سُورَةُ النِّسَاءِ

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}

في كل ما كان الخطاب للكفرة: ذكر اللّه - سبحانه وتعالى - على أثره حُجج وحدانيته، ودلائل ربوبيته؛ لأنهم لم يعرفوا ربهم، من نحو ما ذكر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. . .} الآية، وكقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. . .} الآية، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، ونحوه كثير: ذكر الحجج والدلائل التي بها يوصل إلى معرفة الصانع وتوحيده؛ لينظروا فيها وليتفكروا؛ فيعرفوا بها خالقهم وإلههم.

وفي كل ما كان الخطابُ للمؤمنين: لم يذكر حجج الوحدانية، ولا دلائل الربوبية؛ لأنهم قد عرفوا ربهم قبل الخطاب، ولكن ذكر على أثره نعمه التي أنعمها عليهم، وثوابه الذي وعد لهم، نحو قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا. . .) إلى آخر ما ذكر، ذكر نعمه التي أنعمها عليهم، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ. . .} كذا إلى آخر ما ذكر؛ على هذا يخرج الخطاب في الأغلب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}.

قيل: اتقوا عذابه ونقمته.

وقيل: اتقوا عصيانه في أمره ونهيه.

وقيل: اتقوا اللّه بحقه في أمره ونهيه.

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}

أضاف خلقنا إلى آدم؛ إذ صورة الإنسان في النطفة.

قال: دلت إضافة خلقنا من آدم -وإن لم تكن أنفسنا مستخرجة منه- على أمرين:

أحدهما: جوازُ إضافة الشيء إلى الأصل الذي إليه المرجع، وإنْ بَعُدَ ذلك عن الراجع إليه؛ على التوالد والتتابع.

والثاني: أنا لم نكن بأبداننا فيه، وإن أضيف خلقنا إليه؛ إذ لو كنا فيه لكُنا منه بحق الإخراج لا بحق الخلق منه. وذلك يبطل قول من يجعل صورة الإنسان في النطفة مع الإحالة أن يكون معنانا في التراب أو النطفة؛ إذ هما من الموات الخارج من احتمال الدرك، ونحن أحياء داركون، واللّه أعلم.

وقوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}

أي: فرق، ونشر، وأظهر منهما أولادًا كثيرًا: ذكورا وإناثًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}

قوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ}، أي: اتقوا اللّه الذي تساءلون بعضكم من بعض، أي: يسأل بعضكم من بعض الحوائج والحقوق به، يقول: أسألك بوجه اللّه، وبحق اللّه، وباللّه.

ويسأل بعضكم من بعض بالرحم، يقول الرجل لآخر: أسألك بالرَّحم وبالقرابة أن تعطيني.

وقوله: {وَالْأَرْحَامَ}، روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول: {وَاتَّقُوا اللّه الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}، واتقوا في الأرحام وصلوها.

وقرئ بالنصب والخفض: {وَالْأَرْحَامَ}: فمن قرأ بالنصب يقول: اتقوا اللّه فلا تعصوه، واتقوه الأرحام فلا تقطعوها.

ومن قرأ بالخفض يقول: اتقوا اللّه الذي تساءلون به والأرحام.

وروي في الخبر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اتقُوا اللّه وَصِلُوا الأَرْحَامَ؛ فَإِنَّهُ أَتْقَى لكُم فِي الدُّنْيَا، وَخَيرٌ لكُمْ فِي الْآخِرَةِ ". والآية في الظاهر على العظة والتنبيه.

وكذلك قوله: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}

هو على التنبيه والاتعاظ.

٢

قوله - تعالى -: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} يحتمل هذا وجهين:

أحدهما: احفظوا أموالهم إلى أن يخرجوا من اليتم، فإذا خرجوا من اليتم أعطوهم أموالهم.

ويحتمل قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، أي: أنفقوا عليهم من أموالهم، ووسعوا عليهم النفقة ولا تضيقوها لينظروا إلى أموال غيرهم.

{وَآتُوا}، بمعنى: آتوا لوقت الخروج من اليتم، أي: احفظوا؛ لتؤتوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}

أي: لا تأخذوا الخبيث فتتركوا لهم ما وعد لكم في الآخرة بحفظ أموالهم.

وقيل: لا تأخذوا الجياد من ماله وتعطي الدون من ماله؛ فذلك تبديل الخبيث بالطيب.

وقيل: لا تأكلوا الخبيث: وهو أموال اليتامى، وتذروا الطيب: وهو أموالكم؛ إشفاقًا على أموالكم أن تفنى.

وقيل: لا تأكلوا الحرام مكان الحلال؛ لأن أكل مال اليتيم حرامٌ، وأكل ماله حلال؛ فنهي أن يبدلوا الخبيث بالطيب.

ويحتمل: لا تأخذ ماله -وهو خبيث- ليؤخذ منك الذي لك وهو طيب.

ويحتمل: لا تأكلوا ذلك؛ إبقاء لأموالكم التي طيبها اللّه - تعالى - لكم، بما جعل اللّه لكم خبيثًا.

ويحتمل: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} في الدنيا؛ فتكون هي نارا تأكلونها؛ فتتركون الموعود لكم في إبقاء الخبيث؛ كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا. . .} الآية.

وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}

يحتمل هذا - واللّه أعلم - وجهين:

يحتمل قوله: {أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، أي: مع أموالكم، أي: لا تخلطوا أموالهم مع أموالكم فتأكلوها؛ ففيه نهي عن الخلط والجمع.

ويحتمل: {أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، أي: بأموالكم؛ ففيه النهي عن أكل أموالهم بأموال أنفسهم تبعًا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وقوله - تعالى -: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، بمعنى: لا تجمعوها إليها فتأكلونهما معًا.

ويحتمل: مع أموالكم، واللّه أعلم.

وقوله - جل وعز -: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}

قيل: جورًا.

وقيل: الحوب: الإثم، وهو واحد.

وقيل: خطأ.

وقِيل: ذنبًا كبيرًا.

وقيل إثمًا؛ وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ (٣)

اختلف في تأويله:

فقيل: إنهم كانوا يخافون من أموال اليتامى ويتحرجون منها؛ لكثرة ما جاء من الوعيد فيها؛ فنزل هذا: {وَإِنْ خِفْتُمْ} وتحرجتم من أموال اليتامى؛ فكذا فتحرجوا من الزنا: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية.

عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت: نزلت في يتامى من يتامى النساء كُنَّ عند الرجال؛ فتكون اليتيمة الشوهاء عند الرجل -وهي ذات مال- فلا ينكحها؛ لشوهتها، ولا يُنْكِحُهَا؛ ضنًّا بمالها؛ لتموتَ فيرثَها، وإن نكحها أمسكها على غير عدل منه في أداء حقها إليها، ولا ولي لها سواه يطالبه بحقها؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فذروهن، ولا تنكحوهن، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}.

وروي عنها -أيضًا- أنها سئلت عن هذه الآية؟ فقالت: نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في جمالها ومالها، وينقص من صداقها؛ فنهوا عن نكاحهن، إلا أن يقسطوا في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء.

قالت عائشة - رضي اللّه عنها -: واستفتى الناس رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك؛ فأنزل اللّه: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ. . .} إلى قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} فأنزل اللّه - تعالى - لهم في هذه الآية: أن اليتيمة إذا كانت ذات جمالٍ ومال رغبوا فيها -في نكاحها- وسنتها في إكمال الصداق، وإذا كانت مرغوبًا عنها في شوهتها، وقلة مالها؛ تركوها وأخذوا غيرها من النساء.

قالت: فكما تتركونها حين ترغبون عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق.

وقيل: لما أنزل اللّه - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا. . .} الآية ترك المؤمنون مخالطة اليتامى، وتنزهوا عنها؛ فشق ذلك عليهم؛ فاستفتوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في مخالطتهم، وكان يكون عند الرجل عدد من النساء ثم لا يعدل ببنهن؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ} الجور في مخالطة اليتامى؛ فكذلك خافوا جمع النساء وترك التسوية بينهن في النفقة والجماع.

ثم من الناس من يبيح نكاح التسع بقوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} فذلك تسع.

وأما عندنا: فإنه لا يحتمل ذلك؛ لأن معنى قوله - تعالى -: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}: مثنى أو ثلاث أو رباع؛ لأنه قال: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}: استثنى الواحدة إذا خاف ألا يعدل بينهن، فلو كان ما ذكر؛ لكان لا معنى لاستثناء واحدة منهن، ولكن يقول: وإن خفتم ألا تعدلوا " بين التسع؛ فثمان، أو سبع، أو ست؛ فلما لم يستثن إلا واحدة دل أن التأويل ما ذكرنا: مثنى أو ثلاث أو رباع، على الانفراد.

والثاني: ما ذكر في القصة: أنه كان عند الرجل عدد من النساء عشر أو أكثر أو أقل، فخرج ذلك على بيان ما يحل من العدد، وذلك أربعة.

وروي أن رجلا أسلم وتحته ثماني نسوة، فأسلمن، فقال له رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اختَر مِنْهُنَّ أَرْبعًا، وفَارِقِ الْبَوَاقِي ".

