١٥٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ}:

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: فبرحمة من اللّه عليك لنت لهم؛ كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ويحتمل قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُمْ}: فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلقه؛ على ما جاء في الخبر قال لأصحابه: " لَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تَرَاحَمُوا فقيل: كلنا نرحم يا رسول اللّه، فقال: " لَيسَ تَرَاحُمَ الرجُلِ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ، وَلَكِنْ يَتَرَاحَمُ بَعْضُهُم بَعْضًا " أو كلام نحو هذا.

وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرحَم صَغِيرَنَا، وَلَم يُوَقر كَبِيرَنَا - فَلَيسَ مِنَّا "، وما جاء: " مَنْ لَمْ يَرحَمْ أَهْلَ الأَرْضِ لَمْ يَرحَمْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ "؛ كما قال اللّه - تعالى -: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه} الآية، وقد أمر اللّه عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين، إلا عند المعاندة والمكابرة؛ فحينئذ أمر بالقتال؛ كقوله لموسى وهارون -حيث أرسلهما إلى فرعون- فقال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وكان اللين في القول أنفذ في القلوب، وأسرع إلى الإجابة، وأدعى إلى الطاعة من الخشن من القول، وذلك ظاهر في الناس؛ لذلك أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسله باللين من المعاملة، والرحمة على خلقه، وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها، وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله:

{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا}

في القول

{غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}

أي: لو كنت في الابتداء فظًّا غليظًا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك.

وقوله - عزّ وجل -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} بأذاهم إياك ولا تكافِهِم، واستغفر لهم فيما بينهم وبين ربهم.

ويحتمل قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}

بما عصوك ولا تنتصر منهم، وكذلك أمر اللّه المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم، وألا ينتصروا منهم بقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ}، وكان أرجى للمؤمنين قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}؛ كما قال اللّه - تعالى -: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ. . .} الآية، وقوله -أيضًا-: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}: لا جائز أن يؤمر بالاستغفار لهم ثم لا يفعل، وإذا فعل لا يجاب؛ فدل أنه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وكذلك دعاء إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}، ودعاء نوح - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}، لا يجوز أن يدعو هَؤُلَاءِ الأنبياء - عليهم السلام - ثم لا يجاب لهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}:

أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمر؛ ففيه وجوه ثلاثة:

أحدها: أنه لا يجوز له أن يأمره بالمشاورة فيما فيه النص، وإنما يأمر بها فيما لا نص فيه؛ ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد.

والثاني: لا يخلو أمره بالمشاورة، إما لعظم قدرهم وعلو منزلتهم عند اللّه، أو لفضل العقل ورجحان اللب؛ فكيفما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم، ولا جائز -أيضًا- أن يأمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورة أصحابه، ثم لا يعمل برأيهم؛ دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنما أمر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال، وعن الحسن - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " لما أنزل اللّه - تعالى -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} - قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللّه ورَسُولَهُ غَنيَّانِ عَنْ مُشاوَرَتِكُم "؛ ولكنه أراد أن يكون سُنَّة لأمته "، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كان يقرأ: " وشاورهم في بعض الأمر ".

وقيل: أمر اللّه نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاور أصحابه في الأمور، وهو يأتيه وحي السماء؛ لأنه أطيب لأنفس القومِ، وأن القوم إذا شاورهم بعضهم بعضًا فأرادوا بذلك وجه اللّه - عزم اللّه لهم على أَرْشدِهِ.

وقيل: إن العرب في الجاهلية كانوا إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم، لا يشاورهم في الأمر شق عليهم؛ فأمر اللّه النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يشاورهم في الأمر إذا أراد؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم.

وفي بعض الأخبار قيل: " يا رسول اللّه، ما العزم؟ قال: " أن تستشير ذا الرأي، ثم تطيعه ".

وكان يقال: ما هلك امرؤ عن مشورة، ولا سعد ثبور، قيل: الثبور: الذي لا يستشير ويعمل برأيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه}:

أي: لا تتكلن إلى نفسك، ولا تعتمدن على أحد؛ ولكن اعتمد على اللّه وَكِلِ الأمر إليه.

وقيل: فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك، فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو - واللّه أعلم - لا تعجبن بالكثرة، ولا ترَيَنَ النصر به، ولكن اعتمد بالنصر على اللّه؛ كقوله - تعالى -: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، واللّه أعلم بما أراد، بذلك؛ كقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه}.

﴿ ١٥٩