١٣١

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}.

قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} - كقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ففيه نهي عن الأخذ؛ كقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}؛ فعلى ذلك قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}، أي: لا تأخذوا.

وقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}

فَإِنْ قِيلَ: ما معنى النهي عن المضاعفة وغير المضاعفة حرام؟! لكنه يحتمل هذا وجوهًا:

يحتمل: أن يكون هذا قبل تحريم الربا، فنهوا عن أخذ المضاعفة.

ويحتمل قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}: أي: لا تكثروا أموالكم بأخذ المضاعفة.

ويحتمل: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}، أي: لا تصرّوا على استحلال الربا فتثبتون عليه آخر الأبد.

ويحتمل. {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}؛ تضعيف العذاب.

ويحتمل ما قيل: كان أحدهم يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل زاد في الربح، وزاد الآخر في الأجل، وذلك كان ربا الجاهلية.

قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا}.

يحتمل الأكل؛ لأنه نهاية كل كسب.

ويحتمل الأخذ؛ كقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}،

وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}،

وقوله: {أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً}: في الأخذ، أي: لا تأخذوا لتُكَثروا أموالكم، أو تقصدوا بذلك تضاعف أموالكم إلى غير حد؛ وليس فيه أن القليل ليس بمحرم، لكن ذلك هو مقصود أكله؛ فنهوا عن ذلك، وحرمة القليل بغير ذلك من ليُكَثروا أن يكون في نازلة عليها، خرج النهي لا على الإذن بدون ذلك، ولو كان على حقيقة الأكل فهو على النهي عن التوسع بالربا أو الأمر بالعود إلى ما لا ربا فيه، وإن كان في ذلك ضيق، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون في الآية إضمار؛ فيقول: لا تأكلوا الربا؛ لأنكم إن أكلتموه بعد العلم بالتحريم - تضاعفت عليكم المآثم والعقوبات، وقد جعل اللّه للربا أعلامًا دلت على ما غلظ شأنها؛ نحو ما وصف من لا يتقيه لا ينفيه بالخروج بحرب اللّه وحرب رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالتخبط يوم القيامة، وانتفاخ البطن وما جرى في معاقبة اليهود، وبتحريم أشياء لمكان ذلك، وقوم شعيب ما حل بهم بلزومهم بتعاطي الربا، واللّه أعلم، {وَاتَّقُوا اللّه} ولا تأخذوا الربا ولا تستحلوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

وقوله: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)

فيه دلالة أنها إنما أعدت للكافرين، لم تعد لغيرهم، فذلك يرد على المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، واللّه - تعالى - يقول: إنها أعدت للكافرين، وهم يقولون: ولغير الكافرين.

قال الشيخ - رحمه اللّه - في قوله: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ:

يحتمل: للذين اتقوا الشرك؛ كقوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.

ويحتمل: للذين اتقوا جميع أنواع المعاصي: فإن كان التأويل هو الأول -فكل من لم يستحق بفعله اسم الكفر- فهو في الآية؛ إذ قال في النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، لم يجز أن تكون هي أبدًا لغيرهم؛ لوجهين:

أحدهما: إذ لا يجوز أن تكون الجنة المتخذة للمؤمنين تكون لغيرهم؛ فكذلك النار المعدة للكافرين، وهذا أولى بجواز القول في إيجاب الجنة لمن لا يكون منه الإيمان؛ نحو الذرية، وفساد القول فيهم بالنار، واللّه أعلم.

والثاني: أنها إذا جعلت لغيرهم أو أعدت لغيرهم -كان لا يكون للكفر فضل هيبة ولفعله فضل فزع في القلوب بوجود ذلك، ومعلوم أن ذلك بالعواقب لا بنفس الفعل- ثبت أنه لا يجب خلود من ليس بكافر فيها حتى يكون ممن أعدّت له، ولغير أثر وتحذير لا تحقيق ذلك كله، واللّه أعلم.

وإن التأويل هو الثاني من اتقاء جميع المعاصي؛ فيكون لذلك بعد عبارتان:

إحداهما: أن قد ظهر أهل الجنة وأهل النار، وبينهم قوم لم تبلغ بهم الذنوب الشرك، فيدخلون في الوعيد بالنار المعدة لهم، ولا اتقوا جميع المعاصي؛ فيكونون في الوعد المطلق فيمن أعدت له الجنة؛ فحقه الوقف فيه حتى يظهر ذلك في قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وفي قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ}،

وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}، الآية، وغير ذلك من آيات العفو والمغفرة، وما كان ذلك واجبًا في الحكمة، فيكون القائم به يستحق وصف العدل لا العفو والمغفرة - ثبت أن ذلك فيما قد وجب، أو يكون فيمن يجزيهم جزاءهم ويدخلهم الجنة؛ إذ أخبر أنه لا يجزي السيئة إلا بمثلها، وبالتخليد مضاعفة ذلك من وجهين:

أحدهما: أنه عذاب الكفر، وهذا دونه.

والثاني: منع لذة الحسنة بكليتها، بل حق ذلك أن يكون كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الآية، أن يجزي بالأمرين جميعًا، ولا قوة إلا باللّه.

والثاني: أنه قد جاء بمقابل السيئة من الحسنات، ومقابل كل أنواع من المعاصي من الطاعات، وقد وعد على الحسنة عشر أمثالها؛ فمحال أن يقابل مثل الذي دون الشرك من السيئات - الشرك في إحباط العمل، ولا يقابل مثل الذي دون الإيمان الإيمان في إحباط الذنوب، ويجب له الجنة، ثم مع ذلك الإيمان الذي لا أرفع منه، وهو الذي بعثه على الخوف والرجاء وقت الإساءة، وعلى أنه لو خشي على نفسه كل بلاء ورجا كل نفع في الكفر بربه - لم يؤثر ذلك مع ما وعد على الحسنة عشر أمثالها، ثم يبطل لذة ذلك كله، ويلزم الخلق القول فيه بالكرم والعفو والرحمة، ولا قوة إلا باللّه.

﴿ ١٣١