والخبر في بيان منتهى ما يحل من العدد دون وجه الحل؛ فاحتمل أن يختار أربعًا على استقبال النكاح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى. . .} الآية: قيل فيه بوجوه:

أحدها: أنه قال: إذا خفتم الجور في كفالة اليتامى فاتقيتموها؛ فخافوا في كفالة النساء؛ فلا تكثروا منهن.

والثاني: أنكم إذا خفتم في أموال اليتامى؛ فتحرجتم ضم أموالهم إليكم؛ إشفاقا على أنفسكم أن تأكلوا منها - فخافوا النساء مواقعتهن من وجهٍ يحرم عليكم؛ فانكحوهن.

والثالث: أنه إذا خفتم الجور في يتامى النساء لو تزوجتموهن من حيث ليس معهن من يمنعكم من ظلمهن، فانكحوهن من غيرهن ممن إذا جرْتُمْ فيهن مُنِعْتُمْ من ذلك.

لكنه معلوم أن الحد في عدد النساء؛ لخوف الجور، وبما علم اللّه من عجز البشر على ما جُبِل عليه، أخبر أنه لا يقوم بوفاء الحق في أكثر من ما ذكر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}

ليس على الحكم والحتم؛ ولكنه أدب؛ لأنه وإن خاف ألا يعدل فتزوج أربعًا - جاز، وهو مثل الذي نهى -في الإصرار- المراجعة، وأمر بالقصد فيها والعدل، فإن فعل ذلك أثم ورجعته صحيحة، وكذلك كالأمر بالطلاق في العدة، والنهي عنه في غير العدة، ثم إذا طلق في غير العدة وقع؛ فكذلك الأول.

وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا}: في القسم والجماع والنفقة.

{فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إن خفتم ألا تعدلوا في واحدة؛ لأنه ليس للإماء قِبَلَ سادتهن حق الجماع والقسم؛ ينكح ما شاء؛ كأنه قال هذا؛ لما ليس لأكثرهن غاية؛ فله أن يجمع ما شاء من الإماء في ملكه، وليس له أن يجمع بالنكاح أكثر من أربع، ولو كان التأويل ما ذهب إليه لم يكن لقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وجهٌ.

وفيه إذن بتكثير العيال، مع ما أن كثرة العيال معدودة من الكرم؛ إذا أحسن إليهم لم يحتمل أن يزهد فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}:

قال بعضُ أهل العلم: إن قوله - تعالى -: {أَلَّا تَعُولُوا}: من كثرة العيال، وهو قول الشافعي - رحمه - اللّه تعالى - ولكن هذا لا يستقيم في اللغة؛ لأنه يقال من كثرة العيال: أعال يُعِيل إعالة؛ فهو معيل، ولا يقال: عال يعول، وإنما يقال ذلك في الجور.

فَإِنْ قِيلَ: روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " لكن تأويله - واللّه أعلم -: ابدأ بمن يلزمُك نفقته، أي: ابدأ بمن تصير جائرًا بترك النفقة عليه، وكذلك يقال: عال يعول عولا؛ إذا أنفق على عياله، وليس من كثرة العيال في شيء، ألا ترى أن على الرجل أن يبدأ بمن يعول؛ فلو كان قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} من العيال؛ لكان المتزوج واحدة ذا عيال، وإن قول اللّه - تعالى -: {أَلَّا تَعُولُوا}، والمتزوج واحدة يعولها؛ فدل بما ذكرنا أن قوله: {أَلَّا تَعُولُوا}، أي: لا تجوروا ولا تميلوا؛ على ما قيل.

وعن عائشة - رضي اللّه عنها -: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}: ألا تميلوا.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - مثله.

والعول: هو المجاوزة عن الحد؛ ولذلك سمي الحساب الذي ازداد على أصله عولا؛ لمجاوزته الحد؛ فعلى ذلك العول هاهنا هو: المجاوزة عن الحد الذي جعل له، وهو الجور.

وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}: ليس بشرط؛ ليتفق القول، ولأنه لا وجه لمعرفة حد الخوف الذي يجعل شرطا للجواز، وكل عدل يخاف أدنى خوف، بل جميع أمور الدِّين هي على الخوف والرجاء.

ولأنه يوجب جهل النساء بمن يحل لهن النكاح ويحرم؛ إذ لا يعرفن ذلك، ومتى حرم عليه حرم عليها، ولا يحتمل أن يجعل للحل شرطا لا يوصل إلى حقيقته، ولظهور الجور في الأمة على الإبقاء على النكاح؛ فضلًا عن خوفه؛ كذا مع ما في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا. . .} الآية. دلالة ظاهرة، وكذلك في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} الآية، وقوله - تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه}.

٤

وقوله - تعالى -: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: نحلة -قال-: المهر.

وقيل: النحلة: الفريضة، أي: آتوهن فريضتهن.

وقيل: نحلة؛ أي: عطية، أي: تُعْطَى هي لا وليها؛ وهو من النُّحْلَى.

وقيل: نحلة: من نحلة الدِّين، أي: من الدِّين أن تؤتوا النساء صدقاتهن؛ ليس على ما كانوا يفعلون في الجاهلية: يتزوجون النساء بغير مهورهن؛ ففيه أن لأهل الكفر النكاح بغير مهر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}.

وفي الآية دلالة جواز هبة المرأة من زوجها، وفساد قول من لا يجيز هبة المرأة بمالها حتى تلد أو تبقى في بيته سنة؛ فيجوز أمرها.

وفي الآية -أيضًا-: دليل أن المهر لها؛ حيث أضاف الإحلال والهبة إليهن بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}.

وفيه دليل -أيضًا-: أن هبة الديون والبراءة منها جائزة؛ كما جازت هبة المرأة مهرها وهو دَين.

وقيل: فيه وجه آخر، وهو أن الآباء في الجاهلية والأولياء كانوا يأخذون مهور نسائهم؛ فأمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - ألا يأخذوا ذلك، وحكم بأن المهر للمرأة دون وليها، إلا أن تهبه لوليها؛ فيحل حينئذٍ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا}: لا داء فيه، و {مَرِيئًا}: لا إثم فيه.

وقيل: الهنيء: هو اللذيذ الشهي، الذي يلذ عند تناوله ويسر.

والمريء: الذي عاقبته.

ثم الحكمة في ذكر الهنيء والمريء هنا وجهان:

أحدهما: ما ذكر في الآيات من الوعيد بأخذه منها: يقول - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا. . .} إلى قوله: {بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}؛ لئلا يمتنعوا عن قبول ذلك للوعيد الذي ذكر في الآيات.

والثاني: إن الامتناع عن قبول ما بذلت الزوجة يحمل على حدوث المكروه، ويورث الضغائن؛ وذلك يسبب قطع الزوجية فيما بينهما.

وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، يعني: بطيبة أنفسكم: يقول: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، ولكن آتوهن وأنفسكم بها طيبة؛ إذ كان المهور لهن دونكم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ}، أي: ما طابت به أنفسهن من غير كره فهو حلال.

وعن علقمة أنه قال لامرأته: أطعميني من الهنيء المريء.

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، ثم يشتري بها عسلًا، ثم يشربه بماء السماء، فيجمع اللّه - تعالى - الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك.

وفي قوله - أيضًا، عَزَّ وَجَلَّ -: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أن النفقة - وإن كانت عليه - فهي إذا قامت بها في نفسها لا يحرج هو؛ لأن نفقتها عليها ليست بأعظم من نفقته من مالها إذا تطيبت، ووصف بالهنيء المريء بما ربما يستثقل الطبع عن مالها؛ كراهة الامتنان، أو بما كان عليه كفايتها، أو بما جرى من الوعيد الشديد في منع مهرها، أو بما قد تحتشمه فتبذل له، أو بما يوهم الطمع في مالها، والرغبة في النكاح لذلك؛ فطيبه اللّه - تعالى - حتى وصفه بغاية ما يحتمل المال من الطيب.

وفيه بيان جواز معروفها، وترغيب في حسن المعاشرة بينهما حتى أبقى ذلك بعد الفراق بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. . .} الآية وذلك أحد ما يورث المحبة والمودة، أو يديمها؛ إذ جعل اللّه بينهما بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}.

مسألة: في العبد لا ينزوج أكثر من اثنتين:

روي عن عبد اللّه بن عتبة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ينكح العبد اثنتين، ويطلق اثنتين، وتعتد الأمة بحيضتين، فإن لم تحض فشهر ونصف ".

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: " لا يحل للعبد أن ينكح فوق اثنتين ".

وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: " يتزوج العبد اثنتين ".

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال لابن مسعود - رضي اللّه عنه -: " ما يحل للعبد من النساء؟ قال: " اثنتين "، قال عمر - رضي اللّه عنه -: " ذلك أرى ".

وعن الحكم قال: اجتمع أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين؛ فهَؤُلَاءِ ستة نفر من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، وابن مسعود، والفضل بن العباس، والأنصاري - رضوان اللّه عليهم أجمعين - اتفقوا على أن العبد يتزوج اثنتين، ولا يتزوج أكثر من ذلك.

وأيضًا عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " طَلاقُ الأَمَةِ تَطْليقَتَانِ، وَعِدتُهَا حَيضَتَانِ ".

