكون في السرّ، وإن أعطيتم لهم الظاهر. ويحتمل: أن يكون بعد ما أظهرتم اكفروا آخره. ويحتمل: لا تؤمنوا بما جاء به، إلا لأجل من تبع دينكم؛ فيكون عندهم قدوة، يتقرر عندهم -بالذي فعلتم- أنكم أهل الحق؛ فيتبعكم كيفما تصيرون إليه. ويحتمل: (لا تؤمنوا): لا تصدّقوا فيما يخبركم عن أوائلكم، {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} على المنع عن تصديق الرسول فيما يخبرهم من التحريف والتبديل، واللّه أعلم. وقوله: {إِنَّ الهُدَى هُدَى اللّه}: يحتمل وجهين: أحدهما: البيان هو ما بين اللّه؛ إذ هو الحق، وكل ما فيه الصرف عنه فهو تلبيس وتمويه. ويحتمل: أن يكون الدِّين هو الذي دعا إليه بما أوضحه وأنار برهانه، لا الدِّين الذي دعا إليه أُولَئِكَ المنحرفون. {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، أي: لن يؤتى - واللّه أعلم - من الكتاب والحجج. ويحتمل أن يكون صلة قوله: {إِنَّ الهُدَى هُدَى اللّه}، وهو دينه، أو ما دعا إليه، ثم يقول: {أَنْ يُؤْتَى} بمعنى: لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أهل الإسلام من الحجج والبينات، التي توضح أن الحق في أيديكم. وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}: فإن كان هو صلة الأوّل، و " أَو " بمعنى: " ليحاجوكم "، أو: " حتى يحاجوكم " إذا آمنتم بما دعوا إليه؛ فيحاجوكم بذلك عند ربكم، أي: إنما آمنتم بالذي جاء لكم من عند ربكم؛ فيصير ذلك لهم حجة عليكم. وإن كان صلة الثاني، فهو على أنهم لا يؤتون مثل ما أوتيتم من الحجج؛ ليحاجوكم بها عند ربّكم في أن الذي هو عليه حق؛ لما قد ظهر تعنتهم وتحريفهم - واللّه أعلم - ثم بين السبب الذي هو نيل كل خير وفضل، واللّه أعلم. وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، ٧٤وقوله: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ (٧٤) ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين: أحدهما: أنهم لا يرون للّه أن يختص أحدًا -بشيء فيه صلاح- غيره صرفَهُ عن ذلك الغير، بل إن فعل ذلك كان محابيًا عندهم بخيلًا، بل في الابتداء لم يكن له ذلك؛ وإنما يعطى بالاستحقاق، وذلك حق يلزمه، وقد ذكر بحرف الامتنان. وعندهم -أيضًا-: ليس له ألا يشاء أو لا يعطى؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك، بيد غيره إذ يلزم ذلك، واللّه أعلم. والثاني: أن الذي يحق عليه - أن يبذل كُلا الأصلح في الدِّين، وأنه إن قَصَرَ أحدًا عن ذلك كان جائزًا، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد: يؤتى نفسه إن شاء ويمنع إن شاء، واللّه الموفق. ٧٥وقوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}: والقنطار ما تقدم ذكره، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}: وصف - جلّ وعز - أهل الكتاب بعضهم بأداء الأمانة، وبعضهم بالخيانة، وليس المراد من الآية - واللّه أعلم - القنطار نفسه أو الدِّينار، ولكن وصفهم بأن فيهم أمانة وخيانة، قلَّت الخيانة أو عظمت، وكذلك الأمانة؛ ألا ترى أنه يستحق الذم بدون القنطار والدِّينار إذا خان، وكذلك يستحق الحمد إذا أدى بدون ذلك؟! دلّ أنه لم يرد به التقدير، ولكن على التمثيل، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، ليس على إرادة الذرة؛ ولكن على التمثيل أن لعمل الخير والشر جزاء وإن قل؛ فكذلك الأول. وفيه دلالة جواز العمل بالاجتهاد، ولما ذكرنا أنه لم يرد القدر الذي ذكره؛ ولكن لمعنى فيه: بالاجتهاد يعرف لا بالنصوص، وعن الشافعي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: أن الدِّينار عنده مستكثر يحلف عليه مدعيه عند المنبر، واللّه - تعالى - جعله مستقلا. وفيه دلالة -أيضًا- جواز شهادة بعضهم لبعض وعلى بعض، إن كانت فيهم نزلت، على ما قاله بعض أهل التأويل؛ لأنه وصف - عَزَّ وَجَلَّ - بعضهم بالأمانة في المال، وإن كانت الأمانة لهم في الذين والشهادة أمانة، واللّه أعلم. ويحتمل: أن تكون الآية فيمن أسلم منهم وصف بالأمانة، ومن لم يسلم وصفهم بالخيانة؛ على ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - مثله في آية أخرى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}: وصف - عَزَّ وَجَلَّ - من آمن منهم بالعدالة والهدى، ووصف الكفار بالخيانة في غير آي من القرآن. ويحتمل أن تكون الآية فيما ائتُمِنوا، أو فيما جرى بينهم وبين المسلمين من المداينة من غير رهن ولا كفالة؛ وهو كقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} أمرهم بأداء الأمانة فيما ائتمنوا. وقوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}: قيل: ملازمًا، مواظبًا، ملحًّا، دائمًا، متقاضيًا. ومن عامل من المسلمين الناس هذه المعاملة يُخافُ دخوله في هذا النهي والوعيد. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا يستحلون أموال المسلمين ظلمًا، يقولون: لم يُجعل علينا في كتابنا لأموالهم حرمةُ أموالنا علينا؛ يقولون: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وأرادوا بالأمّيين: العرب؛ إذ ليس لهم كتاب. وقيل: ذلك الاستحلال بأن قالوا: ليس علينا للّه فيهم سبيل، وأرادوا بالأميين: المسلمين؛ على ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " نَحْنُ أمَّة أُمَيَّة؛ لَا نَحْسُبُ وَلَا نَكْتُبُ ". وقيل: قالوا: لا حرج علينا في حبس أموالهم في التوراة؛ فأكذبهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ}. بأنْ ليس في كتابهم حرمة أموالهم، ولا لهم عليهم سبيل، وهم يعلمون أنهم يكذبون على اللّه، عَزَّ وَجَلَّ. ٧٦وقوله: (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) يحتمل قوله: " بلى "؛ ردا على قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}؛ بل عليكم سبيل فيهم، ثم ابتدأ الكلام فقال: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، أي: هَؤُلَاءِ الّذين يحبّهم اللّه لا أنتم. ويحتمل قوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ}: الذي عليه في التوراة أمر بأداء الأمانة، وإظهار نعته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته التي فيها، واتقاء محارمه وظلم الناس في ترك الوفاء، وفي نقض العهد، وصدق اللّه ورسوله، ولم يكتم نعته وصفته - فإن اللّه يحبّهم، واللّه أعلم. ٧٧وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه}: قيل: عهد اللّه: أمره ونهيه. يحتمل هذا العهد فيما عهدوا في التوراة ألا يكتموا نعته وصفته؛ ولكن يظهرون ذلك للناس ويقرون به. {وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}: أيمانهم التي حلفوا كذبًا أن ليس نعته وصفته فيه؛ مخافة ذهاب منافعهم. ويحتمل: أن حلفوا كذبًا، فأخذوا أموال الناس بالباطل والظلم؛ وعلى ذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ؛ لِيَقطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسلِم لَقِيَ اللّه - تعالى - وَهُوَ عَلَيهِ غَضْبَانُ " وتلا هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . .} الآية. والعهد والأيمان سواء؛ ألا ترى إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ. . .}، الآية. ويحتمل عهد اللّه: ما قبلوا عن اللّه، وما ألزمهم اللّه، والأيمان: ما حلفوا، واللّه أعلم. وقوله: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}: أي: لا نصيب لهم في الآخرة مما ذكروا أن لهم عند اللّه من الخيرات والحسنات؛ كقوله: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}. وقوله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللّه}: يحتمل وجهين: يحتمل: أنه أراد بذلك كلام الملائكة الذين يأتون المؤمنين بالتحية والسلام من ربهم؛ كقوله: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤). وقوله: (لا تكلمهم) الملائكة؛ على ما تكلم المؤمنين، أضاف ذلك إلى نفسه، على ما ذكرنا فيما تقدم من إضافة النصر إليه على إرادة أوليائه؛ فكذلك هذا، أو أن يكون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كان قد كلمهم بتكليم الملائكة إياهم؛ لأنهم رسله؛ فكان كقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}: صيره ببعث الرسل كأنْ قد كلمهم هو؛ فكذلك الأول. ويحتمل: أن يكون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - يكرم المؤمنين في الجنة بكلامه على ما كلم موسى في الدنيا؛ فلا يكلمهم كما يكلم المؤمنين. ويحتمل: لا يكلمهم بالرحمة سوى أن يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}؛ وكقوله: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. وقوله: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}. نظر رحمة، كما ينظر إلى المؤمنين بالرحمة. وقوله: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}: أي: لا يجعل لخيراتهم ثوابًا. ويحتمل: أن يكون هذا في قوم علم اللّه منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فقال: لا يزكيهم، أي: لا تزكو أعمالهم. ٧٨وقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ (٧٨) أي: كانوا يحرفون ألسنتهم بالكتاب على التعظيم والتبجيل: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} أي: كانوا يحرفون نعته -عليه أفضل الصلوات- وصفتَهُ، ثم يتلونه على التعظيم والتبجيل؛ ليحسبوه من الكتاب المنزل من السماء، وما هو من الكتاب الذي أنزل من السماء. {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّه} وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. {وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم يكذبون على اللّه، وأن ذلك ليس هو من عند اللّه. ٧٩وقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّه وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) أي: ما كان لبشر اختاره اللّه للذي قال؛ وتبين أنهم إنما أضافوا دينهم الذي فيه عبادة غير اللّه إلى أنبيائهم كِذْبة، وأن اللّه يجعل رسالته عند من يعصمه عن مثله بقوله: {اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، لا يجعلها حيث يخان ويكتم، واللّه الموفق. وهذه الآية تنقض على الباطنية قولهم؛ لأنهم يقولون: إن اللّه لا يؤتي النفس البشرية الكتاب ولا النبوة؛ إنما يؤتي النفس البسيطة، وهي الروحانية، ليأتي تخيل في قلوب الأنبياء، ويؤيدهم حتى يؤلفوا؛ فإذا ثبت ذلك في قلوب الرسل ألفوا هم الكتب والصحف، لا يقدر غير الرسل على ذلك، ثم الناس يأخذون ذلك منهم؛ فالآية تكذبهم وترد عليهم قولهم؛ حيث أخبر أنه يؤتي البشر الكتاب والحكم والنبوة بقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... } وكذلك قال عيسى - عليه السلام - في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}. وفي الآية دليل عصمة الرسل والأنبياء - عليهم السلام - عن الكفر بقوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّه}، وخاصّة في عصمة رسولنا - مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا}: شرَطَ في المؤمنين اكتسابَ ما يستوجبون به الأذى، ولم يشترط في النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ دل أنه لا يكون منه اكتسابُ ما يستوجب به الأذى، ويكون من المؤمنين بشرطه فيهم ذلك، واللّه أعلم. وقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا}: معناه، أي: ولكن يقول لهم: كونوا ربّانيين؛ وكأنه على الابتداء والاستئناف ويقول لهم: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}. ثم اختلف في {رَبَّانِيِّينَ}؛ قيل: متعبدين للّه بالذي يُعلّمون الكتاب، وبالذي يدرسونه. وقيل: الربانيون: العلماء الحكماء. وقيل: حكماء علماء. وقيل: علماء فقهاء. وهو واحد. ثم فيه دلالة أن الرجل قد يدرس ويعلِّم آخر بما لا يفقه ولا يعلم، معناه: إلا كل من يدرس شيئًا أو يعلِّم آخر يكون فقيهًا فيه، ويعرف ما أودع فيه من المعنى. وفيه دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه إنما يوصل إلى ما فيه من المعنى والفقه بالاجتهاد، واللّه أعلم. ٨٠وقوله: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) اختلف فيه؛ قيل: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة أربابًا؛ لأنهم يقولون: إن اللّه أمرهم بذلك؛ كقوله - تعالى -: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا}. وقيل: إن عيسى وعزيرًا ومن ذكر لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا من دون اللّه، وقد عصمهم اللّه بالنبوة. وقوله: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: يحتمل وجوهًا: يحتمل: أيأمركم اللّه بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون له بالخلقة؛ لما يشهد خلقة كل أحد على وحدانيته؛ كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. ويحتمل: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أي: أسلموا له، وأقروا به مرة، ثم كفروا بعد ما كانوا مخلصين له بالتوحيد. ويحتمل قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}: بعد إذ دعاكم إلى الإسلام فأجاب بعضكم. ٨١وقوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ (٨١) قال مجاهد: هذا خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - " ميثاق الذين أوتوا الكتاب "؛ على ما ذكر في آية أخرى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}؛ لأن الميثاق لا يؤخذ على النبيين أن يصدقوا، لكنه يجوز هذا. ثم اختلف فيه، قيل: ميثاق الأوّل من الأنبياء - ليصدقن بما جاء به الآخر منهم، لو أدرك. وقِيل: أخذ اللّه ميثاقًا على النبيين أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتاب اللّه ورسالاته إلى قومهم؛ ففعلوا، ثم أخذوا مواثيق قومهم أن يؤمنوا بمحمّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصدقوه وينصروه. وقيل: أخذ اللّه على النبيين ميثاقًا على أن يبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين اللّه. قال الكسائي فيه بوجهين: أحدهما: يقول: ميثاق الذين منهم النبيّون وهم بنو إسرائيل، وكل ميثاق ذكره اللّه - تعالى - في القرآن في أهل الكتاب، فإنما يراد به بنو إسرائيل. والثاني: ذكره كما ذكرنا من تصديق بعضهم بعضًا، وتبليغ كتب اللّه إلى قومهم. وقوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}. أخذ عليهم الميثاق؛ ليأخذوا على قومهم المواثيق أن يؤمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج وينصروه. وقوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ}: قال اللّه - تعالى - للأنبياء: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}، قيل: هو عهدي. والإصر: قيل: هو العهد. {قَالُوا أَقْرَرنَا} بالعهد لنؤمنن به ولننصرنه، وأخذنا على قومنا ليؤمنن به ولينصرنه، وقال اللّه - تعالى -: {فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ويقول اللّه - تعالى -: وأنا على إقراركم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الشاهدين. وقيل: قال اللّه: فاشهدوا أني قد أخذت عليكم بالعهد، وأنا معكم من الشاهدين أنكم قد أقررتم بالعهد. ٨٢يقول اللّه - تعالى -: (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ (٨٢) العهد والإقرار بنقض العهد، والرجوع عن الإقرار {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. ٨٣وقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ (٨٣) الدِّين كأنه يتوجه إلى وجوه يرجع إلى اعتقاد المذهب في الأصل، ويرجع إلى الحكم والخضوع؛ كقوله - تعالى -: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، ويرجع إلى الجزاء. ثم قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ}: كأن كى منهم يبغي دينا هو دين اللّه، ويدعي أن الدِّين الذي هو عليه دين اللّه، لكن هذا - واللّه أعلم - كل منهم في الابتداء يبغي دين اللّه في نفسه، لكن بَانَ له من بعد وظهر بالآيات والحجج أنه ليس على دين اللّه، وأن دين اللّه هو الإسلام، فلم يرجع إليه ولا اعتقده، ولزم غيره بالاعتناد والمكابرة؛ فهو باغٍ غيرَ دين اللّه، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ}، أي: أفغير ما في دين اللّه من الأحكام والتوحيد. ويحتمل: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه}: يدينون، وليس على الاستفهام؛ ولكن على الإيجاب أنهم في صنيعهم يبغون غير الذي هو دين اللّه، كقوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}؛ وكقوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللّه عَلَيْهِمْ. . .} الآية. وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}: يحتمل وجوهًا: يحتمل: أسلم، أي: استسلم، وخضع له بالخلقة؛ إذ في خلقة كُل دلالاتُ وَحدانيته. ويحتمل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ}، يعني: الملائكة، {وَالْأَرْضِ} المؤمنين الذين أسلموا طوعًا وكرهًا، يعني: أهل الأديان يقرون أن اللّه ربهم وهو خلقهم؛ كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه}، فذلك إسلامهم، وهم في ذلك مشركون. عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " مَنْ فِي السمَاوَاتِ أَسْلَمُوا طَوْعًا، وَأَمَّا أهْلُ الأرْضِ: فَمِنْهُم مَنْ أَسْلَمَ طَوْعًا، وَمِنْهُم مَنْ أَسْلَمَ كَرْهًا؛ مَخَافَةَ السَّيفِ ". وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ أيضًا - قال: " طَوْعًا مَنْ وُلِدَ فِي الإسْلَامِ، وَكُل مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُولَدْ فِي الإسْلَامِ فَهُوَ كَرْهٌ ". وقيل: منهم من أسلم طوعًا، ومنهم من جبروا عليه، والإسلام: هو تسليم النفس للّه خالصًا لا يشرك فيها غيره؛ كقوله: {ضَرَبَ اللّه مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} الآية. دلَّت الآية أنه ما ذكرنا، واللّه أعلم. والإسلام: هو اسم الخضوع، وكل منهم قد خضعوا، ولم يجترئ أحد أن يخرج عليه. ٨٤وقوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} والآية. هذا - واللّه أعلم - وذلك أن اليهود والنصارى لما آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، كقوله: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} - أمر اللّه - تعالى - المؤمنين أن يؤمنوا بالرسل جميعًا؛ فآمنوا بهم جميعًا، وقالوا: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: والإسلام ما ذكرنا، واللّه أعلم. ٨٥وقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (٨٥) اختلف فيه: يحتمل {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}: حسنات من بغى غيرَ دين الإسلام في الدنيا؛ وهو كقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ}، أي: بالمؤمن به {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}. ويحتمل: من أتى بدين سوى دين الإسلام فلن يقبل منه، {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وقيل: إنها نزلت في نفر ارتدوا عن الإسلام بعد ما أسلموا، ثم تاب بعضهم؛ فنزل قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}: يحتمل: " يبتغي ": يطلب، {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}؛ كأنه نهى عن ذلك أن يقصد بالتدين التقرب إلى اللّه - تعالى - فأخبر أن ذلك لا يقبله؛ ليصرف الطلب إلى غير ذلك، وذلك كما دانوا من عبادة الأوثان وغيرها؛ لتقربهم إلى اللّه زلفى، فأخبر أنه لا يقرب؛ ليصرف الطلب إلى حقيقة ذلك الدِّين على الأديان التي كانت معروفة، تأبى أنفس الكفرة عن قبول اسم الإسلام لدينهم، وادعوا أن دينهم هو دين اللّه؛ فأخبر اللّه - تعالى - أن دينه هو الإسلام، وأن من يبتغي الدِّين؛ ليدين اللّه به، غيرَهُ -، فاللّه لا يقبل منه، واللّه أعلم. ويحتمل الابتغاء: الإرادة؛ فيكون فيه تحقيق الدِّين؛ إذ هي تجامع الفعل؛ فكأنه قال: من دان غير دين الإسلام، فلن يقبل منه، وإن قصد به اللّه بالدِّين، واللّه الموفق. أيد ذلك قوله: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: أنه فيمن أتى بغيره، واللّه أعلم. ٨٦وقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ. . .} الآية. فالآية تحتمل وجوهًا: تحتمل: ألا يهدي اللّه قومًا هم معاندون مكابرون فيه، غير خاضعين له ولا متواضعين؛ إنما يهدي من خضع له وتواضع، فأما من عاند وكابر: فلا يهديه. ويحتمل أن هذا في قوم مخصوصين، علم اللّه منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فأخبر اللّه - تعالى - أنه لا يهديهم، وأما من علم اللّه أنه يؤمن وتاب: فإنه يهديهم بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} الآية: أطمع من تاب وأصلح أن يهديه ويغفر له. ويحتمل: ألا يهديهم طريق الجنة، إذا ماتوا على كفرهم؛ كقوله: (وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ). قال الشيخ - رحمه اللّه -: ويحتمل: لا يهديهم في وقت اختيارهم الضلالة. وقيل: بما اختاروا من الضلالة لا يهديهم، أي: لا يعينهم: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. قال الشيخ - رحمه اللّه -: ودل قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} - أن دين الإسلام هو الإيمان، وأن الكفر مقابله من الأضداد، وكيف يهدي قبل كفرهم؟!. وقيل: في وقت اختيارهم. وقيل: ذلك في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون، وكانت همتهم التعنت والمخالفة، واللّه أعلم. وقوله: {وَاللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم قالوا: إن الهدى: البيان، والبيان للكل، قالوا: بتقدم الفعل، فلو كان متقدمًا لكان في ذلك إعطاء الهدى للظالم؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّّ - أنه لا يهدي الظالم، وهم يقولون: لا، بل يهدي الظالم؛ فذلك خروج عليه، وأمَّا على قولنا: فإن التوفيق والقدرة إنما تكون معه؛ فكان قولنا موافقًا للآية. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {وَاللّه لَا يَهْدِي} من ذكر -: فلو لم يكن الهدى غير البيان، فلقد هداهم إذن؛ على قول المعتزلة، واللّه أعلم. ٨٧وقوله: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه (٨٧) قيل: {لَعْنَةَ اللّه}، عذاب اللّه. وقيل: لعنة اللّه: هي الإياس من رحمته وعفوه، واللعن: هو الطرد في اللّغة، ولعنة الملائكة: ما قيل في آية أخرى قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (٤٩) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا). وقيل: لعنة الملائكة قولهم لهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} إلى آخره. وقيل: يدعون عليهم باللعن. وقيل: لعنة المؤمنين قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه قَالُوا إِنَّ اللّه حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ}، فذلك لعنهم عليهم. ٨٩وقوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) ملحق على قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}: ذكر الكفر بعد الإيمان، ثم ذكر التوبة فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا. . .} الآية: أطمع لهم المغفرة والرحمة بالتوبة بعد الكفر بقوله: {فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وما قيل في القصّة -أيضًا- أن نفرًا ارتدوا عن دين الإسلام، ثم تاب بعضهم، ولم يتب البعض؛ فنزل قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية. وفي الآية دلالة قبول توبة المرتدين؛ لأن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الآية - قيل في القصّة. ٩٠وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} الآية: اختلف فيه، قيل: قوله: {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا}، أي: ماتوا على ذلك، فذلك زيادتهم الكفر. وقيل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}: بعيسى بعد الإيمان بالرسل جميعًا، ثم ازدادوا كفرًا: بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، قيل: لن تقبل توبتهم التي تابوا مرة ثم تركوها. وقيل: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} التي أظهروا باللسان، وما كان ذلك في قلوبهم، أي: ليست لهم توبة إلا أن يكون توبة منهم فترد؛ كقوله: {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ}. وقيل: هم قوم علم اللّه أنهم لا يتوبون أبدًا؛ فأخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ كقوله: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. وقيل: لا تقبل توبتهم عند الموت؛ كقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ}، وكقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}، وكقوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ}: أخبر أنه لا ينفع الإيمان في ذلك الوقت؛ فعلى ذلك قوله: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ في ذلك الوقت؛ إذا داموا على الكفر إلى ذلك الوقت. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} -: ذلك في قوم مخصوصين، أي: لا يكون منهم توبة؛ كقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ}، أي: لا شافع لهم، ويحتمل عند رؤية بأس اللّه وجزاء فعله عند القيامة أو معاينة الموت؛ يدل على ذلك الآية التي تقدمت. ٩١وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا (٩١) الآية. قوله: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ}، يقول: لو كان معهم لافتدوا به أنفسهم - ما قبل منهم، ولكن لا يكون؛ كقوله: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}، أي: لا يكون لهم شفيع، لا أن كان لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم، ولكن لا يكون لهم؛ فهذا يدل على أن قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، أي: لا يتوبون، واللّه أعلم. ورُويَ عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يُجَاءُ بالكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَرأَيْتَ لَو كَانَ لَكَ مِلءُ الأرْضِ ذهبًا، أكُنْتَ مُفْتَديًا به؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبّ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ! ". ٩٢وقوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (٩٢) يحتمل أن تكون الآية - واللّه أعلم - في كفار منعهم عن الإسلام الزكاةُ والصدقات التي تجب في الأموال؛ كقوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا. . .) الآية، إلى قوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللّه مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - لن تنالوا الإسلام حتى تنفقوا مما تحبون من الأموال؛ وكقوله: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. وتحتمل الآية في المؤمنين؛ رغبهم - عَزَّ وَجَلَّ - في إنفاق ما يحبون؛ كقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} الآية: أخبر أن البر ما ذكر: من الإيمان به، وإيتاء المال في حبه. ورُويَ عن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: لما نزل قوله - تعالى -: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، قال أبو طلحة: يا رسول اللّه، حائطي الذي في مكان كذا وكذا فهو للّه، ولو استطعت أن أسره ما أعلنته؛ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اجْعَلْهُ في قَرَابَتِكَ - أو أَقْرِبائِكَ ". ورُويَ عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه لما نزل هذا: أعتق جارية. ثم اختلف في الْبِرّ، قيل: الْبِرّ هو الجنة هاهنا. وقيل: الْبِرّ هو الإسلام، إن كان في الكافرين. وقيل: لن تنالوا درجات الجنة، وما عند اللّه من الثواب إلا بإنفاق ما تحبون. وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ} ففيه دليلُ قبول القليل من الصدقة؛ لأنهم كانوا يمتنعون عن قليل التصدق استحقارًا، فأخبر أنه بذلك عليم وإن قلَّ، بعد أن يكون ذلك للّه عَزَّ وَجَلَّ، واللّه أعلم. ٩٣قوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية. قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " وكان الطعام كله حلالًا، إلا الميتة والدم ولحم الخنزير. {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ}، يعني: يعقوب، حرم على نفسه لحم الإبل وألبانها، وكان من أحب الطعام إليه، إن ثبت ما ذكر في القصة: أن يعقوب - عليه السلام - أقبل يريد بيت المقدس، فلقيه ملك، فظن يعقوب أنه لص؛ فعالجه يصارعه حتى أضاء له الفجر، فلما أضاء لهما الفجر غمز الملك فخذ يعقوب، فتهيج عليه عرق النسا؛ فكان يبيت الليل ساهرًا من وجعه، فأقسم: لئن شفاه اللّه ليحرِّمن أحبّ الطعام والشراب إليه على نفسه؛ فشفاه اللّه من ذلك؛ فحرم لحم الإبل وألبانها؛ لأنها من أحب الطعام والشراب إليه. فإن ثبت هذا فهو إنما حرم ذلك على نفسه بالإذن من اللّه - " تعالى - والأمر منه. ثم إن اليهود قالوا: إنما كان تحريم ذلك من اللّه في التوراة؛ فأمر اللّه - تعالى - نبيه أن قل لهم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أن ذلك التحريم من اللّه في التوراة. ويحتمل أن يكون التحريم كان بظلم منهم؛ كقوله - تعالى -: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ. . .} الآية؛ ثم أنكروا تحريم ذلك بظلمهم، فدُعوا بإحضار التوراة؛ ليظهر كذبهم، فأبوا ذلك. فلا ندري كيف كانت القصة؟ ولكن فيه ثبات دلالة رسالة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث أخبر عما أسروا، وأظهر ما كتموا. قال أبو يزيد: إنما قدر أهل الكتاب على تغيير كتابهم، والزيادة فيه والنقصان، ولم يكن لأحد تغيير القرآن عن وجهه، أو زيادةٍ فيه أو نقصان منه؛ لأن كتبهم تشبه كلام غيره من الحكماء؛ فغيروا بغيره من كلام الحكماء، وأمَّا القرآن: فهو آية معجزة، لم يقدروا على تحريفه ولا تبديله، وإن علم أنه كان كما ذكر؛ وإلا فهو - واللّه أعلم - ليهتك عليهم أستارهم، وليظهر منهم ما كتموا، وفيه إثباث لرسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ٩٥وقوله: {قُلْ صَدَقَ اللّه فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الآية: قد ذكرنا فيما تقدم. ٩٦وقوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) قيل فيه بوجوه؛ قيل: إن أوّل بيت مبارك وضع للناس هو بكة. وقيل: أوّل مسجد وضع للناس مكة. وقيل: يريد بـ " بكة " البقعة، أي: أوّل بقعة خلق اللّه هو بكة، ومنها دحيت الأرض. وقيل: إن آدم - عليه السلام - لما أمر بالحج فيه، قال جبريل - عليه السلام -: " قد حج فيه الملائكة قبلك بألفي عام ". وقيل: خلق اللّه البيت قبل الأرض بألفي عام. ثم اختلف في قوله " بكة "؛ قيل " البكة ": الزحام. وقيل: " البكة ": موضع البيت، ومكة سائر القرية. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " مكة من فخ إلى التنعيم إلى المنحر، وبكة: من البيت إلى البطحاء ". وقيل: " بكة ": الكعبة؛ حيث يبك الناس، أي: يزدحم بعضهم بعضًا، بـ " مكة ": ما وراءها. وقوله: {مُبَارَكًا}، قيل: يغفر فيه الذنوب والخطايا. (وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (٩٦) ٩٧فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ (٩٧) يحتمل قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} - ما لو تأملوا لهداهم؛ وذلك أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - خلق هذا البيت بين الجبال في أرض ملساء قليلة الإنزال والريع، لا ماء فيه ولا شجر ولا نزهة؛ ما لا يرغب الخلق إلى مثله، ثم جعل قلوب الناس تميل وتهوى إليه أفئدتهم من غير أن كان فيه ما يرغبهم من النزهة، فلولا أن كان ذلك من آيات اللّه ولطفه؛ وإلا ما رغب الناس إلى مثله. ويحتمل قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} - ما ذكر: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، وذلك آياته، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}: ظاهره فيمن يجني، ثم دخل الحرم آمِن؛ لأن من لم يجن فهو آمِن أين دخل من الحرم وغيره، وإنما الآية على ما يخص بالأمن إذا دخل الحرم دون غيره. وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوافق هذا، ورُوي عن ابن عباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " إذا أصاب الرجل الحدَّ في الحرم، أقيم عليه، وإن أصابه في غير الحرم، ثم لجأ إليه، لا يُحَدَّث، ولا يُجالَس، ولا يُؤَاكَل، ولا يبايع، حتى يخرج منه؛ فيؤخذ، فيقام عليه الحد ". ورُوي عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " لو وجدنا قاتل أبينا في الحرم لم نقتله " ورُوي عن الحسن - رحمه اللّه - أنه قال في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} -كان هذا في الجاهلية، فأما الإسلام: فلم يزده إلا شدة: من أصاب الحد في غيره، ثم لجأ- إليه أقيم عليه الحد. يقال للحسن: إن الصيد كان يأمن في الجاهلية، ثم الإسلام لا يرفع ذلك الأمن؛ بل كان أمن الصيد في حال الإسلام. كهو في حال الجاهلية؛ فعلى ذلك الأمن الذي كان في الجاهلية هو باقٍ غير زائل في الإسلام. وأصحابنا - رحمهم اللّه - يذهبون إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ وابن عمر - رضي اللّه عنهما - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللّه - تعالى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَها؛ لم تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبلي ولا تُحَلُّ لِأَحَدٍ بَعْدي، وإنَّما أُحِلَّتْ لِي ساعة مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَي خَلَاهَا، وَلَا يُعْضد شَجَرُها، ولا يُنَفَر صَيدُها، ولا يُحْتَشُّ حَشِيشُها ". أخبر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن مكة بعد الإسلام حرام؛ كما كانت قبله، وأنها لم تُحَلَّ له إلا ساعة من نهار، فإذا كان الملتجئ آمنًا قبل الإسلام؛ فالواجب أن يكون آمنًا بعد الإسلام، حتى يخرج منها. وحجة أخرى: وهو أن اللّه - تعالى - أباح لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل المشركين جميعًا، بل فرض ذلك عليه، إلا أهل مكة؛ فإنه لم يُحِلَّ له قتلهم إلا ساعة من نهار، ففضَّل مكة على غيرها بما خصها به من التحريم؛ فلا يبعد ألا يقام على من التجأ إليها في الإسلام؛ إذ كانت جنايته أقل من كفر أهلها، ولم يُحَلَّ قتالُهم إلا ساعة من نهار. وفي الفرق بين من قتل فيها وفي غيرها، ثم لجأ إليه - وجه آخر: قال اللّه - تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}: أباح لهم القتل عند المسجد الحرام، إذا قاتلونا؛ فعلى ذلك يقام الحد إذا أصاب وهو فيه، وإذا أصاب - وهو في غيره - ثم لجأ إليه: لم يُقِم؛ كما لم يُقَاتَلُوا إذا لم يُقَاتِلُوا، وهذا فرق حسن واضح بحمد اللّه وعونه. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} -: يحتمل أن يكون خبرًا من الحرم في قديم الدهر: أنه كان على ما بين الخلق من القتال والحرب يأمنون بالحرم، إذا التجأوا إليه؛ وذلك كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}؛ فيكون ذلك من عظيم آيات اللّه - تعالى - أن أهل الجاهلية - على عظيم ما بدلوا من الأمور، وغيروا من الدِّين - منعهم اللّه - تعالى - عن هذا التغيير؛ حتى بقيت لكل من شهده آية أن اللّه له هذا السلطان، وبه قام هذا التدبير العظيم، له العلم بحقائق الأشياء، ووضع كل شيء موضعه؛ وعلى ذلك قال بعض أهل التأويل في قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ} - إن اللّه قد جعل - جل ثناؤه - ذلك كالماء في الشرع والطبع، فأمّا الشرع: فما جاءت به الرسل، وأمّا الطبع: فما تنافر الناس، حتى سار ذلك إلى الصيد الذي يؤذيه الأخذ، وإلى أنواع الأشياء التي قامت بجوهر تلك البقعة من النبات، لا بأسباب تكتسب؛ ولهذا كره بيع رباع مكة، ورخص في بيع ما يحدث فيه من البنيان، واللّه أعلم. ودلَّ قوله: و {جَعَلنَا} كذا - على لزوم ذلك الحق؛ لأنه مذكور بحرف الامتنان، والاحتجاج له، ولا يجوز تغير الذي هذا وضْعُهُ، واللّه أعلم. ويحتمل: كأنْ صار آمنًا، أي: أوجب له الأمان، ومعلوم أن الذي لم يلزمه القتل كان آمنا دون دخوله؛ فثبت أن ذلك فيمن لزمه؛ وأَيَّد ذلك قوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فهم قوم قد سبق منهم الكفر وقت شرع القتل بالكفر، لم يأخذهم حق الشرع على ما سبق من الكفر في وقت لم يكن ذلك جزاءه في الدنيا، إلا أن يُحْدِثَ القتال؛ فعلى ذلك من لزمه - لا فيه - فهو يأمن به، إلا أن يكون أحدثه فيه، واللّه أعلم. وأصله: أنه أضاف الأمان إلى نفسه بقوله: {كَانَ آمِنًا} فكل حق بِتَلَفِ نَفْسِهِ فله أمان بالدخول فيه، وكل حق في إقامته إحياء ما جعلت الحياة لنفع مثله - فهو يقام؛ ليكون زجرًا له، وتكفيرًا على بقاء الأمن؛ ليقي نفسه، ورده إلى ما لم يدر أنه التجأ إليه؛ للّهرب عن حكم اللّه - تعالى - أو للأمان باللّه؛ ليصل إلى إقامة أحكام اللّه - تعالى - آمنًا، وفي إقامته هذا أيضًا، واللّه أعلم. وقوله {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فرض اللّه - تعالى - الحج بهذه الآية على من استطاع إليه سبيلًا، ولم يبين ما السبيل، وبين ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: حيث سئل عن الاستطاعة؛ فقال: " الزَّاد، والراحِلَةُ "، وهكذا يقول علماؤنا: إن الاستطاعة والسبيل هو الزاد والراحلة؛ كما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقال بعض الناس: إذا كان بينه وبين الحج بحر، لم يلزمه الحج؛ فكأنه ذهب إلى ظاهر الآية: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}؛ فجعل البحر وأشباهه مزيلا للاستطاعة؛ فخالف ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الاستطاعة؟ فقال: " الزَّادُ والرَّاحِلَةُ "؛ فلم يجز لأحد أن يزيد في شرائط الاستطاعة مع الزاد والراحلة؛ لأن النبي - عليه السلام - هو المبين عن اللّه؛ فعلينا اتباعه في قوله وفعله وتفسيره الآية، ولكنا نجعل من يحول بينه وبين البيت معذورًا في التأخير، ولا يأثم - إن شاء اللّه تعالى - إذا لم يقدر على الوصول إلى البيت بعلة على ما جعل التأخير في غيرها من العبادات عند الأعذار والعلل، ولا يأثم في ذلك. ثم في الآية دلالة أنه لا يلزم المرأة الحج إلا بالمحرم؛ لأن المرأة -وإن وجدت الزاد والراحلة- فإنها تحتاج إلى من يُركِبُها ويُنزلها، ولا تقدر على ذلك إلا بغيرها، وهكذا العرف فيهن، فإذا كان كذلك جعل كأنها غير واجدة للراحلة، واللّه أعلم. وفيه دلالة أن العبد إذا حج ثم أُعْتِق - لزمه حجة الإسلام؛ لأنه لا يملك الزاد والراحلة، فإذا لم يملك الزاد والراحلة لم يجز ذلك من حجة الإسلام وكذلك روي عنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أَيُّمَا عَبدٍ حَجَّ وَلَو عَشْرَ حِجَجٍ؛ فَعَلَيهِ إِذَا أُعْتِقَ حَجَّةُ الإسْلامِ ". وليس كالحر - الفقير يحج، ثم أيسر: جاز ذلك من حجة الإسلام؛ ففرقوا بينهما، وإن كانا في زوال الحج في الابتداء سواء؛ وذلك أن الفقير إذا بلغ ذلك المكان صار غنيًا، ولزمه الفرض؛ لأنه لا يحتاج حينئذ إلى زاد وراحلة، وأمّا العبد إذا حضر ذلك المكان لم يَعْتِقْ؛ لذلك افترقا. وفي ذلك حُجة أخرى: ما أجمع أهل العلم أن فقيرًا لو حضر القتال ضرب له بسهم كامل؛ كما يضرب لمن كان فَرضُ الجهاد لازمًا له، ولو أن عبدًا شهد الوقعة رضخ له، ولم يكمل له سهم الحر؛ فافترقت حال الفقير والعبد في: الجهاد، والضرب في السَّهْمان؛ فعلى ذلك يفترق حالهما في الحج، واللّه أعلم. وقال بعض أهل العلم: إن الشيخ الذي لا يستمسك على الراحلة، إذا وجد غيره يحج عنه - يلزمه فرض الحج؛ فما ينكر من قال في المرأة بمثله، فاحتج بما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " جاء رجل إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول اللّه، إن أبي شيخ فأدركته فريضة الحج، وهو لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة؛ أفيجزئ أن أحج عنه؟ فقال - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَرَأيتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْن فَقَضَيتَهُ عَنْهُ، أكان يُقْبَلُ مِنْكَ "؟ قال: نعم؛ قال: " فاللّه أَوْلَى بِحَج أَبِيكَ " أو كلام نحوه، ولكن ليس في الخبر أن فريضة الحج إنما أدركته في الحال التي لا يستمسك على الراحلة، فيجوز أن أدركته فريضة الحج قبل ذلك؛ فكذلك يقول علماؤنا: إن الحج إذا وجب فأخر أداءه حتى أعْسَرَ - لم يسقط عنه الحج، وكذلك إن وجب عليه الحج فلم يحج حتى كبر، فصار لا يستمسك على الراحلة، عليه أن يوصي ليُحَجَّ عنه. ويحتمل -أيضًا- أنه رغبه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الحج عنه تبرعًا، لا أنه ألزمه الحج في ذلك الوقت الذي لا يثبت على الراحلة - وعندنا أنه لا يلزمه؛ لأنه إذا لم يستمسك على الراحلة فلا راحلة له، ثم من قول هذا القائل: إن من لزمه فرض الحج، فله التأخير، وفي التأخير فَوْتٌ أو إدراك المنيّة، ومِنْ قوله: إنه لو أخر حتى مات يصير فاسقا؛ فإذا مات مات فاسقا، يجعل له رخصة التأخير، ثم يفسقه؛ فكأنه يجعل له الرخصة في الفسق، فذلك قبيح وخش من القول سمج. وأما عندنا: فإنه لا يسع له التأخير في أوّل أحوال الإمكان على تمام شرط الاختيار؛ كغيره من العبادات التي لزمت، من نحو الصلاة، والصيام، وغيرهما؛ لا يسع التأخير؛ فعلى ذلك الحج. ثم مِنْ قول الشافعي - رحمه اللّه -: إن على الكافر الحج والصلاة والصيام في حال كفره، فإذا أسلم سقط ذلك عنه؛ فذلك عندنا لعب وعبث في دين اللّه - تعالى - غير جائز أن يلزمه فرض في حال لا يجوز له فعله، فإذا جاء سبب الجواز يسقط عنه ذلك. وفي الآية دلالة أن الحج إنما كان فرضا على المؤمنين خاصة؛ بقوله: {وَمَن كَفَرَ} بالحج {فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فلو كان هو على الكافر كما هو على المسلم، لم يكن لقوله معنى؛ دل أنه غير لازم، واللّه أمر بالعبادات باسم المؤمنين. ثم المسألة بيننا وبين المعتزلة في الاستطاعة، قالت المعتزلة: تكون قبل الفعل؛ لأن اللّه - تعالى - فرض الحج، وأمر بالخروج إليه، إذا قدر على الزاد والراحلة؛ على ما فسره رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا لم يقدر لم يلزمه؛ فدلّ أنها تتقدم. وأمَّا عندنا: فهي على وجهين: أحدهما: استطاعة الأسباب والأحوال. والثاني: استطاعة الأفعال. فأمّا استطاعة الأحوال والأسباب: فيجوز تقدمها، من نحو: الزاد، والراحلة، والجوارح السليمة. وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه؛ فلا تكون إلا معه، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجيء - لا يلزمه إلا بحضور ذلك، فلا يلزمه الخروج أبدًا؛ إذ الحج غير لازم إلا بالوقت، ولأنه ليس على العبد أن يتكلف في اكتساب إيجاب العبادات، وعليه أن يَجْهَدَ في أداء الواجب عليه. ثم الأوقات على أقسام ثلاثة: وقت الإيجاب والأداء جميعًا نحو: الصلاة، والصيام، ونحوهما. ووقت الإيجاب، نحو: الزكاة. ووقت الأداء -وهو الحج- إنما وجوبه بالزاد والراحلة، وأمَّا الوقت: فهو للأداء خاصة، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج؛ لأنه لا يقدر على فعله إذا كان فيما ذكر؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. في الآية دلالة أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أمر عباده بأمر ليس يأمره لحاجة نفسه، ويأمر لحاجة العبد؛ لأنه غني بذاته، لا حاجة تمسه، وأمَّا الأمر فيما بين الخلق: فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض: إمَّا جر منفعة، أو دفع مكروه، فذلك معنى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. ثم اختلف في قوله: {وَمَن كَفَرَ}: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - {وَمَن كَفَرَ} قال: من زعم أنه لم ينزل. وعن الحسن: {وَمَن كفَرَ} قال: من زعم أن الحج ليس بواجب. وقيل: {وَمَن كفَرَ} باللّه، قال: هو الذي إن حج لم يرج ثوابه، وإن جلس لم يخش عقابه. وعن ابن عَبَّاسٍ قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، والسبيل أن يصح بدن العبد، وأن يكون له ثمن زاد وراحلة، من غير أن يحجب ". ثم قال: {وَمَن كفَرَ}، يقول: ومن كفر بالحج فلم ير حجه برًّا، ولا تركه إثمًا. وفي قوله: {وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} دلالتان: إحداهما: في الوجوب بقوله: {وَللّه عَلَى النَّاسِ}، وأيد ذلك قولُهُ: {وَمَن كَفَرَ} وما جاء من الأثر واتفاق القول. والثانية: جعل البيت شرطًا للقيام لما هو في قوله: {عَلَى النَّاسِ} ذلك؛ فيكون فيه دليل لزوم الطواف، تفسيره في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وكذلك أيده قوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}، وأيّد -أيضًا- ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في امرأة نَفِسَتْ: " أَحابِسَتُنا هِيَ؟ " قيل: إنها أفاضت. وعلى ذلك اتفاق القول بلزوم الطواف، واللّه أعلم. فلما دلّ أن الطواف لازم لم يخل إمَّا أن يكون الطواف المبدأ به في الحج، أو الذي يختم به، والذي يبدأ به لا يلزم كل الناس -ثبت أن الفرض هو الذي يختم به، وهو قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}: أوجب جعل السبيل إليه والإمكان- شرطًا للوجوب؛ إذ الآية في ذكر الوجوب لا الفعل؛ وعلى ذلك جميع العبادات، جعل الإمكان في وجوبها شرطًا بالسمع بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، وغير ذلك مما ذكر في كل نوع من العبادات من الاستطاعة؛ وكذا حق هذا بالفعل، وذلك يخرج على وجهين: استطاعة الفعل من القدرة التي تحدث لا محالة ما سلمت الأسباب، إلا أن يكون ممن منه الفعل الإعراض عنها بالشغل بغير تلك الأفعال، أو اشتغال ذلك بالفعل؛ فيكون فوت الاستطاعة بتضييعه، ولا عذر بفوت ما كان المكلف يفوته، كفوت العلم به على الإمكان، وإن كان لا يقوم دونه، والذي يؤيد أن هذه الاستطاعة ليست بشرط في الإيجاب أنها لا تبقى، ثم محال وجودها في حال لو أريد إقامة الحج لا يتهيأ، وذلك نحو أن يكون في أقصى البلاد من مكة، ومعلوم أن القدرة التي بها يكون الفعل ليست معه، ومحال تكليف السبب الذي به يجب الفعل؛ فلذلك لم يجب تكليف بالخروج ولا أمر بالحج؛ فكأنه يؤمر بتكليف سبب الإيجاب -ثبت أن قد يجب الحج لا بتلك القوة؛ وكذلك يجوز في الكفارات استعمال الأبدال في حال العجز، وإن كان لا يعلم أن العجز يمتد إلى آخر ما يقوم به الأصل، بل على ظهور ألا يمتد بمضي البدل- ثبت أنْ لا عبرة لفقد قدرة الفعل ووجودها في التكليف، واللّه أعلم. والثاني: يراد بالاستطاعة: سلامة الأسباب، ولا يجوز التكليف دونها بالفعل لأنه ممنوع، ومحال أمر الممنوع عن الفعل - به؛ كالأعمى، والمُقْعَدِ، ونحو ذلك، وإلى مثل هذا انصرف شرط الاستطاعة، وهو اللازم في العقل؛ لما القرب بحق الشكر لما أنعم على المأمور، فإذا منع عنه السبب الذي هو النعمة لم يحتمل أن يؤمر بالشكر ولا نعمة، واللّه أعلم. وعلى ذلك ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " الزادُ والراحِلَةُ ". واللّه الموفق. وعلى ما ذكرت يخرج قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في وجوب الحج: وإن لم يدرك الوقت الذي فيه يقوم الحج على ما لزمه، وإن لم يكن أصاب المكان الذي فيه يقام - واللّه أعلم بظاهر الآية مع ما ذكرنا من بيان الأثر. وأصله: أن الوقت في الحج جعل لجواز الفعل؛ إذ هو لو فات لا يحتمل في غيره، وكل فعل يجوز في غير وقته فما يقرب من الوقت به كان أحق بالجواز، فإذا لم يجز هذا وجاز في مثله من القابل - ثبت أنه للجواز لا للوجوب؛ وأيد ذلك ما لا يوصف بالقضاء متى أدى، ولو كان في الأول واجبًا لوقت الأول لكان يكون في الثاني قاضيًا، فإذا لم يكن: ثبت أنه ليس لوجوبه وقت، واللّه أعلم. ٩٨وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه}: وآيات اللّه، ما ذكرنا فيما تقدم بمحمّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالقرآن والحجج. {وَاللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}: هو حرف وعيد وتنبيه؛ ينبئهم عن صنيعهم؛ ليكونوا على حذر من ذلك. ٩٩وقوله: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا (٩٩) يحتمل قوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه مَنْ آمَنَ} من الأتباع الذين كان إيمانهم إيمانَ تقليدٍ، لا إيمانًا بالعقل؛ لأن من كان إيمانه إيمانا بالعقل فهو لا يصد، ولا يصرف عنه أبدًا؛ لما عرف حسن الإيمان وحقيقته بالعقل، فهو لا يترك أبدًا، وأما من كان إيمانه إيمان تقليد: فلم يكن إيمانهُ إيمانَ حقيقة، فمثله يصد عنه، إلا أن من يمن اللّه عليه فيشرح صدره؛ حتى يكون على نور منه، وذلك أحد وجوه اللطف. والمقلد غير معذور؛ لما معه ما لو استعمله لأوضح له الطريق، وأراه قبح ما آثر من التقليد، ولا قوة إلا باللّه. ويحتمل قوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه مَنْ آمَنَ}، أي: لم تقصدون قصد صدهم عن سبيل اللّه، وهم لا يرجعون إلى دينكم، أيأس منه إياهم عن أن يرجعوا عن دينهم الذي عليه؛ كقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فيه إياس الكفرة عن رجوع المسلمين إلى دينهم. وقيل: كانوا يصرفون المؤمنين عن الحجج. وقوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}، والعوج: هو غير طريق الحق، وهو الزيغ والتعوج عن الحق. وقوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآء}، {وَأَنتُم تَشْهَدُونَ}: واحدٌ، وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " وأنتم شهداء على الناس ". وقوله: {وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: هو حرف وعيد وتنبيه؛ لأن من علم أن عليه رقيبًا وحافظًا، يكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وفيه أنه لا غفلة بالذي يكون منكم خلقكم، ولكن على علم؛ لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم؛ بل لإظهار الغنى والسلطان، جك جلاله، وعم نواله. ١٠٠وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (١٠٠) الآية تحتمل وجوهًا: أحدها: معلوم أن المؤمنين لا يطيعون الكفار بحال في الكفر، ولكن معناه - واللّه أعلم - أن يدعوهم إلى شيء لا يعلمون أن في ذلك كفرًا، نهاهم أن يطيعوهم، وفي كل ما يدعوكم إليه كفر وأنتم لا تعلمون. ويحتمل: النهي عن طاعتهم، نهاهم عن أن يطيعوهم، وإن كان يعلم أنهم لا يطيعونهم؛ كما نهى الرسولَ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في غير آي من القرآن، كقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، فكذلك هذا. قال الشيخ - رحمه اللّه -: ويشبه أن تكون الآية في عرض أمور عظام ترغب فيها النفس ليكفر بها؛ فحذر عن ذلك بما بين من الاعتناد والخسار في آية أخرى؛ ليعلموا أن ذلك تجارة مخسرة، وقد كانت لهم ولأهل كل دين ومذهب هذا الاعتناد، واللّه أعلم. ١٠١وعلى ذلك قوله: {وَكَيفَ تَكفُرُونَ}. على أن الذي أراكم الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألذ للعقول، وأروح للأبدان مما وُعِدوه مع سوء ألمآب، واللّه أعلم. وقوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّه}: وهو على وجه التعجب ظاهر، ولكنه على طلب الحجة في كفرهم. {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} يدفع عنكم الشبهة التي عرضت لكم بإلقاء الكفار إليكم. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّه}: أي: من جعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ملجأ له، ومفزعًا إليه عند الشبه والإشكال. {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: يحفظه عن الشبه، ويرشده إلى صراط مسمقيم، واللّه أعلم. ويحتمل: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّه}: يتمسك بالذي جاء من القرآن، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. ١٠٢وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ (١٠٢) رُوي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " {حَقَّ تُقَاتِهِ}: أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يُكفر، ويُذكر فلا يُنسى "، وأراد: حق تقاته؛ مما يحتمل وسع الخلق. ورُوي في حرف حفصة: {اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: اعبدوا اللّه حق عبادته، وهذا في اعتقاد التوحيد. وروي عن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول: " لا يتقي اللّه أحد حق تقاته حتى يخزن من لسانه، ويعد كلامه من عمله ". وقيل {اتَّقُوا اللّه}: أطيعوا اللّه حق طاعته. وقيل: إن هذا نسخها قوله: {فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} الآية؛ لكن لا يحتمل أن يأمر الخلق بشيء ليس في وسعهم القيام به، ثم ينسخ ذلك بما يستطاع، ولكن أصله ما رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ للّه عَلَى عِبَادِهِ حَقًّا، وَلِعِبَادِهِ عَلَيهِ حَقًّا، وَحَقّ اللّه على عَبدِهِ: أَنْ يَعْبُدَ اللّه، وَلَا يُشْرِكَ غَيرَهُ فِيهِ. وَحَقُّ العَبدِ عَلَى اللّه: أَنْ يُدْخِلهُ الجَنَّةَ؛ إِذَا عَبَدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ غَيرَهُ فِيهِ أَحَدًا " ليكون هذا تأويلًا للآية أن قوله: {اتَّقُوا اللّه} ولا تكفروه؛ فيكون فيه الأمر بالإيمان، والنهي عن الكفر؛ لأنه ليس في وسع أحد أن يتقي اللّه حق تقاته في كل العبادة؛ ألا ترى إلى ما روي من أمر الملائكة مع ما وصفوا من عبادتهم أنهم {لَا يَفتُرُونَ}، و {لَا يَسْأَمُونَ}، ثم يقولون: ما عبدناك حق عبادتك؟!. وإذا كان أحد لا يبلغ ذلك فلا يحتمل تكليف مثله، وجملته: أن ذلك ليس بذي حدّ وغاية، فلذلك كان - واللّه أعلم - الأمر فيه راجع إلى الإسلام، أو في نفي حق الإشراك خاصة، لا في جميع الأحوال والأفعال، دليله ما ختم به الآية، وفي وسع الخلق ألا يشركوا أحدًا في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}؟!. وفي ظاهر الآية النهي عن الموت إلا مسلمًا، وليس في الموت صنع للخلق، والمعنى - واللّه أعلم -: أي: كونوا في حال إذا أدرككم الموت كنتم مسلمين؛ فالنهي فيه نهي عن الكفر، والأمر بالإسلام، حتى إذا أدركه الموت أدركه وهو مسلم، واللّه أعلم. وقد يكون على بيان ألا عذر عند الموت -وإن اشتد أمره- بالذي ليس بإسلام. وروي عن أبي حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " أكثر ما يسلب الإيمان عند الموت؛ كان الشيطان يطمعه في أمر لو أعطاه ما طلب ". ويحتمل قوله: {اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: احذروا عذاب اللّه حق حذره، واحذروا نقمته؛ كقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ} بمعنى نقمته. ١٠٣وقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا (١٠٣) اختلف فيه؛ قيل: حبل اللّه؛ يعني: القرآن، وهو قول ابن مسعود، رَضِيَ اللّه عَنْهُ. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " حبل اللّه: الجماعة، وإنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها "، أمر بالكون مع الجماعة، ونهي عن التفرق؛ لأن أهل الإسلام هم الجماعة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، وصف أهل دين الإسلام بالجماعة، وأهل أديان غيرها بالتفرق. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -أيضًا- قال: حبل اللّه: الجماعة. ورُوي في بعض الأخبار أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ فَارَقَ الجَمَاعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ مِنْ عُنُقِهِ " يعني: حبل الإسلام. وروي عنه -أيضًا- قال: " إِن الشيطَانَ ذئب الإنسان، كَذِئْبِ الغَنَمِ، يَأْخُذُ الشَاذَّةَ والقَاصِيةَ وَالنَّاحِيَةَ، فَإِياكم والشعَابَ، وَعَلَيكُم بِالجَمَاعَةِ وَالعَامَّةِ وَهَذَا المسجِدِ ". ورُوي عن علي بن أبي طالب، - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " دعاني النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليلةً ثلاث مرات، ثم قال: " يَكُونُ فِي أُمتِي اخْتِلافٌ "، قلت: كيف نصنع يا رسول اللّه إذا كان كذلك؟ قال: " عَلَيكمُ بكِتَابِ اللّه؛ فإنَّ فِيهِ نَبَأَ مَنْ قَبلَكُم، وَخَبَرَ مَا بَعْدَكُم، وهُو حَكَمٌ فِيمَا بَينَكُم، مَنْ يَدَعْهُ مِنْ جَبارٍ يَقْصِمهُ اللّه، وَمَنْ طلب الْهُدَى فِي غَيرِهِ يُضِلَّهُ اللّه، وَهُوَ حَبلُ اللّه المَتِينُ، وَأَمْرُهُ الحَكِيمُ، وَهُوَ الصرَاطُ الْمُستَقِيمُ، وَهُوَ الذي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الألسِنَةُ، وَلَا يَخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدُ، وَلَا تَنْقَضي عَجَائِبُهُ ". وقيل: حبل اللّه: دين اللّه. والحبل: هو العهد؛ كأنه أمر بالتمسك بالعهود التي في القرآن، والقيام بوفائها، والحفظ لها، ونهى عن التفرق كما تفرقت الأمم الخالية، واختلفت في الأديان. وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}: بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: ألّف بين قلوبكم بالإسلام. وقيل: بالقرآن، ولم يكن ذلك للدِّين نفسه، ولكن بلطف من اللّه منَّ به على أهل دينه، وأخبر أن التأليف بين قلوبهم نعمة؛ لأن التفرق يوجب التباغض، والتباغض يوجب التقاتل؛ وفي ذلك التفاني. وعلى قول المعتزلة: ليس من اللّه على المسلم من النعمة، إلا ومثلها يكون على الكافر؛ لأن الهدى والتوفيق -عندهم- هو البيان، فذلك البيان للكافر كهو للمسلم؛ وعلى قولهم - لا يكون من اللّه على أحد نعمة؛ لأنهم لا يجعلون للّه في الهداية فعلا، إنما ذلك من الخلق، وأمَّا عندنا: فإنما يكون الإسلام بهدايته إياه، فذلك من أعظم النعم عليه. وقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}: أي: صرتم بنعمته إخوانا. وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}: أي: كنتم أشفيتم حفرة من النار، وهو القريب منها، لولا أنه من بالإسلام. ويحتمل أن يكون على الكون فيها والوقوع، لا القرب؛ كقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}، ليس على الرؤية خاصة؛ ولكن على الوقوع فيها؛ وكقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} ليس على البعد منها؛ ولكن على الكون فيها، ومثله كثير يترجم على الوقوع فيها. وقوله: {حُفْرَةٍ}: كأنه قال: كنتم على شفا درك من دركات النار، {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. وهذا -أيضًا- على المعتزلة؛ لأن على قولهم: هم الذين ينقذون أنفسهم، لا اللّه، على ما ذكرنا، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - نقول: إذا كان اللّه - تعالى - عندهم قد جمع بين الكفرة والبررة في بذل الأصلح لهم في الذين، وليس منه غير ذلك فلا يجيء أن يمن عليهم به يتألف بنعمته، والتي منه موجود مع التفرق؛ بل أُولَئِكَ تألفوا بنعمتهم. وبعد؛ فإنّ النعمة لو كانت دينًا، فما الذي كان منه حتى يمن، وذلك فعلهم بلا فضل منه فيه؟! واللّه أعلم. وفي قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ} الآية: أنه قد يلزم خطاب الإيمان حين الفترة؛ لأنهم في ذلك الوقت كانوا قد أنقذوا، واللّه الموفق. وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ}: إذ كنتم أعداء في الجاهلية والكفر، متفرقين، وصرتم إخوانًا في الإسلام؛ كلمتكم واحدة. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: لكي تعرفوا نعمته ومنته. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وقد يكون: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ} في حادث الأوقات؛ لتكونوا فيها مهتدين كما اهتديتم؛ فيكون في ذلك وعد التوفيق والبشارة، واللّه أعلم. ١٠٤وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. وقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} يحتمل أن يكون هذا خبرًا في الحقيقة، وإن كان في الظاهر أمرًا؛ فإن كان خبرًا ففيه دلالة أن جماعة منهم إذا قاموا على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - سقط ذلك عن الآخرين؛ لأنه ذكر فيه حرف التبعيض، وهو قوله: {مِنْكُمْ أُمَّةٌ. . .} الآية. ويحتمل أن يكون على الأمر في الظاهر والحقيقة جميعًا، ويكون قوله: {مِنْكُمْ} - صلة، فإن كان على هذا ففيه أن على كل أحد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وذلك واجب؛ كأنه قال: كونوا أمة {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية؛ لأنه ذكر - جل وعز - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آي كثيرة من كتابه، منها هذا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ. . .} الآية، ومنها قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، وذم من تركهما بقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. ورُوي عن عكرمة أن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال له: " قد أعياني أن أعلم ما يفعل بمن أمسك عن الوعظ، فقلت: أنا أعلمك ذلك، اقرأ الآية الثانية: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ. . .}، فقال لي: أصبت. فاستدل ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بهذه الآية على أن اللّه أهلك من عمل السوء، ومن لم ينه عنه من يعمله، فجعل - واللّه أعلم - الممسكين عن نهي الظالمين مع الظالمين في العذاب. وقد رُوي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، وإني سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ، فَلَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ - أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُم اللّه بِعِقَابٍ ". وعن جرير قال: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إن الرجُلَ لَيَكُونُ فِي القَوْمِ، وَيَعْمَلُ فِيهِم بِمَعَاصِي الرحْمَنِ، وَهُم أكْثَرُ مِنْهُ وَأَعَزُّ، وَلَو شَاءُوا أَنْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ لَأَخَذُوا عَلَى يَدِهِ، فَيَرْهَبُوا لَهُ؛ فَيُعَذّبُهُمُ اللّه بِهِ ". وعن حذيفة قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " والَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَعُمَّكُمُ اللّه بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُونَهُ ولا يَستَجِيبُ لكُم ". وعن أبي سعيد الخدري يذكر أنه سمع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " إِن اللّه لَيَسأَلُ العَبدَ يَوْمَ القيَامَةِ حَتى يَقُولَ: مَا مَنَعَكَ إِذَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا أَنْ تُنْكِرَهُ؟ فإذَا اللّه لَقَّنَ عَبدًا حُجتَهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَثِقْتُ بِكَ، وَفَرَقْتُ مِنَ النَّاسِ ". وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: اجتمع نفر من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول اللّه، أرأيت إن قلنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف إلا ما عملنا به، وانتهينا عن المنكر حتى لا يبقى، أيسعنا ألا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر؟ فقال: " مُرُوا بالمَعْروفِ، وإنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلهِ، وانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَإنْ لَمْ تُنْهَوُا عَنْهُ ". ولا ينبغي للرجل أن يقول: لست ممن يعمل بالمعروف كله، وينتهي عن المنكر كله، حتى آمر غيري وأنهاه، فإن فعله المعروف واجب عليه، فلا يجب إذا قصر في واجب أن يقصر في غيره. وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}. يحتمل وجوهًا: يحتمل: {كُنْتُمْ}: أي: صرتم خير أمّة أظهرت للناس؛ بما تدعون الخلق إلى النجاة والخير. ويحتمل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} في الكتب السالفة؛ بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. ويحتمل: تكونون خير أمة إن أمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر. يحتمل: {كُنْتُمْ}: صرتم خير أمة، وكانوا كذلك هم خير ممن تقدمهم من الأمم؛ بما بذلوا مهجهم للّه في نصر دينه، وإظهار كلمته، والإشفاق على رسوله، حتى كان أحب إليهم من أنفسهم؛ ويرونه أولى بهم، واللّه الموفق. ثم اختلف في المعروف والمنكر، قيل: المعروف: كل مستحسن في العقل فهو معروف، وكل مستقبح فيه فهو منكر. ويحتمل الأمر بالمعروف: هو الأمر بالإيمان، والنهي عن المنكر: هو النهي عن الكفر؛ دليله: قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه. . .} الآية، يؤمنون هم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، وينهون عن الكفر. ١٠٥وقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا (١٠٥) لأن التفرق هو سبيل الشيطان بقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: والبينات: هي الحجج التي أتى بها. ويحتمل: بيان ما في كتابهم من صفة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعته الشريف. ويحتمل: تفرقوا عما نهج لهم اللّه، وأوضح لهم الرسل؛ فأبدعوا لأنفسهم الأديان بالأهواء، فحذرنا ذلك، وعرفنا أن الخير كله في اتباع من جعله اللّه حجة له، ودليلًا عليه، وداعيا إليه، ولا قوة إلا باللّه. {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: دل هذا أن السبيل هو الذي يدعو الشيطان إليها. ١٠٦وقوله: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ (١٠٦) وصف اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وجوه أهل الجنة بالبياض؛ لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء؛ لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف - عَزَّ وَجَلَّ - وجوه أهل النار بالسواد؛ لأن السواد هو نهاية ما تكون به الظلمة؛ إذ الألوان لا تظهر في السواد فهو شبيه بالظلمة. وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد - ليس نفس البياض والسواد؛ ولكنّ البياض هو كناية عن شدّة السرور والفرح، والسّواد كناية عن شدة الحزن والأسف؛ كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)، ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك، وليس على حقيقة الضحك؛ ولكن وصف بغاية السرور والفرح؛ وكذلك وجوه أهل النار وصفها بالغبر والقتر؛ وهو وصف بشدة الحزن، واللّه أعلم. وقوله: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}: يحتمل وجوهًا: يحتمل: أكفرتم بألسنتكم بعدما شهدت خلقتكم بوحدانية اللّه تعالى؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانيته. ويحتمل: أي: كفرتم بعدما آمنتم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث بوجودكم، نعته وصفته في كتابكم وعلى هذا قال بعض أهل التأويل: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللّه مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ}: أي: على استجابة كثير منهم من الأجلّة والكبراء، الذين لا يعرفون بالتعنت في الدِّين ولا بالتقليد، واللّه أعلم. ويحتمل قوله: أكفرتم أنتم بعد أن آمن منكم فرق؟!