١٤وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} أي: الشهيات. {مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} وما ذكر. . . إلى آخره. قال الحسن: واللّه ما زيَّنها إلا الشيطان؛ إذ لا أحد أذم لها ولأهلها من اللّه تعالى، وإليه يذهب المعتزلة، لكن الأصل في هذا وفي أمثاله: أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - زيَّن هذه الأشياء، والتزيين من اللّه - سبحانه وتعالى - يقع لوجهين، وكذلك الكراهة - أيضًا- تقع لوجهين: تزين في الطباع، والطبع يرغب فيما يتلذذ ويُشْتَهى، وإن لم يكن في نفسه حَسَنًا. وتزين في العقل، فلا يتزين في العقل إلا فيما ثبت حسنه بنفسه، أو الأمر أو حمد العاقبة ونحو ذلك، ثم جعل العقل مانعًا له، رادًّا عما يرغب إليه الطبع ويميل؛ لأن الطبع أبدًا يميل ويرغب إلى ما هو ألذّ وأشهى وأخف عليه، وينفر عما يضره ويؤلمه. والعقل لا ينفر إلا عما هو القبيح في نفسه، ويرغب فيما هو الحسن في نفسه؛ وعلى ذلك يخرج قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حُفَتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ، وَالنَّارُ بِالشَهَوَاتِ ": ليس على كراهة العقل، ولا على شهوة العقل؛ ولكن على كراهة الطبع وشهوته؛ وكذلك قوله: ({كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}: ليس على كراهة الاختيار، ولكن كراهة الطبع؛ لأن كراهة العقل كراهة الاختيار، وكذلك رغبة العقول رغبة الاختيار، وفيها تجري الكلفة -أعني: على اختيار العقل، لا اختيار الطبع- بما يميل ويرغب في الألذ، وينفر عن الضار؛ دليله قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أخبر أنهم لا يؤمنون ما وجدوا في قضائه حرجًا؛ فدلت الآية أن الخطاب والكلفة إنما يكون على اختيار العقل وكراهيته، لا على اختيار الطبع؛ لذلك قلنا: إنه يجوز التزيين في الطبع من اللّه تعالى، وكذلك الكراهة في الطبع تكره من اللّه تعالى. فأمّا قولهم: إن الشيطان هو الذي زينها: فإن عنوا أنه يزينها لهم، أي: يرغبهم ويدعوهم إليها، ويريهم زينتها - فنعم. وإن عنوا أنّه يزينها بحيث نَفَّسَهَا لهم - فلا؛ لأن اللّه - تعالى - وصف الشيطان بالضعف، ونفى عنه هذه القدرة بقوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، فلو جعلنا له التزيين لهم على ما قالوا، لم يكن كيده على ما وصفه - عزّ وجلّ - بالضعف؛ ولكن كان قويا، ولكنه يدعوهم إليها، ويرغبهم فيها، ويريهم المزين لهم، ثم دعاؤه إياهم، وحخثه في ذلك، وقوته من حيث ما لا يطلع عليه بقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ}، فالعدو الذي يَرَى هو من يعاديه، ولا يُرَى هو - كان يجب أن يكون أحذر منه، وأخوف ممن يرى. ووجه آخر: أن الشهوات التي أضاف التزيين إليها لا خلاف بينهم في أنها مخلوقة للّه تعالى، فما بقي للشيطان إلا الدعاء إليها، والترغيب فيها. وفيه وجه آخر: أنه لو لم يجعل هذا مزينًا من اللّه تعالى، زال موضع استدلال الشاهد على الغائب، وبالدنيا على الآخرة. وقد جعل ما في الدنيا نوعين: مستحسنا ومستقبحًا. وجعل ذلك عيارًا لما أوعد ووعد، فلما لم يكونا منه-لا يصح موضع التعيير، لأنه - جلّ وعلا - بلطفه سخر كل مرغوب في الدنيا، ومدعو إليه من جوهره- في الآخرة، وحسنه؛ ليرغب الناسَ هذا إلى ما في الجنة بحسنه ولطفه وزينته، ويدعوهم إلى ترك ما في الدُّنيَا من الفاني إلى نعيم دائم أبدًا، فلو جعل هذا من تزيين الشيطان - لعنه اللّه - ومصنوعه لهم، لذهب عظيم موضع الاستدلال الذي ذكرنا؛ فدلّ أنه مزين منه عَزَّ وَجَلَّ، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. ثمّ امتحنهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بترك ما زين لهم في الطباع؛ بما ركب لهم من العقول الوافرة؛ ليختاروا ما حسن في العقول وتزين، وعلى ذلك جرت الكلفة والخطاب، لا بما مالت إليه الطباع، ونفرت عنه العقول، وباللّه التوفيق. ثم في الآية دلالة وجوب الحق في كل ما ذكر في الآية من المال، وكذلك الخيل، وأمَّا في النساء والبنين: فلما مُتِّعوا بهم - أوجب عليهم النفقة كذلك. وقوله - عز وجل - {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}: أوجب في النساء عليهم النفقة، وكذلك البنين، وأوجب في الذهب والفضة حقا، ثم ذكر الخيل المسومة: إن كان المراد منه جعلها سائمة؛ لذلك قال أبو حنيفة - رضي اللّه عنه -: إِنَّ فِي الخَيلِ صَدَقَةً، ثم اختلف في المسومة؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: هي المسيَّبة الراعية. وقال آخرون: هي المعلمة، وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " الْمُسَوَّمَةُ الراعِيَة ". وقال غيرهم: الْمُطَهَّمَة، وهي الْمُحَسَّنة. ثم أخبر أن ما ذكر في الآية {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وأمرهم بترك ذلك، وأخبر أن لهم عنده: {حُسْنُ الْمَآبِ}، إن هم تركوا مما امتُحِنُوا به، ثم قال: إن من اتقى في الدنيا له خير من ذلك بقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .} إلى آخره. ثم اختلف في {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ}؛ منهم من قال: ألف ومائتا أوقية. ومنهم من قال: اثنا عشر ألفًا. ومنهم من يقول: سبعون ألف دينار. ومنهم من يقول: هو بلسان الرومية: ملء مَسْكِ ثور ذهبًا أو فضة. ومنهم من يقول: كل مائةٍ قنطار من كل شيء، وهو اسم المال العظيم الكثير لا يُدرَى ما مقداره، وليس لنا إلى معرفة قدره حاجة ولا فائدة؛ إنما الحاجة إلى معرفة الرغبة فيما كثر من المال؛ إذ ليس قدر أحق بأن يحمل عليه الرغبة من الآخر، واللّه أعلم. |
﴿ ١٤ ﴾