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الأَمَةُ تُطَلقُ تَطْيقَتَينِ، وَتَعْتَد حَيضَتَينِ ".

فإن احتج محتج بعموم الآية أن اللّه - تعالى - قال: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، ولم يذكر عبدًا ولا حرًّا؛ فهو على عمومه.

قيل: في الآية دليل أن الخطاب للأحرار، وهو قوله - تعالى -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}؛ فهو على من له النكاح بنفسه، والعبد يكون له النكاح بغيره بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}: فكان المخاطب بنكاح العبيد مواليهم، ليس له أن ينكح المرأة إلا بإذن مولاه؛ ومولاه يزوجه إذا شاء بغير أمره، فإنما الخطاب لمن له أن يتزوج إذا شاء؛ والعبد من ذلك خارج؛ ألا ترى أنه قال - عز وجل -: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}؟! والعبد لا يملك ملك اليمين؛ فدل أن الخطاب راجع إلى الأحرار دون العبيد.

فَإِنْ قِيلَ: قد جعلتم للعبد أن يطلق الحرة ثلاثًا، فجعلتم له من الطلاق مثل الذي جعلتموه للحر؛ فيجب أن تجعلوا له مِنْ تزوج النساء مثل الذي يجوز للحر.

قيل: الفرق بينهما أن الطلاق عندنا بالنساء؛ لأن الحر يطلق امرأته الأمة تطليقتين؛ فتحرم عليه؛ والتزويج بالرجال لا ينظر فيه إلى النساء، فللعبد أن يتزوج النصف من تزويج الحر، كما أن عدة الأمة وطلاقها على النصف من عدة الحرة، على ما روينا من الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حَتَّى يَكُونَ لِلْعَبدِ في امْرَأَتَينِ شَيءٌ نِصْفُ مَا لِلْحُر مِنَ الأرْبَعِ ورُويَ عن الحسن أنه قال في قوله - تعالى -: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يعني: الكفار.

وقيل: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ}؛ فيكونوا قيامًا عليكم، ولكن كونوا أنتم قيامًا عليهم.

وقيل: لا تؤتوهم أموالكم؛ فيكونوا أربابًا عليكم، وكونوا أربابًا بأموالكم عليهم.

ومن صرف التأويل إلى اليتامى جعل معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْوَالَكُمُ} و - كقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وكقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُم}: يريد من ترونه في البيوت؛ فعلى ذلك إضافة أموال اليتامى إلى الأولياء.

٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ... (٥)

فالسفيه -في الحقيقة- من يعمل عمل الجهال، كان جاهلا في الحقيقة أو لا؛ لما قد يلقب العالم به؛ إذا ضيع الحدود، وتعاطى الأفعال الذميمة؛ وعلى ذلك ما جاء من الكتاب بتسفيه علماء أهل الكتاب. ثم قد يسمى الجهال به؛ لما أن الجهل هو السبب الباعث على فعل السفه؛ فقوله - تعالى -: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} يحتمل ذلك الوجهين.

وأي الأمرين كان ففيه التحذير للمعنى الذي بين من قوله: {الَّتِي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَامًا}: فإما إذا كانت قيامًا للمعاش أو للمعاد أو لهما، وطريق الإنفاق في الوجهين والإمساك لهما التدبر، ومراعاة الشرع، وتعاهد الأسباب، والوجهان جميعًا يمنعان الوفاء بما جعلت له الأموال؛ فحذر من أنعم بها عن تضييع ذلك بالتسليم إلى من ذكر، مع ما يكون في ذلك أن اتباع من يستحق أن يكون متبوعًا لمن حقه أن يجعل تابعًا، وذلك خارج عن حد الحكمة، وما يحمده العقل.

ثم قد صرفت الآية إلى النساء بما جعل من إليه التدبير وهو الذي أنشأهن تحت أيدي الرجال في الأمور، مع وصف الرجال أنهم قوامون على النساء.

وصرفت -أيضًا- إلى الصغار بما ضمن حفظ أموال مثلهم الكبار، وجعلوا مكفولين عند البالغين؛ فأموال البالغين أحق بذلك، وحقيقة السفه ما ذكرت.

وجائز أن يكون المقصود بالذكر -من ذكر الصغار والنساء بما خاطب من حذر بالدفع إلى من ذكر- رزق أُولَئِكَ وكسوتهم، ولا يجب رزق الجهال والسفهاء في الأفعال على غيرهم؛ فيكون ما ذكروا أولى بمراد الآية، وإن كان للمعنى الذي قصد بالآية التي ذكرتهم - قد استحقوا.

ولما غلبت تلك الأحوال على هَؤُلَاءِ جعل من ذكرت قوامًا عليهم، وقد ذكرت عن الحسن: أنه صرف الآية إلى الكفار؛ فكأنه تأول في القيام - القيام بأمر الدِّين؛ والكفار لا يجوز الاستعانة بهم فيه؛ وله جعل المال عنده مع ما كره العلماء تسليط الكفار العقوبة؛ لجهلهم بحق شرع الإسلام فيها؛ فمثله دفع الأموال إليهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّتِي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَامًا}

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {الَّتِي جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَامًا}، يعني: قوام أمركم ومعيشتكم، وهو هكذا جعل اللّه هذه الأموال أغذية للخلق، بها يقوم دينهم وأبدانهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}

يقول: لا تؤتوهم، ولكن ارزقوهم أنتم واكسوهم.

وقيل: يقول: أنفقوا عليهم منها، وأطعموهم.

وقيل: لما أضاف الأموال إلى الدافعين لا إلى المدفوعة إليهم؛ دل على وجوب نفقة الولد وكسوته على الرجل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} قيل: عِدَةٌ حسنة جميلة: سأفعل وسأكسو.

وقبل: مروهم بالمعروف، وانهوا عن المنكر.

وقيل: علموهم الأدب والدِّين، وقولوا لهم كلام البر واللين واللطف.

٦

قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّه حَسِيبًا (٦)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَتَّى إِذَا} حرف، " حتى " صلة؛ وتأويله: وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح؛ وهو قول الشافعي، يجعل الابتلاء بعد البلوغ.

ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء - قبل البلوغ؛ لوجهين:

أحدهما: أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها، ويحفظوها إذا بلغوا؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ، وكان في ذلك تضييع حقوق اللّه وفرائضه؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق، حافظين لها؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع، وأمر بالضرب والتأديب إذا كان ابن تسع وبالتفريق في المضاجع، وهو من حقوق الخلق؟! فهذا ليعتادوا، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم، وهَان القيام بها، وإذا لم يُعَوَّدُوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق؛ فعلى ذلك الأول.

ووجه آخر: أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها، ويتقلبون فيها؛ لينظروا: هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة.

وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو -أيضًا- يحتمل وجهين:

يحتمل العلم بها نفسه؛ ويحتمل العمل بها والعلم، ولا يضعوها في غير موضعها.

وقوله: " إن حرف (حتى) صلة ": إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة.

ثم اختلف في قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يصير هو من أهل الشهادة؛ فحينئذ يدفع إليه المال؛ فعلى قوله يجيء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق؛ لأنه لا شهادة لهم؛ ومن قوله: إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد منه، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد؛ دل أن الرشد ليس ما ذكر، ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله، والإصلاح فيها.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - في قوله - تعالى -: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} قال: إذا أدرك بحلم وعقل ووقار.

وهو يقول -أيضًا- في قوله - تعالى -: {مِنْهُمْ رُشْدًا}: إن اللّه - سبحانه وتعالى - يقول: اختبروا اليتامى من عند الحلم، فإن عرفتم منهم رشدًا في حالهم، والإصلاح في أموالهم -: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " فإن أحسستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم

أموالهم ".

وفي حرف حفصة: " وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم ".

ثم لا يخلو منع الأموال منهم من أوجه ثلاثة:

إما أن يمنع؛ لفرط البذل والإنفاق، جودًا وسخاوة، وحسن الظن باللّه أنه - عَزَّ وَجَلَّ - يرزقهم ويعطيهم خلف نفقتهم، وهذا لا يحتمل؛ لأن هذا من أخلاق الأنبياء - صلى اللّه عليهم وسلم - وسيرتهم؛ فلا يحتمل النهي عن ذلك.

أو يمنع؛ لغلبة شهوتهم، ولقضاء وطرهم وحاجتهم، ينفقون الأموال؛ ليصلوا إلى ذلك، فإنهم إن مُنِعوا عن أموالهم يتناولوا من أموال غيرهم، ويتعاطوا ما لا يحل ولا يحسن؛ فلا يحتمل أن يمنعوا لذلك.

أو أن يمنع عنهم الأموال؛ لآفة في عقولهم، ونقص في لُبِّهم، فإن كان لهذا ما يمنع أموالهم عنهم؛ فيجب أن يمنع أبدًا، لا وقت في ذلك ولا مدة إلا بعد ارتفاع ذلك وزواله عنهم، وهو الوجه، يمنع منه حتى يؤنس منه الرشد.