؛ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من كفر، فقال لمن كفر: أكفرتم أنتم وقد آمن منكم نفر؟! ألا ترى أنه قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ}، واللّه أعلم؛ وكقوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ}. وقيل: أراد بالإيمان - الذي قالوا حين أخرجوا من ظهر آدم. وفي الآية ردّ قول المعتزلة بتخليد أهل الكبائر في النار، وإخراجهم إياهم من الإيمان من غير أن أدخلوهم في الكفر؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يجعل إلا فريقين: بياض الوجوه، وسواد الوجوه، فبياض الوجوه هم المؤمنون، وسواد الوجوه هم الكافرون؛ لأنه قال: {أَكَفَرْتُم} فأصحاب الكبائر لم يكفروا بارتكابهم الكبيرة، ولم يجعل اللّه - تعالى - فرقة ثالثة؛ وهم فرقة ثالثة؛ وكذلك قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} لم يجعل الخلق إلا فريقين، وهم جعلوا فرقًا؛ وكقوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. فَإِنْ قِيلَ: ذكر في الآية الكفر بعد الإيمان، ثم لم يكن فيه منع دخول من لم يكفر بعد الإيمان؛ فامتنع ألا يكون فيه منع دخول صاحب الكبيرة فجوابنا ما سبق: أن خلقة كل كافر تشهد على وحدانية اللّه تعالى، لكنهم كفروا بألسنتهم، وذلك كفر بعد الإيمان؛ فلم يجز أن يدخل في الآية من لم يكن كافرًا في حكم الكافر، وباللّه التوفيق. وقوله: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر؛ لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو؛ فكأنه قال: اعلموا أن عليكم العذاب. ١٠٨وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ (١٠٨) يحتمل: {آيَاتُ اللّه}: حجج اللّه وبراهينه. ويحتمل: {آيَاتُ اللّه}: القرآن. قوله تعالى: {بِالْحَقِّ}: ببيان الحق. ويحتمل: {بِالْحَقِّ}: بالدِّين، والدِّين هو الحق، ويحتمل: أن الآيات هي الحق. قال الشيخ - رحمه اللّه -: أي: بالأمر بالدعاء إلى الحق. ويحتمل: الحق الذي للّه على عباده، ولبعضهم على بعض. وقوله: {وَمَا اللّه يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}: والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا كان ما في السماوات وما في الأرض كله له، ومن وصف في الخلق بالظلم إنما وصف؛ لأنه يضع حق بعض في بعض، ويمنع حق بعض؛ فيجعل لغير المحق، فاللّه يتعالى عن ذلك. وقوله: {وَمَا اللّه يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} أي: لا يريد أن يظلمهم، وإن شئت قلت: قلت الإرادة صفة لكل فاعل في الحقيقة؛ فكأنه قال: لا يظلمهم، وكيف يظلم؟! وإنَّمَا يظلم بنفع تسرّه إليه النفس، أو ضرر يدفع به، فالغني بذاته متعال عن ذلك. ١٠٩وقوله: (وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) أي: إليه يرجع أمر كل أحد، فلا يحتمل الظلم أوجود الظلم منه. ١١٠وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقال: " خير الناس أنفعهم للناس و {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}: أي: تأمرونهم، أن يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، والإقرار بما أنزل اللّه، وتقاتلون عليه، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللّه هو أعظم المعروف، والمنكر: هو التكذيب، فهو أنكر المنكر ". وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ "، قلنا: يا رسول اللّه، وما هو؟ قال: " نُصِرتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ، وَسُميتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِى طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأُمم ". قال الشيخ - رحمه اللّه -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} له وجهان: أي: {كُنْتُمْ} على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة. ويحتمل: أي: كنتم صرتم بإيمانكم برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واتباعكم ما معه - خير أمّة على وجه الأرض؛ لأنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: يتوجّه إلى وجوه ثلاثة: المعروف: هو المعروف في العقول، أي: الذي تستحسنه العقول، والمنكر: هو الذي قبحته العقول وأنكرته. ويحتمل أن يكون المعروف: هو الَّذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن، والمنكر: ما عرف بالحجج؛ أي: أنه قبيح. ويحتمل أن المعروف: هو الذي جاء على ألسن الرسل أنه حسن، والمنكر:، هو الذي أنكروه ونهوا عنه. فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية، واللّه أعلم. وقوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر، ولكن معناه - واللّه أعلم - أنهم إنما أبوا الإيمان وتمسكوا بالكفر لوجهين: أحدهما: أنهم كانوا أهل عزة وشرف فيما بينهم، وأهل دراية؛ ينتاب إليهم الناس، ويختلفون إليهم بحوائجهم، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا، فأخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم إن آمنوا لكان خيرًا، لهم من الذكر والشرف والعز في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر؛ ألا ترى أن من آمن منهم مِنْ دَرَسة الكتاب وعلمائهم - كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر؛ نحو: عبد اللّه بن سلام، ومن أسلم منهم؛ نحو: كعب، وغيره من الأحبار؟! وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعز والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم؛ فضلًا عن أهل الإيمان والإسلام، واللّه أعلم. والثاني: أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واختاروا المقام على الكفر؛ خوفًا وإشفاقا على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام، فأخبر - عز وجل - أنهم لو آمنوا لكان خيرًا لهم في الآخرة؛ إذ ذاك ينقطع ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم، لا يزول أبدًا؛ لما كان الذي يُنال بالإيمان غيبًا، وكذلك ما يحلُّ بالكفار من جزاء الكفر - غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر، لما يمنعهم عن الشهوات، وينغص عليهم اللذات، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبر، مع ما كان إدرإك الغائب بالشاهد أمر عسير، لا يوصل إليه إلا بفضل اللّه، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقًا مع ما كان منهم تقديم الجفاء، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، واللّه أعلم. وقوله: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}: كذلك كانوا: كان المؤمنون أقل، والكفار أكثر، واللّه أعلم. ١١١وقوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ (١١١) فيه بشارة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وللمؤمنين، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم، إلا أذى باللسان؛ وهو كقوله - تعالى -: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، وقوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ. . .} الآية، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على عدوهم. وفي قوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى. . .} الآية - دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك باللّه عزّ وجل. ١١٢وقوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ (١١٢) وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ضُربت عليهم المسكنة " وليس فيه الذلة، وفي حرف حفصة: " ضربت عليهم المسكنة والذلة ". ثم اختلف في {الذِّلَّةُ}: قيل: هي الجزية التي ضربت عليهم، وهي ذلة؛ كقوله: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها. وقوله: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} أي: وجدوا. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} يعني: بعهد من اللّه، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدون الجزية؛ وكذلك تأوّل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {بِحَبْلٍ مِنَ اللّه وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} أي: بعهد من اللّه، وعهد من الناس. وقال مقاتل: و " الناس " في هذا الموضع: النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة. ويحتمل قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} بكفرهم فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم. {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} أي؛ لا يوجدون إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس - بالإسلام، أي: لا يظفرون بهم ولا يوجدون؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم. وقوله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّه}: قيل: استوجبوا غضبًا من اللّه بكفرهم. وقيل: رجعوا. وقيل: وجب عليهم الغضب. وقد ذكرنا هذا في غير موضع. واللّه أعلم. وقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}؛ وهي الحاجة والفقر، وهو ما ذكرنا: أنهم ظاهروا المشركين على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مع قربهم برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبعدهم بالمشركين؛ فأذلهم اللّه - تعالى - بذلك، وجعلهم أهل حاجة وَضِعة فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم؛ وهو كقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ. . .} الآية. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم، وهم الذين ذكر اللّه في قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ} الآية، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون. يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات. ويحتمل: أن اللّه - تعالى - جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى؛ وهي الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة، فهي حاجة، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة. ويحتمل: أن اللّه مع ما وسع عليهم الدنيا - جعل في قلوبهم خوف الفقر، وأعظم الحاجات فهي المسكنة. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه}: وآيات اللّه: ما ذكرنا في غير موضع. وقوله: {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}: يحتمل وجوهًا: يحتمل: أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء بغير حق، وهَؤُلَاءِ رضوا بذلك، وإن كانوا لم يتولوا هم بأنفسهم؛ فأضاف اللّه - تعالى - ذلك إليهم؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم؛ وهو كقوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. ويحتمل: أن يكونوا قصدوا قتل مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم، كما ذكرنا في قوله: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا. . .} الآية. ويحتمل: أن يكونوا همُّوا بقتل مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل: أن يكون عَيَّرَهُم بآبائهم؛ إذ هم قلدوهم في الدِّين، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء - عليهم السلام - ليعرفوا به سفههم وسفه كل من قصد تقليدهم، واللّه أعلم. ويحتمل: أن يكونوا قتلوا أتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فأضاف إليه، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين - إلى نفسه؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه، وإن كان اللّه لا يخادع ولا ينصر؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه " لقتلهم الأتباع، واللّه أعلم. ١١٣وقوله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّه. . .} الآية: أي: لا سواء بين من آمن منهم -يعني: من أهل الكتاب- ومن لم يؤمن منهم؛ لأن منهم من قد آمن؛ فصاروا أمّة قائمة؛ قيل: عادلة، كقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. وقيل: أمة قائمة على حدود اللّه، وفرائضه، وطاعته، وكتابه؛ لم يحرفوه. وقيل: أمة قائمة مهتدية، وهم الذين آمنوا منهم. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّه آنَاءَ اللَّيْلِ} أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصلون، ولم يكن هذا للأمم السالفة. وفي حرف حفصة: " ليس أهل الكتاب ليسوا منهم أمة قائمة "؛ كقوله - تعالى -: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ. . .) كذا: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ. . .} الآية. وقوله: {وَهُم يَسْجُدُونَ}: يحتمل قوله: {وَهُم يَسْجُدُونَ}: أي: يصلون. ويحتمل {يَسْجُدُونَ}: يخضعون، والسجود: هو الخضوع. ١١٤(يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) أي: يؤمنون بأنفسهم، ويأمرون غيرهم بالإيمان، ويدعون إليه، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، يعني: الكفر. ويحتمل {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}: كل معروف، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: كل منكر، وقد ذكرنا هذا. {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}: في الخيرات كلها. {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}: وقيل: مع الصالحين في الجنة. قال الشيخ - رحمه اللّه -: أي: ومَنْ ذلك فعله - فهو صالح. ١١٥وقوله: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) أي: لن يرد ذلك عليكم؛ بل يقبل؛ بل تجزون به في الآخرة. قال الشيخ - رحمه اللّه -: أي: كيف يَكْفُرهُ، وهو الشكور الذي يقبل اليسير، ويعطي الجزيل؟!. وهو في حرف حفصة: " فلن تتركوه ": أي: لن تتركوه دون أن تُجزوا عليه؛ وإن قل ذلك؛ كقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}، معناه - واللّه أعلم - ما ذكر، {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}. وقيل: لن يظلمكم. وقيل: لن ينقصكم. وقيل: فلن يضل عنكم؛ بل يشكر ذلك لهم، يعني: فلن يضيع ذلك عند اللّه، واللّه أعلم. {وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ}: ظاهر. ١١٦وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللّه شَيْئًا}: قال الشيخ - رحمه اللّه -: فهو - واللّه أعلم - أن بمثله يكون التناصر في الدُّنيا، لكن الذي كان فيها لا ينفع في الآخرة، بل يكون كما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ. . .} الآية، ثم لا مال له، ثم ولا لو كان فينفع؛ وذلك أنهم ظنوا أن كثرة الأموال والأولاد تمنعهم من عذاب اللّه؛ كقولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، فأخبر اللّه - عَزَّ وَجَلََّّ -: أن كثرة الأموال والأولاد لا تغني عنهم من عذاب اللّه شيئًا. ١١٧وقوله: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ (١١٧) ضرب مثل نفقة الكفار التي أنفقوها بريح فيها صر أصابت حرث قوم، وذلك - واللّه أعلم - أنهم كانوا ينفقون ويعملون جميع الأعمال: من عبادة الأصنام والأوثان، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، ظنوا أن تلك الأعمال والنفقات التي أنفقوها في صد الناس - تنفعهم في الآخرة، وتقربهم إلى اللّه، فأخبر أنها لا تنفع، فكان كالريح التي فيها صرّ وبرد، ظنوا أن فيها رحمة، وشيئا ينفع زروعهم، وينمو بها، فإذا فيها نار أحرقت حرثهم؛ كما طمعوا من أعمالهم ونفقاتهم التي في الدنيا - بالآخرة؛ قربة وزلفة إليه، فإذا هي مهلكة لأبدانهم؛ كالريح التي فيها صر كانت مهلكة؛ محرقة لزروعهم وحرثهم، واللّه أعلم. والصرّ: هو البرد الشديد. وقيل: الصر: الصوت؛ كقوله: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا}. قيل. هي الصوت. قيل: مثل ما ينفقون في الصدّ عن سبيل اللّه، وفي قتال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا. . .} والآية، أي: يتأسفون على ما أنفقوا تأسف صاحب الزرع على ما كان أنفق فيه، واللّه أعلم. وقوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّه وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}: والظلم: ما ذكرنا: هو وضع الشيء في غير موضعه، فهو - واللّه أعلم - قال: هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لا أن وضع اللّه أنفسهم ذلك الموضع؛ لأنهم عبدوا غير اللّه، ولم يجعلوا أنفسهم خالصين سالمين للّه، فهم الذين ظلموا أنفسهم؛ حيث أسلموها لغير اللّه، وعبدوا دونه، فذلك وضعها في غير موضعها؛ لأن وضعها موضعها هو أن يجعلوها خالصة للّه، سالمة له. وقيل: ما ضروا اللّه بعبادتهم غيره وبكفرهم به، إنما ضروا أنفسهم؛ إذ لا حاجة له إلى عبادتهم، واللّه الموفق. قال الشيخ - رحمه اللّه -: تقديم وتأخير، وأصل ذلك أن اللّه قد وضع كل نفس الخلقة بموضع العبودية، فجعلوها عبدة غيره. ١١٨وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ (١١٨) اختلف فيه: قيل: نهى اللّه المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، أو يؤاخوهم، أو يتولوهم دون المؤمنين. وقيل في حرف حفصة: " لا تتخذوا بطانة من دون أنفسكم "، يعني: من دون المؤمنين. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " نهى اللّه المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى، والمنافقين - بطانة دون إخوانهم من المؤمنين، فيحدثوهم ويفشوا إليهم سرهم دون المؤمنين ". والبطانة: قيل: هم الإخوان، ويجعلونهم موضع إفشاء سرهم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: والنهي عن اتخاذ الكافر بطانة لوجهين: أحدهما: العرف به؛ إذ كل يعرف بمن يصحبه. والثاني: الميل إليه بما يريه عدوه أنه حسن العشرة وحسن الصحبة، مع ما فيه الإسقاط عما به يستعان على أمر الدِّين، والإغفال عن حقه. وقوله: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}: يقولون: لا يتركون عهدهم في إفشاء أمركم. وقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}: أي: يودون ويتمنون ما أثمتم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: أي: ودوا أن تشاركوهم في أشياء تؤثمكم ويبعثكم عليه. وقيل: العنت: الضيق؛ أي: ذلك قصدهم؛ كالآية التي تتلوها. وقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}: من قال: إن أول الآية في المنافقين يقول: قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ما ذكر في آية أخرى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، أنهم كانوا يعرفون المنافق في لحن كلامه. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}: ما كان من التفريق بقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، وإظهار السرور بنكبتهم، كقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. . .} الآية. وقوله: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}: وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لهم، ويضمرون العداوة والخلاف لهم، والسعي في هلاكهم فما كانوا يضمرون أكثر ما كانوا، يظهرون. ومن قال بأن الآية في الكفار - فهو ظاهر. وقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}: من الشتيمة والعداوة، ويضمرون أكثر من ذلك من الفساد والشرور، واللّه أعلم. وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}: يحتمل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} البينات، ويحتمل قوله: إن كنتم تنتفعون بعقولكم؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر في غير آي من القرآن أنهم لا يعقلون، قد كان لهم عقول لكنهم لم ينتفعوا بعقولهم، فإذا لم ينتفعوا نفى عنهم العقل رأسًا. ١١٩وقوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (١١٩) من قال: إن أول الآية في المنافقين فهذا يدل له ويشهد؛ لأنه قال: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا. .} الآية. يقول: ها أنتم يا هَؤُلَاءِ المسلمون تحبونهم -يعني: المنافقين- ولا يحبونكم على دينكم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وفي الآية بيان أن أُولَئِكَ قوم يحبهم المؤمنون، إمّا بظاهر الإيمان أو بظاهر الحال، منهم من طلب مودتهم، فأطلع اللّه المؤمنين على سرهم؛ لئلا يغتروا بظاهرهم، وليكون حجة لهم ولرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما أطلعه اللّه على ما أسروا، واللّه أعلم. ومن قال: إن أوّل الآية في الكفار - يجعل قوله: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} على الابتداء، والقطع من الأول؛ لأنه وصفهم بصفة المنافقين، ووسمهم بسمتهم وليس في الأول ذلك. وقوله: {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} هو على التمثيل، يقال عند شدة الغضب: فلان يعض أنامله على فلان، وذلك إذا بلغ الغضب غايته. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}: إنما كان يغيظهم ما كان للمسلمين من السعة، والنصر، والتكثر، والعز؛ فيكون في ذلك دعاء لهم بتمام ذلك، حتى لا يروا فيهم الغير، واللّه أعلم. وفي حرف حفصة: " قل موتوا بغيظكم لن تضرونا شيئًا إن اللّه عليم بذات الصدور " على الوعيد. ١٢٠وقوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ (١٢٠) قال: ليس هذا وصف المنافقين في الظاهر؛ لأنهم كانوا يطمئنون عند الخيرات، لكنّه يحتمل أنهم كانوا يطمئنون بخيرات تكون لهم لا للمؤمنين: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} ذكر في القصة أنهم إذا رأوا للمسلمين الظفر على عدوهم والغنيمة -يسوءهم ذلك، وإذا رأوا القتل والهزيمة عليهم- يفرحون به ويُسَرُّون. وقيل؛ إذا رأوا للمؤمنين الخصب والسعة -ساءهم، وإذا رأوا لهم القحط والجدب وغلاء السعر- فرحوا به، لكن هذا يحتمل في كل خير رأوا لهم -اهتموا لذلك، وفي كل مصيبة ونكبة رأوا لهم- فرحوا بها. وقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} وعد النصر بشرط: {لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، أخبر أن المؤمنين إذا اتقوا وصبروا لا يضرهم كيدهم شيئًا، حتى يعلم أن ما يصيب المؤمنين إنما يصيب بما كسبت أيديهم. قوله: {إِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} على الوعيد. ١٢١وقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}. قوله: {تُبَوِّئُ}: قيل: تهيئ للمؤمنين أمكنة القتال. وقيل: {تُبَوِّئُ}: تنزل المؤمنين. وقيل: {تُبَوِّئُ الْمُؤمِنِينَ}: تتخذ للمؤمنين مقاعد لقتال المشركين. وقيل: {تُبَوِّئُ}: توطن. وقيل: تستعد للقتال. كله يرجع إلى واحد. ثم اختلف في أي حرب كان، وأي يوم؟ قال أكثر أهل التفسير: كان ذلك يوم أُحد. وقيل: إنه كان يوم الخندق. وقيل: كان يوم الأحزاب؛ فلا يعلم ذلك إلا بخبر يصح أنه كان يوم كذا، لكن في ذلك أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر، ويختارون لهم المقاعد، وعليهم تعاهد إخوانهم، ودفع الخلل والضياع عنهم ما احتمل وسعهم، وعليهم طاعة الأئمة، وقبول الإشارة من الإمام، وذلك في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ذكر مقاعد القتال في هذه الآية، لكن الذي لزم من ذلك في آية أخرى - ذكر الصف بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وذكر في آية أخرى الثبات بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا}، والأصل أنهم أمروا بالثبات، فالأحسن أن يختار لهم أمكنة لهم بها معونة على الثبات، واللّه أعلم، فيحتمل أن يكون أراد بالمقاعد القعود، وذلك أثبت للقتال وأدفع للعدو، وفيما ذكر الصف ذكر للجيلة عليه بقوله - عز وجل -: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) فيه رخصة الحملة على العدو، وباجتهاد إن كان فيها تولي الأدبار. ويحتمل أن يكون أراد بالمقاعد: الأماكن والمواطن للقتال والحرب، واللّه أعلم. وقوله: {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. يحتمل. سميع لمقالتكم؛ عليم بسرائركم. ويحتمل: سميع بذكركم اللّه والدعاء له؛ لأنهم أمروا بالذكر للّه، والثبات للعدو بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا}، وعليم بثوابكم. ويحتمل قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: البشارة من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالنصر لهم، والأمن من ضرر يلحقهم؛ كقوله - تعالى - لموسى وهارون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) أمَّنهما من عدوهما بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَسْمَعُ وَأَرَى}، فعلى ذلك يحتمل ذا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ويكون سميع: أي: أسمع دعاءكم؛ بمعنى: أجيب، وأعلم ما به نصركم وظفركم، واللّه أعلم. ١٢٢وقوله: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا (١٢٢) قوله: {هَمَّتْ}: يحتمل: أن همُّوا هَمَّ خطر. ويحتمل: أن همّوا همّ عَزم، وكذلك هذا التأويل في قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}، همَّت هي هَمَّ عزم، وهمَّ هو بها همَّ خطر، وهَمُّ الخطر يقع من غير صنع من صاحبه، وهَمُّ العزم يكون بالعزيمة والقصد. وقوله: {هَمَّت. . . أَن تَفْشَلَا} والفشل ليس مما ينهى عنه؛ لأنه يقع من غير فعله، لكنه - واللّه أعلم - هموا أن يفعلوا فعل القتل والجبن وذكر في القصة أن الطائفتين: إحداهما كانت من بني كذا، والأخرى من بني كذا، فلا يجب أن يذكر إلا أن يقروا هم بذلك. وقيل: إنهم كانوا أقروا بذلك، وقالوا: نحن كنا فعلنا، وما نحب ألا يكون في قوله: {وَاللّه وَلِيُّهُمَا} ظهر لنا ولاية اللّه، ولو لم يكن لم يظهر. وقوله {وَاللّه وَلِيُّهُمَا}. قد ذكرنا هذا في غير موضع: أن " الولي ": قيل: هو الناصر، وقيل: هو الحافظ، وقيل: إنه أولى بهم. وقوله: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قال الشيخ - رحمه اللّه -: المؤمن من يعلم -علم اليقين- أن من نصره اللّه لا يغلبه شيء، ومن يخذله اللّه لا ينصره شيء. حق على المؤمنين ألا يتوكلوا ولا يثنوا إلا على اللّه، عَزَّ وَجَلَّ. قال الشيخ - رحمه اللّه -: فتوكل: أي اعتمد على ما وعد، واجتهد في الوفاء بما عهده، وفوض كل أمره إلى اللّه؛ إذ علم أنه -بكليته- للّه، وإليه مرجعه، وبهذه الجملة عهد أن ينصر دينه، ولا يولي عدوَه دبرَه، واللّه أعلم. ١٢٣وقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} يذكرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ألا يتكلوا إلى أنفسهم لكثرتهم ولقوتهم ولعدتهم، ولا يثقوا بأحد سواه، بل على اللّه يتوكلون، وإليه يكلون، وبه يثقون؛ لأنه أخبر أنهم كانوا أذلة ضعفاء فنصرهم، وأمد لهم بالملائكة حتى قهر عدوهم -مع ضعفهم، وقلة عددهم- يوم بدر. ويوم أحد: كانوا أقوياء كثيري العدد؛ فوكلوا إلى أنفسهم، فكانت الهزيمة عليهم. وقوله: {فَاتَّقُوا اللّه} يعني: اتقوا معاصيه قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وفيه دلالة أن الشكر إنما يكون في طاعته، واتقاء معاصيه، وأن المحنة إنما تكون في الشكر لما أنعم عليه، والتكفير لما سبق منه من الجفاء والغفلة، واللّه أعلم. ١٢٤وقوله: (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) وذكر في سورة الأنفال: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، فاختلف فيه: قيل: كانوا عشرة آلاف؛ لأنه ذكر مرة: ثلاثة آلاف، ومرة: خمسة آلاف. ومرة: ألفا - مردفين؛ فيكون ألفان، فذلك عشرة آلاف. وقيل: كانوا تسعة آلاف: ثلاثة آلاف وخمسة آلاف، وألف وقيل: كانوا كلهم خمسة آلاف: ثلاثة آلاف؛ وألفان مدد لهم. ثم اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: كان يوم أحد. وقال آخرون: يوم بدر. وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، يوم بدر، ولا ندري كيف كانت القصة؟ وليس لنا إلى معرفة القصة حاجة؛ سوى أن فيه بشارة للمؤمنين بالنصر لهم، والمعونة بقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} جعل في ذلك تسكين قلوب المسلمين. ثم اختلف في " قتال الملائكة ": قَالَ بَعْضُهُمْ: قاتل الملائكة الكفار. وقال آخرون: لم يقاتلوا، ولكن جاءوا بتسكين قلوبهم ما ذكر في الآية، ولا يحتمل القتال؛ لأنه ذكر في الآية: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ}، ولو كانوا يقاتلون لم يكن لما يقلل معنى؛ ولأن الواحد منهم كاف لجميع المشركين، ألا ترى أن جبريل - عليه السلام - كيف رفع قريات لوط إلى السماء فقلبها؟! فدلّ لما ذكرنا، واللّه أعلم. وقيل: قاتلوا يوم بدر، ولم يقاتلوا يوم أحد. فلا ندري كيف كان الأمر؟. ١٢٥وقوله: (مُسَوِّمِينَ (١٢٥) قيل: " منزلين "؛ " ومسوّمين " سواء، وهو من الإرسال؛ ومن التسويم. وقيل: معلمين بعلامة، وذلك - وأللّه أعلم - لِيُعْلِمَ المؤمنين حاجتهم إلى العلامة، لا أن الملائكة يحتاجون إلى العلامة؛ وكذلك روي عن نبيّ اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأصحابه يوم بدر: " تَسَوَّمُوا؛ فإن المَلائِكةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ). ١٢٦وقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه (١٢٦) ليعلم أنّ في النصر لطفًا من اللّه لا يوصل إليه بشيء من خلقه؛ لأنه نفاه عنهم مع مدد الملائكة " ليعلم أن كل منصور على آخر - إنما كان ذلك من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ. ١٢٧وقوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (١٢٧) قال قتادة: " كان يوم بدر قتل صناديدهم وقادتهم في الشر ". وقيل: {طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}: جماعة. وقيل: {طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ. . .}: يعني: أهل مكة. وقوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}: قيل: يخزيهم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " الكبت: الهزيمة ". وقيل: الكبت: هو الصرع على وجهه. وقوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}: والخائب: هو الذي لم يظفر بحاجته، أي: رجعوا ولم يصيبوا ما أمَّلوا. قال الشيخ - رحمه اللّه -: ما ذكر من حضور الملائكة الحرب فهو - واللّه أعلم - في حق محنة الملائكة، وللّه أن يمتحنهم بما شاء من الحضور والمعونة، والكف عن ذلك، أو الدعاء لأوليائه بالنصر، وبما شاء اللّه من الوجوه التي يمتحن بها عباده، وفيهم من قد امتحنه على الأرزاق والأرواح، والأمطار والأعمال، وأنواع الأذكار والأفعال؛ إذ هم خلق اصطفاهم واختارهم لعبادته وطاعته في جميع ما يأمرهم؛ ليجل به قدرهم، ويعلي رتبتهم، ثم لو أذن لهم بالمعونة أعانوا المؤمنين على قدر الإذن لهم؛ إذ هم -على ما وصفهم اللّه-: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}. وقوله: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ}، وغير ذلك مما وصفهم بالطاعة له، والاتباع لأمره، وما أكرمهم من هيبة جلاله، وخوف عقابه، صلوات اللّه علمهم أجمعين. ثم كان للمؤمنين في حضورهم أنواع البشارات فيما لم يكن أذن لهم بالقتال، وأنواع الآيات فيما قد أذن لهم، على ما ذكر من أمر بدر وغيره؛ مما أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من إرسال جنوده، وهزيمة أعدائه؛ بمنه وفضله، من ذلك: ما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، أن يكون اللّه يؤيدهم بما به تشجيع قلوب المؤمنين على ما قد أمكن أعداءه من أنواع الوساوس، التي لديها تضطرب قلوبهم، وتزل أقدامهم، فمثله يمكن أولياءه في تشجيع المؤمنين، ليسكن قلوبهم، ويثبت أقدامهم، واللّه أعلم. والثاني: أن يكون الذي جُبل عليه الخلق أن يكون كل أحد عند معاينة الحاجة إلى دعائه، وما يحتمل وسعه من معونة؛ عليه أقبل وبه أرغب؛ فيكون للمؤمنين بحضورهم رجاء النصر بدعائهم، ويخرج قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى لَكُم}، واللّه أعلم. أو كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في عصرهم يبشرهم بحضورهم؛ فيكون لهم بذلك فضل ثبات وقرار حياة منهم بما أعلموا إطلاعهم على ذلك، أو يكون لهم فضل قوة بذلك، وإقبال على الأمر؛ على ما جبل الخلق من الإقبال على الأمور المهمة، وإذا كثروا على ذلك قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ}، ولعلهم -أيضًا- بما يطمعون أنهم لو أطاعوا اللّه، وثبتوا لأعدائه - أن لهم النصر والدفع، فكان ذلك بعض ما يستبشرون؛ وعلى ذلك أكثر ما بلى أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالهزيمة، إنما كان يصرف قلوبهم إلى بعض ما جبل عليه البشر من حب الدنيا، والإعجاب بالكثرة، ونحو ذلك، ثم من أعظم الأعلام في ذلك ما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه} فتكون البشارة والطمأنينة بالذي جبل عليه البشر على ما بينتُ، ويكون النصر من عند اللّه، الذي متى أراد نصر أحد لن يغلب، قلَّت أعوانه أو كثرت، وذلك لطف من اللّه العزيز العليم؛ يريهم النصر من الوجه الذي لا يعلمه إلا هو، وفي حال الأنفس من أنفسهم أن يقوم لعدوهم؛ ليعلموا عظيم لطفه الذي بمثله ارتفعت درجات الأخيار، وشرفت منازلهم، ولو كان لهم بالإذن؛ على ما ذكر من قوة جبريل - عليه السلام - في قلب قريات لوط بجناح واحد، لم يكن يقوم لمثله أهل الأرض، فضلًا عن عدد يسير منهم، ولكنهم لا يتقدمون بين يدي اللّه، واللّه لم يكن أذن لهم في القتال عند كل مشهد، واللّه أعلم. ١٢٨وقوله. {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. . .} الآية. قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}: إنما أنت عبد مأمور؛ فليس لك من الأمر؛ إنما ذلك إلى الواحد القهار، الذي لا شريك له ولا ند؛ كقوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للّه}. وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ. . .