ثم جعل إدراكه وبلوغه بالاحتلام؛ لأن كل جارحة من جوارح الإنسان يجوز استعمالها إلا الجارحتين منهما؛ فإنه لا يقدر على استعمالهما إلا هو، إحداهما: الذكر، والأخرى: اللسان؛ فإن هاتين الجارحتين لا يمكن استعمالهما إلا صاحبهما؛ فجعل الاحتلام علمًا لبلوغه وإدراكه لذلك؛ ولهذا لم يعمل الإكراه عليهما، نحو من أكره أعلى الزنا؛ فزنا؛ فإنه عليه الحد؛ لأن الإكراه لا يعمل عليه؛ فإنما كان بفعل منه، إلا الوالي؛ فإنه إذا أكره آخر بالزنا ففعل لم يقم عليه الحد؛ لما جعلنا ذلك كالعلم بالسبب الذي يحل؛ وكذلك لو أكره حتى وطئ امرأة لزمه المهر، ولا يرجع على المكرِه.

ولو أكره على إتلاف مال من أمواله ففعل لرجع على المكرِه؛ للمعنى الذي وصفنا؛ ولهذا ما وقع طلاق المكره ونكاحه وعتاقه؛ لأن هذه الأشياء إنما تقع باللسان، واللسان مما لا يعمل عليه الإكراه؛ لذلك جاز، واللّه أعلم.

وأما البيوع والأشربة والعقود كلها سوى هَؤُلَاءِ، تكون بالتسليم والقبض دون النطق باللسان والتكلم بها، فالإكراه مما يعمل عليها؛ لما أمكن استعمالها غيره؛ لذلك افترقا؛ ولهذا ما قلنا: إن الإيمان يكون بالقلب دون اللسان؛ لأنه إذا أكره حتى يكفر؛ فأجرى كلمة الكفر على لسانه، وكان قلبه مطمئنا بالإيمان -لم يكفر، فإذا اطمأن قلبه بالكفر- كَفَرَ؛ لأن الإكراه لا يعمل على القلب، ولا يصير المكره مستعملا له، إنما المستعمل هو؛ لا غير؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا.

ومعنى جعل الاحتلام بلوغا هو إمكان استعمال سائر الجوارح دونه -يعني: الفرج- إلا بعد الكبر، وما كان المعروف من الآباء والأولاد، وما كان مما يجري الأمر بابتغاء المكتوب من الولد يكون بعد البلوغ، وبعيد ذلك، إلا في الوقت الذي لو ابتغى لوجد ولقدر عليه، وليس ذلك إلا في خروج الماء للشهوة.

ثم يكون في المتعارف الاحتلام عن ذلك؛ فجعل علمًا له؛ ولذلك قيل: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} ثم فرق في حق الكتاب بين اللسان وغيره؛ من حيث لا يملك أحد قهر لسان آخر حتى ينطق دون صاحبه؛ فبه يظهر سبب جري القلم من الإقرار بالبلوغ وهذا معنى ما جعل سببه بما لا يعلمه غيره؛ ليكون أول أحوال البلوغ وقوع قوله بحيث البلوغ، مع ما كان النطق فعل من يجري في جنسه الخطاب؛ وكأنه اتصل أمره بالسبب الذي خص به الممتحن من العقل؛ إذ كان العقل قد يعرف بالمحنة والاحتلام لا؛ فأمرنا بالابتلاء من حيث العقول، ولم نؤمر من حيث الاحتلام، بل يقبل قوله في ذلك.

ودل قبول قول من بلغ بالإخبار عن احتلامه، وبه يجري القلم عليه، ويلزم الحقوق - أن يقبله، يجوز في ذلك الوقت -وبخاصة على قول من يرى الابتلاء بعد الإدراك- أنه لو لم يقبل فبم نبتليه؟ ثم إذا جاز قوله لزم كل أمر علق به، وعلى ما ذكرت من أول ما علق به القول في حق البلوغ دليل اتصال حكم القول بالعقل، وتمام العقل بالبلوغ؛ إذ به يجري القلم.

ودل ما ذكرت من امتناع اللسان عن سلطان غير صاحبه عليه - على لزوم كل حق معلق به على الإكراه؛ إذ لا يلزم بغيره، وهو لا يجري عليه، ثم كل أمر يكون لا به يصير اللسان سببا فيه كَالْمُعْلِم عنه، وهو مما يجري عليه القهر، ويعلم به؛ فيبطل، واللّه أعلم.

وقوله: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا}

الإسراف: هو كل ما نُهي عنه.

وقيل: الإسراف: هو أكل في غير حق؛ وكأن الإسراف هو المجاوزة عن الحد، وهو كقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا}، وكان القتر مذمومًا، فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم.

وقوله - تعالى -: {إِسْرَافًا وَبِدَارًا}، قيل: البدار: هو المبادرة، وكلاهما لغتان، كالجدال والمجادلة، وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم؛ خشية أن يكبر؛ فيحول بينه وبين ماله. وهو قول ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وفي حرف ابن مسعود - رضي اللّه عنه -: " ولا تأكلوها إسرافًا وبدارا خشية أن يكبروا ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}

أطلق اللّه - تعالى - لولي اليتيم - بظاهر الآية؛ إذا كان فقيرا - أن يأكل بالمعروف من غير إسراف، وذلك هو الوسط منها، وكذلك روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَن رجُلا سَألَهُ، فَقَالَ: لَيسَ لِي مَالٌ، وَلي يَتِيم؟ فَقَالَ: " كُلْ مَالَ يَتِيمك غَير مُسرِفٍ، وَلا مُتَأَثِّلٍ مَالَكَ بمَالِهِ " وفيه دليل أن الغني لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم، وأن الفقير إذا أكل منه: أنفق نفقة لا إسراف فيها.

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: إني أنزلت نفسي من مال اللّه منزلة مال اليتيم: إذا استغنيت استعففت، وإذا احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم، ولا يكتسي عمامة.

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - قالت: في قوله - تعالى -: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، قالت: يأكل والي اليتيم من مال اليتيم؛ إذا كان يقوم له على ماله، ويصلح إذا كان محتاجًا.

وقيل: يأكل قرضًا ثم يرد عليه إذا أيسر، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنهما.

وقيل: {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، أي: من مال نفسه، حتى لا يفضي إلى مال اليتيم.

وقيل: يأكل إذا كان يعمل له، ويقوم عليه.

وقيل: يأكل قرضًا؛ ألا ترى إلى قول اللّه - تعالى -: {فَأَشْهدُوا عَلَيْهِمْ}: أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع، ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لا لمكان الوصي نفسه؛ ولكن لما يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصي خصومة فَيُشْهِد؛ ليدفع تلك الخصومة عنهم.

وقيل: الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه، ويواري عورته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَفَى بِاللّه حَسِيبًا}

قيل: شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق.

ويحتمل قوله: {حَسِيبًا} يحاسبه في الآخرة؛ إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا.

٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ. . .} الآية.

يحتمل أن تكون الآية - واللّه أعلم - نزلت بسبب ما لم يكن يورث أهل الجاهلية الإناث والصغار، ويجعلون المواريث لذوي الأسنان من الرجال، الذين يصلحون للحرب، ويحرزون الغنيمة؛ فنزلت الآية بتوريث الرجال والنساء جميعًا.

ويقال: إن الآية نزلت في شأن رجل يقال له: أوس بن ثابت الأنصاري، توفي وترك بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه - وهما وصيان - فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئًا؛ فجاءت امرأة أوس بن ثابت إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فشكت، وأخبرت بالقصة؛ فقال لها: " ارْجِعِي في بَيتِكِ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يُحْدِثُ اللّه في ذَلِكَ ". فانصرفت؛ فنزل قوله - تعالى -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ. . .} الآية.

وقيل: نزلت الآية في شأن امرأة سعد: أن سعدا استشهد بأُحد، وترك ابنتين وامرأة، فاحتوى أخ لسعد على مال سعد، ولم يعط المرأة ولا الابنتين شيئًا؛ فاختصمت إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأخبرته بالقصة؛ فقال لها: " لَم يُنْزِلِ اللّه عَلَيَّ فِيكُم شَيئًا ". ثم نزلت الآية، فأخذ من عمهما ثلثي المال، ورده إليهما، ودفع الثمُن إلى المرأة، وترك البقية للعم.

واللّه أعلم أنْ فيم كان نزولها؟.

وفي هذا الخبر دليل أن للابنتين الثلثين، كما للثلاث فصاعدًا، ليس كما قال بعض الناس: إن لهما النصف؛ لأن اللّه - تعالى - إنما جعل الثلثين للثلاثة.

ثم تحتمل الآية وجهين بعد هذا:

تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير؛ فيدخل كل ولد: ولد البنات، وولد البنين؛ لأنهم كلهم أولاده.

ويحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء؛ فيدخل ذوو الأرحام في ذلك، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك -وهم أولاد- دل أنه أراد النساء والرجال جميعًا، لا الأولاد خاصة.

وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ. . .} إلى قوله: {مَفْرُوضًا} أي: معلومًا بما أوجب في كل قبيل.

ثم قال في قوله: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}، قيل: ذا يرجع إلى ما بين فرضه، وهو أصحاب الفرائض دون العصبات، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن.

ويحتمل ما بين، وقد جرى فيه ذكر حقين:

أحدهما: حق العصبة، كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد، وحق أصحاب الفرائض، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة؛ لأن أكثر من يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه، والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة -خاصة- والوالد.

وقيل: يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات؛ فيكون منصوصًا -أيضًا- ومدلولا عليه، ويؤيد هذا التأويل قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ثم بَيَّنَ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} وأُولَئِكَ هم البعداء الذين لهم أخوة الدِّين والهجرة، فإذا بقي في الرحم أحد - لم يصرف ذلك إلى المؤمنين، وقد قدم حقهم على المؤمنين والمهاجرين بالرحم؛ لذلك هم أولى، مع ما للإمام صرف ذلك بحق الإيمان إليهم؛ فيصير الدفع إليهم بحق الجواز، وإلى غيرهم شك عند قيامهم؛ فالدفع إليهم أولى لوجهين:

أحدهما: عموم الكتاب على تحقيق حق لكل آية منها؛ دون إدخال حكم آية في حق آخرين بلا ضرورة.

والثاني: الإجماع من الوجه الذي ذكرت مع اتفاق أكثر الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - والفتوى إلى يومنا هذا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} قيل فيه بوجهين:

قيل: أراد بالقسمة: قسمة المواريث بين الورثة بعد موت الميت.

وقيل: أراد به: قسمة الموصي وهو الإيصاء، يوصى ويبر لمن ذكر من الأقرباء واليتامى والمساكين بشيء؛ فالخطاب للموصى.

ومن قال بقسمة المواريث: فالخطاب للورثة إن كانوا كبارًا، يعطون لهَؤُلَاءِ شيئًا، ويبرونهم بشيء؛ وإن كانوا صغارا يقول الوصي: لهم {قَوْلًا مَعْرُوفًا}، أي: يَعِدُ لهم عدَةً حسنة إلى وقت خروج الأنزال، أو إلى وقت البيع إن باعوها.

ثم اختلف المتأولون فيها:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هي منسوخة.

وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

ومن قال: هي منسوخة، قال: نسختها آية المواريث: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ. . .} الآية؛ لأنهم كانوا يوصون الأولاد والآباء والأمهات؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. . .} الآية. فنسخت آية المواريث وصية الموصي.

ومن قال: هي محكمة متقنة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، والحسن ومجاهد وغيرهم؛ لأنه المعروف والبر والإحسان، وذلك مما لا يحتمل النسخ.

وقبل: إن عبد اللّه بن عبد الرحمن قسم ميراث أبيه، وعائشة حية، فلم يدع في الدار مسكينًا ولا ذا قرابة إلا قسم له من ميراث أبيه، وتلا هذه الآية: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. . .} الآية، فذكر ذلك لابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - فقال: ما أصاب ليس ذلك له، إنما ذلك في الوصية، يريد الميت أن يوصي لهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا}.

قيل: إذا كان المال كثيرًا - رضخ وأعطى لهم شيئًا، وإذا كان قليلًا اعتذر إليهم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقيل: أمر من يرث أن يرضخ ويعطي لمن لا يرث شيئًا، وهو قول الحسن، ويقال لهم: {قَوْلًا مَعْرُوفًا}.

والقول المعروف يحتمل ما ذكرنا: أن يعطى لهم إن كانوا كبارًا -أعني: الورثة- ويعد لهم عِدة إن كان المال ضياعًا إلى وقت خروج الأنزال والغلات، أو إلى وقت خروج الثمر، أو يعطي الورثة إن كانوا كبارا ويعتذر إليهم الوصي إن كانوا صغارًا.

٩

وقوله - جل وعز -: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ... (٩)

قيل: هو الرجل يحضره الموت، وله ولد صغار، فيقو له آخر: أوص بكذا، أو أعتق كذا، أو افعل كذا، ولو كان هو الميت لأحب أن يترك لولده؛ فخوف هذا القائل بقوله: {فَلْيَتَّقُوا اللّه}، وأمر أن يقول له مثل ما يحب أن يقال له في ولده بالعدل بقوله - عز وجل -: {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}، وهو قول ابن عَبَّاسٍ رضي اللّه عنه.

وقيل: هو الرجل يحضره الموت، فيقول له مَنْ يحضره: اتق اللّه، وأمسك عليك لولدك الصغار والضعفاء، ليس أحد أحق بمالك منهم، ولا توصِ من مالك، شيئًا.

فنهي أن يقال له ذلك؛ لما لو كان هو الموصي، وله ورثة صغار ضعفاء، أحبَّ بألا يقال له ذلك؛ فكذلك لا يقول هو له. والأول أشبه.

وقوله: {وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}.

قيل: عدلًا؛ يأمر أن يوصي بما عليه من الدَّين والوصية، ولا يجور في الوصية.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: نهي من حضر منهم مريضا عند الموت أن يأمره أن ينفق ماله في العتق والصدقة، أو في سبيل اللّه؛ ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين أو حق.

١٠

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)

أي: استحلالاً، فإذا استحل كفر؛، فذلك الوعيد له.

وقيل: {ظُلْمًا}: أي: غصبًا.

والأكل: هو عبارة عن الأخذ؛ كقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} إنما هو نهي عن أخذه، وكذلك قوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}،

وقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} - إنما هو نهي عن قبض الربا؛ فعلى ذلك الأكل -في هذه الآية- عبارة عن الأخذ والاستحلال.

ومن حمل الآية على الغصب جعل الوعيد عليه، إلا أن يتوب؛ إذ للّه أن يعذب من شاء ممن ارتكب من عباده جرمًا، كما جعل الوعيد على المستحل إلا أن يتوب.

وقيل: إنه على التمثيل أن الذي يأكل من مال اليتيم كأنه يأكل نارًا؛ لخبثه ولشدته.

وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " اتقُوا اللّه في الضعِيفَين قيل: ومن هما يا رسول اللّه؟ قال: " اليَتيمُ والمرأة "؛ فإن اللّه أيتمه وأوصى به، وابتلاه وابتلى به.

وقيل في قوله: {فَلْيَتَّقُوا اللّه وَلْيَقُولُوا}: للميت إذا جلس إليه {قَوْلًا سَدِيدًا}، أي: عدلاً في وصيته ولا يجور، ومن عدل في وصيته عند موته، فكأنما وجه ماله في سبيل اللّه؛ فقال سعد بن أبي وقاص: فسئل النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كم يوصي الرجل من ماله؛ فقال: " الثلُث، والثلُث كَثير، لأَنْ تَدَع عِيالَكَ أَغْنياءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ الناسَ ". ثم قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّ اللّه - تعالى - تَصَدَّقَ عَلَيكُم بثُلُثِ أَمْوالِكم زِيَادةً في أَعْمَالِكم عِندَ وَفَاتِكُم ".

١١

قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللّه إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

قيل: قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه} أي: يفرضكم اللّه، وقد سمى اللّه - تعالى - الميراث فريضة في غير آى من القرآن بقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} ثم قال: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا. . .}، وقال -أيضًا- في آخر هذه الآية: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه}، ولأنه شيء تولى اللّه إيجابه من غير اكتساب أهله؛ فهو كالفرائض التي أوجبها اللّه على عباده من غير اكتساب أهلها؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة؛ لأن اللّه - تعالى - أوجبه، واللّه أعلم.

وقيل: قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ}، أي: يبين اللّه في أولادكم. . . إلى آخر ما ذكر.

وفيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، ودليل نسخه ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللّه - تَعَالَى - أَعْطَى كُل ذِي حَق حَقَّهُ؛ فَلَا وَصِيةَ [لِوَارِثٍ] ".

ثم قيل: إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث في الميراث؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة؛ فنزل قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. . .} الآية؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث، وكذلك قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعًا.

وقيل: تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك، وإن الآيات التي بعدها من قوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ} إلى آخر الآيات ذكرنا؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين، وقد بقي حق المتاع؛ إذ له أن يوصى لغير الورثة، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية، كقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً} من اللّه، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما قل أو كثر، كقوله: " النصف " و " الربع " و " الثمن " مما ترك.

وقد بينا أن الآية نسخت ما ذكرت فصارت ناسخة للأمرين جميعًا، فهذا من جهة الاستخراج في حق النسخ.

على أنه على مذهبنا: السنة كافية في بيان نسخ الحكم الذي، بينه الكتاب؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت، وقد جعل اللّه - تعالى - نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بحيث البيان مما في القرآن.

وقوله - تعالى -: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}: فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثَمَّة أنثى؛ لأنه جعل للذكر مثلَي ما جعل للأنثى، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر؛ بقوله - تعالى -: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}.

فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلي ما جعل للأنثى عند الجمع، إنما جعل له ذلك بحق الكل، ففي حال الانفراد له الكل.

وقوله - تعالى -: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: بين الحق لما فوق الثنتين، ولم يبين للاثنتين، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه.

وأما عندنا: فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعدًا؛ فيكون بيان الحق للثلاث بيانا للاثنتين؛ لأن اللّه - تعالى - جعل حق ميراث الواحدة من الأخو. ات: النصف؛ بقوله: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}، كما جعل حق الابنة النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله - تعالى -: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعدًا؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين. قيل: يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما.