} الآية فيه: أنه كان من النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - معنى قولًا وفعلًا، حتى ترك قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}، ولكنا لا نعلم ذلك المعنى، غير أنه قيل في بعض القصة: إن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شج يوم أُحد في وجهه، وكسرت رباعيته، فدعا عليهم؛ فنزل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقيل: إن سرية من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، خرجوا إلى قتال المشركين يقاتلونهم حتى قتلوا جميعًا، فشق على النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه بقتلهم، فدعا عليهم باللعنة - يعني: على المشركين - أربعين يومًا في صلاة الغداة؛ فنزل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد: " اللّهمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيان، اللّهمَّ الْعَنْ فُلانًا، حتى لعن نفرًا منهم " فنزل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ. . .} الآية. وقيل: " إن نفرًا من المسلمين انهزموا، فشق ذلك على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، فأمره بكف الدعاء عنهم، واللّه أعلم بالقصة في ذلك. وقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}: فإن كانت القصة في الكفار فكأنه طلب التوبة والهدى، وأفرط في الشفقة فقال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فيهديهم لدينه، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} على كفرهم؛ {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}؛ كقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. فإن كان في المؤمنين فقوله: {يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} عن ذنبهم الذي ارتكبوا، {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} بذنبهم، ولا يعفو عنهم، واللّه أعلم بذلك. ١٢٩وقوله: (وَللّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (١٢٩) فيه دلالة ما ذكرنا في قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إنما الأمر إلى اللّه، الذي له ما في السماوات وما في الأرض، هو الذي يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء. وفي قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وجواز العمل بالاجتهاد؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - عمل بالاجتهاد لا بالأمر، حتى منع عنه، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ويحتمل أن يكون على أثر أمر مما جبل عليه البشر ما رأى في ذلك صلاح الخلق، ومما عليه التدبير بحيث الإطلاق فقيل هذا، وإن كان على ما رأيت فليس لك من أمر هذا شيء، وإنَّمَا الذي إليك الصفح عن ذلك والإعراض، واللّه أعلم ما كان. ويحتمل أن يكون يبتدئ القول به من غير أن يسبق منه ما يعاتب عليه أو يمنع منه؛ ليكون -أبدًا- مُتَقبلا الإذن له في كل شيء والأمر، ولا يطمع نفسه في شيء لم يسبق له البشارة به، على أن النهي والوعيد أمران جائزان، وإن كان قد عصم عن ركوب المنهي، ووجوب الوعيد؛ إذ هنالك تظهر رتبة العصمة، ولا قوة إلا باللّه. والظاهر أن يكون على إثر أمر استعجل ذلك من: دعاء الإهلاك أو الهداية لقبول الحق والخضوع له؛ فيقول: ليس لك شيء من ذلك في أحد على الإشارة إليه، إنما ذلك إلى اللّه، يصنع فيهم ما عنده من الثواب أو التعذيب، على قدر ما يعلم من إقبالهم على الطاعة له أو نفاذهم عنها، واللّه أعلم. ١٣١وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}. قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} - كقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ففيه نهي عن الأخذ؛ كقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}؛ فعلى ذلك قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}، أي: لا تأخذوا. وقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} فَإِنْ قِيلَ: ما معنى النهي عن المضاعفة وغير المضاعفة حرام؟! لكنه يحتمل هذا وجوهًا: يحتمل: أن يكون هذا قبل تحريم الربا، فنهوا عن أخذ المضاعفة. ويحتمل قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}: أي: لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة. ويحتمل: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، أي: لا تصرّوا على استحلال الربا فتثبتون عليه آخر الأبد. ويحتمل. {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}؛ تضعيف العذاب. ويحتمل ما قيل: كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل، وذلك كان ربا الجاهلية. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}. يحتمل الأكل؛ لأنه نهاية كل كسب. ويحتمل الأخذ؛ كقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}، وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}، وقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}: في الأخذ، أي: لا تأخذوا لتُكَثروا أموالكم، أو تقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد؛ وليس فيه أن القليل ليس بمحرم، لكن ذلك هو مقصود أكله؛ فنهوا عن ذلك، وحرمة القليل بغير ذلك من ليُكَثروا أن يكون في نازلة عليها، خرج النهي لا على الإذن بدون ذلك، ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه، وإن كان في ذلك ضيق، واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون في الآية إضمار؛ فيقول: لا تأكلوا الربا؛ لأنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم - تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات، وقد جعل اللّه للربا أعلامًا دلت على ما غلظ شأنها؛ نحو ما وصف من لا يتقيه لا ينفيه بالخروج بحرب اللّه وحرب رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالتخبط يوم القيامة، وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود، وبتحريم أشياء لمكان ذلك، وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم بتعاطي الربا، واللّه أعلم، {وَاتَّقُوا اللّه} ولا تأخذوا الربا ولا تستحلوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) فيه دلالة أنها إنما أعدت للكافرين، لم تعد لغيرهم، فذلك يرد على المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، واللّه - تعالى - يقول: إنها أعدت للكافرين، وهم يقولون: ولغير الكافرين. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ: يحتمل: للذين اتقوا الشرك؛ كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. ويحتمل: للذين اتقوا جميع أنواع المعاصي: فإن كان التأويل هو الأول -فكل من لم يستحق بفعله اسم الكفر- فهو في الآية؛ إذ قال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، لم يجز أن تكون هي أبدًا لغيرهم؛ لوجهين: أحدهما: إذ لا يجوز أن تكون الجنة المتخذة للمؤمنين تكون لغيرهم؛ فكذلك النار المعدة للكافرين، وهذا أولى بجواز القول في إيجاب الجنة لمن لا يكون منه الإيمان؛ نحو الذرية، وفساد القول فيهم بالنار، واللّه أعلم. والثاني: أنها إذا جعلت لغيرهم أو أعدت لغيرهم -كان لا يكون للكفر فضل هيبة ولفعله فضل فزع في القلوب بوجود ذلك، ومعلوم أن ذلك بالعواقب لا بنفس الفعل- ثبت أنه لا يجب خلود من ليس بكافر فيها حتى يكون ممن أعدّت له، ولغير أثر وتحذير لا تحقيق ذلك كله، واللّه أعلم. وإن التأويل هو الثاني من اتقاء جميع المعاصي؛ فيكون لذلك بعد عبارتان: إحداهما: أن قد ظهر أهل الجنة وأهل النار، وبينهم قوم لم تبلغ بهم الذنوب الشرك، فيدخلون في الوعيد بالنار المعدة لهم، ولا اتقوا جميع المعاصي؛ فيكونون في الوعد المطلق فيمن أعدت له الجنة؛ فحقه الوقف فيه حتى يظهر ذلك في قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وفي قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}، وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}، الآية، وغير ذلك من آيات العفو والمغفرة، وما كان ذلك واجبًا في الحكمة، فيكون القائم به يستحق وصف العدل لا العفو والمغفرة - ثبت أن ذلك فيما قد وجب، أو يكون فيمن يجزيهم جزاءهم ويدخلهم الجنة؛ إذ أخبر أنه لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وبالتخليد مضاعفة ذلك من وجهين: أحدهما: أنه عذاب الكفر، وهذا دونه. والثاني: منع لذة الحسنة بكليتها، بل حق ذلك أن يكون كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الآية، أن يجزي بالأمرين جميعًا، ولا قوة إلا باللّه. والثاني: أنه قد جاء بمقابل السيئة من الحسنات، ومقابل كل أنواع من المعاصي من الطاعات، وقد وعد على الحسنة عشر أمثالها؛ فمحال أن يقابل مثل الذي دون الشرك من السيئات - الشرك في إحباط العمل، ولا يقابل مثل الذي دون الإيمان الإيمان في إحباط الذنوب، ويجب له الجنة، ثم مع ذلك الإيمان الذي لا أرفع منه، وهو الذي بعثه على الخوف والرجاء وقت الإساءة، وعلى أنه لو خشي على نفسه كل بلاء ورجا كل نفع في الكفر بربه - لم يؤثر ذلك مع ما وعد على الحسنة عشر أمثالها، ثم يبطل لذة ذلك كله، ويلزم الخلق القول فيه بالكرم والعفو والرحمة، ولا قوة إلا باللّه. ١٣٢وقوله: (وَأَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ ... (١٣٢) ذكر - واللّه أعلم - طاعة الرسول؛ لأن من الناس من لا يرى طاعة الرسول؛ فأمر - عَزَّ وَجَلَّ - بطاعة رسوله - لئلا يخالفوا أمر اللّه ولا أمر رسوله، وأن من أطاع اللّه ولم ير طاعة رسوله فهو لم يطع اللّه في الحقيقة. ويحتمل: {وَأَطِيعوا اللّه} في أمره ونهيه، وأطيعوا الرسول فيما بين في سننه أو دعا أو بلغ، والقصد في الآية إلى فرض طاعة الرسول، وأطيعوا الرسول في أمره ونهيه، كما أطعتم اللّه في أمره ونهيه. ١٣٣قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، أي: لا تأخذوا الربا أضعافا مضاعفة فتكثروا أموالكم، وحقيقته: وسارعوا إلى ما فيه وعد المغفرة من ربكم: بالإجابة له إلى ما دعا، والقيام به بحق الوفاء. وقوله: {وَاتَّقُوا اللّه} في استحلال الربا؛ لأن من استحل محرما فقد كفر، وحقيقته: اتقوا ما أوعدكم ربكم عليه النار. وأصل الطاعة: الائتمار بأمر المطاع في كل أمر، فمن أطاع اللّه فيما أمر، وأطاع رسوله - رحمه ربه، وفي الطاعة رحمة الخلق؛ على ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا؛ قَالُوا: كُلُّنَا نَرحَمُ يَا رَسُولَ اللّه؟ قَالَ: لَيسَ رَحْمَةَ الرجُلِ وَلَدَهُ؛ وَلَكِنَّهُ رَحْمَةٌ عَامَّةٌ ". قوله: {وَأَطِيعُوا اللّه} في تحريم الربا، وأطيعوا الرسول: في تبليغه إليكم تحريم الربا والنهي عن أخذه. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}: أي: ارحموا الناس وترحموهم في ترك أخذ الربا، ترحمون أنتم، وتنجون من النار ومن عذاب اللّه. ثم قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. أي: بادروا بالتوبة والرجوع عن استحلال الربا والترك عن أخذه، والمغفرة هي فعل اللّه، لكنه - واللّه أعلم - كأنه قال: بادروا إلى الأسباب التي بها تستوجبون المغفرة من ربكم، والمغفرة: هي الستر في اللغة. ثم يحتمل وجهين: يحتمل: ألا يهتك أستاركم في الآخرة إذا تبتم. ويحتمل: أن ينسى عليكم سيئاتكم في الجنة؛ لأن ذكر المساوئ في الجنة تنقص عليهم نعمه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّّ - أنه ينسيهم مساوئهم في الجنة؛ لئلا ينقص ذلك عليهم، واللّه أعلم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}: وبادروا -أيضًا- بالتوبة عن استحلال الربا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فمعنى ضرب مثل الجنة بضرب السماوات والأرض، وذلك - واللّه أعلم - ذكر هو أن للسماوات والأرض أحوالًا ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}؛ وذلك أنهما عندهم من أشد الخلائق وأقواها، فقال: إن الذي قدر على اتخاذ ما هو أشد وأقوى وأصلب - لقادر على إنشاء ما هو دونه، وهو هذا العالم الصغير. ووصف -أيضًا- السماوات والأرض بالغلظ والكثافة والشدة؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَبعَ سماوَاتٍ} {شِدادًا} وغلاظا، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنها مع غلظها وكثافتها تكاد أن تنشق لعظيم ما قالوا بأن للّه ولدًا وشريكًا بقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١)؛ ليعلموا عظيم القول وقبحه؛ لئلا يقولوا في اللّه ما لا يليق به. ووصف -أيضًا- السماوات والأرض بالدوام إلى وقت يبعد فناؤهما في أوهام الخلق، وإن كانا فانيان بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} فإذا كان للسماوات والأرض ما ذكرنا من الأحوال عند الخلق، ليست تلك الأحوال لغيرها من الخلائق؛ من شدتها وقوتها، وصلابتها وكثافتها وسعتها - شبه عرض جنته وسعتها بسعة السماوات والأرض وعرضهما؛ لما هما عند الخلق ليسا بذوي نهاية، وإن كانا ذوي نهاية وغاية؛ كما وصف أهل الجنة وأهل النار بالدوام فيهما بدوام السماوات والأرض، وإن كانا فيهما غير دائمين أبدًا؛ لبعد فنائهما عن أوهام الخلق؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم. وفيه دلالة أن الجنة ذو نهاية المكان في العرض، وإن لم تكن بذات نهاية الوقت وغايته؛ لأنه ذكر العرض لها، وكل ذي عرض يحتمل نهاية عرضه - واللّه أعلم - ولو لم يكن ذا نهاية من حيث العرض، فكأن اللّه غير موصوف بالقدرة على الزيادة، ومن زال عنه وصف ذلك - انقطع عنه الطمع، واضمحل الرجاء. وبعد، فإن ثم دارًا أخرى سوى الجنة، فأوجب ذلك نهاية الجنة من حيث العرض. إذ كان غير الجنة دار أخرى مثلها في ارتفاع نهاية الوقت، وجائز وجود أمرين مختلفين على اتفاق في الوقت، ومحال وجودهما في مكان واحد اتفاق بمكان؛ لذلك لزم نهايتهما، وإن زالت عنهما نهاية الوقت. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}: والاتقاء: هو من الطاعة في كل أمره ونهيه، وترك مخالفته في ذلك كله، ثم سبب التقوى يكون بوجوه ثلاثة: بذكر عظمته وجلاله ورفعته عن مخالفة أمره ونهيه؛ فيذله ذلك ويحقره، فيمنعه عن مخالفته. أو بذكر نعمته وإحسانه، فيمنعه ذلك عن ارتكاب ما نهي عنه حياء منهم. والثالث: بذكر نقمته وعذابه في مخالفة أمره ونهيه؛ فيتقي بذلك عذاب اللّه ونقمته. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، ثم فسَّرَ الذين يتقون إلى آخر ذلك، فهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد: من أعدت له، له من جميع الذي ذكر. والثاني: أن يريد بـ (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ) اتقوا الشرك بالذي أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}. ثم وصفهم بالذي ذكر من الأفعال المحمودة؛ لا أن ذلك بكليته شرط لأن يعد له الجنة حتى يحرم من لم يبلغ ذلك، فإن كان على الأول - فكأنه وصف النهاية لمن أعدّت الجنة، وقد يجوز أن يكون لهم أتباع في الشركة، وإن لم يبلغوا تلك الرتبة بفضل اللّه، أو بما أعطى من ذكر فيهم من الشفاعة، أو بما شاركوا أُولَئِكَ في أصل الاعتقاد بقبول ذلك، وإن كان منهم تقصير على أنه قد يذكر في كل أمر من الأمور العظيمة، والنهاية في ذلك على مشاركة من دونهم لهم في ذلك، وعلى ذلك ما ذكر من بعث الرسل إلى الفراعنة على دخول من دونه في ذلك، وعلى مخاطبة أهل الجلال في ذلك، ودخول من دونهم في الحق؛ وكذلك ذكر الخطاب في أهل الرفعة والعلو على تضمين من دون ذلك؛ فكذلك الأول؛ وكذلك اللّه - سبحانه - ذكر في القرآن من الكفرة الذين جمعوا مع الكفر العناد والتمرد، وذكر أهل الإيمان الذين لهم مع ذلك الخيرات منّا منه، إن ذكر هَؤُلَاءِ بأعلى أما استحقوا من الثناء، والأول، بأعلى ما به يصير لمَقْته، من غير تخصيص في أصل له الوعد والوعيد، إلا من حيث التشديد والتفضيل، فمثله الأول؛ أيد ذلك قسمته أهل الجنة قسمين: السابقين، - وَأَصحَابَ اليَمِينِ، ثم قال في الذين من ذكر: الذين {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} وقد بين في آخر ذلك ما يدل على ذلك، وهو من ذكر من الذين يأتون الفواحش والظلم، ثم {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}، ويكون في ذلك وجهان: أحدهما: أن اللّه - تعالى - بمنِّه يوفقه لما يرضيه في آخر أمره؛ ليختمه به؛ إذ كان في وقت ارتكابه ما ارتكب، وتقصيره فيما قصر - معتقدًا جلال ربه، خائفًا عظمته، راجيًا رحمته، متعرضًا لما عرفه من الكرم والعفو، فيكون هو شريك من ذكر في الخاتمة، وإن كان منه تخلف عنه في الابتداء، واللّه أعلم. أو أن يكون يجزيه عما قصر وفرط؛ حتى يطهره مما كان من الخلط؛ فيرجع إلى ما وافق الأول في جملة الاعتقاد، فتكون معدة لمن جمع ذلك، والجمع يكون بالذي ذكر، أو بالعفو والجود؛ إذ جعل الجزاء طريقه الجود والكرم، لا الاستحقاق، واللّه أعلم. وإن كان على معنى الثاني - فالآية تخرج مخرج الترغيب في جميع تلك الأوصاف، وتكون الجنة في الإطلاق معدّة للمتقين، الذين اتقوا الشركة والدرجات وما فيها من الفضائل والمراتب، على قدر ما يبقى من أنواع الخلاف في الأفعال، ويتوسل إلى اللّه - تعالى - بالمبادرة والمسارعة إلى ما فيه الرغاثب؛ وعلى ذلك أمر الوعد بتفضيل الذرجات في الجنة، وتفريق الدركات في النار، على ما أعدت النار في الجملة للكفرة، ويتفاوت أهلها بتفاوت الأفعال من الخلاف والتمرد، واللّه الموفق. ثم السّبب الذي به يستعان على التقوى ثلاثة: أحدها: أن يذكر المرء عظمته وجلاله وقدرته عليه في كل أحواله؛ فيتقي مخالفته بالهيبة والإجلال. والثاني: أن يذكر عظم منّته عليه، ونعمه عنده، وأياديه التي فيها يتقلب، وبها يتمتع؛ فيتقيه حياء منه. والثالث: أن يذكر نفسه عظم نقمته الموعودة، وعذابه المعد لأهل الخلاف له؛ فيتقيه إشفاقًا على نفسه، واللّه الموفق. وجملة ذلك: أن من تأمل ما إليه مرجعه، والذي منه بدؤه وما فيه متقلبه، من أول أحواله إلى منتهي آجاله، حتى صير ذلك كله كالعيان لقلبه - سَهُل عليه وجه التقوى؛ لما عند ذلك تذهب شهواته، وتضمحل أمانيه، واللّه الموفق. ١٣٤وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ}. قيل: السراء: الرخاء، والضراء: الشدة. وقيل: السراء: السعة، والضراء: الضيق؛ وهو واحد. وقيل: السراء: ما يسرهم الإنفاق؛ من نحو الولد وغيره، يسره الإنفاق عليه، والأجنبي يضره. وعلى تأويل الأول: أن الإنفاق في حال الرخاء والسعة - أيسر وأهون على المرء من الإنفاق في حال الضيق والفقر، فإذا أنفق في الأحوال استوجب بذلك المدح، واللّه أعلم. والسبب الذي يُيَسرُ عليه الأمر وجهان: أحدهما: علمه بأن الذي في يديه في الحقيقة في يد اللّه؛ فهو يصرف ذلك حيث يصرفه، لم يخرجه من يد مَنْ يَدُهُ فِي يَدِهِ، كأنه يعد في يده. والثاني: بعلمه بجود ربه وقدرته، حيث يكون ذلك فيما به قضاء حاجته، والوصول إلى منفعته مع ما يعلم بالجود، وكثرة الانتفاع بما لا ملك للمنتفع به، وحرمان ذي الملك ذلك فيه. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}: يحتمل فيما يسرهم ويضرهم، أو في حال يسر وعسر، أو حال بلاء ونعمة. ثم السبب الذي يسهل سبيل الإنفاق في تلك الأحوال -وإن كان بالذي ذكر في تسهيل التقوى- هذا وجوه ثلاثة: أحدها: أن ترى مالك لمن له يد امتحنك بحق ذلك وحفظه، وأنك إذا بذلته ارتفعتْ عنك مئونة الحفظ، ومراعاة الحق على ما لم يكن ذاك عنك نفعه الذي كان له وقت كونه في يدك؛ إذ هو بعد البذل في يد من يدك قبله في يده، فكأنه لم يخرج من يدك بحيث النفع، وإنما سقطت عنك ما ذكرت من المئونة؛ إذ معلوم وجودها لك في الظاهر؛ لا منتفع به، ومن لا ملك له في الشيء منتفع به، على العلم باستواء الأمر على من له بذلت، واللّه أعلم. والثاني: أن تشعر قلبك جوده بمن آثره على ما عنده، وقدرته على إعطائه إياه من خزائنه التي لا تنفد، ولا يتعذر عليه، فتيقن بذلك، وتعلم أنه لك على الإيصال إليه؛ فيما لم يكن أوصله، وعلى ذلك فيما أعطاه في القدرة واحد؛ فيهون عليه ذلك؛ واللّه أعلم. والثالث: أن تعلم أن الذي عليه جبل وإليه دفع؛ ليس للوقت الذي فيه؛ ولكن ليتزود لمعاده، ويكتسب به الحياة الدائمة، والمنفعة التي لا تنفد، فيصير كبائع الشيء بأضعاف ثمنه، أو كباذل ما فيه فكاك رقبته، أو كمقدم ما يمتهن إلى مكان مهنته، أو كمن يعد الشيء في مسكنه لوقت حاجته، فإن مثله آثَرُ الشيء على الطبيعة، وألذ شيء في العقل. ولا قوة إلا باللّه. ثم الأصل في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي: من لم يبلغ بما يرتكب من المعاصي - الكفر، لم يمتنع من احتمال التسمية المتقين على إرادة خصوص التقوى؛ وهو ممتنع عن احتمال التسمية بالكفر على صرف الآية في إعداد النار إلى خصوص أو عموم، فثبت به خروج صاحب الكبائر عن أهل الاسم الذي أعدّت له النار، ولم يثبت خروجه عن أهل الاسم الذي له أعدت الجنة، فالقول فيه، وإنما ذلك في الجنة فاسد بأوجه: أحدها: مع الإشكال فيما يحرم الجنة، والإحاطة بأن النار لم يذكر أنها أعدت له أدخل فيها، فيكون في ذلك إسقاط شهادة تثبت بيقين بالشك، وإيجاب شهادة لم تجب بالخيال. والثاني: أن يكون في ذلك إسقاط اسم العفو والرحمة؛ إذ لو لم يجعل لمثله - لبطل أن يكون له موضع لما في غيره استحقاق، واللّه أعلم. والثالث: ما فيه إسقاط الموازنة والمقابلة مع مجيء الآيات بالكتب التي تقرأ الموازين التي توزن؛ مع ما في ذلك مخالفته التوهم بالكريم الذي أمرنا أن نسميه بها؛ مع ما قد جاء من التجاوز عن السيئات والتقبل للحسنات من واحد، وفي ذلك قلب ذلك، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}. رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ كَظَمَ غَيظًا - وهُو يَقْدِر عَلَى إِنْفَاذِهِ - مَلأهُ اللّه أَمْنًا وَإِيمَانًا ". والغيظ متردد بين الحزن والغضب، والحزن على من فوقه، والغضب على من دونه، والغيظ بين ذلك، مدحهم - عَزَّ وَجَلَّ - بترديد حزنهم وغيظهم في أجوافهم. ْوقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}. أي: عمّن ظلم. وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " مَا عَفَا رَجُلٌ عَمَّنْ ظَلَمَهُ إِلا زَادَهُ اللّه بِهَا عِزًّا " ومن عفا عن الناس عن مظلمة - فقد أحسن بذلك؛ كما يقال: فلان يحسن بكذا؛ ولا يحسن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. والإحسان يحتمل وجهين: يحتمل: العلم والمعرفة: ويحتمل: أن يفعل فعلًا ليس عليه من نحو المعروف والأيادي الذي ليس عليه، إنما فعله الإفضال، ذكر -هاهنا- المحسنين وحبه، وأخبر في الآية الأولى أن الجنة أعدت للمتقين بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} ثم قال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وأخبر أن النار أعدت للكافرين. ثم اختلفوا فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: من لم يكن من المتقين لم تعدّ الجنة له، فهو ممن أعدّت له النار، وهو قول الخوارج والبغاة. وقال آخرون: إنه أخبر أن النار أعدت للكافرين، فهو إذا لم يكن كافرًا - ليس ممّن أعدت له النار، فهو ممّن أعدّت له الجنة. وقال غيرهم: أخبر أن النار أعدت للكافرين وأخبر أن الجنة أعدت للمتقين، فوصف المتقين: فهم الذين اتقوا معاصيه، وتركوا مخالفة أمره ونهيه، فإذا كان قوم لهم مساوئ - لم يدخلوا في إطلاق قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ولا دخلوا في قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وفيكون لهم موضعًا بالنار. وأما عندنا: فإنه يرجى دخول من ارتكب المساوئ من المؤمنين في قوله - عز وجل -: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}، ذكر خلط عمل الصالح مع السيئ، ثم وعد لهم التوبة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} والعسى من اللّه واجب. والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} فإذا تجاوز لم يبق لهم مساوئ؛ فصاروا من أهل هذه الآية: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. وقوله -أيضًا-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وقالوا: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللّه وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. أخبر أنهم {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لأي معنى ظلموا أنفسهم، حيث لم يسلموا أنفسهم للّه خالصين، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، فإذا لم يسلموا له - وضعوا أنفسهم في غير موضعها، لذلك صاروا ظلمة أنفسهم. {ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي: طلبوا لذنوبهم مغفرة، وأقروا أنه لا يغفر الذنوب إلا اللّه. {وَلَمْ يُصِرُّوا} على ذنوبهم، والإصرار: هو الدوام عليه، ثم أخبر أن جزاء هَؤُلَاءِ المغفرة من ربهم؛ {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا. . .}، إلى آخر ما ذكر. دلّت هذه الآيات على تأييد قولنا: إن أهل المساوئ والفواحش إذا تابوا صاروا ممن أعدّت لهم الجنة، وإن لم يكونوا من المتقين من قبل، فمثله إذا تجاوز اللّه عن سيئاتهم؛ وعفا عنهم بما هو عفو غفور، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. . .} والآية: يحتمل أن يكون الظلم غير الفاحشة. ويحتمل أن يكون واحدًا في المراد؛ إذ قد يكون في المعنى أن كل عاص ظالم لنفسه، بمعنى ضرّها؛ ونحس لحظها؛ إذا فعل ما ليس له الفعل ووضع اختياره في غير موضعه، وهما معنيا الظلم، وكذلك من تعدى حَدَّ اللّه أو آثر ما يزجره العقل والشرع -فقد فحش فعله، وذلك معنى الظلم الذي وصفت؛ إذ فعل ما ليس له، واختياره غير الذي له- هو الذي يزجره العقل والشرع، واللّه أعلم. ويحتمل وجها آخر غير هذين: وهو أن الظلم يجمع كل وجوه الخلاف؛ عظم أو صغر، ولذلك قد نسب ذلك إلى زلات الأخيار، نحو ما قيل لآدم - عليه السلام - في أكل الشجرة: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}، وقيل في الشرك: {إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. والفواحش: ما أظهر وتبين، قبحه؛ لا ما قل أو كثر في الذنوب، وعلى ذلك النقصان ظلمًا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}، وقد يوصف العيب والنقصان بالفحش؛ لكنه إذا كثر وظهر فمثله في الزلات، ويكون كالطيب في المحللات من المباح ونحوه في الدرجة، واللّه أعلم. ثم ليس بنا حاجة إلى معرفة المقصود بالذكر في الآية؛ لما فيها الرجوع عن ذلك، وطلب المغفرة، وكل أنواع المآثم بالتوبة تغفر بما وعد اللّه في الشرك، والزنا، والقتل؛ فما دونه - بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. . .}، إلى تمام الآية، واللّه أعلم. ١٣٥وقوله: (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً (١٣٥) يحتمل الفاحشة: ما فحش في العقل وقبح. وقال آخرون: كل محرم منهيّ فهو فاحشة. والأول كأنه أقرب؛ لأن الشيء ما لم يبلغ في الفحش والقبح غايته؛ فإنه لا يقال: فاحشة، وإذا بلغ الغاية -فحينئذ كالطيب، أنه إنما يقال ذلك إذا بلغ غايته في الحل واللذة، فأما أن يقال لكل حل في الإطلاق طيبًا- فلا، فعلى ذلك: الفواحش؛ لا يقال لكل محظور محرم، إنما يقال ما بلغ في القبح والفحش غايته، فأما أن يقال ذلك لكل محرم منهي - فلا، وباللّه التوفيق. والطيب: ما استطابه الطبع؛ فإذا بلغ طيبه غايته في الطبع؛ فهو طيب، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُم يعْلَمُونَ} أنها معصية فلا يقيمون عليها، ولكن يتوبون، فمن تاب من ذنبه فجزاؤه ما ذكر. ١٣٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. يحتمل أحكامًا، والأحكام تكون على وجهين: حكم يجب لهم، وهو الثواب عند الطاعة، واتباع الحق، وعذاب يحل بهم عند الخلاف والمعصية. ويحتمل " السنن ": الأحكام المشروعة. {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} حتى تروا آثار من كذب الرسل وما حلَّ بهم من العذاب؛ بالتكذيب. أو {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}: أي سلوا من يعلم ما الذي حل بهم حتى يخبروكم ما مضى من الهلاك في الأمم الخالية، فهذا تنبيه من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم أنكم إن كذبتم الرسول - فيحل بكم ما قد حل بمن قد كان قبلكم، وإن أطعتم الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلكم من الثواب ما لهم، فاعتبروا به كيف كان جزاؤهم بالتكذيب. وما في القرآن مثل هذا فمعناه: لو سئلت لأخبروك. وقيل: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ}: أي: تفكروا في القرآن يخبركم عن الأمم الماضية؛ فكأنكم سرتم في الأرض، وما في القرآن مثل هذا - فمعناه: لو سألتَ لأخبروك؛ فإن فيه خبر من كان قبلكم من الأمم، وما لهم من الثواب بالتصديق والطاعة، وما عليهم من العقاب بالتكذيب، واللّه أعلم. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} يحتمل في المكذبين بالرسل والمصدقين، {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يحتمل: لو سرتم فيها لرأيتم آثارهم، ولعرفتم بذلك ما إليه ترجع عواقب الفريقين. ويحتمل: الأمر بالتأمل في آثارهم، والنظر في الأنباء عنهم؛ ليكون لهم به العبر، وعما هم عليه مزدجر. ويحتمل " السنن ": الموضوع من الأحكام، وبما به امتحن من قبلهم؛ ليعلموا أن الذي بلوا به ليس ببديع؛ بل على ذلك أمر من تقدمهم؛ كقوله. {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}؛ وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، واللّه أعلم. ١٣٨وقوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ (١٣٨) يحتمل قوله: {هَذَا بَيَانٌ} يعني: القرآن؛ هو بيان للناس، وهدى من الضلالة. {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي: يتعظ به المتقون. ويحتمل {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ}: ما ذكر من السنن التي في الأمم الخالية. دل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، أن للّه في صرف الدوْلة إلى أهل الشرك فعل وتدبير؛ إذ أضاف ذلك إليه ما به الدولة، ثم ذلك معصية وقهر وتذليل، فثبت جواز كون ما هو فعل معصية إلى اللّه من طريق التخليق والتقدير، واللّه أعلم؛ إذ ذلك لهم بما هم عصاة به - عَزَّ وَجَلَّ - واللّه أعلم. ١٣٩وقوله: (وَلَا تَهِنُوا (١٣٩) ولا تضعفوا في محاربة العدو، ولا تحزنوا بما يصيبكم من الجراحات والقروح؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}، ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَهِنُوا}: في الحرب وأنتم تعملون للّه؛ إذ هم لا يضعفون فيها، وهم يعملون للشيطان. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْزَنُوا} على ما فاتكم من إخوانكم الذين قتلوا. ويحتمل: ما أصابكم من القروح؛ أي: تلك القروح والجراحات لا تمنعكم عن قتال العدو؛ ولكم الآخرة والشهادة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}. قيل فيه بوجوه: قيل: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} في الآخرة. وقيل: {الْأَعْلَوْنَ} المحقون بالحجج. وقيل: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} في النصر؛ أي: ترجع عاقبة الأمر إليكم. ويحتمل أن النصر لكم إن لم تضعفوا في الحرب، ولم تعصوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ورسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}: لكم الشهادة إذا قتلتم؛ وأحياء عند اللّه، وهم أموات. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ليس على الشرط؛ ولكن على الخبر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّه}، أي: إذ كن يؤمن باللّه، وإن كنتم مؤمنين بالوعد والخبر. ١٤٠وقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}. اختلف فيه: قيل: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} في آخر الأمر؛ يعني في أُحد؛ فقد مسَّ المشركين قرح مثله يوم بدر، يذكر هذا - واللّه أعلم - على التسكين؛ ليعلموا أنهم لم يخصوا بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. تحتمل الآية وجوهًا: يومًا للمؤمنين ويومًا عليهم، وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من اللّه - تعالى - إياهم يمتحنهم ويبتليهم؛ مرة بالظفر لهم والنصر على عدوهم، ومرة بالظفر للعدو عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، وكقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، يمتحن عباده، بجميع أنواع المحن، بالخير مرة، وبالشر ثانيًا. ويحتمل المداولة -أيضًا وجهًا آخر: وهو أن الظفر والنصر لو كان أبدًا للمؤمنين- لكان الكفار إذا أسلموا لم يسلموا إسلام اختيار؛ ولكن إنما آمنوا إيمان قهر وكره وجبر؛ لما يخافون على أنفسهم من الهلاك إذا رأوا الدولة والظفر للمؤمنين، وإن كان الظفر والنصر أبدًا للكفار؛ فلعلهم يظنون أنهم المحقون فيمنعهم ذلك عن الإسلام. ويحتمل أن ما يصيب بمعصية المؤمنين إنما يصيب بمعصية سبقت منهم، أو خلاف كان منهم؛ من ترك أمر أو ارتكاب نهي، واللّه أعلم. فإن طعن طاعن من الملاحدة في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ} وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}، أليس وعد أنكم إن نصرتم دينه ينصركم، وأخبر -أيضًا- أنه إن نصركم فلا غالب لكم، فإذا نصرتم دينه فلم ينصركم؛ أليس يكون خلفًا في الوعد؟ أو إن نصركم فغلبتم يكون كذبًا في الخبر. قيل: لهذا جواب من أوجه: قيل: يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: إن تنصروا دين اللّه في الدنيا ينصركم في الآخرة بالحجج؛ كقوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}. وقيل: إن تنصروا دين اللّه ولم تعصوا اللّه فيه - ينصركم؛ فلا غالب لكم. وقيل: يحتمل: إن تنصروا دين اللّه جملةً - ينصركم؛ كقوله - عليه السلام -: " لَنْ يُغْلبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِن قِلَّةٍ، كَلِمَتُهُم وَاحِدَة " وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}. وقيل: إن تنصروا دين اللّه ينصركم؛ أي: يجعل الظفر؛ والنصر في العاقبة لكم، وكذلك: وإن كان في ابتداء الأمر الغلبة على المؤمنين؛ فإن العاقبة لهم في الحروب كلها، ومقدار ما كان عليهم إنما كان لأمر سبق منهم: إمَّا إعجابًا بالكثرة؛ كقوله - تعالى -: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، وإما خلافًا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} دلالة أن كان من اللّه معنى لديه تكون الغلبة لهم؛ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} ولكان هو يجعل أبدًا الدولة لأحد الفريقين، وقد أخبر أنه يجعل لهما، ومعلوم إن كانت الدولة بالغلبة، فثبت أن من اللّه في صنع العباد - صنع له أضيف إليه صنيعهم، واللّه أعلم. ثم معلوم أن الغلبة لو كانت للمسلمين - كان ذلك ألزم للحجة، وأظهر للدعوة، وأدعى إلى الإجابة، وفيها كل صلاح، فثبت أن ليس في المحنة شرط إعطاء الأصلح، واللّه أعلم. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} رد قول الأصلح؛ حيث قالوا: إن اللّه لا يفعل إلا الأصلح في الدِّين، يقال لهم: أي صلاح للمؤمنين في مداولة الكافرين على المؤمنين؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا}: أي: ليعلم ما قد علم بالغيب أنه يؤمن بالامتحان مؤمنًا شاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا. وجائِز أن يراد بالعلم: المعلوم؛ كقوله: الصلاة أمر اللّه، أي: بأمر اللّه. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، تخرج على أوجه: أحدها: أن ما وصفت اللّه به إذا ذكرت معه الخلق - تذكر وقت كون الخلق؛ لئلا يتوهم قدمه، وإذا وصفت اللّه - تعالى - بلا ذكر الخلق وصفته به في الأزل؛ نحو أن تقول: عالم، قادر، سميع - في الأزل، فإذا ذكرت المسموع والمقدور عليه والمعلوم - ذكرت وقت كونه؛ لتزيل توهم القدم على الآخر؛ وعلى هذا عندنا القول بـ " خالق " " رازق " ونحو ذلك، واللّه أعلم. والثاني: على تسمية محلومة علمًا في مجاز اللغة؛ وذلك كما سمّى عذاب اللّه في القرآن أمره، وسمى الناس الصلاة -وغيرها من العبادات- أمره، على معنى أنها تفعل بأمره؛ وكذلك ما سميت الجنة رحمته، على أن كان فيها؛ فيكون: {وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا}: أي: ليكون الذين آمنوا على ما علمه يكون، واللّه أعلم. والثالث: {وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا} في الغيب شهودا؛ إذ هو عالم الغيب والشهادة، وتحقيق ذلك لا يكون بحادث العلم، وذلك نحو من يعلم الغد يكون؛ يعلمه بعد الغد، وإن لم يكن له حدوث العلم قد كان؛ وعلى هذا قيل: ليعلمه كائنًا لوقت كونه ما قد علمه يكون قبل كونه، واللّه أعلم. وقال بعض أهل التأويل: ليكون الذي علمه يكون بالمحنة ظاهرًا موجودًا، وهو يرجع إلى ما بيّنا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: ليراه، وهذا من صاحبه ظن أن الكلام في الرؤية لعله أيسر، وعن التشبيه أبعد، وعند من يعرف اللّه حق المعرفة: هما واحد. والأصل في هذا ونحوه في الإضافات إلى اللّه: أنها كانت بالأحرف المجعولة المتعارف في الخلق، ثم هي تؤدي عن كل ما يضاف إليه، ويشار إليه ما كان عرف من حال ذلك قبل الإضافة، لا أن يقدر عند الإضافة معنى لا نعرفه به لولا ذلك، على ما عرف من الاشتراك في اللفظ والاختلاف في المعنى؛ فعلى ذلك أمر الإضافة إلى اللّه - تعالى - ويوضح ذلك ما لم يفهم أحد من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه}، ما فهم من إضافة الحدود إلى غيره؛ وكذلك بيوت اللّه، وعباد اللّه، وروح اللّه وكلمته، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه. وجائز -في الجملة- أن يوصف اللّه بأنه لم يزل عالمًا بكون كل ما يكون كيف يكون؟ وفي وقت كونه كائنًا؛ وبعد كونه قد مضى كونه؛ على تحقيق التغير في أحوال الذي يكون لا في اللّه - سبحانه وتعالى - إذ تغير الأحوال واستحالتها من آيات الحدث وأمارات الصنعة. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}: قيل فيه بوجهين: أحدهما: " ولم يعلم "، وهو يخرج على وجهين: أحدهما: على إثبات أنه علم أنهم لم يجاهدوا؛ كقول الناس: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، أي: شاء ألا يكون، لا يكون. والثاني: أنه عالم بكل شيء، فلو كان منكم جهاد لكان يعلمه، وإنما لم يعلمه؛ لأنه لم يكن؛ وعلى ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}، أي: ليس لهم. والثاني: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} بمعنى: إلا؛ كقوله: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} - بالتشديد - بمعنى: إلا عليها حافظ؛ فيكون معنى الآية: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}؟! لا تدخلوها إلا أن يعلم اللّه مجاهدتكم، أي: حتى تجاهدوا فيعلم اللّه ذلك منكم موجودًا، واللّه أعلم. وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} أي: ليعلم ما قد علم أنه يصير صابرًا؛ وكذلك قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}، أي: ليعلمن الذين قد علم أنهم يصدقون - صادقين، وليعلمن الذين قد علم أنهم يكذبون - كاذبين، وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ}، أي: حتى يعلم ما قد علم أنهم يجاهدون - مجاهدين، وأصله: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ليعلم شاهدًا ما قد علم غائبًا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} أي: يستشهدون في سبيل اللّه بأيدي عدوهم. ويحتمل: ويتخذ منكم شهداء على الناس؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس، حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم. ١٤١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيُمَحِّصَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا (١٤١) أي: يمحص ذنوبهم وسيئاتهم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: أي: يهلكهم ويستأصلهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيُمَحِّصَ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا}: ما ذكرنا من تمحيص الذنوب على ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " السَّيفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ ". {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}: أي: يهلكهم، ولا يكون السيف تمحيصًا لهم من الكفر، بل يهلكهم في النار. ١٤٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ (١٤٢) قيل: بل حسبتم أن تدخلوا الجنة. {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}. قيل فيه بوجهين: قيل: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه}: أي: ولم يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم؛ أي: لم يجاهدوا. وقيل: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، و " لما " بمعنى: " إلا يعلم "، بمعنى: لا تدخلون الجنة إلا أن يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}: من قرأ بالتشديد؛ فكان معناه:، إلا عليها حافظ "، ومن قرأ بالتخفيف؛ فمعناه: لَعَلَيها حافظ، و " ما " صلة. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}، أي: ظننتم ذلك، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}، وقال في موضع آخر: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} الآية. بمعنى: ولم تجاهدوا، ولم يصبكم مثل الذي ذكر؛ ففي ذلك وعد أن يصيب أُولَئِكَ الذين خاطبهم به ما أصاب من تقدمهم، وأن اللّه قد يعلم أنهم يجاهدون قبل الموت؛ وعلى هذا قال قوم في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّه عَلَيْهِ}: أن يدخلوا الجنة إذا أصابهم مثل الذي أصاب من تقدمهم، واللّه أعلم. فيكون تأويل {لَمَّا}: ولم، والألف صلة. وقيل: يحتمل بالتشديد منه: إلا؛ كما قيل في تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} بالتشديد: " إلا عليها حافظ "؛ فيكون بمعنى الإضمار: لا تدخلوا إلا أن يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم، وقد بينا ما في العلم في الحرف الأول على أنه له وجهان -أيضًا-: أحدهما: أن اللّه لم يعلم بذلك، وهو العالم بكل شيء فلو كان: لكان يعلمه. والثاني: أن يعلموا أن يكونوا لم يجاهدوا بعد، وسيجاهدون على ما بينا، واللّه أعلم. ١٤٣وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}: قيل فيه بوجهين: قيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: تمنون ما فيه الموت، وهو القتال. وقيل: تمنون الموت نفس الموت. ثم يحتمل وجوهًا: يحتمل: يتمنون إشفاقًا على دينهم الإسلام؛ لئلا يخرجوا من الدنيا على غير دينهم الذي هم عليه، ويحتمل أن يكونوا تمنوا الموت، لينجوا أو يتخلصوا من تعذيب الكفار إياهم وتغييرهم؛ على ما قيل: إن أهل مكة كانوا يعذبونهم، طلبوا النجاة منهم والخلاص، واللّه أعلم. وقيل: يتمنون الموت، أي: يتمنون الشهادة؛ لما سمعوا لها من عظيم الثواب وجزيل الأجر، تمنوا أن يكونوا شهداء للّه - عَزَّ وَجَلَّ - أحياء عند ربهم، واللّه أعلم. وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}: وذلك حين أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّّ - عن قتلى بدر، وما هم فيه من الخير؛ فتمنوا يومًا مثل يوم بدر؛ فأراهم اللّه يوم أحد فانهزموا، فعوتبوا على ذلك بقوله: {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}، يعني: يوم أحد. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ}. يحتمل أيضًا، وجوهًا: يحتمل: فقد رأيتم أسباب الموت وأهواله. ويحتمل: فقد رأيتم أصحابكم الذين قتلوا بين أيديكم، على تأويل من صرف قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} إلى القتال، واللّه أعلم. وقوله - عزّ وجلّ -: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}. يحتمل: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}؛ إلى الموت، يعني: إلى موت أصحابكم أو إلى القتال. ويحتمل: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}، أي: تعلمون أنكم كنتم تمنون الموت، واللّه أعلم. ١٤٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ (١٤٤) يحتمل هذا وجهين: يحتمل - واللّه أعلم -: أن يقول لهم: إنكم لما آمنتم بمحمّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث لم تؤمنوا به؛ لأنّه مُحَمَّد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولكن آمنتم بالذي أرسله إليكم، والمُرسِل حي، وإن كان مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قتل أو مات على زعمكم؛ فكيف انقلبتم على أعقابكم؟!. قال الشيخ - رحمه اللّه -: في الآية خبر بانقلاب من علم اللّه أنه يرتد بموت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ}. والشاكرون: الذين جاهدوهم، قد أخبر اللّه - تعالى - أنه يحبّهم ويحبّونه. وقال الحسن: إن أبا بكر الصّديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كان - واللّه - إمام الشاكرين. ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن من كان قبلكم من قوم موسى وعيسى - عليهما السلام - كانوا يكذبون رسلهم ما داموا أحيّاء؛ حتى قال لهم موسى - عليه السلام - {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ}، وكذلك قال عيسى - عليه السلام -: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا} الآية، فإذا ماتوا ادعوا أنهم على دينهم، وأنهم صدقوهم فيما دعوهم إليه، وإن لم يكونوا على ذلك، فلم ينقلبوا على أعقابهم؛ فكيف تنقلبون أنتم على أعقابكم إن مات مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو قتل؟!. والانقلاب على الأعقاب: على الكناية والتمثيل، ليس على التصريح، وهو الرجوع إلى ما كانوا عليه من قبل من الدِّين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّه شَيْئًا}: أي: من ارتد بعد الإسلام فلن يضرّ اللّه شيئًا؛ لأنه لم يستعملهم لنفسه، ولكن إنما استعملهم لأنفسهم؛ ليستوجبوا بذلك الثواب الجزيل في الآخرة، فإنما يضرون بذلك أنفسهم، لا اللّه - تعالى. والثاني: أنه إنما يأمرهم ويكلفهم؛ لحاجة أنفسهم، لا أنه يأمر لحاجة نفسه، ومن أمر آخر في الشاهد: إنما يأمر لحاجة نفس الآمر، فإذا لم يأتمر لَحِق ضرر نَفْس ذلك الآمر، فإذا كان اللّه - سبحانه - يتعالى عن أن يأمر لحاجته؛ وإنما يأمر لحاجة المأمور، فإذا ترك أمره - ضر نفسه، وباللّه التوفيق. {وَسَيَجْزِي اللّه الشَّاكِرِينَ}: قيل: الموحّدين للّه. وقيل: الذين آمنوا وجاهدوا يجزيهم في الآخرة، وكل متمسك بأمر اللّه ومؤتمر بأمره فهو شاكر. ١٤٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه (١٤٥) يحتمل قوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}، أي: لا يموت إلا بقبض المسلط على قبض الأرواح - روحه؛ كقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}: إن مات أو قتل. ويحتمل: {إِلَّا بِإِذْنِ اللّه}: إلا بعلم اللّه. {كِتَابًا مُؤَجَّلًا}: قيل: وقتًا موقتًا، لا يتقدم ولا يتأخر، مات أو قتل، ما لم تستوف رزقها وأجلها. وقيل: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا}، أي: مبينًا في اللوح المحفوظ، مكتوبًا فيه. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}: أي: من أراد بمحاسن أعماله الدنيا نؤته منها. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ}: أي: من يرد بأعماله الصالحات ومحاسنه الآخرة نؤته منها. [{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ}]: وهو كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} على قدر ما قدر {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}؛ فكذلك هذا -أيضًا- واللّه أعلم. ١٤٦وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}: قيل: فيه لغات: أحدها: " قاتل معه " بالألف، وتأويله: وكم من نبي قاتل معه ربيون كثير، فقتل؛ على الإضمار. والثاني: " وكم من نبيّ قُتِل معه ربيون كثير "، برفع القاف. والثالث: " وكم من نبي [قَاتَلَ] معه ربيون كثير " بالنصب. ومعنى الآية - واللّه أعلم -: كم من نبي قتل معه ربيون كثير، فلم ينقلب أتباعه على أعقابهم؛ بل كانوا بعد وفاتهم أشد اتباعًا لهم من حال حياتهم؛ حتى قالوا: لن يبعث اللّه من بعده رسولا؛ فما بالكم يخطر ببالكم الانقلاب على أعقابكم، إذا أخبرتم أنه قتل نبيكم أو مات؟!. وفي إنباء هذه الأمة قصصَ الأمم الخالية وأخبارهم - وجهان. أحدهما: دلالة إثبات رسالة رسولنا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم علموا أنه لم يختلف إلى أحد منهم ممن يعلم هذا، ثم أخبر بذلك، فكان ما أخبر؛ فدل أنه علم ذلك باللّه. والثاني: العمل بشرائعهم وسننهم، إلا ما ظهر نسخه بشريعتنا؛ ألا ترى أنه ذكر محاسنهم وخيراتهم؛ وإنما ذكر لنتبعهم في ذلك ونقتدي بهم، وذكر مساوئهم وما لحقهم بها؛ لننتهي عنها ونكون على حذر مما أصابهم بذلك، واللّه أعلم. وقوله: {رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}: اختلف فيه - عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " عالم كثير "، وعنه -أيضًا-: " الجموع الكثير ". وعن الحسن - رحمه اللّه - مثله. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الألوف. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال في قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}، يقول: قاتل؛ ألا ترى أنه يقول: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ}. ثم اختلف في قوله: {فَمَا وَهَنُوا} {وَمَا ضَعُفُوا}. قيل: فما وهنوا في الدِّين، وما ضعفوا في أنفسهم في قتال عدوهم بذهاب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من بينهم؛ فما بالكم تضعفون أنتم؟! ويحتمل قوله: {فَمَا وَهَنُوا}، يعني: فما عجزوا لما نزل بهم من قتل أنبيائهم، وما ضعفوا في شيء أصابهم في سبيل اللّه من البلايا. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا وَهَنُوا} يرجع إلى: {قَاتَلَ} إلى المقاتلين وفي " قتل " إلى الباقين. وقوله: {وَمَا اسْتَكَانُوا}: قيل: لم يذلّوا في عدو لهم، ولم يخضعوا لقتل نبيهم؛ بل قاتلوا بعده على ما قاتلوا معه؛ فهلا قاتلتم أنتم على ما قاتل عليه نبيكم؛ كما قاتلت القرون من قبلكم إذا أصيب أنبياؤهم، واللّه أعلم. {وَاللّه يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}: على قتال عدوّهم، وعلى كل مصيبة تصيبهم. ١٤٧وقوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا (١٤٧) قيل: وما كان قول الأمم السالفة عند قتل نبيهم - إلا أن قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} الآية، يقول: يعلِّمُ اللّه هذه الأمة ويعاتبهم: هلا قلتم أنتم حين نُعِي إليكم نبيكم كما قالوا القوم في الأمم السالفة؟!. وقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}، قيل: الذنوب: هي المعاصي. وقوله: {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}: والإسراف: هي المجاوزة في الحد، والتعدّي عن أمره. وقيل: هما واحد. وقوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}. يحتمل وجهين: يحتمل: ثبتنا على الإيمان، ودين الإسلام، والقَدمُ كناية؛ كقوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} أي: تكفر بعد الإيمان، وكقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}؛ وذكر القدم لما بالقدم يثبت. ويحتمل قوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وفي قتال العدو، وفزعوا إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذهاب نبيّهم من بينهم؛ ليحفظهم على ما كان يحفظهم في حياة نبيهم. وقوله: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: يحتمل: النصر عليهم بالحجج والبراهين. ويحتمل: النصر بالغلبة والهزيمة عليهم. ١٤٨وقوله: (فَآتَاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدُّنْيَا (١٤٨) يحتمل ثواب الدنيا: الذكر والثناء الحسن، وهم كذلك اليوم نتبعهم ونقتدي آثارهم وهم موتى. ويحتمل -: على ما قيل-: النصر والغنيمة. وقوله: {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ}: الدائم، وذُكِر في ثواب الآخرة " الحُسْن "، ولم يذكر في ثواب الدنيا الحسن؛ لأن ثواب الآخرة دائم لا يزول أبدًا، وثواب الدنيا قد يزول، أو أن يشوب في ثواب الدنيا آفاتٌ وأحزان؛ فينقص ذلك، وليس ثواب الآخرة كذلك، واللّه أعلم. وقوله: {وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الإحسان يحتمل وجوهًا ثلاثة: يحتمل: المحسن: العارف، كما يقال: فلان يحسن ولا يحسن. ويحتمل: المعروف من الفعل -مما ليس عليه- يصنع إلى آخر؛ تفضلًا منه وإحسانًا. ويحتمل: اختيار الحسن من الفعل على القبيح من الفعل والسوء؛ وكان كقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}: هذا يختار المحاسن من الأفعال على المساوئ، واللّه أعلم. ويحتمل: المحسنين إلى أنفسهم باستعمالها فيما به نجاتها. ١٤٩وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ}: يحتمل الطاعة لهم: طاعة الدِّين، أي: يطيعونهم في كفرهم. ويحتمل: الطاعة لهم في ترك الجهاد مع عدوهم؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً} والآية، وقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}. قد ذكرنا، أي: يردوكم على دينكم الأول، وهو على التمثيل والكناية، واللّه أعلم. ١٥٠وقوله: (بَلِ اللّه مَوْلَاكُمْ (١٥٠) أي: أولى بكم، أو ناصركم، أو حافظكم، أو وليكم. {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}: أي: خير من ينصر من نصره؛ فلا يغلب، كقوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}. ١٥١وقوله: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (١٥١) هذه بشارة من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالنصر له؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وكذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " نُصِرتُ بِالرعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ "، وكان ما ذكر؛ لأن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يأتيهم بعد ذلك ويقصدهم، لا أنهم أتوه، وكانوا قبل ذلك يأتون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويقصدونه. وقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}: أي: بالشرك ما فذف في قلوبهم من الرعب، من غير أن كان لهم بما أشركوا حجة أو كتاب أو برهان أو عذر؛ قال ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ: " السلطان في القرآن حجة ". وقوله {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}: أي: مقامهم في النار. {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}: أي: النار بئس مقام الظالمين. ١٥٢وقوله: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ (١٥٢) أي: أنجز اللّه وعده؛ حيث أخبر أنه يلقي في قلوبهم الرعب، وقد فعل. {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}: قال أهل التفسير: [إذ تَقْتُلُونَهُمْ] (١). وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}: __________ (١) في الكتاب المطبوع هكذا [إذ تضلونهم]، والصواب من تفسير القرطبي وغيره. ما أثبتناه. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية). هو على التقديم والتأخير: " حتى إذا تنازعتم وفشلتم "؛ إذ التنازع هو سبب الفشل والجبن؛ كقوله: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} وقيل: في القصّة: إن نفرًا من رماة أمرهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكونوا في مكان، وألا يدعوا موقفهم، فتركوه ووقعوا في غنائمه؛ فعوقبوا على ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}، يحتمل: ما أراكم ما تحبون من الهزيمة والغنيمة. ويحتمل: ما أراكم من النصر لكم على عدوكم، وإنجاز الوعد لكم. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ - {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}: روي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " ما كنا نعرف أن أحدًا من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد الدنيا، حتى نزل قوله:، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}. وقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}. روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله - تعالى -: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}، يعني: هُزِمَ المسلمون، يقول: صرفوا عن المشركين منهزمين، بعد إذ كانوا هزموهم، لكن لما عصوا وتركوا المركز صرفهم اللّه عن عدوه: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ذلك الصرف كان لكم من اللّه ابتلاء ومحنة. وقيل: كان ذلك العصيان -الذي منكم كان- من اللّه ابتلاء؛ ليعلم من قد علم أنه يعصي عاصيًا، واللّه أعلم. ودلّ قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} - وإن كان الانصراف فعلهم -أن اللّه لفعلهم - على ما عليه فعلهم - خالقٌ، وأن خلق الشيء ليس هو ذلك الشيء؛ إذ ذلك الشيء إذا كان انصرافًا عن العدو معصيّة، وقد تبرأ اللّه - تعالى - عن أن تضاف إليه المعاصي، وقد أضاف انصرافهم إلى فعله وهو الصرف - ثبت أنه غير فعلهم، واللّه أعلم. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}: يحتمل وجهين: يحتمل: {عَفَا عَنْكُمْ}؛ حيث لم يستأصلكم بالقتل. ويحتمل: {عَفَا عَنْكُمْ}؛ حيث قبل رجوعكم وتوبتكم عن العصيان. وهذه الآية قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ}، وقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} - ترد على المعتزلة؛ وكذلك قوله - تعالى -: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَليهِمُ القَتلُ}، إلى آخر الآية؛ لأنهم يقولون: هم الذين صرفوا أنفسهم لا اللّه، وهم الذين كتبوا عليهم القتل لا اللّه، وهم الذين يداولون لا اللّه، وقد أضاف - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لا يضيف إليه إلا عن فعل وصنع له فيه؛ ولأنهم يقولون: لا يفعل إلا الأصلح لهم في الدِّين، فأي صلاح كان لهم في صرفه إياهم عن عدوهم؟! وأي صلاح لهم فيما كتب عليهم القتل؟! فدل أن اللّه قد يفعل بعباده ما ليس ذلك بأصلح لهم في الدِّين، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: بالعفو عنهم، وقبول التوبة؛ حيث عصوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتركوا أمره، وعلى قول المعتزلة عليه أن يفعل ذلك؛ فعلى قولهم ليس هو بذي فضل على أحد، نعوذ باللّه من السرف في القول. قال الشيخ - رحمه اللّه -: الفائدة في تخصيص المؤمنين بالامتنان عليهم دون جملة من بعث النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم ومنهم، مع ما ذكر منته بالبعث من أنفسهم، وقد بيّنا وجه المنة في البعث من جوهر البشر - وجهان: أحدهما: أن من لم يؤمن به لم يكن عرف نعمة من اللّه - تعالى - وإن كان - في الحقيقة - نعمة منه لهم، ورحمة لهم وللعالمين، فخص من عرفه ليشكروا له بما ذكرهم؛ وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} أي: هم يقبلون ويعرفون حق الإنذار. والثاني: أنه صار لهم حجة على جميع الأعداء: أنهم لا يطيعون لمعنى كان منهم، إلا وللمؤمنين عليهم وجه دفع ذلك بما كان عليه ما عرفوه به قبل الرسالة؛ لما فيه لزوم القول بصدقه؛ فيكون ذلك منة لهم وسرورًا ونعمة عظيمة؛ فاستأداهم اللّه لشكرها، ولا قوة إلا باللّه ١٥٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ}: فيه لغتان: " تَصْعدون " بفتح التاء، وهو من الصعود أن صعدوا الجبل، " وتُصعدون " بالرفع، وهو أن أصعدوا أصحابهم نحو الوادي؛ لأن المنهزم الأوّل إذا التفت فرأى منهزمًا آخر اشتد. وقيل: الإصعاد هو الإبعاد في الأرض. وقيل: تَصْعدون من صعود الجبل، وتُصعدون في الوادى من الجبل. وقوله: {وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}: أي: لا تلتفتون على أحد، ولا ترجعون. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}. أي: الرسول يدعوكم وينادي وراءكم: إلَيَّ أنا الرسول. وقيل: يناديكم من بعدكم: إِلَيَّ أنا رسول اللّه يا معشر المؤمنين، وكان يصل نداؤه في أخراهم بأولهم بعضهم ببعض، فلم يرجعوا إليه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}: اختلف فيه، قيل: غمّ الأول: الهزيمة والنكبة التي أصابتهم، والغم الآخر: الصوت الذي سمعوا: قُتِل مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - فذلك غم على غم. ويحتمل: {غَمًّا}: بعصيانهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - اغتموا، والغم الآخر: أن كيف يعتذرون إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بتركهم المركز، وعصيانهم إياه والخلاف له. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}: أي: مرة بعد المرة الأولى. وقيل: {غَمًّا بِغَمٍّ}، أي: هزيمة بعد هزيمة: أصابتهم هزيمة بعد هزيمة من قتل إخوانهم، وإصابتهم الجراحات. وقيل: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا}: بعصيانكم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، {بِغَمٍّ}: الذي أدخلوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بترككم المركزَ والطاعةَ له، وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} وهو غم الهزيمة والنكبة، بالغم الذي أدخلوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في عصيانهم إياه، وإهمالهم المَقْعَد الذي أمرهم بالمقام فيه. وقيل: غمًا بالغم الذي له تركوا المركز، وهو أن غمهم اغتنام أصحابهم. وقيل: غم الاعتذار إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالغم الذي جنوه به؛ حيث مالوا إلى الدنيا، وعصوه فيما أمرهم. وقيل: غمًا على أثر غم، نحو: القتل، والهزيمة، والإرجاف بقتل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحقيقته: أن يكون أحد الغمين جزاء، والآخر ابتداء، وفي ذلك تحقيق الزلة والجزاء؛ وذلك كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}: يعني: من الفتح والغنيمة، ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة. ويحتمل قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} من الدنيا، {وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}: فيها من أنواع الشدائد؛ بما أدخلتم على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الغمّ بعصيانكم إيّاه. {وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}: على الوعيد. ١٥٤وقوله: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ (١٥٤) قيل فيه بوجهين؛ قيل: الطائفة التي أتاهم النعاس هم المؤمنون، سمعوا بانصراف العدو عنهم فصدقوا الخبر فناموا؛ لأن الخوف إذا غلب يمنع النوم، وأمَّا الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون، لم يصدّقوا الخبر فلم يذهب عنهم الخوف، فلم ينعسوا؛ وذلك كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} الآية. وقيل: كانت الطائفتان جميعًا من المؤمنين، لكن إحداهما قد أتاها النعاس؛ لما أمنوا من العدو، والأخرى لا؛ بعصيانهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وترْكِهم أمره منع ذلك النوم عنهم؛ إذ كيف يلقون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وكيف يعتذرون إليه؟ واللّه أعلم. وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - قال: " النُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيطَانِ، وَفِي القِتَالِ أَمَنَة مِنَ اللّه ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}: قيل: يظنون باللّه ألا ينصر محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ذا في غير المؤمنين. وقيل: {يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الْحَقِّ} [ظنونًا] كاذبة، إنما هم أهل شرك وريبة في أمر اللّه، يقولون: [{لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}]. وقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَقُوُلونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}: قيل: يقولون بعضهم لبعض: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}، يعني بالأمر: النصر والغنيمة. وقيل: قالوا ذلك للمؤمنين. {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للّه} يعني النصر والفتح كلّه بيد اللّه. {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ}: والذين يخفون قولهم: لو أقمنا في منازلنا ما قتلنا هاهنا، وقيل: يقولون: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، قالوا: ليس لنا من الأمر من شيء؛ إنما الأمر إلى مُحَمَّد، ولو كان الأمر لنا ما خرجنا إلى هَؤُلَاءِ حتى قتلنا هاهنا. قال اللّه - تعالى -: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}: قيل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} كما يقولون: {لَبَرَزَ}، يعني: لخرج من البيوت {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ}؛ ليقتلوا. وقيل: من كتب عليه القتل يظهر الذي كتب عليه حيث كان. وقيل: إذا كتب على أحد القتل لأتاه، ولو كان في البيت، وكقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}، وقيل: متى كتب اللّه على قوم القتل فلم يموتوا أبدًا؟! وفي هذا بيان أن الآجال المكتوبة هي التي تنقضي بها الأعمار: إن كان قتلًا فقتل، وإن كان موتًا فموت، لا على ما قالت المعتزلة: إن القتل تعجيل عن أجله المكتوب له وعليه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِيَبْتَلِيَ اللّه مَا فِي صُدُورِكُمْ}: والابتلاء هو الاستظهار؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} تبدي وتظهر، وذلك يكون بوجهين: يظهر بالجزاء مرة، ومرة بالكتاب، يعلم الخلق من كانت سريرته حسنة بالجزاء، وكذلك إذا كانت سيئة، أو يعلم ذلك بالكتاب. وقوله - تعالى -: {وَلِيَبْتَلِيَ اللّه مَا فِي صُدُورِكُمْ}، أي: ليظهر اللّه للخلق ما في صدورهم مما مضى، وليجعله ظاهرًا لهم. {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من الذنوب. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " الابتلاء والتمحيص هما واحد ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: يقول: هو عالم بما في صدورهم من سرائرهم، ولكن يجعلها ظاهرًا عندكم. ويحتمل الابتلاء -هاهنا- الأمر بالجهاد؛ ليعلموا المنافق منهم من المؤمن، واللّه أعلم. ١٥٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ (١٥٥) يعني: إن الذين انصرفوا عن عدوهم مدبرين منهم منهزمين يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين. وقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}: أي: إنما انهزموا ولم يثبتوا خوفًا أن يقتلوا بالئبات؛ فيلقوا اللّه وعليهم عصيان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فكرهوا أن يقتلوا وعليهم معصية رسول اللّه جمم؛ خوفًا من اللّه - تعالى -. {وَلَقَدْ عَفَا اللّه عَنْهُمْ} وبما خافوا اللّه بعصيانهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} - أن اللعين لما رآهم أجابوه إلى ما دعاهم من اشتغالهم بالغنيمة، وتركهم المركز، وعصيانهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - دعاهم إلى الهزيمة، فانهزموا وتولوا - عدوَّهم. ويحتمل قوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، أي: بكسبهم، قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}؛ فكذلك هذا، واللّه أعلم. {إِنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ}. قَبِلَ توبتكم، وعفا عنكم، {حَلِيمٌ} لم يخزكم وقت عصيانكم، ولا عاقبكم، أو حليم بتأخير العذاب عنكم. ١٥٦وقوله - عزّ وجلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى} الآية. اختلف في قوله - تعالى -: {الَّذِينَ كفروا}، قَالَ بَعْضُهُمْ: نهى المؤمنين أن يكونوا كالذين كفروا في السر والعلانية. {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}، يعني: المنافقين، {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}. وقيل: لا تكونوا كالمنافقين قالوا لإخوانهم -يعني: لبعضهم-: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وقيل: قالوا لإخوانهم، يعني: المؤمنين الذين تولوا، وهم كانوا إخوانهم في النسب، وإن لم يكونوا إخوانهم في الدِّين والمذهب. لا حاجة لنا إلى معرفة قائله من كان، ولكن المعنى ألا يقولوا مثل قولهم لمن قتل. وقوله: {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ}، يعني: إذا ضربوا في الأرض تجارًا أو " غزى "، أي: غزاة. وقيل: قوله: {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} أو كانوا غزاة على إسقاط الألف. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}: أي: ليجعل اللّه ذلك القول الذي قالوا حسرة يتردد في أجوافهم. ويحتمل قوله: {لِيَجْعَلَ اللّه ذَلِكَ حَسْرَةً} يوم القيامة؛ كقوله: {أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: واللّه يحيي من ضرب في الأرض وغزا، ويميت من أقام ولم يخرج غازيًا، أي: لا يتقدم الموت بالخروج في الغزو، ولا يتأخر بالمقام وترك الخروج، دعاهم إلى التسليم، إنما هي أنفاس معدودة، وأرزاق مقسومة، وآجال مضروبة، ما لم يفناها واستوفاها وانقضى أجلها: لا يأتيها. {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}: وعيد. ١٥٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) أي أن الموت إن كان لا بدّ نازل بكم؛ فقتلكم أو موتكم في طاعة اللّه وجهاده خير من أن ينزل بكم في غير طاعة اللّه وسبيله. {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون}: من الأموال. ١٥٨(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللّه تُحْشَرُونَ (١٥٨) أي: إن متم على فراشكم، أو قتلتم في سبيل اللّه - فإليه تحشرون، فمعناه - واللّه أعلم - أي: إن لم تقدروا على أن لم تحشروا إليه، كيف تقدرون ألا ينزل على فراشكم بكم الموت، وإن أقمتم في بيوتكم؟! واللّه أعلم. ١٥٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ}: يحتمل هذا وجهين: يحتمل: فبرحمة من اللّه عليك لنت لهم؛ كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ويحتمل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ}: فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلقه؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا "، فقيل: كلنا نرحم يا رسول اللّه، فقال: " لَيسَ تَرَاحُمَ الرجُلِ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ، وَلَكِنْ يَتَرَاحَمُ بَعْضُهُم بَعْضًا " أو كلام نحو هذا. وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرحَم صَغِيرَنَا، وَلَم يُوَقر كَبِيرَنَا - فَلَيسَ مِنَّا "، وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرحَمْ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ يَرحَمْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ "؛ كما قال اللّه - تعالى -: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه} الآية، وقد أمر اللّه عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين، إلا عند المعاندة والمكابرة؛ فحينئذ أمر بالقتال؛ كقوله لموسى وهارون -حيث أرسلهما إلى فرعون- فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وكان اللين في القول أنفذ في القلوب، وأسرع إلى الإجابة، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول، وذلك ظاهر في الناس؛ لذلك أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسله باللين من المعاملة، والرحمة على خلقه، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} في القول {غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي: لو كنت في الابتداء فظًّا غليظًا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك. وقوله - عزّ وجل -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} بأذاهم إياك ولا تكافِهِم، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم. ويحتمل قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} بما عصوك ولا تنتصر منهم، وكذلك أمر اللّه المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم، وألا ينتصروا منهم بقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ}، وكان أرجى للمؤمنين قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}؛ كما قال اللّه - تعالى -: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ. . .} الآية، وقوله -أيضًا-: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}: لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل، وإذا فعل لا يجاب؛ فدل أنه ما ذكرنا، واللّه أعلم. وكذلك دعاء إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}، ودعاء نوح - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، لا يجوز أن يدعو هَؤُلَاءِ الأنبياء - عليهم السلام - ثم لا يجاب لهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}: أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمر؛ ففيه وجوه ثلاثة: أحدها: أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص، وإنما يأمر بها فيما لا نص فيه؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد. والثاني: لا يخلو أمره بالمشاورة، إما لعظم قدرهم وعلو منزلتهم عند اللّه، أو لفضل العقل ورجحان اللب؛ فكيفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم، ولا جائز -أيضًا- أن يأمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورة أصحابه، ثم لا يعمل برأيهم؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم. وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال، وعن الحسن - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " لما أنزل اللّه - تعالى -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} - قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللّه ورَسُولَهُ غَنيَّانِ عَنْ مُشاوَرَتِكُم "؛ ولكنه أراد أن يكون سُنَّة لأمته "، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كان يقرأ: " وشاورهم في بعض الأمر ". وقيل: أمر اللّه نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القومِ، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضًا فأرادوا بذلك وجه اللّه - عزم اللّه لهم على أَرْشدِهِ. وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم، لا يشاورهم في الأمر شق عليهم؛ فأمر اللّه النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاورهم في الأمر إذا أراد؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم. وفي بعض الأخبار قيل: " يا رسول اللّه، ما العزم؟ قال: " أن تستشير ذا الرأي، ثم تطيعه ". وكان يقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد ثبور، قيل: الثبور: الذي لا يستشير ويعمل برأيه. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}: أي: لا تتكلن إلى نفسك، ولا تعتمدن على أحد؛ ولكن اعتمد على اللّه وَكِلِ الأمر إليه. وقيل: فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو - واللّه أعلم - لا تعجبن بالكثرة، ولا ترَيَنَ النصر به، ولكن اعتمد بالنصر على اللّه؛ كقوله - تعالى -: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، واللّه أعلم بما أراد، بذلك؛ كقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه}. ١٦٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ (١٦٠) صدق اللّه من كان اللّه ناصره؛ فلا يغلبه العدو من بعد. {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} أي: يترككم {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ}: والنصر يحتمل وجهين، يحتمل: المعونة، ويحتمل: المنع: كقوله - تعالى -: {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه}، أي: أعانكم اللّه؛ فلا يغلبكم العدو، {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ}: ولم يعنكم؛ فمن ذا الذي أعانكم سواه؟! ومن المنع، أي: إن منع اللّه عنكم العدوَّ، فلا غالب لكم، {وَإن يَخْذُلكُم}، ولم يعنكم، فمن الذي يمنعكم من بعده؟! والخذلان في الحقيقة هو: ترك المأمول منه ما أُمِّلَ منه، واستعمل في هذا كما استعمل الابتلاء على غير حقيقته. وقوله: {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}: هو على الأمر في الحقيقة كأنه قال: وعلى اللّه فتوكلوا أيها المؤمنون. والتوكل: هو الاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، لا بالكثرة والأسباب التي يقوم بها، من نحو: القوة والعدة والنصرة والغلبة، وفي الشاهد إنما يكون عند الخلق بثلاث: إمّا بالكثرة، وإما بفضل قوَّة بطش، وإمَّا بفضل تدبير ورأي في أمر الحرب، وجميع نصر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وغلبته على عدوه إنما كان لا بذلك؛ ولكن بالتوكل عليه وتفويض الأمر إليه؛ دل أن ذلك كان باللّه - عزَّ وجلَّ - وذلك من آيات نبوته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ١٦١وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} فيه قراءتان: " يَغُلَّ " بنصب الياء، وبرفع الياء ونصب الغين، ومن قرأه بنصب الياء فذلك يحتمل وجهين: يحتمل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: لم يكن نبي من الأنبياء غل قط، وهو أحق من لا تتهمونه؛ لعلمكم به؛ فكيف اتهمتموه هنا بالغلول؟! وقيل: إن ناسًا من المنافقين خَشوا ألا يقسم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الغنيمة بينهم؛ فطلبوا القسمة؛ فنزلت هذه الآية. وقيل: قالوا: اعدل يا مُحَمَّد في القسمة؛ فنزل هذا. ويحتمل قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: قد كنتم عرفتموه من قبل أن يرسل، فما عرفتموه خان قط أَوْ غَلَّ؛ فكيف يحتمل الخيانة بعدما أرسل؟! هذا لا يحتمل. ومن قرأه بالرفع أي: يُغَلَّ، فهو -أيضًا- يحتمل وجهين، أي: يتهم بالغلول في الغنيمة؛ فهو يرجع إلى تأويل الأول. ويحتمل قوله: " أن يُغَلَّ " أن يخان في الغنيمة، لا يخون ولا يحل أن يخان النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الغنيمة؛ فإنه يطلع على ذلك، يطلع اللّه [رسوله]، على ما جاء في بعض الأخبار أنه مرَّ بقبر، فقال: إنه في عذاب، قيل: بماذا يا رسول اللّه؟! فقال: " إِنَّهُ كَانَ أَخَذَ مِنَ الغَنِيمَةِ قَدْرَ دِرْهَمَينِ أَوْ نَحْوَهُ ". ويحتمل: خصوص الغنيمة بما يتناول الغالَّ حِلُّهُ، بما لا يعرف له صاحب؛ كالمال الذي لا مالك له، وربما يباح التناول منه للحاجة والأخذ بغير البدل بوجه لا يحتمل بتلك أكل الحل من ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: أي: يؤخذ به يوم القيامة، وهكذا كل من أخذ من مال غيره بغير إذنه؛ فإنه يؤخذ به. وقال بعض الناس: وإنما خص الغنيمة بفضل وعيد؛ لأن الغلول فيها يجحف بحق الفقراء وأهل الحاجة، أو يضر ذلك أصناف الخلق، وسائرُ الأموال ليس كذا. وقيل: إنما جاء الوعيد في هذا أنهم كانوا أهل نفاق، يستحلون الغلول في الغنيمة والأخذ منها، وهذا كأنه أشبه. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: بعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جيشًا فغلوا رأس ذهب؛ فنزلت الآية، {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -أيضًا- قال: فُقِدَتْ قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين؛ فقال الناس: لعل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخذها لنفسه؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ}. ١٦٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّه كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّه (١٦٢) قيل: أفمن لم يغل، ولم يأخذ من الغنيمة شيئًا - كمن غلَّ وأخذ منها؟! ليسا سواء؛ رجع أحدهما برضوان اللّه، والآخر بسخطه. ويحتمل: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّه}: أفمن أطاع اللّه واتبع أمره، كمن عصى اللّه واتبع هواه؟! ليسا بسواء. ١٦٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللّه (١٦٣) والدرجات - واللّه أعلم -: ما يقصدها أهلها. والدركات: ما تدركهم من غير أن يقصدوها؛ كالدرك في العقود يدرك من غير قصد. وقيل: الدرجات: ما يعلو. والدركات: ما يَسْفُل، واللّه أعلم. فهذا في التسمية المعروفة أنْ سُمِّيَتِ النار دركات والجنة درجات، وحقيقة ذلك واحد، والآية تدل على الأمرين. ١٦٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ (١٦٤) وجه المنة فيما بعث الرسل عليهم من البشر، ولم يرسلهم من الملائكة ولا من الجن - وجوه: أحدها: أن كل جوهر يألف بجوهره، وينضم إليه ما لم يألف بجوهر غيره، ولا ينضم إلى جنس آخر، فإذا كان كذلك، والرسل إنما بعثوا لتأليف قلوب الخلق وجمعهم، والدعاء إلى دين يوجب الجمع بينهم، ويدفع الاختلاف من بينهم - فإذا كان ما وصفنا بُعِثُوا من جوهرهم وجنسهم؛ ليألفوا بهم وينضموا إليهم، واللّه أعلم. والثاني: أن الرسل لابد لهم من أن يقيموا آيات وبراهين لرسالتهم، فإذا كانوا من غير جوهرهم وجنسهم لا يظهر لهم الآيات والبراهين؛ لما يقع عندهم أنهم إنما يأتون ذلك بطباعهم دون أن يأتوها بغير إعطائهم إياها ذلك. والثالث: أن ليس في وسع البشر معرفة غير جوهرهم وغير جنسهم من نحو الملائكة والجن؛ ألا ترى أن البشر لا يرونهم؟! فإذا كان كذلك بُعِثوا منهم؛ ليعرفوهم ولتظهر لهم الحجة، واللّه أعلم. ثم المنة الثانية: حيث بعثهم من نسبهم وجنسهم وحَسَبهم لم يبعثهم من غيرهم؛ وذلك أنهم إذا بعثوا من غير قبيلهم وجنسهم لم يظهر لهم صدقهم ولا أمانتهم فيما ادعوا من الرسالة، فبعثهم منهم؛ ليظهر صدقهم وأمانتهم، لَمَّا ظهر صدقهم وأمانتهم في غير ذلك؛ فيدلّ ذلك لهم أنهم لما لم يكذبوا بشيء قط ولا خانوا في أمانة - لا يكذبون على اللّه تعالى. والثاني: أنهم إذا كانوا من غير نسبهم فلعلهم إذا أتوا بآية أو براهين يقولون: إنما كان ذلك بتعليم من أحد، واختلاف إلى أحد ممن يفتعل بمثل هذا، بعثهم اللّه منهم؛ ليعلموا أنهم إذا لم يتعلموا من أحد، ولا اختلفوا فيه - أنهم إنما علموا ذلك باللّه - تعالى - لا بأحد من البشر، واللّه أعلم. ألا ترى أن ما أتى به موسى - صلوات اللّه عليه - من الآيات من نحو: العصا، واليد البيضاء وغير ذلك لو كان سحرًا في الحقيقة لكان من أعظم آيات رسالته: لأنه لم يعرف أنه اختلف إلى أحد في تعلم السحر قط، وقد نشأ بين أظهرهم، فكيف ولم يكن سحرًا؟! فدل أن للّه على خلقه منة عظيمة؛ فيما بعث الرسل من نسبهم وقرابتهم، وممن نشأ بين أظهرهم لمعنى الذي وصفنا، واللّه أعلم. وقيل: قوله؛ {رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، أي: من العرب معروف النسب أميًّا؛ ليعلموا أنه إنما أتى به ما أتى سماويا وَحْيًا، وألا يرتابوا في رسالته وفيما يقوله، كقوله: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}: يحتمل: إعلام رسالته ونبوته، ويحتمل الآيات الحجج والبراهين، هما واحد، ويحتمل: آيات القرآن. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُزَكِّيهِمْ}: يحتمل: التزكية من الزكاء والنماء، وهو أن أظهر ذكرهم، وأفشى شرفهم ومذاهبهم؛ حتى صاروا أئمة يذكرون ويقتدون بهم بعد موتهم؛ كقوله - نعالى -: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أظهره ولم يُخمل ذكرهم؛ ألا ترى أنه قال: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي: أخفاها وأخملها؟! ويحتمل: {وَيُزَكِّيهِمْ}، أي: يطهرهم بالتوحيد، وقيل: {وَيُزَكِّيهِمْ}، أي: يأخذ منهم الزكاة؛ ليطهرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أن ينصرف إلى وجوه، وقد ذكرناه في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: وقد ذكرنا الضلال أنه يتوجه إلى وجوه: إلى الهلاك، وإلى الحيرة، وإلى خمول الذكر وغيره. ١٦٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}: يوم أحد؛ حيث قتل منكم سبعون. {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} يوم بدر: قتلتم سبعين وأسرتم سبعين. وقيل: إن ذلك كله يوم أُحد كانت الدائرة والهزيمة على المشركين في البداية، ثم هُزِم المؤمنون، يقول: إن أصابكم في آخره ما أصاب، فقد أصابهم -أيضًا- مثلاها؛ يذكر هذا لهم - واللّه أعلم - على التسلي بما أصيبوا؛ ليتسلى ذلك عنهم، أو يذكرهم نعمَهُ عليهم بما أصيب المشركون مثلي ذلك؛ ليشكروا له عليها، وليعلموا أنهم لم يُخَصُّوا هم بذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} هو: كأنه يعاتبهم - واللّه أعلم - بقولهم: {أَنَّى هَذَا}؛ فقال {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}: يعاتبهم بتركهم الاشتغال بالتوبة عما ارتكبوا من عصيان ربهم، والخلافِ لنبيهم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ مثل ذلك الكلام لا يكون إلا ممن كان متبرئًا عن ارتكاب المنهي والخلافِ لأمره، فأما من كان منه ارتكاب المناهي والخلاف لربه؛ فلا يسع ذلك أو كان ما أصابهم إنما أصاب محنة منه، وللّه أن يمتحن عباده بأنواع المحن على يدي من شاء؛ إذ كلهم عبيده، فعاتبهم لما لم يعرفوا محنه، و {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}، ونحن مسلمون نقاتل في سبيل اللّه، وهم مشركون؟! فقال: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، يقول: بمعصيتكم الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وبتركبهم ما أمركم به من حفظ المركز وغيره؛ كقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله - تعالى -: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}: يخرج إن كان من أهل النفاق مخرج الاستهزاء، أي: لو كان ما يقول مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من النصر له والرسالة حقًّا؛ فمن أين بُلي بهذا؟! وذلك كقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وقولهم يوم الخندق: {مَا وَعَدَنَا اللّه وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، وغير ذلك مما عليه معتمدهم في إظهار الإسلام، واللّه أعلم. وإن كان ذلك من أهل الإيمان فهو سؤال تعريف الوجه الذي بلوا به، وهم أنصار دين اللّه، وقد وعد لأنصار دينه النصر، وإن الذي يتصره اللّه لا يغلبه شيء، وكان قد وُعِدوا إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، أو بما كانوا رأوا الدَّبْرَةَ عليهم والهزيمة من الأعداء، فيقولون: بم انقلب علينا الأمر؛ فبين أنه بما قد عصوا ومالوا عن اللّه، وإن كان ذلك عن بعضهم لا عن كلهم: فجائز ذلك بحق المحنة؛ إذ قد يجوز الابتداء به مع ما يكون ذلك عن المعاصي أزجر، وللاجتماع على الطاعة أدعى؛ إذ المحنة بمثله تدعوا كلًّا إلى اتقاء الخلاف، ومنع إخوانه -أيضًا- عن ذلك؛ فيكون به التآلف وصلاح ذات البين، واللّه أعلم وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: من النصر والهزيمة، ولكن ما أصابكم إنما أصاب بمعصيتكم ربكم، وخلافكم رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أو أصابكم؛ محنة منه إياكم. ١٦٦وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّه وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) جمع المؤمنين، وجمع المشركين. {فَبِإِذْنِ اللّه}: قيل: فبمشيئة اللّه وإرادته، وقيل: {فَبِإِذْنِ اللّه}: فبتخلية اللّه إياكم لما لعلهم رأوا النصر والغلبة بالكثرة، أو بالقوة والعدة؛ فخلاهم اللّه بينهم وبين عدوهم؛ ليعلموا أن أمثالهم مع قلتهم وضعفهم لا ينتصرون من أمثال أُولَئِكَ مع كثرة عددهم، وقؤة أبدانهم، وعدتهم في سلاحهم، ولكن باللّه ينتصرون منهم، ويتغلبون عليهم. وقيل: {فَبِإِذْنِ اللّه}: بعلم اللّه، أي: يعلم اللّه ما يصيبكم من خير أو شر، ليس عن سهو وغفلة منه يصيبكم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) ١٦٧وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا (١٦٧) كما ذكرنا فيما تقدم؛ ليعلم ما قد علم أنهم يؤمنون، ويصبرون على البلايا والقتال مؤمنين صابرين محتسبين؛ وكذلك ليعلم ما قد علم أنهم ينافقون، ويصيرون منافقين، غير صابرين، ولا محتسبين. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَوِ ادْفَعُوا): قوله: {أَوِ ادْفَعُوا}: يحتمل: {أَوِ ادْفَعُوا}، أي: كثروا السواد؛ لأن المشركين إذا رأوا سواد المؤمنين كثيرًا، يُرهبهم ذلك ويخوفهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ}. ويحتمل: أو ادفعوا العدو عن أنفسكم؛ لما لعلهم يقصدون أنفس المؤمنين المقاتلين، أو ادفعوا عن أموالكم وذراريكم ويقصدون ذلك، أو ادفعوا عن دينكم إذا قصدوا دينكم، وقد يقصدون ذلك، أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَوِ ادْفَعُوا} - واحدًا، أي: قاتلوا في سبيل اللّه وادفعوا، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ} يعني: المنافقين، قيل: قال المنافقون الذين تخلفوا في المدينة لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وقيل: قال ذلك غيرهم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}: يعني: المنافقين، أخبر أنهم إلى الكفر أقرب من الإيمان للكفر وإلى الكفر من الكفر، كل ذلك لغة، وفي حرف حفصة: هم " إلى الكفر أقرب "، وتأويله - واللّه أعلم -: أن المنافقين كانوا لا يعرفون اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ولا كانوا يعبدونه؛ فإنما هم عباد النعمة، يميلون إلى حيث مالت النعمة: إن كانت مع المؤمنين؛ فيظهرون من أنفسهم الوفاق لهم، وإن كانت مع المشركين فمعهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ. . .} الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ. . .} الآية، وأما الكفار: فإنهم كانوا يعرفون اللّه، لكنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لوجهين: أحدهما: لما اتخذوها أربابًا. والثاني: يطلبون بذلك تقربهم إلى اللّه زلفى؛ كقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى}، لكنهم إذا أصابتهم الشدة، ولم يروا فيما عبدوا الفرج عن ذلك - فزعوا إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ، كقوله - تعالى -: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، فإذا ذهب ذلك عنهم عادوا إلى دينهم الأول، وقوله - عز وجل -: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} الآية، وأمّا المؤمنون: فهم في جميع أحوالهم: في حال الرخاء والشدة، والضراء والسراء - مخلصون للّه صابرون على مصائبهم وشدائدهم قائلون: {إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}: يحتمل هذا وجوهًا: قيل: إنما كانوا كذا؛ لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} وإن كان للكافرين نصيب قالوا: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: ذكروا كونهم مع المؤمنين، وذكروا في الكافرين استحواذهم عليهم، ومنعهم من المؤمنين؛ فذلك آية الأقرب منهم. ويحتمل: أقرب منهم للإيمان؛ لأن ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب؛ فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم عليه أقرب، وهو الكفر. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ}، قال: " هم يومئذ يسرون الكفر، ويظهرون الإيمان، وسرّ العبد أولى من علانيته، وفعله أولى من قوله ". {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}: وهو قولهم، وقيل: وهم منهم أقرب؛ لأنهم كانوا في الحقيقة كفارًا على دينهم. وفي قوله - تعالى -: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} - يحتمل الذم، وقيل: كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا}: فيكون الوصف بالقرب على الوقوع والوجوب؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، أي: هي لهم - وباللّه التوفيق - وذلك لأنهم كانوا أهل نفاق، والكفر لم يكن يفارق قلوبهم، وما كان من إيمانهم كان بظاهر اللسان، ثم قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، واللّه أعلم. وقد يكون على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان؛ إذ حقيقته تصديقٌ عن معرفة، ولم يكن لهم معرفة، والكفر قد يكون بالتكذيب؛ كأن له بما يكذب علم بالكذب أولًا؛ فلذلك كان الكفر أقرب إليهم، ويحتمل: أقرب إليهم: أولى بهم، وهم به أحق أن يعرفوا؛ بما جعل اللّه لهم من إعلام ذلك في لحن القول، ثم في أفعال الخير، ثمّ في أحوال الجهاد، ومما يظهر منهم من آثار الكفر في الأقوال والأفعال مما جاء به القرآن، واللّه أعلم. فإدن قيل في قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} -: كيف عم هَؤُلَاءِ بالعقوبة، وإنما كان العصيان والخلاف في الأمر من بعضهم لا من الكل، قيل: لما خرج لهم ذلك مخرج الامتحان والابتلاء، لا مخرج الجزاء لفعلهم، وللّه أن يمتحن عباده ابتداء بأنواع المحن من غير أن يسبق منهم خلاف في الأمر أو عصيان، وكل عقوبة خرجت مخرج جزاء عصيان أو خلاف في أمر - لم يؤاخذ غيرُ مرتكبها؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وما خرج مخرج الامتحان جاز أن يعمهم؛ لما ذكرنا أن له ابتداء امتحان، أو إن كان ما كان منهم بمعونة غيرهم؛ فعمهم لذلك بذلك، كقُطاع الطريق وكسُراق أن تعمهم العقوبة جميعًا: مَنْ أخذ ومن لم يأخذ، ومن تولى ومن لم يتولَّ؛ فكذلك هذا، أو كانوا جميعًا كنفس واحدة؛ فعمهم بذلك، واللّه أعلم. ١٦٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ ... (١٦٨) وقيل: لإخوانهم في الدِّين، ومعارفهم من المنافقين: {لَو أَطَاعُونَا} ولم يخرجوا إلى الجهاد {مَا قتُلُوا}. وقيل: لإخوانهم في النسب والقرابة، وليسوا بإخوانهم في الدِّين والولاية؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} ليس بأخيهم في الدِّين ولا في الولاية؛ ولكن كان أخاهم في النسب والقرابة. قوله تعالى: {لَو أَطَاعُونَا} وقعدوا عن الخروج في الجهاد {مَا قتُِلُوا} في الغزو. ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ - لنبيّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن قل لهم: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بأنهم لو قعدوا في بيوتهم ما قتلوا؛ فمعناه - واللّه أعلم -: أن من قتل في سبيل اللّه فمكتوب ذلك عليه، ومن مات في بيته فمكتوب ذلك عليه، فإذا لم تقدروا دفع ما كتب عليكم من الموت؛ كيف زعمتم أنهم لو قعدوا ما قتلوا، وهو مكتوب عليهم كالموت؟!. وهذه الآية ترد على المعتزلة قولهم؛ لأنهم يقولون: إن من قتل مات قبل أجله، أو قبل أن يستوفي أجله؛ فهم واليهود فيما أنكر اللّه عليهم قولهم لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا - سواء بقوله: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. ١٦٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتًا}: قيل فيه بوجوه، قيل: إن المنافقين قالوا للذين قتلوا بأُحُدٍ وببَدْرٍ: إنهم ماتوا؛ فأنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه} وبأحد وبدر {أَمْوَاتًا} كسائر الموتى؛ بل هم أحياء عند ربهم. وقيل: قالوا: إن من قتل لا يحيا أبدًا ولا يبعث؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: بل يحيون ويبعثون كما يحيا ويبعث غيرهم من الموتى. وقيل: إن العرب كانت تسمي الميت: مَنْ انقطع ذكره إذا مات ولم يذكر، أي: لم يَبقَ له أحد يُذْكر به؛ فقالوا: إذا قتل هَؤُلَاءِ ماتوا، أي: لا يذكرون؛ فأخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم مذكورون في الملأ: ملأ الملائكة، وملأ البشر، وهو الظاهر المعروف في الخلق أن الشهداء مذكورون عندهم. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ} أي: يُجْرِي أعمالهم بعد قتلهم، كما كان يُجْري في حال حياتهم، فهم كالأحياء فيما يجري لهم ثواب أعمالهم وجزائهم، ليسوا بأموات. وقيل: إن حياتهم حياة كلفة؛ وذلك أنهم أمروا بإحياء أنفسهم في الآخرة؛ ففعل المؤمنون ذلك: أحيوا أنفسهم في الآخرة؛ فسموا أحياء لذلك، والكفار لم يحيوا أنفسهم بل أماتوها؛ فسمى أؤلئك أحياء، والكفار موتى. وقيل: سمى هَؤُلَاءِ أحياء؛ لأنهم انتفعوا بحياتهم، وسمى الكفار أمواتًا؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم. ألا ترى أنه - عَزَّ وَجَلَّ - سماهم مرة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ}؛ لما لم ينتفعوا بسمعهم ولا ببصرهم ولا بلسانهم، ولم يسم بذلك المؤمنين؛ لما انتفعوا بذلك كله؟! فعلى ذلك سمى هَؤُلَاءِ أحياء؛ لما انتفعوا بحياتهم، وأُولَئِكَ الكفرةَ موتى؛ لما لم ينتفعوا بحياتهم، واللّه أعلم. وقال الحسن: إن أرواح المؤمنين يعرضون على الجنان، وأرواح الكفار على النار؛ فيكون لأرواح الشهداء فضل لذة ما لا يكون لأرواح غيرهم من المؤمنين ذلك، ويكون لأرواح آل فرعون فضل ألم وشدة ما لا يكون لأرواح غيرهم من الكفرة ذلك؛ فاستوجبوا بفضل اللذة على غيرهم اسمَ الحياة. ألا ترى أنه ١٧٠قال - تعالى -: {يُرزَقُونَ}: فيها، (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ (١٧٠) وقيل: إن الناس كانوا يقولون فيما بينهم: من قتل بـ " بدر وأحد " مات فلان ومات فلان؛ فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتٌ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}: روي عن مسروق، قال: سألت عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه. . .} الآية؛ قال: سألت عن ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " أرْوَاحُهُم عِنْدَ اللّه في حَوَاصِلٍ طَيرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَة بِالْعَرشِ، تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيها شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلِهَا. . . " والحديث طويل. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ. . .} الآية: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " تَنْزِلُ عَلَيهِم صُحُفٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا مَنْ يَلْحَقُ بِهِم مِنَ الشّهَدَاءِ؛ فَبِذَلِك يَسْتَبْشِرُونَ ". وقيل: " يَسْتَبْشِرُونَ " لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم؛ بما قَدِموا عليه من الكرامة والفضل والنعم، الذي أعطاهم اللّه. وقيل: " يَسْتَبْشِرُونَ "، يعني: يفرحون {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، يعني: من بعدهم من إخوانهم في الدنيا: رأوا قتالا؛ استشهدوا " فلحقوا. وقيل: {لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}: الذين يدخلون في الإسلام من بعدهم. والاستبشار: هو الفرح أو طلب البشارة؛ كأنهم طلبوا البشارة لقومهم؛ ليعلموا بكرامتهم عند اللّه ومنزلتهم؛ كقول من قال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧). وقيل: إن الحياة على ضربين: حياة الطبيعي، وحياة العَرَضِي، وكذلك الموت على وجهين. موت الطبيعي، وموت العرضي، ثم حياة العرضي على وجوه: أحدها: حياة الدّين والطاعة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}. وحياة العلم والبصيرة واليقظة، يسمي العالِم حيًّا، والجاهل ميتًا. وحياة الزينة والشرف، على ما سمى اللّه - تعالى - الأرض ميتة في حال يبوستها، وحيَّةً: في حال خروج النبات منها بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا}. وحياة الذكر واللذة؛ فجائز أن يكون اللّه - تعالى - لما أخبر أنهم أحياء عند ربهم أن يكون لهم حياة من أحد الوجوه التي ذكرنا: حياة ذكر ولذة، أو حياة زينة وشرف، أو حياة العلم لهم بأهل الدنيا على ما كان لهم قبل ذلك، أو حياة دين وعبادة، أو يُجري عليهم أعمالهم على ما كان لهم قبل الشهادة، وإن كانت أجسادهم في الحقيقة ميتة في أحكام الدنيا عند أهل الدُّنيَا، وهذا يقوي قولنا في المرتد: إنه إذا لحق بدار الحرب يحكم في نفسه وماله بحكم الموتى في قسمة المواريث، وقضاء الديون وغيرها، وإن كان هو في الحقيقة حيًّا على ما حكم في أموال الشهداء وأنفسهم بحكم الموتى في حكم الدنيا؛ لما لا يعودون إلى الدنيا، وإن كانوا عند ربهم أحياء؛ فعلى ذلك يحكم في نفس المرتد وأمواله بحكم الموتى؛ لما لا يعود إلى دارنا، وإن كان هو في الحقيقة حيًّا عند اللّه لما جاز أن يكون حيًّا عند اللّه، ميتًا عندنا، وجاز أن يكون ميتًا عندنا حيًّا عند اللّه، واللّه أعلم. وحياة الطبيعي: هو حياة جوهر، وما به يقوم النفس، وموت الطبيعي هو هلاكه، وفوته واللّه أعلم. وموت العرضي: هو جهله؛ واللّه أعلم. ١٧١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ (١٧١) يحتمل {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ} أي: بدين من اللّه؛ كقوله - تعالى -: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، قيل: بدينه، ويحتمل: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه}: الجنة، {وَفَضْلٍ}: زيادات لهم وكرامات من اللّه، عَزَّ وَجَلَّ. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}: أي: لا يضيع من حسناتهم وخيراتهم وإن قل وصغر؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، كقوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . .} الآية. ١٧٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للّه وَالرَّسُولِ}: قيل: أجابوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - والرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى ما دعاهم إليه، وأطاعوا فيما أمرهم به من بعد ما أصابهم القرح، أي: الجراحة. قيل: دعاهم إلى بدر الصغرى بعد ما أصابهم بأُحدٍ القروح والجراحات؛ فأجابوه، فذلك قولهَ تعالى -: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للّه وَالرَّسُولِ. . .} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ}: في الإجابة له بعدما أصابتهم الجراحة، وشهدوا القتال معه. {وَاتَّقَوْا}: الخلاف له، وترك الإجابة، ويحتمل: اتقوا النار وعقوبته. {أَجْرٌ عَظِيمٌ}: في الجنة وثواب جزيل، واللّه أعلم. ١٧٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ... (١٧٣) قيل: إن المنافقين قالوا لأصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ما انهزم كفار مكة وولوا أدبرهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، يخوفونهم؛ حتى لا يتبعوهم على أثرهم، فذلك عادتهم لم تزل؛ كقوله - تعالى -: {مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}، أي: فسادًا. وقيل: إنه إنما قال ذلك لهم رجل يقال لهم: نعيم بن مسعود، ولا ندري كيف كانت القصة؟. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}: لما وجدوا الأمر على ما قال لهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووعد لهم، لا على ما قال أُولَئِكَ؛ فزادهم ذلك إيمانًا، أي: تصديقًا. زادهم: قيل: جراءة وقوة وصلابة على ما كانوا من قبل في الحرب والقتال، ويحتمل؛ زادهم ذلك في إيمانهم قوة وصلابة وتصديقًا. وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، أي: تصديقًا ويقينًا بجرأتهم على عدوهم، ويقينهم بربهم، واستجابتهم لنبيهم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. فإن قال قائل: ما معنى قوله - سبحانه وتعالى -: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} على أثر قوله - عز وجلَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}، وقول ذلك قول لا يحتمل أن يزيد الإيمان، وليس كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}؛ لأنها حجج، والحجج تزيد التصديق، أو تحدث، أو تدعوا إلى الثبات على ذلك؛ فيزيد الإيمان؛ فقولهم: اخشوهم، كيف يزيد؟ قيل: يخرج ذلك - واللّه أعلم - على وجوه: أحدها: أنهم إذا علموا أنهم أهل النفاق، وأنهم يخوفون بذلك، وقد كان وعدهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بصنيعهم، فكذبوهم بذلك، وأقبلوا نحو أمر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إجابة لأمره؛ وتصديقا بوعده، ومجانبة لاغترارهم بأخبار أعدائه والنزول على قولهم؛ فكان ذلك منهم - عند ذلك - زائدًا في إيمانهم مع ما في تكذيبهم؛ ذلك نحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. . .}، الآية: إنه إذا زاد بتكذيب آيات اللّه رجسًا؛ فمثله تكذيب المكذب بالآيات؛ لذلك يزيد إيمانًا، واللّه أعلم. والثاني: أن يكون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبرهم بتفرق أعداء اللّه، وتشتت أمرهم، وأخبرهم المنافقون بالاجتماع؛ فصاروا إلى ما نعتهم به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فوجدوا الأمر على ما قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وذلك من أنباء الغيب، والإنباء عن الغيب، من أعظم آيات النبوة؛ فزادهم ذلك إيمانًا، واللّه أعلم، وذلك، قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّه. . .} الآية. والثالث: لم لما يغتروا بقول المنافقين، ولا قصدوا لذلك، ولا ضعفوا؛ فأنزل اللّه - تعالى - سكينته على قلوبهم؛ ليزيد لهم بذلك إيمانًا؛ كقوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ. . .} الآية، وباللّه التوفيق. ثم معنى زيادة الإيمان يتخرج على وجوه: أحدها: بحق الابتداء في حادث الوقت؛ إذ له حكم التجدد في حق الأفعال بما هو للكفر به تارك؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، فيكون ذلك بحق الزيادة على ما مضى، وإن كان بحق التجدد في حق الحادث والفرد. والثاني: أن يكون له الثبات عليه؛ إذ حجج الشيء توجب لزومه، والدوام عليه؛ فسمى ذلك زيادة. ويحتمل: أن يكون يزداد له في أمره بصيرة، وعلى ما رغب فيه إقبالا، ولحوقه مراعاة؛ فيكون في ذلك زيادة في قوته أو في نوره، أو بزينته وتمامه، وذلك أمر معروف. ويحتمل: أن يكون ذلك داع إلى محافظة حقوق، والتمسك بأدلته، والوفاء بشرائطه؛ فيزيد ذلك فضله؛ كما عدت صلاة واحدة في التحقيق ألفا؛ بما في ذلك من حفظ الحقوق ومراعاتها، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}: فزعوا إلى اللّه - تعالى - بما رأوا من صدق وعد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لهم وظهور كذب قول المنافقين: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. . .} الآية، أو قالوا ذلك عند قول المنافقين إياهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}؛ فوضوا أمرهم إلى اللّه تعالى، وسلموا لما رأوا النصر منه؛ رضاء منهم بكل ما يصيبهم، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للّه وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}: مدحهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بما رأوا أنفسهم للّه؛ فكذلك هذا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه ذُو فَفحلٍ عَظِيم}. أي: ذو من عظيم، يدفع المشركين عن المؤمنين. ١٧٤وقرله - عَزَّ وَجَلَّ -. (وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) يحتمل النعمة: نعمة الدِّين، على ما ذكرنا. وقيل: انقلبوا بنصر من اللّه والغنيمة، ويحتمل: النعمة من اللّه: الأمن من العدو؛ لأن المنافقين كانوا يخوفونهم بقولهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، ويحتمل: النعمة: الجنة، وفضلَ الزيادة على ذلك. وقيل: انصرفوا بأجر من اللّه وفضل، وهو ما تشوقوا به من الشوق: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} ولا قتل، ولا هزيمة. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّه} أي: اتبعوا العمل الذي به رضوان اللّه، ورضاء رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: اتبعوا طاعته ورضاه. ويحتمل قوله: {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه وَفَضْلٍ}: الزيادة في الإيمان، وهو الصلابة والقوة فيه. وقوله: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}: مما كانوا يخوفونهم بقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}. ويحتمل قوله - تعالى -: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّه}، أي: رجعوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. ١٧٥وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) يخوف أولياءه وأعداءه، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياؤه يخافونه؛ كقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}: ومن لم يتبع، لكن من اتبع الذكر كان يقبل إنذاره، ومن لم يتبع الذكر لا؛ وإلا فإنه كان ينذر الفريقين جميعًا؛ فعلى ذلك الشيطان كان يخوف أولياءه وأعداءه جميعًا، لكن أعداءه لا يخافونه، وأولياءه يخافونه. ويحتمل قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، أي: بأوليائه، وجائز هذا في الكلام؛ كقوله: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ}، أي: بيوم الجمع؛ ألا ترى أنه قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ}؛ فعلى ذلك قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}، أي: بأوليائه، واللّه أعلم. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: يخوفكم أولياءه، وهذا يؤيد تأويل من يتأول: يخوف بأوليائه، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: لا تخافوه لمخالفتكم إياه، {وَخَافُونِ}، أي: خافوا مخالفتكم أمري؛ كقوله: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ). أخبر أنْ ليس له سلطان على الذين آمنوا؛ إنما سلطانه على الذين يتولونه؛ لذلك قال: لا تخافوه؛ لما ليس له عليكم سلطان، وخافون؛ لما لي عليكم سلطان، وباللّه العصمة. ١٧٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يحتمل الآية وجهين: يحتمل: ولا يحزنك الذين ظاهروا غيرهم من المشركين عليكم، وقد ظاهر أهل مكة غيرهم من المشركين على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقول اللّه لرسوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ} مظاهرتهم عليك؛ فإن اللّه ينصرك؛ فيخرج هذا مخرج البشارة له بالنصر على أعدائه والغلبة عليهم. ويحتمل -أيضًا- وجهًا آخر: وهو أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يشتد عليه كفرهم باللّه، ويحزن لذلك، كقوله - تعالى -: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؛ فيخرج قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ} مخرجَ تَسْكينِ الحزن، ودفْعِهِ عنه، والتسلي عن ذلك، لا مخرج النهي؛ إذ الحزن يأخذ الإنسان، ويأتيه من غير تكلف ولا صنع، وكقوله - تعالى -: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنَا}: هو على مخرج التسكين والدفع عنه، لا على النهي؛ فكذلك الأول - واللّه أعلم - وكقوله - تعالى - لأم موسى - عليه السلام -: {وَلَا تَحْزَنِي}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا}: يحتمل قوله: {لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا}، أي: لن يضروا أولياء اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - إنما ضرر ذلك عليهم، كقوله - تعالى -: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. ويحتمل: {لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا}؛ لأنه ليس للّه في فعلهم وعملهم نفع، ولا في ترك ذلك عليه ضرر؛ إنما المنفعة في عملهم لهم، والضرر في ترك عملهم عليهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرِيدُ اللّه أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}: هذه الآية تنقض على المعتزِّلة قولهم؛ لأن اللّه - تعالى - يقول: أراد ألا يجعل لهم في الآخرة حظًا؛ والمعتزلة يقولون: بل أراد أن يجعل لهم حظا في الآخرة؛ إذ يقولون: أراد لهم الإيمان، وبالإيمان يكون لهم الحظ في الآخرة، فثبت بالآية أنه لم يكن أراد لهم الإيمان، والآية في قوم خاص علم اللّه - تعالى - أنهم لا يؤمنون أبدًا؛ فأراد ألا يجعل لهم حطا في الآخرة، ولو كان على ما تقوله المعتزلة: بأنه أراد أن يجعل لهم حظا في الآخرة - لما أراد لهم أن يؤمنوا، ولكن لم يؤمنوا لكان حاصل قولهم: أراد اللّه ألا يجعل لمن أراد يؤمن في الآخرة، وذلك جور عندهم، وباللّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وذكر مرة: {أَلِيم}، ومرة: {شَدِيد}؛ لأن التعذيب بالنار أشد العذاب في الشاهد وأعظمه؛ لذلك أوعد بها في الغائب، وجعل شرابهم وطعامهم ولباسهم منها، فنعوذ باللّه من ذلك. ١٧٧وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) قد ذكرنا تأويل هذا فيما تقدم. {لَنْ يَضُرُّوا اللّه شَيْئًا} وما ذكرنا أنه على الوجهين اللذين وصفتهما، واللّه أعلم. ١٧٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٧٨) اختلف في قراءتها، قرأ بعضهم بالياء: وبعضهم بالتاء: فمن قرأ بالتاء صرف الخطاب إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: لا تحسبن يا مُحَمَّد أنما نملي لهم خير لهم؛ إنما نملي لهم ليزدادوا شرًّا. ومن قرأ بالياء: صرف الخطاب إلى الكفرة، فقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} يكون خيرًا لهم؛ بل إنما نملي لهم ليكون سرّا وإثما لهم؛ فالآية على المعتزلة، لكنهم تأولوا بوجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما؛، إنما نملي لهم خير لأنفسهم "؛ فيقال لهم: لو جاز جعل الآية وصرفها على ما حملتم عليه وصرفتم إليه، جاز حمل جميع الآيات التي فيها وعد للمؤمنين، وصرفها إلى الكافرين، وما كان فيها وعيد للكافرين إلى المؤمنين؛ إذ لا فرق بين هذا وبين جعلكم الخير مكان الإثم، والإثمَ مكان الخير، وبين جعل الوعد في موضع الوعيد، والوعيد في موضع الوعد. والوجه الثاني: قالوا: أخبر اللّه - تعالى - عما يئول أمرهم في العاقبة، لا أن كان في الابتداء كذلك؛ كقوله - تعالى -: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، ومعلوم أنهم لم يلتقطوا ليكون لهم عدوًا وحزنًا؛ ولكن إخبار عما آل أمره في العاقبة أن صار لهم عدوًا وحزنًا؛ وكذلك يقال للرجل: سرقت لتقطع، وقتلت لتقتل، وهو لم يسرق ليقطع، ولا قتل ليقتل؛ ولكن إخبار عما آل أمره وحاله في العاقبة؛ فكذلك هذا، لكن الإخبار عما يئول الأمر يخرج مخرج التنبيه عن السهو والغفلة في الابتداء، فاللّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك؛ فخرج ذلك مخرج التحقيق في الابتداء، لا مخرج الإخبار عما يئول الأمر في العاقبة، وباللّه التوفيق. والثاني: أن من أراد أمرًا يعلم أنه لا يكون فهو لجهل يريد ذلك أو لعبث، فاللّه - سبحانه - يتعالى عن الجهل بالعواقب، أو العبث في الفعل؛ دل أنه كان على ما أراد، لا ما لم يرد، ولو كان اللّه - سبحانه وتعالى - لا يفعل بخلقه إلا ما هو أصلح لهم في الدِّين وأَخْيَرُ - لم يكن لنهي رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الإعجاب بما أعطى الكفرة من الأموال والأولاد بقوله - سبحانه وتعالى -: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .}، الآية؛ دلّ أنه قد يعطي ما ليس هو بأصلح في الدِّين ولا أَخْيَرَ، واللّه أعلم. وقال الشيخ - رحمه اللّه -: في قوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}، وقولِهِ - تعالى -: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا. . .} الآية، وقوله - تعالى -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٦) ونحو ذلك من الآيات - فيها وجهان على المعتزلة: أحدهما: قولهم في الأصلح: إن اللّه - تعالى - لو فعل بالخلق شيئًا غيرهُ أصلحُ لهم في الدِّين في حال المحنة - كان ذلك جَورًا، ومعلوم أن الفعل بهم؛ ليزدادوا إثمًا لا يبلغ في الصلاح في الدِّين الفعلَ بهم؛ ليزدادوا به برا، ومعلوم أنه لو كان كذلك لم يكن ليجوز أن يحذر رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فيقول: لا يعجبك كذا؛ فكأنه قال: لا يعجبك الذي هو صلاح في الذين، ثم يؤكد ذلك بأنه جعل لهم ذلك ليعذبهم بها، ثم شهد على من حسب ما حسبته المعتزلة بأنهم لا يشعرون؛ فكان ذلك شهادة منه - عَزَّ وَجَلَّ - على كل من وافق رأيُهُ رأيَ أُولَئِكَ الكفرة: أنهم لا يشعرون، ومعلوم أن الجبابرة والفراعنة لو لم يجعل اللّه - تعالى - لهم تلك الحواشي والملك والقوة لم يكن ليجترئوا على دعوى الربوبية، ويبلغوا في المآثم ما بلغوا؛ فيكون فوت ذلك أصلح لهم في الدِّين، وقد قال اللّه - تعالى -: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ. . .} والآية ثم كان معلومًا أنه إذا كان بما يجعل ذلك للكفرة يكفرون، فلو جعل للمؤمنين يؤمنون، ثم لم يجعل كذلك، واللّه أعلم. وأيد ذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه ليُعَذبَهُم بِهَا. . .} الآية. والثاني: أن الإرادة إذ هي صفة لكل فاعل مختار في الحقيقة، وقد أخبر لأي وجه أعطى؛ ثبت أنه أراد ذلك مع ما كان المتعالم من فعل كل أحد لا يخرج على ما أراده ولا يبلغ به ما لو فعل أنه يكون على جهل أو سفه. فالأول: يكون فعله على ظن أن يكون ذلك فلا يكون. والثاني: إذا علم ألا يكون؛ فيكون له به عابثًا سفيهًا، جلّ اللّه - تعالى - عن الوجهين؛ ثبت أن فعله لما علم أنه يكون لا لغيره ليلحقه به وصف جهل أو سفه؛ وبهما سقوط الربوبية. ثم وجهت المعتزلة الآية إلى وجهين: أحدهما: على التقديم والتأخير بمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا إنما نملي خير لأنفسهم. وذلك فاسد لوجهين: أحدهما: لو كان جعل الخير شرًّا والشر خيرًا بالتأويل، وصرف الآية عن سياقها ونظمها - لجاز ذلك في كل وعد ووعيد، وأمر ونهي، وتحليل وتحريم؛ فيصير كل أمور الدنيا مقلوبًا. والثاني: أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يعجب به رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ على كل ذلك معجبًا، ولكانوا فيما حسبوا أن ذلك ضر لهم - يشعرون، لا ألا يشعرون، مع ما قيل: {وَلَا يَحسَبَنَّ} بالياء في بعض القراءة، ومتى كان يحسب الكفرة ذلك شرا حتى يعاتبوا على الحسبان؟! واللّه الموفق. والثاني: قالوا ذلك خبر عما يئول الأمر إليه؛ كقوله - تعالى -: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}، وهم لا لذلك التقطوا، وكمن يقول للسارق: سرقت لتقطع يدك، وكما يقال: من الوافر . . . . . . . . . . . . لدوا للموت وابنوا للخراب والذي قالوه إنما هو تنبيه وإيقاظ لقوم لا يذكرون عواقب الأمور، فيحرصون عليها عن غفلة بالعواقب، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - فمحال أن يكون أمره على ذلك ليكون فيما يذكره ذلك؛ ألا ترى أن أحدًا لا يقول: ولدت للموت، أو بنيتُ للخراب؛ لأنه لا لذلك يفعل، وإن كان إليه يئول، وإنما هو قول الواعظ لهم بما ذكرت؛ كذلك بطل هذا، وأمر قوم فرعون لم يقل: ليكون لهم عندهم؛ إنما هو ليكون لهم عند اللّه تعالى، وبما أراد اللّه، وكان كذلك، ولا قوة إلا باللّه. وقد بيّنا ما في الحكمة تحقيقه من طريق الاعتبار - ولا قوة إلا باللّه - والأصل في ذلك أن اللّه - تعالى - عالم بمن يؤثر عداوته ويعاند آياته، فإرادته ألا يكون منه ذلك حاجة إليه في موالاته، أو إيجاب غلبة عليه في بعض ما يريد، جل اللّه عن هذا الوصف. ١٧٩قوله تعالى: (مَا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} قيل فيه بوجوه: قيل: لا يترك اللّه المؤمنين على ما أنتم عليه أيها المنافقون؛ ولكن يمتحنكم بالجهاد وبأنواع المحن؛ ليظهر المنافق لهم من المؤمن. وقيل: ليظهر الكافر لهم من المؤمن المصدق. وقيل فيه بوجه آخر: وذلك أن المنافقين كانوا يطعنون لأصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويستهزئون بهم سرًّا؛ فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من الطعن فيهم، والاستهزاء بهم؛ ولكن يمتحنكم بأنواع المحن؛ لتفتضحوا وليظهر نفاقكم عندهم. ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن قوله: {مَا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، أي: لا يدع المؤمنين على ما أنتم عليه من النفاق والكفر في دار واحدة؛ ولكن يجعل لكم دارًا أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب. يجعل الخبيث في النار، والطيب في الجنة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} الآية. وقوله: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}: قيل فيه بوجهين: قيل: إنهم كانوا يقولون: لا نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي الأنبياء؛ كقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّه}؛ ومثل قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}؛ فعلى ذلك قوله: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} إلا من اجتباه لوحيه، وجعله موضعا لرسالته، أي: لا يجعلكم رسلًا؛ إذ علم الغيب آية من آيات رسالته، واللّه أعلم. وقيل: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء، فيسترفون؛ فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم إن الكهنة يخبرون بها غيرهم من الكفرة؛ فأنزل اللّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}: بعدما بعث رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نبيا، كما كنتم تطلعون على أخبار السماء قبل بعثه. {وَلَكِنَّ اللّه يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي: يصطفي من يشاء، فيجعله رسولًا، فيوحي إليه ذلك، أي: ليس الوحي من السماء إلى غير الأنبياء، عليهم السلام. ويحتمل قوله - تعالى -: {يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}، أي. لا يُطْلِعُ أحدًا منكم على الغيب إلا من اجتباه منكم لرسالته. ويحتمل قوله: {يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}، أي: لا ينسخ شرائعه وأحكامه برسول آخر؛ نحو ما بَيْن موسى إلى عيسى - عليهما السلام - ولكنه إن كان فيما بينهما نبي لم يجعل له أحكامًا سوى أحكام موسى - عليه السلام - أبقى تلك الأحكام والشرائع؛ وكذلك ما بين عيسى إلى مُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - فاجتبى هَؤُلَاءِ؛ لإبقاء شرائعهم وأحكامهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ}: ظاهر {وَإِنْ تُؤْمِنُوا}: برسله كلهم. {وَتَتَّقُوا}: المعاصي. {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ويحتمل: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} الشرك {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}. ١٨٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ... (١٨٠) أوتوا العلم بالكتاب أن ما يؤتون من المال، وينالون من النيل بكتمان بعث مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته وتحريفهما - أن ذلك، خير لهم. {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} وفي الدنيا والآخرة، ولو لم يكتموا كان خيرًا لهم في الدنيا ذكرًا وشرفًا، وفي الآخرة ثوابًا وجزاء. وقيل: نزلت في مانعي الزكاة؛ بخلًا منهم وشحًا؛ فذلك وعيد لهم. والأوّل أشبه، واللّه أعلم. وإن كان في الزكاة - قيل: الجحود بها؛ كقوله - تعالى -: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: فإن كان على التأويل الأول من كتمان نعته وصفته؛ فهو - واللّه أعلم - يطوق ذلك في عنقه يوم القيامة؛ ليعرفه كل أحد؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}. وإن كان على التأويل الثاني - قيل: إن الزكاة التي منعها تصير حية ذكرًا شجاعًا أقرع ذو ذنبتين، يعني: نابين؛ فيطوق بها في عنقه، فتنهشه بنابيها؛ فيتقيها بذراعيه، حتى يُقضَى بين الناس، فلا يزال معه حتى يساق إلى النار، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: في الآية دلالة أن أهل السماوات يموتون، ليس على ما يقوله القرامطة: إنهم لا يموتون؛ لأنه أخبر أن له ميراث السماوات والأرض، والوارث هو الذي يخلف المورَث؛ دلّ أنه ما ذكرنا، وإن كانوا هم وجميع ما في أيديهم للّه - عَزَّ وَجَلَّ - ملكًا له وعبيدًا؛ ألا ترى أنه روي في الخبر: " لَا يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسلِمَ، وَلَا الْمُسلِمُ الكَافِرَ، إِلا المَوْلَى مِنْ عبدهِ " سمى ما يكون للمولى من عبده ميراثا، وإن كان العبد وما في يده ملكا للمولى: فعلى ذلك الأول: سمى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ذلك ميراثًا له، وإن كان عبيده وما في أيديهم ملكًا له، واللّه أعلم. قال الشيخ - رحمه اللّه -: وقوله - تعالى، -: {وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: وكانت له لا بحق الميراث؛ لوجهين: أحدهما: على الإخبار عن ذهاب أهلها، وبقائه - عَزَّ وَجَلَّ - دائمًا؛ إذ ذلك وصف المواريث أن تكون لمن له البقاء بعد فناء من تقدم، واللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو الباقي بعد فناء الكل، مما يجوز القول بما هو له في الحقيقة من قبله بالميراث؛ من حيث مَلَّكَ غيره الانتفاع بذلك؛ وعلى ذلك المرُوي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا يَرِثُ الكَافِرُ الْمُسلِمَ، وَلَا الْمُسلِمُ الكَافِرَ، إِلا المَوْلَى مِنْ عَبدِهِ "، وليس ذلك في الحقيقة ميراثًا، إذ كان له في حال حياته؛ ولكن كان ولاية الانتفاع به فزال؛ وعلى مثل هذا وراثة المسلمين الجنة، لا على انتقال من غيرهم إليهم، ولكن على بقائهم فيها، وحصول أمرها لهم، أو على وراثة ما لو كان من لم يؤمن آمن، وما ادعوا أنها لهم بقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، فصارت ميراثًا لغيرهم ما ادعوا أنها لهم، واللّه أعلم. والثاني: أن يعلم كل بالموت حقيقتها أنها له فأضيفت إليه بالميراث عنهم؛ كما قال - تعالى -: {وَبَرَزُوا للّه جمَيعًا}، {وَإليهِ المَصِيُر}، والمرجع ونحو ذلك من غير غيبة عنه، ولكن ما يعلم كل إذ ذاك ذلك؛ وكذلك قوله - عز وجل -: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه}، وهو في الحقيقة كل يوم له، ولا قوة إلا باللّه. وفي الذكر والإخبار أنها له ميراث - تحريض على الإنفاق والتزود؛ إذ هي في الحقيقة لغير أهلها؛ وإنما لهم ما ينفقون ويتزودون دون ما يمسكون، وفيه منع الإمساك؛ وذلك كقوله - تعالى -: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّه وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .} الآية {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}: وعيد منه - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم. ١٨١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ (١٨١) قيل: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا. . .} الآية، قالت اليهود: ربكم يستقرض منكم ونحن أغنياء. وليس في الآية بيان أن ذلك القول إنما قاله اليهود أو غيرهم من الكفرة، ولكن فيه أنهم قالوا ذلك؛ فلا ندري من قال ذلك، ولا يجوز أن يشار إلى أحد بعينه إلا ببيان، ثم يحتمل ذلك القول منهم وجوهًا: يحتمل أن يكون قال ذلك أوائلهم؛ على ما قال في قتل الأنبياء - عليهم السلام - وهَؤُلَاءِ لم يَقْتُلُوا؛ ولكن إنما قتلهم أوائلهم، أضيف ذلك إليهم؛ رضاء منهم بصنيعهم؛ فعلى ذلك القول الذي قالوا يحتمل ما ذكرنا. ويحتمل أن يكون هَؤُلَاءِ قالوا ذلك بحضرة أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبمشهدهم، أو قالوا ذلك في سر. فإن قال ذلك أوائلهم؛ فإنه يحتمل وجهين: يحتمل أن يكون اللّه - تعالى - أعلم ذلك رسولَهُ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ تصبيرًا منه إياه وتسكينًا؛ ليصبر على أذى الكفار؛ حيث قالوا في اللّه ما قالوا فكيف فيه؟! واللّه أعلم. ويحتمل أن يكون ذلك ليكون ذلك آية من آيات رسالته. وإن كانوا قالوا ذلك بحضرة أصحابه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ففيه -أيضًا- وجهان: أحدهما: ما ذكرنا من التسكين والتصبير على أذاهم. والثاني: ليعلموا أن جميع ما يقولون محفوظ عليهم، ليس بغائب عنه، ولا غافل عنه؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ. . .} الآية، لكنه يؤخر ذلك إلى وقت. وإن كانوا قالوا ذلك سرًا؛ ففيه -أيضًا- وجهان: أحدهما: ما ذكرنا أن يكون آية من آيات النبوة؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك باللّه، على علم منهم أنه لم يكن فيما بينهم من يُنْهِي الخبرَ إليه. والثاني: خرج على التعزية له والتصبير على أذاهم. ثم معنى قوله - تعالى -: {وَأَقْرِضُوا اللّه قَرْضًا حَسَنًا}، و {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا} - يحتمل وجهين: أحدهما: لئلا يمنوا على الفقراء بما يتصدقون عليهم؛ إذ يعلمون أنه ليس بفقير ولا محتاج ليستقرض لفقره ولحاجته، وكل من أقرض آخر لا لحاجة له في ذلك القرض ولا فقر؛ ولكن ليكون ماله عنده محفوظًا في الشاهد - فإنه لا يَمُن الْمُقْرِضُ عليه؛ بل تكون المنة للذي عنده القرض على الْمُقْرِض؛ حيث يحفظ ماله في السفاتج؛ فعلى ذلك المال الذي يقرضون ويتصدقون على الفقراء، يكون محفوظًا عند اللّه ليوم حاجتهم إليه؛ فلا منة تكون على الفقير، واللّه أعلم. والثاني: إنباء عن جوده وكرمه؛ لأن العبد وما في يده له، فلو أراد أن يأخذ جميع ما في يده لكان له ذلك، ثم يطلب منه ببدل يضاعف على ذلك. والثالث: أن المولى في الشاهد إذا طلب من عبده القرض؛ يكون في ذلك شرف للعبد وعظم؛ فعلى ذلك اللّه - تعالى - إذا طلب من عبده القرض، على علم منه في أنه غني بذاته، لا يجب أن يبخل عليه، وفي ذلك شرفه وعظمه، واللّه أعلم. وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ}، قال أهل التفسير: قالت اليهود، وذلك تنبيه بصنيعهم وشدة سفههم؛ حتى زعموا أن يد اللّه مغلولة، لكن ليس في الآية بيان القائلين، ولا في النسبة إلى أحد تقع سوى خوف الكذب؛ لو لم يكن ذلك منه، لكنهم قالوه، والأغلب على مثله أن يكونوا قالوه سرا، يكون في إظهاره آية الرسالة، أو كانت الأوائل يقولون فيكون في ذلك ذلك؛ إذ لا يحتمل أن يُصْبَرَ لمثله: يقال بحضرة الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - إلا أن يكون في وقت أمروا بالكف؛ فيكون في ذلك بيان قدر طاعتهم للّه، مع عظيم ما سمعوا من القول، وجملة ذلك أن في ذكر ذلك دعاء إلى الصبر على أذاهم وسوء قولهم؛ إذ هم مع تقلبهم في نعم اللّه - تعالى - وعلمهم بأنهم لم ينالوا خيرًا إلا باللّه - تعالى - اجترءوا عليه بمثل هذا القول، وبلغ عُتُوُّهُم هذا، واللّه - جل ثناؤه - مع قدرته وسلطانه يَحْلمُ عنهم ليوم وعدهم فيه الجزاء؛ فمن ليس منه إليهم نعمة ولا تقدم عليهم منه كثير منة - أحق بالصبر لأذاهم، وإعراضٍ عن مكافأتهم؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه. . .} الآية، وقال اللّه تعالى لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سَنَكتُبُ مَا قَالُوا}: قيل: سنجزيهم جزاء ما قالوا، وقيل: سنحفظ ما قالوا، وسنثبت، وسألزم، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، واللّه أعلم. وقوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}: قد ذكرنا هذا فيما تقدم أنه يحتمل: إذ قتل أوائِلُهم؛ فأضيف إليهم لرضائهم بفعلهم؛ كقوله - تعالى - {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}؛ لرضاه بقتله. فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في قوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}، والأنبياء - عليهم السلام - لا يرتكبون ما يجب به قتلُهم؛ كقوله - تعالى - {الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه. . .} الآية، أطلق القول فيه من غير ذكر اكتساب شيء يستوجب به ذلك، وشرط في المؤمنين اكتساب ما يستوجبون به؛ كقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا. . .} الآية، فكيف ذكر هاهنا - القتل بغير حق، وهم لا يكتسبون ما يستوجبون به القتل؟! قيل: يحتمل قوله: بغير حق، أي: بغير حاجة؛ لأنهم كانوا يقتلون بلا منفعة تكون لهم في قتلهم؛ على ما قيل: إنهم كانوا يقتلون كذا كذا نبيا، ثم يهيج لهم سوق؛ فإذا كان كذلك يحتمل قوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ}، أي: بغير حاجة؛ كقول لوط - عليه السلام -: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فقالوا: {مَا لنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}، أي: من حاجة، واللّه أعلم. ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ}، أي: قصدوا قصد قتل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فكأنْ قد قتلوه، أو قتلوا أصحابه - رضي اللّه عنهم - فأضيف إليهم، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}: أي: الْمُحْرِق، وقد ذكرنا هذا. ١٨٢وقوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ (١٨٢) ذكر الأيدي؛ لما بالأيدي يقدم، وإن لم يكن هذا مقدمًا باليد في الحقيقة؛ وكذلك {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، لما باليد يكتسب، واللّه أعلم ١٨٣وقولهَ عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ}: قيل: إنهم لما دعوا إلى الإسلام - يعني: اليهود - قالوا: {إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}، وكان ذلك آية في بني إسرائيل؛ فسأل اليهود منْ نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك. وقيل: كان مِنْ قبلنا، في الأمم الخالية ذلك؛ فسألوا من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولكن لم يكن القربان من آيات النبوة والرسالة إن كان؛ فهو من آيات التقوى؛ كقوله - عز وجل -: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ}: كان القربان من آيات التقوى؛ ألا ترى أنه قال: يا مُحَمَّد {قُل قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} يعني: القربان؛ {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: إن كان ذلك من آيات النبوة، لم قتلتم الأنبياء الذين أتوا به؟! أو لِمَ قَتَلَ أوائِلُكُم الأنبياءَ؛ إذ أتوا بالقربان، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أنه من آيات النبوة، أو {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}: أنه عهد إليكم ألا تؤمنوا به حتى يأتي بقربان، واللّه أعلم. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا-: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} - فهو، واللّه أعلم، ادعَوا أن أوائلهم ادَّعَوُا الذي ذكروا من العهد، وهم تبِعُوا أُولَئِكَ، فعرَّفهم صُنْعَ من بدعواهم احتجوا؛ ليكون لهم فيه آيةٌ، أما تكذيبهم بما احتجوا بوصية المتقدمين في ذلك، فَبَطَل عذرهم؛ إذ هم قتلوهم؛ فلا يجوز تصديقهم على العهد الذي ادعوا وذلك صنيعهم، أو يقروا أنهم أُخْبِروا بالعهد من غير أن كان كذبًا وباطلًا؛ فبطل حجاجهم. على أن في الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه مِنَ الْمُتَّقِينَ}، فجعل ذلك آية التُّقَى لا آية النبوة. والأصل فيه: أنا لما عرفنا آيات الرسل - عليهم السلام - لا يُذكر فيها القرابين؛ ثبت أن هذا الذي ادعوا ليس هو بعهد جاء به الرسل - عليهم السلام - ولكنه حِيَلُ السفهاء بتلقين الشياطين وَوَحْيِهِم؛ لذلك لم يجب الذي ذكروا، واللّه أعلم. ١٨٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ (١٨٤) يا مُحَمَّد في القول، وما جئت من آيات تدل وَتُوَضحُ أنك رسول اللّه، وأنك صادق في قولك {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ} يعزي نبيه - عليه الصلاة والسلام - ويصبره؛ ليصبر على أذاهم وتكذيبهم إياه؛ كما صبر أُولَئِكَ على أذاهم وتكذيبهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .} الآية. وفي قوله - تعالى -أيضًا-: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} وجوه: أحدها: أن يصبره على ذلك بما له فيه أجر أن صبروا، على عظم ذلك عليهم؛ وذلك قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}. والثاني: على رفع العذر عنه في ترك الإبلاغ؛ فإن ذلك لم يمنع من تقدمه. والثالث: على الأنبياء أنهم أصحاب تقليد في التكذيب، لا أن يكذبوا من محنة وظهور؛ فذلك أقل للتأذي، ولتوهم الارتياب في الأنبياء؛ ليستيقن من حضره، وصدقه - أن ذلك منهم على الاعتناد والتقليد دون المحنة والظهور، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِالْبَيِّنَاتِ}: قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالزُّبُرِ}: قيل: أحاديث الأنبياء - عليهم السلام - من قبلهم بالنبوة على ما يكون. وقيل: الزبر: هي الكتب، أي: جاءوا بالبينات والزبر، يعني: الكتب. {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}: قيل: الزبر والكتاب واحد. وقيل: {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}: هو الذي فيه الحلال والحرام، والأحكام المكتوبة عليهم. والمنير: هو الذي أنار قلب كل من تمسك بالهدى؛ كما قيل في الفرقان أنه يفصل ويفرق بين الحق والباطل، واللّه أعلم. وتسمي كتب اللّه كلها فرقانًا ومنيرًا؛ بما تفرق بين الحق والباطل، وتبين السبيلين جميعًا، واللّه أعلم. ١٨٥قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}: فيه دلائل: أحدها: دليل إثبات الرسالة؛ لأنه ليس في العقل ألا تبقى هذه الأنفس أبدًا، ولا تدوم، ولا فيه آثار فنائها وموتها، ثم وجود العلم من كل منهم بالموت، والتسليم له، والإقرار منهم أن كل نفس تموت - يدل أنهم إنما عرفوا ذلك وأيقنوا به من خبر السماء بالوحي، واللّه أعلم. ثم إن كل حي يتلذذ بحياته، وحُبِّب ذلك إليه، ويتكره الموت ويبغضه؛ دل أن هذا العالم لم يكن بالطباع، ولكن كان بغيره؛ لما يتلذذ طبع كل منهم بالحياة، ويتكره بالموت ويتنغص به؛ إذ لو كان به: لكان يختار ما يتلذذ به، ولدفع ما يتكره به؛ فدل أن غيرًا فَعَلَ ذلك وخلق؛ لما ذكر: (خلق الموتَ وَالحيَاةَ) الآية؛ وفي ذلك بطلان قول أصحاب الطبائع. وأيضًا: أن كل نفس يجتمع فيها الطبائع المختلفة المتضادة، التي من طبعها التنافر - لم يجز أن يكون بنفسه تجتمع؛ دل أن له جامعًا. وأيضا: إن كان العالَم لو كان بنفسه وطبعه لاختار كل لنفسه أحوالاً: أحسنَ الأحوال وألذها؛ فيبطل به الشرور والقبائح؛ فدل وجود ذلك على كونه بغيره. ثم فيه أن ذلك الغير -الذي كان به العالم- واحدٌ لا عدد؛ إذ لو كان بعدد لم يحتمل وجود العالم على الطبائع المختلفة والهمم المتفرقة: لما جَمَعَ هذا فَرَّقَ الآخر، وما أثبت هذا نفي الآخر، وفي ذلك فساد الربوبية؛ فدل وجوده على ما ذكرنا: أنه واحد لا عدد؛ فاتسق تدبيره ونفذ أمره، مع ما كان الأمر المعتمد بين الملوك في الشاهد: أن من فعل هذا نقض الآخر، وما رام هذا إيجادَهُ يريد الآخر إعاقتهُ، وما أبقى هذا أراد الآخر إفناءه؛ وفي ذلك تناقض وتناف؛ فدل الوجود على. أن الذي به كان - واحد لا عدد، ثم يحتمل على الاصطلاح منهم؛ لأنه يدل على العجز والجهل: أن العجز والجهل هو الذي حملهم على الاصطلاح، والعاجز والجاهل لا يصلح أن يكون إلهًا وربًّا، وباللّه التوفيق. ثم الدلالة على حكمته وعلمه: ما لم يُعَايَنْ شَيءَ وَلَا يُشَاهَدْ إلا وفيه حكمة عجيبة، ودلالة بديعة مما يَعْجَزُ الحكماء عن إدراك مائيته، وكيفية خروجه على ما خرج، وعلم كل أحد منهم بتصور علمه على ما عنده من الحكمة، والعلم عن إدراك كُنْهِ ذلك فيما ذكرنا، وخروجُ الفعل متقنًا محكمًا - دلالةُ حكمةِ مبدعه وخالقه، وباللّه التوفيق. ثم الدلالة أنه لم يخلق الخلق للفناء خاصَّة؛ ولكن خلق للعواقب: يتأمل ويرجى ويخاف ويحذر - خروج فعل كل أحد في الشاهد من الحكمة إذا بنى للفناء والنقض، فإذا كان الحكمة التي هي جزء يُخرج فعلَهُ عن الحكمة؛ إذا كان ذلك للفناء والهلاك خاصَّة، فخروج الكل عن ذلك لذلك أحرى وأولى أن يكون سفها لا حكمة، واللّه الموفق. قال: دلت طمأنينة القلوب بموت كل نفس، وترك حكماء البشر الاحتيال - في دفعه، على ما ليس في الجوهر دليله، ولا في العقل امتناعه - أنه عرف ذلك بمن له التدبير فيها بالوحي إليه؛ وفي ذلك إيجاب القول بالرسل، ثم دل قهر جميع الحكماء به على حب الحياة إليهم، وبغض الموت عندهم - على خروج جميع الأحياء عن تدبيرهم، وفي خروجهم خروج الأموات؛ إذ هم تحت تدبير الأحياء. ثم في طمأنينة كل قلب على الموت دلالةُ التدبير للواحد؛ إذ لو كان لأكثر لَجُوز التمانع وإبطال الوارد من الحي؛ وفي ذلك ارتياب، مع ما كانت كل نفس تحت أمور تقهرها، وتحوجها إلى أمور تعلم أن مدبرها هيأها على ذلك وطَبَعَهَا، وأنه العليم بما به صلاحها وقوامها وإليه حاجتها، وعلى ذلك جبلها؛ ليظهر عظيم حكمته وتعاليه عن الشرك في التدبير، أو المعونة في التقدير. ثم لا يحتمل نشوء مثله على ما جرى عليه من حكمته في موت كُل - أنه كان للموت أنشأ لا لغير؛ إذ تدبيرُ فعلٍ واحد للفناء خاصَّة من حكماء البشر - يُخْرِج عن معنى الحكمة، ويدل على قصور صاحب ذلك وسفهه؛ فجملة العالم الذي كانت حكمة الحكماء جزءًا منها، وعقل العقلاء بعضًا منها - أحق وأولى؛ فثبت أنها أُنْشِئَتْ (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦)، ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، وذلك قوله - تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لما ذكرنا أنهم لها خلقوا -أعني: الآخرة- للجزاء والثواب. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ}: قيل: بُعِّدَ ونُحِّيَ عنها. {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}: قيل: فاز: نجا، وقيل: سَعِدَ، وقيل: الفائز: السابق، وقيل: فاز: غنم. وأصل الفوز: النجاة، أي: نجا مما يخاف ويحذر، ويظفر بما يتأمَّل ويرجو. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}: حياة الدنيا للدنيا غرور؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}، حياة الدنيا للدنيا لعب ولهو وغرور، وللآخرة: ليست بلعب ولا لهو ولا غرور. وأصل الغرور: هو أن يتراءى الشيء في ظاهره حسنا مموهًا؛ يغتر بها كل ناظر إليها ظاهرًا، فإذا نظر في باطنها وجدها قاتلة مهلكة، نعوذ باللّه من الاغترار بها. وقيل: الحياة الدنيا -على ما عند أُولَئِكَ الكفرة- لعب ولهو، وعند المؤمنين حكمة. ١٨٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}: يحتمل الابتلاء في الأموال والأنفس: أن يُبلَوْا بالنقصان فيها؛ كقوله - عز وجَل -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ. . .} الآية. ويحتمل: أن يُبلَوْا بما جعل فيها من العبادات، من نحو: الزكاة في الأموال والصدقات والحقوق التي جعل فيها، وفي الأنفس: من العبادات: من الصلاة والجهاد والحج، وغيرها من العبادات، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}: يعني: الذين لهم علم بالكتاب ومن غيرهم. {أَذًى كَثِيرًا} أي: تسمعون أنتم من هَؤُلَاءِ أذى كثيرًا، على ما سمع إخوانكم الذين كانوا من قبلكم من أقوأمهم أذى كثيرًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَصْبِرُوا}: على أذاهم. {وَتَتَّقُوا}: مكافأتهم، على ما صبر أُولَئِكَ واتقوا مكافأتهم. {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}: قيل: من خير الأمور؛ هذا يحتمل. وقيل: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ومن قولهم: عزير ابن اللّه، والمسيح ابن اللّه، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكوُا}، يعني: العرب، {أَذًى كَثِيرًا}، يعني: نصب الحروب فيما بينهم، والقتال، والسب وغير ذلك، {وَإِنْ تَصْبِرُوا}: على ذلك والطاعة له، {وَتَتَّقُوا}: معاصي الرب، {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}:، يعني. من حزم الأمور. ١٨٧وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (١٨٧) أي: الذين أوتوا العلم بالكتاب، وأَخَذَ الميثاق؛ ليبينوا، أي: يُبَيِّنُوا للناس ما في الكتاب من الأمر والنهي، وما يحل وما يحرم، وغير ذلك من الأحكام، ولا يكتموا ذلك. ويحتمل: أن أخذ عليهم الميثاق: أنْ بَيّنُوا للناس بَعْثَ مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفَتَهُ، ولا تكتموه بالتحريف وبترك البيان. وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهورِهِم} أي: لم يعملوا بما فيه، ولا بينوا للناس؛ فهو كالمنبوذ وراء ظهورهم. {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. . .} الآية: قد ذكرنا معناه في غير موضع. وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " ما أخذ اللّه ميثاقًا على أهل الجهل بطلب العلم، حتى أخذ ميثاقًا من أهل العلم ببيان العلم؛ لأن العلم كان قبل الجهل ". ١٨٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا (١٨٨) قيل: بما غيَّروا من نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته في كتابهم وكتموه، وتبديلهم الكتاب، وإعجاب الناس ذلك وحمدهم على ذلك. وقيل: إن اليهود دخلوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك - وليس ذلك في قلوبهم - فلما خرجوا من عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ فيقولون: عرفناه وصدقناه؛ فيقول المسلمون: أحسنتم، بارك اللّه فيكم: يحمدهم المسلمون على ما أظهروا من الإيمان، وهم يحبون أن يحمدوا على ذلك؛ فذلك تأويل قوله: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}. وقيل: إنهم قالوا: نحن أهل الكتاب الأول والعلم، وأهل الصلاة والزكاة. ولم يكونوا كذلك، وأحبُّوا أن يحمدوا على ذلك، واللّه أعلم بالقصَّة. وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا. . .} والآية - دلّ ما ذم اللّه عباده، وأوعدهم عليه أليم عقابه فيما أحبُّوا الحمد على ما لم يفعلوا - على تعالى الرب عن قول المعتزلة في قولهم: ليس للّه في الإيمان تدبير سوى الأمر، ولا صُنْع، وقد أحث أن يحمد عليه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وبقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}، وقولهِ - تعالى -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، في غير موضع من القرآن، ولا قوة إلا باللّه. ١٨٩قوله تعالى: (وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) قال اللّه - تعالى -: {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: امتدح - جل ثناؤه - بإدخال كلية الأشياء تحت قدرته، وبه خَوَّفَ من عاند نعمته، وأطمع من خضع له عظيم ثوابه؛ فلئن جاز إخراج شيء تحت القدرة عن قدرته، لاضمحل الخوفُ عما خوَّفَهُ، والرجاءُ فيما أطمعه؛ إذ لم يظهر على ذلك قدرته إلا بقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وما لا صنع لأحد في شيء إلا بأقداره، ومحال أن يقدر على ما لا يقدر هو عليه، أو يزول به قدرته؛ لما فيه ما ذكرت؛ فلذلك قلنا في بطلان قول المعتزلة بإخراج أفعال صنع الخلق عن قدرة اللّه، وامتناعه عن تدبيره، ولا قوة إلا باللّه. قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. .) إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) نقول - وباللّه نستعين -: أخبر اللّه - تعالى - أن فيما ذكر آيات لمن ذكر، ومعلوم أن الآيات إنما احتيج إليها لمعرفة أمور غابت عن الحواس، يوصل إليها بالتأمل والبحث عن الوجوه التي لها جعلت تلك الأشياء المحسوسة، التي يغني من له اللب دخولها تحت الحواس - عن تكلف العلم بها بالتدبير، بل علم الحواس هو علم الضرورات وأوائل علوم البشر الذي منه يرتقي إلى درجات العلوم؛ فيلزم طلب ذلك؛ فيبطل به قول من قال: العلوم كلها ضرورات لا تقع بالأسباب، ولا يلزم الخطاب دون تولى الرب إنشاءَ العلم في القلوب بحقيقه ما فيه الخطاب؛ إذ ذلك يرفع حق الطلب، ويستوفي فيه الموصوف باللبِّ وغير الموصوف، والمتفكر في الأمر وغير المتفكر، وقد قال اللّه - تعالى -: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .} الآية، وفي ذلك دليل أن المقصود مما أظهر ليس هو ما أظهر، إذ لزم التفكر بالذي أظهر؛ ليوصل به إلى العلم بالذي له أنشأ الذي أظهر، ويعلم ما جعل في الذي دليله وعلمه، وهذا لكل أنواع العلوم أن منها ظاهرًا مستغنيا بظهوره عن الطلب، وخفيًّا يطلب بما له في الذي ظهر من أثر ينبئ عنه التأمل، واللّه أعلم. وفي ذلك دليل لزوم التوحيد باللبِّ؛ إذ صيرها آيات لمن له ذلك، وأوَّل درجات الآيات أن يُعَرف منشئها وجاعلها آيات، واللّه أعلم. ثم دلَّ اتصال منافع السماء والأرض على تباعد ما بينهما، حتى قام بها وحي جميع من دب على وجه الأرض وانتفع بشيء، ثم في إيصال الليل بالنهار في منافع كل حي على تضاد ما بينهما؛ حتى صارا كالشكيلين، والسماء والأرض كالقرينين - على أن منشئ ذلك كله واحد، وأنه لو اختلف الإنشاء لتناقض التدبير، وبَطَلَ وجوه النفع، وأن الذي أنشأ ذلك علم كيف يدبر لاتصال المنافع واجتماعها بغيرها، على اختلافِ ما بينها، وأنه حكيم وضع كل شيء على ما لو تدبر الحكماء فيه -لم يكن يُعْرَفُ اتصال أقرب في المنافع، على اختلاف في الجواهر، وتضاد في الأحوال- أبلغَ من ذلك؛ بل تقصر حكمتهم عن الإحاطة بوجه الحكمة، أو الظفر بطرف منها، إلا بمعونة مَنْ دَبَّرَ ذلك سبحانه، - وذلك هو الدليل على قدرته وعلو سلطانه؛ إذ سخر ذلك كلها لبذل ما فيها من المنافع لمن جعلها له، وجعل لبعض على بعض سلطانًا وقهرا؛ ليُعْلَمَ أن التدبير يرجع إلى غير ذلك، ويُعْلَمَ أن من قَدَرَ على ذلك، وعلم قبل خلق المنتفعين بما خلق على أي تدبير يخلق ذلك، وبأي وجه يصل كل خلق في ذلك إلى منافعه بها، وما الذي سوى معاشهم، وعلى أي تدبير، دلهم عليه - لقادر على إعادة مثله، والزيادة منه على أنواع ذلك؛ إذ كل أمر له حق الابتداء - كان ذلك أبعد عن التدبير مما له حق الاحتذاء بغيره أو الإعادة، مع ما كان في إعادة الليل والنهار، وجعل كُل من ذلك كالذي، مضى، وإن كان الذي مضى -مرة- دلالة كافية للبعث والقدرة عليه، واللّه الموفق. ومنها: أنها جعلت على تدبير يُعَرِّفُ صَاحِبَهَا ومُنْشِئَهَا، وأنه دبرها على ما فيها من وجوه الحكمة التي صارت الحكمة جزءًا منها، وفنون العلم التي تنال بالتأمل فيها، مما يوضح أن الذي أبرمها حكيم عليم، مع ما فيها من آثار الإحكام والإتقان الكافية في الإنباء عن الإنشاء للحكمة، وأن الذي أبدع ذلك ليس بعابث ولا سفيه. ثم معلوم أن الفعل للّهلاك والفناء غيرُ داخل في الحكمة؛ ثبت أن ذلك غير مقصودا فصار المقصود من ذلك وجهًا يبقى؛ فثبت أن مع هذه دارًا أخرى تبقى، فهي المقصود، وجعلت بحق الجزاء؛ وفي ذلك لزوم المحنة والقول بالرسالة؛ ليعلم بالوحي كيفية وجوه المحنة مع ما لم يخل شيء من أن يكون فيه آثار النعمة، من غير أن كان منه ما يستحق ذلك؛ فثبت أنه في حق الابتداء، ولازمٌ شكر المنعم في العقول؛ فيجب به وجهان: أحدهما: القول بالرسل؛ لبيان وجوه الشكر؛ إذ النعم مختلفة، وأصل الشكر يتفاضل على قدر المنعمين؛ وكذلك النعم تتفاضل على قدر تفاضل متوليها، لابد من بيان ذلك ممن يعرف حقيقة مقادير النعم، وجلالة حق المنعم، وباللّه التوفيق. فكان فيها آيات الرسالة والتوحيد، وحكمته وقدرته وعلمه وجلاله عن الأشباه والشركاء، وبها جل عن احتمال الشرك في صنعه، أو الشبه في فعله على أن كليةَ كُلّ مَنْ سواه تحت القدرة، وهو المتعالي عن ذلك. وفيه دلالة البعث؛ لما ذكرت، ولما إذ لزم الشكر بما ذكرت -لزمت عقوبة الكفران، وقد يخرج المعروف به سليمًا غريقًا في النعم، وفي الحكمة والعقل عقوبته- لزم أن يكون ثَمَّ دارٌ أخرى، مع ما كان خلق الخلق، لا لين يعرف الحكمة من السفه، والولاية من العداوة، والخير من الشر، والرغبة من الرهبة، لا معنى له بما فيه تضييع الحكمة، وجمع بين الذي حقه التفريق في الحكمة والعقل، وذلك آية السفه، ومحال كونه ممن الحكمة صفته والعدل نعته؛ فلزم به خلق الممتحن بالذي ذكرت؛ فصار جميع الخلائق للمحن. ثم لابدَّ من ترغيب وترهيب؛ إذ على مثله جُبِل محتملو المحن؛ فلزم به القول بالدار الأخرى، وهو البعث؛ ليكون إحداهما بحق ابتداء النعم، والأخرى: بحق استحقاق الجزاء، وإن كان للّه التكليف بلا جزاء سابق النعم، ولا قوة إلا باللّه. والمعاقبة واجبة في الحكمة للجفاء والكفران، وباللّه التوفيق. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} وقيل: بمفازة، أي: بنجاة من العذاب، وهو ما ذكرنا من الفوز أنه نجاة على ما يخاف ويحذر، أي: ليسوا هم بنجاة، من العذاب، بل لهم عذاب أليم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) يشبه - واللّه أعلم - أن يكون هذا جوابًا لقولهم: {لَقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} أي: كيف جاز نسبة الفقر إليه والحاجة، وله ملك ما في السماوات وما الأرض؟! ونسبة الغنى إلى أنفسكم، وأنتم عبيده وإماؤه، وما في يد العبد يكون لمولاه؟!. أو أن يكون جوابًا لقولهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا}، أي: كيف يجوز أن يتخذ ولدًا، وله ملك ما في السماوات وما في الأرض، كلهم عبيده وإماؤه؟! والولد في الشاهد إنما يُتَّخَذُ لأحد وجوه ثلاثة: إمَّا لوحشة أصابته فيستأنس به، أو لحاجة تبدو له فيُدْفع به، أو لقهر وغلبة يخاف من عدوٍّ؛ فيستنصر به على أعدائه، ويرث ملكه إذا مات. فإذا كان اللّه له ملك السماوات والأرض وتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك؛ كيف جاز لكم أن تقولوا: اتخذ ولدًا؟! وإن كان الخلق كلهم عبيده وإماءه، وأنتم لا تتخذون الأولاد من عبيدكم وإمائكم؛ كيف زعمتم أنه اتخذ ولدًا من عبيده؟!. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: وهذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لا يقدر على خلق فعل العبد، وعلى قولهم: غير قادر على أكثر الأشياء، وهو قد أخبر أنه على كل شيء قدير. ١٩٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) في الآية وجوه. أحدها: أنه خلق السماوات والأرض للبشر ولمنافعهم، لا أنه خلقهما لأنفسهما: لا منفعة لهما بخلقه إياهما؛ حتى يكون خلقه لأنفسهما؛ إذ خلق الشيء لا لمنفعة أحد أو للفناء خاصة - عَبَث، فإذا كان ما ذكرنا أنه لا منفعة لهما في خلقهما - دل أنه إنما خلقهما لمنافع البشر، وسخرهما لهم، ثم جعل منافع السماء مع بُعْدِها من الأرض متصلة بمنافع الأرض؛ حتى لا تقوم منافع هذا إلا بمنافع الآخر؛ فيصيرهما كالمتصلين؛ لاتصال المنافع مع بعد ما بينهما؛ فدل هذا أن الذي أنشأهما واحد. وكذلك: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: هما مختلفان: أحدهما ظلام والآخر نور، يُفْنِيان الأعمار ويقربان الآجال، وليس بينهما في رأي العين تشابُه ولا تشاكل؛ إذ أحدهما نور والآخر ظلام، وهما متضادان، لكن خلقهما لمنافع البثر، والمقصود بخلقهم بنو آدم لا أنفسُهُم، على ما ذكرنا أنْ لا منفعة لهم في خلقهم، ثم صيرهما مع اختلافهما وتضادهما كالشكلين؛ لاتصال منافع بعضها ببعض؛ دل أن منشئهما واحد، وأنه عليم حكيم؛ حيث جمع من المتضادين المختلفين وصيرهما كالشكلين؛ وهما لعلم وحكمة وتدبير صارا كذلك. وفيهما دلالة البعث؛ لأنهما يَفنيان حتى لا يبقى من الليل أثر حتى يجيء النهار، فيذهب النهار أيضا حتى لا يبقى من النهار أثر، فيجيء آخر، لا يزالان كذلك، فإذا كان قادرًا على خلق الليل وإنشائه من غير أثر بقي من النهار؛ وكذلك قادر على إنشاء النهار من غير أن بقي من الليل أثر ظلام - لقادر على أن ينشئ الخلق ثانيا ويحييهم، وإن فَنوا وهلكوا ولم يبق منهم أثر؛ فإذا كان ما ذكرنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما لمنافع البشر، وهو المقصود من خلقهما لا غيرهم من الخلائق؛ لما ركب فيهم من العقول والبصر الذي بهما يميزون بين المنافع والمضار، وبين الخبيث والطيب، وبين الحسن والقبيح، ولم يركب ذلك في غيرهم من الخلائق - لابد من أمر ونهي: يأمر بأشياء، وينهى عن أشياء؛ يمتحنهم على ذلك؛ إذ هم أهل التمييز والفهم والبصر؛ فإذا كان ما ذكرنا، لابد -أيضًا- من دار أخرى للجزاء، يُكْرَمُ المطيع له فيها والولي، ويُعَاقَبُ العدو فيها والعاصي، ولا قوة إلا باللّه. ١٩١وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ (١٩١) يحتمل هذا لما جعل اللّه - تعالى - على العبد في كل حالٍ نعمةً ليست تلك في غيرها من الأحوال، نحو: أن جعل القيام نعمة في قضاء حوائجه وتقلبه في تلك الحال، وجعل القعود راحة له عند الإعياء، وكذلك الاضطجاع؛ فاستأداهم بالشكر له في كل نعمة على حال من تلك الأحوال، ومدحهم على ذلك إذا فعلوا. ويحتمل: أن يكون - تعالى - أمرهم أن يذكروه في كل حال: في حال الرخاء والشدة، وفي الضراء والسراء، لا في حال دون حال، على ما يفعله بعض خلقه: يذكرونه في حال الشدة والضراء، ولا يذكرونه في حال الرخاء واليسر، ويذكرونه في حال الرخاء واليسر، ولا يذكرونه في حال الشدة والبلاء، فمدح المؤمنين أنهم يذكرونه في كل حال، لا على ما يفعله أهل الشرك على إرادة نفس القيام، ونفس القعود والاضطجاع؛ ولكن على كل حال وفي كل وقت، واللّه أعلم. وقيل: إنه جاء في رخصة صلاة المريض: يصلِّي قائمًا إن استطاع، وإلا فقاعدًا إن لم يستطع، وإلا فمضطجعًا، وكذلك روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال ذلك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إذ في خلقهما دليل وحدانيته، وشهادة ربوبيته. {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}: أي: عبثًا، ولكنَّ خَلْقَهُم دَلِيل على وحدانيتك، وشاهد على ربوبيتك. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سُبْحَانَكَ}: هو للتبرئة، والتنزيه: هو إبعاده عن العيب، وتبريئه منه، وتطهيره عما يقول الكفار، وهو حرف يقدم عند حاجات ترفع إليه، ودعوات يدعى بها. ١٩٢وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ (١٩٢) قيل: أَذْلَلْتَهُ وفضحتَهُ وأهنتَه. {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: أي: مانع يمنع عنهم العذاب ويدفع، ويحتمل الأنصار: الأعوان، أي: ليس لهم أعوان يعينونهم في الآخرة. ١٩٣وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ (١٩٣) يحتمل هذا وجهين: أحدهما: على حقيقة السمع أن سمعوا مناديًا يدعوهم إلى الإيمان، وهو رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو القرآن، كلاهما يدعوان الخلق إلى الإيمان باللّه. ويحتمل قوله: {سَمِعنَا}، أي: عقلنا، وعَقْلُ كُل أحد يدعو إلى التوحيد والإيمان به. وقيل: سمعوا دعوة اللّه فأجابوها، وصبروا عليها. وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: المنادي: مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قرأ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ. . .} هو الآية. وعن غيره: المنادى هو الترآن، يدعوهم {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ}. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآمَنَّا رَبَّنَا} وفيه دلالة أن الإيمان ليس هو جميع الطاعات، على ما يقول بعض الناس؛ ولكنه فرد تصديق؛ لأنه لما قال لهم: آمنوا بربكم لم يطلبوا التفسير، ولا قالوا: كم أشياء تكون؟!، ولكن أجابوه إجابة موجزة، فقالوا: {فَآمَنَّا رَبَّنَا}. ثم فيه دلالة أن لا ثُنَيَّا في الإيمان؛ لأنهم أطلقوا القول في الإخبار عن إيمانهم من غير ذكر حرف الثنيا؛ دلَّ أن الإيمان مما لا يحتمل الثنيا. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}: قيل: قولهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: التي كانت فيما مضى من عمرنا، {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}، أي: اعصمنا فيما بقي من عمرنا، أو: وفقنا للحسنات التي تكفر سيئاتنا؛ لما قد يلزم العبدَ التكفيرُ لما أساء. وقيل: المغفرة والتكفير كلاهما سواء؛ لأن المغفرة هي الستر، وكذلك التكفير " ولذلك سُمِّي الحراثون: كفارًا؛ لسترهم البذر في الأرض؛ وكذلك الكافر سمى كافرًا؛ لستره الحق بالباطل، ولستره جميع ما أنعم اللّه عليه بتوجيه الشكر إلى غيره، واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}: يحتمل قوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}، أي: توفنا واجعلنا مع الأبرار. ويحتمل: وتوفنا من الأبرار وفي الأبرار. ثم اختلف في البَرِّ: قيل: هو الذي لا يؤذى أحدًا، وقيل: الأبرار: الأخيار. ويحتمل: توفنا على ما عليه توفيت الأبرار، وتوفنا وإنَّا أبرارٌ. والبر: الطاعة، والتقوى: ترك المعصية. ١٩٤وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ (١٩٤) قيل فيه بوجهين: قيل: وآتنا ما وعدتنا على ألسن رسلك، على إضمار " ألسن " كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّه فَضْلًا}. وقيل: {مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، أي: ما جعلت عليهم من الاستغفار للمؤمنين؛ كقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، وكقول إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}، وكقول نوح - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}. ثم بيننا وبين المعتزلة كلام في الآية: قالت المعتزلة: يجوز الدعاء والسؤال عنه بما قد أعطى، وما عليه أن يعطي نحو ما ذكر من السؤال بما وعد، وما وعد لا شك أنه يعطي، وأنه لا يخلف الميعاد، ونحو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ}، وهو لا يحكم بالجور. وأما عندنا: أن السؤال عما عليه أن يعطي - يخرج مخرج الدعاء له ربنا لا تَجُر ولا تَظْلم، إن هذا لا يقال إلا لمن يخاف الجور منه والظلم؛ إذ يعلم أن ذلك عليه، والسؤال عما قد أعطى محال؛ لأنه يخرج مخرج كتمان ما أعطى، أو ليس عنده ما يعطيهم؛ فيخرج مخرج السخرية به؛ لذلك بطل السؤال، واللّه أعلم. ثم تأويل الآية عندنا على وجوه: أحدها: قوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، يحتمل أن يكون الوعد منه لرسله باستغفار الرسل، إذا كان من المؤمنين استغفار وسؤال؛ كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ. . .} الآية: وعد لهم المغفرة لهم باستغفار الرسول؛ إذا كان منهم استغفار وسؤال، يقول: اجعل دعائي دعاء من جاء إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستغفرًا فاستغفر له، وكقوله -أيضًا-: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}. والثاني: يحتمل أن يكون الوعد لهم؛ إذا ماتوا على ذلك، فالدعاء كان منهم، والسؤال: أنه إذا أماتهم يميتهم على الإيمان، على ما كانوا أحياء، والمغفرة والرحمة حينئذ تكون لهم؛ ألا ترى أنه قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ}، فله كذا، ولم يقل: من عمل بها فله كذا، ولكن ذكر مجيئه بها، فعلى ذلك الأوَّل، واللّه أعلم. ثم يحتمل ما ذكرنا، واللّه أعلم. وفيما ذكر من تأويل الآية في الابتداء كفاية من ذلك، واللّه أعلم. والثالث: يدعو؛ ليجعلهم من الجملة الذين كان لهم الوعد؛ إذ الوعد غير مُبَيّنٍ لمن هو؛ فسألوا أن يجعلهم في تلك الجملة، واللّه أعلم. * * * ١٩٥قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللّه وَاللّه عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥) وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} هذا يدل أن الوعد لهم كان مقرونًا بشرط السؤال؛ لأنه قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ}، والاستجابة تكون على أثر السؤال؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. . .} الآية. وقوله تعالى: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. قيل: من الخلق كلهم، لكن جعل جزاء أعمال الكفرة في الدنيا؛ كقوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ}، وأما المؤمنون: في الدنيا والآخرة، وأما الكفار فإنما يعطيهم ابتداء ليس بجزاء. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ}، أي: نردها عليهم، وهم لا يبخسون أرزاقهم. وقيل: قوله: {مِنْكُمْ} - إشارة إلى المؤمنين خاصَّة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي. . .} الآية: الذين هاجروا: إلى اللّه تعالى ورسوله طوعًا، {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}، أي: اضطروهم حتى خرجوا من ديارهم فهاجروا، {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي}، أي: في طاعتي، {وَقَاتَلُوا}: حتى {قُتِلُوا}. ويحتمل هذا كله أنْ هاجر بَعْضٌ طوعًا، وبعض أُخرجوا من ديارهم حتى هاجروا، وقاتل بعضٌ حتى قتلوا، وقاتل بعض ولم يُقْتلوا، وقُتِل بعض. وقوله: {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .} الآية تأويلها ظاهر. ١٩٦وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ}: يحتمل تقلبهم وجوهًا. وذلك نعمة من اللّه عليهم؛ لترْكِهِم يَتَّجِرون في البلدان مع كفرهم بربهم. والثاني: أعطاهم أموالًا يتنعمون فيها ويتلذذون. والثالث: ما أخر عنهم العذاب والهلاك إلى وقت. يقول: لا يغرنك يا مُحَمَّد ذلك؛ إنما هو متاع يسير، ومصيرهم إلى النار؛ كقوله - تعالى -: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ. . .} والآية؛ وكقوله: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا. . .} الآية. قال: وليس الاغترار في نفس التقلب؛ لأنه جهد ومشقة؛ ولكن لما فيه من الأمن والسعة والقوة؛ دليله قوله - تعالى -: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ}، ثم قال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ}، وسعيهم للآخرة متاع لا ينقطع. ١٩٨وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ (١٩٨) يعني: الشرك {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .} إلى آخر ما ذكر {ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّه}. يحتمل أن يكون الأمر ما ذكر في بعض القصة: أن بعض المؤمنين قالوا: إن الكفار في خصب ورخاء، ونحن في جهد وشدة؛ فنزل: لا يغرنك تقلبهم في ذلك؛ إنما هو متاع قليل، وذلك ثوابهم في الدنيا، وأما ثواب الذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار. . . إلى آخر ما ذكر. ١٩٩وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (١٩٩) ويعني: القرآن. {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} ويعني: التوراة. ثم اختلف في نزوله: قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في شأن عبد اللّه بن سَلام وأصحابه: أقرُّوا بأنه واحد لا شريك له، وصدقوا رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وما أنزل عليه. . . ". وقيل: نزل في شأن النجاشي، وروي عن جابر بن عبد اللّه - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما صلى على النجاشي قال أناس من المنافقين: يصلي على حبشي مات في أرض الحبشة؟! فأنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه. . .} الآية. وعن الحسن قال: لما مات النجاشي، قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " استغفروا لأخيكم " قالوا: يا رسول اللّه، لذلك العِلْج؟! فأنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه. . .} الآية، وقيل: لما صلَّى عليه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قال المنافقون: صلى على من ليس من أهل دينه؟ فأنزل اللّه الآية. وعن الزهري عن أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى على النجاشي، فكبَّر عليه أربع تكبيرات، وصففنا في المصلَّى خلفه، وكان مات بالحبشة. قال: والنوازل على وجهين: من ترك بسببه خيرًا وسعة فله فيه فضل؛ لأنه كان مفتاح الخير، ومن ترك بسببه ضيقًا فعليه فضل لوم؛ كأنه مفتاح الضيق. وأمَّا الأحكام: فإنه ينظر إلى ما فيه نزل فيشترك فيه الخلق، ولا يجوز أن يقال: نزل في شأن فلان؛ إنما أنزل لما في شأن فلان، لا في شأنه. ٢٠٠وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا (٢٠٠) قيل: على أداء الفرائض والعبادات، وقيل: اصبروا على البلايا والمصائب والشدائد: {وَصَابِرُوا} في الجهاد لعدوكم. وقيل: اصبروا على أمر اللّه وفرائضه، وصابروا مع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آله وصحبه في المواطن. وعن الحسن قال: أُمِروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضى اللّه لهم، وهو الإسلام، ولا يَدَعُوا دينهم؛ لشدة ولا لرخاء، ولا ضراء، ولا سراء، حتى يموتوا، ويكونوا يصابرون الكفار، حتى يكونوا هم يميلون عن دينهم، وأمروا أن يرابطوا المشركين. وقيل: اصبروا على الجهاد، وصابروا لعدوكم. {وَرَابِطُوا} أي: داوموا على دينكم. {وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: قال: والصبر في نفسه خاصة في طاعة يصبر عليها، ومعصية يصبر عنها وفي بلوى، والمصابرة مع غيره، وقد يكون كل واحد على المعنيين؛ لأنه لا يخلو عن مصابرة عدو فيما يطيع ربه. وقيل: رابطوا مع عدوكم ما أقاموا، واتقوا اللّه فيما أمركم به، فلا تدعوا ذلك مع نبيكم، وذروا ما نهاكم عنه، ولا قوة إلا باللّه. |
﴿ ٠ ﴾