وقيل: بين الكتاب الاستواء بين الابنة، الواحدة والأخت الواحدة؛ ليعلم استواء حق الولد وولد الأب، ثم بين في الأخوات للثنتين الثلثان، وفي البنات لما فوقهما؛ ليكون الذكر في الأختين دليلاً على الابنتين، وفيما كثر من البنات على ما كثر من الأخوات، وأيد ذلك أمر الاجتماع بين البنتين والبنات -وإن كثروا- بالإخوة والأخوات -وإن كثروا- مع ما كان معلومًا أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه؛ أيد ذلك أن بنات ابنه قد يَرِثْنَ، وبنات ابن أبيه لا؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين.

وفي الأغلب أن يجعل لهن ميراث هَؤُلَاءِ، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل - لم يصرف إلى أولاد الأب؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هَؤُلَاءِ، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار، واجتمع عليه أهل الفتوى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: أراد بالولد الذكورَ خاصة؛ لأنه جعل للأبوين لكُلِّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكرًا، أما إذا كان الولد أنثى فللأب يكون الثلث.

وأمَّا عندنا: فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعًا.

وبعد: فإنه إن كان الولد -هاهنا- ذكرًا وأنثى؛ فينظر:

إن كان ذكرًا يكون لكل واحد من الأبوين السدس، والباقي للولد.

وإن كان أنثى فلها النصف، وللأبوين السدسان، والباقي للأب؛ على ما جاء في الخبر: " مَا أَبْقَتِ الفَرَائضُ فِلأَوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ".

وقالت الروافض: الباقي للابنة، ذهبوا في ذلك إلى أن الذي يقابل الابنة هو الابن، والذي يقابل الأب هي الأم، فالذي يقابلُ الابنة هو أولى بإحراز الميراث من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب؛ فعلى ذلك الذي يقابل الابن -وهي الابنة- أولى بذلك من الذي يقابل الأم؛ وهو الأب.

وأما عندنا: فإن الأب أولى بذلك من الابنة؛ لأن للأب حَقَّين: حق فريضة، وحق عصبة: أمَّا حق الفريضة بقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، وأما حق العصبة بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}: جعل الباقي له؛ فذو حقين أولى بذلك من ذي حق واحد، والابنة ليس لها إلا حق الفريضة؛ لذلك كان الأب أولى.

وفي الخبر دلالة أن حكم الابنتين وما فوقهما سواء، وهو الثلثان: ما روي عن جابر ابن عبد اللّه قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بابنتين إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللّه، هاتان ابنتا ثابت بن قيس، أصيبَ معك يوم أحد، وقد أخذ عمهما مالهما وميراثهما، ولم يدع لهما شيئا إلا أخذه، فما ترى يا رسول اللّه؟ فواللّه لا تنكحان إلا ولهما مال، فنزل قوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعم الجاريتين: " اعْطِهِمَا الثُّلُثَينِ، وَأَعْطِ أمَّهُما الثمُنَ، ولَكَ ما بَقِيَ ".

ثم في الآية دلائل:

أحدها: يخرج الخطاب على العموم، والمراد منه خاص؛ لأنه ذكر الأولاد، والولد قد يكون على غير دينه؛ فلا يرث، وقد يكون مملوكًا فلا يرث، على ما روي في الخبر: " لا يَتَوَارَث أَهْلُ مِلَّتَيْنِ "، وما روي: " لا يَرِث الْمُسْلمُ الكافِرَ وَلا الكَافِرُ الْمُسْلِمَ إِلا العَبْدَ مَوْلاهُ "، وذلك في الحقيقة ليس بميراث، ولكن ما للعبد يكون لمولاه.

وفي هذا دليل جواز الاستثناء من غير نوعه؛ حيث استثنى العبد، وذلك في الحقيقة ليس بميراث.

وفي الآية دليل جواز القياس، والفكر فيها، والاعتبار؛ لأن ميراث الابنتين مستدل عليهما، غير منصوص، وكذلك ميراث الذكور من الأولاد بالانفراد مستدل عليه غير منصوص، وما يحرز الأب من الميراث بحق العصبة مستدل عليه لا منصوص، وما يستحق بالفريضة فهو منصوصٌ عليه، وهكذا كل من يستحق شيئا بحق الفريضة فهو منصوص عليه؛ فدل أن ما ترك ذكره إنما ترك للاجتهاد، والتفكر فيه، والاعتبار.

وفيه دليل أنه يجوز ألا يُطْلِع اللّه عباده على الأشياء بقوله - تعالى - {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} إذ لم يبين أيهم أقرب نفعًا؛ دل قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}؛ إذ ذكر وراثتهما، ولم يبين حق الأب أنه جعله عصبة يرد إليه الفضل.

فيظهرُ للأب بهذه الآية من قوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللّه. . .} إلى آخرها - أمران:

أَحَدُهُمَا: حق العصبة.

الثاني: حق الفرض بقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}

ثم بعد هذا فيه أمران:

أحدهما: أنه إذا ثبت له حق العصبة، وقد بين اللّه - تعالى - نصيب الابنة أنه النصف، ونصيب الأب مع الوالد أن له السدس؛ فزعمت الشيعة أن الفضل يرد إلى الابنة؛ لأنها ولد، ولم يذكر له مع الولد إلا السدس.

وعندنا: يرد إلى الأب؛ لأنه لم يذكر للابنة إلا النصف، ثم قد جعل الأب عصبة فيما له حق الفضل عن المفروض، ولم يجعل الابنة؛ لذلك كان الرد إلى الأب أحق مع ما يحتمل إن كان له ولد ذكر، ثم حرمت الأمُّ بالابنة؛ إذ هي تحرم بالأخوات، فالبنات أحق؛ إذ هن أقرب.

والثاني: أنه إذ جعل للأب السهم من وجهين، ثم الذي له في أحد الوجهين صار للجد دون أولاده، وبين لأولاد الأب الحق، وإبقاء حق الجد لما بين لولده؛ فعلى ذلك ما له من الوجه الثاني وهو أولى؛ لأن حق العصَّاب يخرج على إلحاق الأبعدين فيه بالأقربين، وحق الفرائض لا، حتى يبين، ثم صار الجد أبًا في حقه من الفرض إذا لم يكن هو فمثله في حق العصبة.

ثم فيه وجه آخر: أنه أتبع ذلك الذكر ذِكر الزوجين، وذكرهما مع الولد، ولم يذكر معهما الولدان؛ فثبت أن أمرهما يدخل في حالهما فيما كان، لا في حالهما، أي: الزوجين، وأيد ذلك قوله: إنه بقي حالهما مع الزوجين مع الولد على ما كان عليه دون الزوجين معه؛ فعلى ذلك حالهما بلا ولد، وفي ذلك وجوب صرف حقهما إلى ما فضل، كما ذكر في قوله:

{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فيكون الفضل بينهما على ما كان عليه بالكل لولا الزوجان.

وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}

اختلف في حكم الآية من أوجه ثلاثة:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يحجب الأم عن الثلث أخوان ولا أختان، حتى يكون ثلاثة؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {إِخْوَةٌ}، وأقل الإخوة ثلاثة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه.

وقال آخرون: يحجب الأم عن الثلث الذكور منهم، ولا تحجب الإناث؛ لأن اللّه - تعالى - ذكر الإخوة، والإخوة اسم للذكور منهم دون للإناث؛ إذ الإناث اسم على حدة وهو الأخوات؛ لذلك حجب الذكور ولم يحجب الإناث.

وأما عندنا: فإن الإخوة اسم للذكور والإناث جميعًا في الحكم، وإن لم يكن اسمًا لهما جميعًا في الحقيقة؛ ألا ترى أن اللّه - تعالى - ذكر الإخوة، ثم جعل بالتفسير اسما لهما جميعا بقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً}، دل أن اسم الإخوة يجمع الذكور والإناث جميعا في الحكم؛ لذلك حجب الأم عن الثلث ذكورًا كانوا أو إناثًا.

وأما قولنا: بأن الاثنين يحجبانها عن الثلث: ما رُويَ عن عليٍّ وعبد اللّه وزيد بن ثابت أنهم قالوا: يحجب الأخوان الأم عن الثلث كما يحجبها الثلاثة.

وجعلوا الأخوين إخوة، والفرائض على اختلافها اتفقت في أن حكم الاثنين حكم الأكثر؛ فكذلك في حق الحجاب، واللّه أعلم.

وحجة أخرى: وهي أن اللّه - تعالى - حكم في {الْكَلَالَةِ} إذا كان واحدًا أن له السدس، {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}؛ فجعل حكم الاثنين والثلاثة واحدًا يشتركون في الثلث؛ فوجب أن يكون حكم الاثنين والثلاثة من الإخوة في حجب الأم عن الثلث سواء.

وحجة أخرى: وهي أن اللّه - تعالى - جعل للأختين من الأب والأم الثلثين، وسوى بين حكم الأختين والثلاث في الميراث؛ فعلى ذلك يجب أن يستوي حكم الأخوين والثلاث في حجاب الأم عن الثلث.

ثم المسألة بيننا وبين الروافض: زعمت الروافض أن الإخوة من الأم لا تحجب الأم عن الثلث؛ لأنهم منها، فمن البعيد أن يحجبوها، ويمنعوا ذلك عنها، ويجعلون ذلك لغيرها، يضرون بالأم وينْفَعونَ غيرها؛ وقد قال - تعالى -: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً}.

والثاني: أن الحجاب قد يجوز أن يقع بمن يحصل له ما حجب عنها نحو الإخوة من الأب والأم إذا حجبوا الأم عن الثلث وقع لهم ذلك، وأمَّا الإخوة من الأم فإن وقع لهم الحجاب لم يجعل لهم ذلك المحجوب منها؛ فلا يحتمل الحجاب بهم.

وأما عندنا: فإنه ليس لهم بحق القرب والبعد ما يحجبون، ولكن بحق الميت، فإذا كان ما ذكرنا؛ فسواء كانوا من قبل الأم أو من قبل الأب في حق الحجاب.

والثاني: أن المواريث جعلت بحق الابتداء لا بحق المورثين؛ لما لا يحتمل أن يختار المورث من هو أبعد على من هو أقرب، نحو من يموت عن ابنة وابن عم، لا يحتمل أن يختار ابن العم على الابنة في النصف الباقي؛ دل أنه على الابتداء.

ونقول في الإخوة في الأم: إنهم في الحجاب كالأخوة من الأب والأم، وإن كان الحق لغيرهم؛ لما أن الإخوة لما تفرقت حقوقهم ذكرت، وكذلك الأولاد، فلو كان الحجابُ يتفرق لكانت الحاجة إلى الذكر لازمة؛ إذ بعيد ترك الأمر للنظر فيما لا أصل له في الأثر، ولا أصل له في هذا بالتفريق؛ بل قد جمع ذلك بين الإخوة والأخوات، على ما في ذلك من اختلاف الحقوق؛ ثبت أن غير الحجاب من الحقوق ليس بأصل له، والأصل أن ذلك لو كان على اعتبار الحق فهو بحق الميت، لا بحق الأبوين؛ لأنه لم يُعرف إيجاب حق ممن لا حق له، ولا حق لهم مع الأب؛ فبان أنه بمعتبر حق الميت يقع الحجاب، والمعنى منه واحد، ولو كان حجاب الإخوة من الأب بالأب لكان الأب إذن حجب الأم، فإذا كان هو لا يحجب بأن أن ولدها لا يحجبونها؛ إذ هو بحق الميت.

وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}

ذكر اللّه - تعالى - الوصية قبل الدَّين، وأجمع أهلُ العلم أن الدَّين يبدأ به قبل الوصية والميراث.

رُويَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: تقرءون الوصية قبل الدَّين، وقضى مُحَمَّد - عليه الصلاة والسلام - بالدَّين قبل الوصية.

ورُويَ عن عليٍّ - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الدَّيْنُ قَبلَ الوَصِيةِ، وَالْوَصِيةُ قَبلَ المِيرَاثِ، وَلَا وَصِيةَ لِوَارِثٍ ".

وأجمعوا أنه إذا قضى الدَّين - دفع إلى أهل الوصايا وصاياهم إلا أن تجاوز الثلث فترد إلى الثلث؛ إن لم يجز الورثة، ويقسم الثلثان بين الورثة على فرائض اللّه تعالى.

وليس معنى قول اللّه - تعالى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} - أن يخرج الثلث، فيبدأ بدفعه إلى الموصى لهم، ثم يدفع الثلثان إلى الورثة؛ لأن الموصى له شريك الورثة؛ إن هلك من المال شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعًا، ويبقى سائر المال بالشركة بينهم.

ولكن معناه: من بعد وصية إعلام أن الميراث يجري في المال بعد وضع الوصية من جملته إذا كان الثلث أو دونه، وإن لم يكن دفع ذلك إلى أصحاب الوصايا، ثم لم يذكر في الآية قدر الدَّين والوصية، ومن قولهم: إن الدِّين إذا أحاط بالتركة منع الميراث والوصية، وإذا لم يحط لم يمنع.

والوصية تجوز قدر الثلث، ولا تجوز أكثر من الثلث، إلا أن يجيز الورثة.

والآية لم تخص قدرًا من الدَّين دون قدر، وكذلك الوصية، لكن تفسيره ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الثلُث والثلُث كثير "، وما رُوي في خبر آخر: " إِنَّ اللّه - تَعَالَى - تصَدَّقَ عَلَيكُم بِثُلُثِ أَمْوَالِكُم عِنْدَ وَفَاتِكُم زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُم لَم يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ "، وما روي في خبر آخر عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وعمر وعثمان - رضي اللّه عنهما -: " الخُمُسُ اقْتِصادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثلُثُ حَيفٌ ".

ثم الوصية جوازها الاستحسان والإفضال من اللّه تعالى، والقياس يبطلها؛ وذلك أن اللّه - تعالى - لم يملك الخلق أَعْينَ الأموال؛ وإنما جعل الانتفاع لهم بها؛ ألا ترى أنهم نُهوا عن إضاعتها، ولو كان أعين المال لهم لكان لا مَعْنى للنَهْي عن إضاعتها؛ دل أنه إنما جعل لهم الانتفاع فيها إلى وقت موتهم، وبالموت ينقطع الانتفاع بها؛ فينظر من الأحق بها بعد الموت: الغريم صاحب الدَّين، أو الوارث، وإلا جواز الوصية الإفضال من اللّه - تعالى - على عباده بقوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللّه تَصَدقَ عَلَيكُم بِثُلُثِ أَمْوَالِكُم عِنْدَ وَفَاتِكُم "؛ دل هذا الخبر أن جوازها الإفضال والاستحسان منه إلى عباده، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} -يدل على أن ما ليس بدين ولم يوصِ به الميت- فإنه لا يخرج من ماله، ويدخل عندنا في هذا الجنس: الحج يكون على الرجل، والنذر، والزكاة، وأشباه ذلك، ليس بشيء منها دين، فإذا لم يوص الميت بها فلا يجب أن تؤدى من التركة إلا أن يُنْفِذَها الورثة.

فإن قال قائل: هي دين كسائر الديون.

قيل له: أرأيت إن كان عليه دين وزكاة: يبدأ بالدَّين أو تقسم التركة بالحصص إذا لم يف بذلك كله؟

فإن قال: يبدأ بالدَّين؛ قيل له: لو كانت الزكاة دينًا كديون الناس كانت في القضاء.

فإن قال: أجعل الزكاة أسوة في القضاء مع الديون؛ قيل له: ما تقول في رجل أفلس وعليه ديون: هل يقسم ماله بين غرمائه؟

فإن قال: نعم؛ قيل: فإن كانت عليه زكاة هل يضرب لها بسهم؟

فإن قال: لا؛ قيل: كيف ضربت لها بسهم بعد الموت لما قسمت ماله، ولم تضرب لها بسهم في الحياة، إن كانت كسائر الديون بعد الموت؟! فيجب أن تكون كسائر الديون في الحياة، إلا أن الزكاة حالة واجبة على من كان عنده مال فحال عليه الحول فاستهلكه، وليس يجوز له تأخير قضاء الدَّين. وفي إقرارك أنك تبدأ بالدَّين قبل الزكاة في الحياة دليل على أنه يجب أن يبدأ بالدَّين قبل الزكاة بعد الموت.

فَإِنْ قِيلَ: قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - للمرأة التي سألت: هل تحج عن أبيها؟: " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ، فَقَضَيتِيهِ أَلَم يُجْزِ عَنْهُ؟ " يدل على أن الحج دَين.

قيل له: ليس فيه دلالة الوجوب عليها؛ إنما فيه دليل جواز الحج عن الميت وقبوله، إذن كان قضاء ما هو أوكد منه من ديون العباد قضاء صحيحًا؛ فالحج الذي هو دون ذلك في التأكيد أحرى أن يقبل؛ كأنه أراد هذا، واللّه أعلم.

ودليل آخر: أن الزكاة لا تجوز أن تؤدى عن الميت إذا لم يوص بها؛ لأن الزكاة لا تؤدى إلا بنية المزكي، والنية عمل القلب، ولا خلاف في أنه لا يُصَلَّى عن الميت ولا يصام عنه؛ فلما لم يجز أن يُقْضَى عن الميت على الأبدان، لم يجز أن تقوم نية الورثة في أداء الزكاة مقام نية الميت.

قال الشيخ - رحمه اللّه تعالى - في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) وظاهره أنه يقدم الوصية على الميراث، لكن أجمع أن الابتداء به عن حق حد الميراث، ولكن يوزع؛ فيخرج التأويل على وجوه:

أحدها: أن قوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللّه. . .} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} -كأنه سوى، أي: سواء مالُكُمْ: أن توصوا، أوصاكم اللّه فيه- بكذا.

والثاني: أن يكون {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ}، أي: من بعد ما أوصيتم، ويكون الميراث بعد الإيصاء.

ويحتمل: من بعد أن كان عليكم الإيصاء والدَّيْنَ - أمركم بالمواريث؛ فيكون فيه نسخ قول: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّه}؛ فدلت هذه الآية على حجر بعض الوصايا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {غَيْرَ مُضَارٍّ}، لكن يحتمل أن تكون المضارة تبطل الفضل، ويحتمل ألا تبطل؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} في الرجعة على إمضاء الرجعة على ذلك، لكن الإضرار في الرجعة مقصود، وفي هذا مفضول، فيمكن التفريق بين الأمرين، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه. . .} الآيتين، وأوعد جهنم على تعدي هذه الحدود، وفي ذلك لا يحتمل مع جواز الفضل، وأيد ذلك قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ. . .} الآية، ولو كان يجوز لكان لا يملك معه الإصلاح؛ فثبت أن من الوصايا ما يبطل مع ما كان اللّه ذكر في المواريث: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه}؛ فلا يُملك إبطال فريضة اللّه، وبالإذن منه يجوز فعله؛ لذلك يبطل بعض وصاياه.

والأصل في ذلك أن الأموال أنشئت للأحياء؛ وخُلقت لمنافع الأحياء، فكأنهم ملكوا منافعها إلى انقضاء آجالهم، ثم صارت إلى مَن به ملكوها، يجعلها لمن يشاء، ويضعها عند من يشاء.

وقد بين - عَزَّ وَجَلَّ - أنها: لمن، ومن أحق بها؛ فصار الموصي كأنه أوصى بحق مَنْ بَيّن أن مُحِقَّه فيه غيرُهُ، فإن تفضل اللّه عليه في ذلك من شيء، وإلا فذلك كسائر الأملاك التي بينت أربابها، لم يكن لغيرهم فيها حق إلا بجعل اللّه أو جعل من له؛ فعلى ذلك هذا قد جاء عن اللّه بيان هذه بعد أن بينت هذه الآيات جعل الحق له إلى الثلث، فذلك له صدقة من اللّه - تعالى - وفي الفضل إن أجاز المجعول له جاز، وإلا لا، واللّه أعلم.

فجعلت للوصية حدًّا، ولم تجعل للدِّين؛ لأن الدِّين مما يتصل بحوائجه في حال حياته؛ إذ هو يلزم بالأسباب التي بها معاشه وغذاؤه؛ فصار مقدمًا على المتروك في الحكم، وإنما جُعلت المواريث في المتروك مع ما كان الغرماء أحق بملكه في حياته بعجزه عن كثير من المعروف في مرضه بهم، فلو لم يكن لهم الحق لامتنعوا من المداينات إلا بوثائق يكونون هم أحق بها بعد الوفاة من الورثة، أو يمتنعون من المداينات، وفي ذلك تقصير القوت والأغذية عن مضي الأجل، وهو به مأمور؛ فجعلت الديون كأنها استحقت الإملاك في حال الحياة؛ فلم تجئ منهم التركة، وليس كالعبادات؛ لأنها تجب في الفضول عن الحاجات، والديون في الأصول، فليست العبادات بالتي تمنع الوفاء بالآجال ولا كان بأربابها إليها تلك الضرورات؛ فإنما هي بحق القرب، وهي عمل الأحياء، فإذا ماتوا زال الإمكان، وجرت في الأموال المواريث، وكذا المعروف من الدِّين المذكور في القرآن من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} - أن العبادات لا توصف بالديون، ولا تفهم من إطلاق القول بالديون؛ فصارت بمعنى الفضل عن الوصايا والديون إلى أن يؤجل، وهو الحقيقة؛ ألا يكون للمولى على عبده دين؛ فيكون المذكور دينا في الأفعال؛ كما ذكرت العِدَاتُ دَيْنًا في الأخلاق، لا في حقيقة الذمم، مع ما كانت هي للّه، وقد جعل اللّه له فريضة لأقوام بأعيانهم، لا تمنع عنهم إلا بالوصية، كما جعل للموصي.

وعلى أن العبادات لا تقوم إلا بالبينات، ولا تؤدى عن أحد في حياته إلا بأمره، وإن احتمل قيام بعض منها عن بعض، وسائر الديون تجوز دونه؛ فعلى ذلك بعد الوفاة، وإن كان كل ما يؤدى به فهو الذي حدث به الوصية، وقد جاء الحد لها مع ما كانت العبادات لا تحتمل لحوق الأموات ولا الإيجاب عليهم في أموالهم، ثبت أنها حقوق الحياة خاصة، والديون تحتمل، فهي حقوقهم في الحالين.

ثم قد ذكر في الدِّين {غَيْرَ مُضَارٍّ}؛ بل الدَّين أقرب إلى حرف الثنيا، ومعلوم أنه لا يقع منه في الديون الظاهرة المعلومة مضارة بالورثة إن كان يقع، يقع في الغرماء؛ إذ يؤخذ منه بلا إيصاء، ولا يحتمل النهي من حيث الغرماء؛ لما فيه إلزام المكاسب في أوقات العجز لقضاء الديون؛ فثبت أن ذلك فيما لا يعرف من الديون؛ وإنما يرجع فيها إلى قوله؛ فبطل بالذي ذكرته جواز إقراره على كل حال لكل أحد؛ إذ لا ضرر يقع من حيث فعله فيرد، وقد بينا أن المضارة في هذا تمنع الجواز؛ فثبت أن من الإقرار ما لا يجوز، فقال أصحابنا - رحمهم اللّه -: لا يجوز إقراره لبعض الورثة وقت الإياس من نفسه؛ لأنه وقت الإيثار، والسخاء بما عنده من المال، ولوقت السخاء ما أبطل وصيته للوارث بما يخرج مخرج الإيثار، فنحن إذا أجزنا إقراره فيهن لنظره لم يمنع الوصية أن ينتفع؛ بل يذهب الكل، وفي الأول لم يكن يذهب، واللّه أعلم.

ثم الأصل أنه أجيز في الكل بحق الأمانة، ووصيته بحق الفضل ثم جعل في وارثه كمن لا ملك له؛ إذ قد يقصد به التفضيل والتخصيص إلى القربة؛ فعلى ذلك فيما خان في الأمانة يجعل كمن لا أمانة له لما يخرج، على ما بينا، وإسقاط الأخبار؛ لتوهم من الأمناء أوجد في الأحكام، ومن إسقاط المعروف عن الأملاك، واللّه أعلم.

وعلى ذلك فيما كانت عليه ديون ظاهرة قد يبقى الضرر بأهلها لبعض من له بشأنه عناية، وفيما بينهما حقوق تحث على المعروف والصلة له وقت السخاء بماله، وللعلم بأنه عن الانتفاع به عاجز؛ فيقر لهم ذلك بتهم في الحقوق التي ظهرت، ثم كانت عبادات الأموال قد تقام عن الأموات بالأمر، ولا تقام عبادات الأفعال لوجهين:

أحدهما: جواز بعض في أحد عن بعض النوعين فيما للعباد بلا أمر في الحياة، ولا يجوز في الآخر؛ فمثله العبادات بالأمر.

والثاني: أن السبب الذي به تجب عبادات الأموال قد يجوز أن يوجب على نفر بالتحول من ملك إلى ملك، وما له تجب عبادات الأفعال يجوز فعل ذلك حق القيام بالأفعال، وعلى ذلك النيات؛ إذ ليست من الحقوق التي تتصل بالأموال في شيء من الأمور لم يقم بها أحد عن أحد، لذلك لم يجز إلا بأمر؛ فيكون الأمر بالأمر لما أمرنا به نادرا، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا في الدنيا، وهو أن يلزم الابن نفقة والده عند الحاجة والقيام بأمره، والأب يلزم أن ينفق على ولده في حال صغره، وعند الحاجة إليه، والقيام بحفظه، وتعاهده، فإذا كان ما ذكرنا لم يدر أيهما أقرب نفعًا: نفع هذا لهذا، أو هذا لهذا.

ويحتمل أن يكون قال: لا تدرون أنتم أي نفع أقرب إليكم: نفع الآباء أو الأبناء، فإن كان التأويل ما ذكرنا؛ ففيه دلالة بطلان شهادة الوالد لولده، وشهادة الولد لوالده؛ إذ أخبر أن لهذا نفعًا في مال هذا ولهذا نفعًا في مال هذا، فإذا ثبت النفع لم تقبل شهادة من ئنتفع بشهادته؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رضي اللّه عنه -: لا يجوز للوكيل بالبيع أو الشراء أن يبيع من أبيه، أو ابنه، أو والدته؛ لما ينتفع ببيعه منه وبالشرى منه. وكذلك قالوا: إذا اشترى من هَؤُلَاءِ فليس له أن يبيع مرابحة، إلا أن يبين؛ لأنه ينتفع به.

وقيل: هذا في الآخرة.

ورُوي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}، يقول: أطوعكم للّه من الآباء والأبناء: أرفعكم درجة عند اللّه يوم القيامة؛ لأنه - تعالى - يُشَفعُ المؤمنين بعضهم في بعض.

وقيل: قوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ} أنتم في الدنيا {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}، يقول: أخصّ لكم نفعًا في الآخرة في الدرجات الوالد لولده، أو الولد لوالده؛ إذ هم في الدنيا لا يدرون أيهم أقرب لصاحبه نفعًا في الآخرة حتى يرجعوا في الآخرة قال: فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع اللّه - تعالى - إليه ولده في درجته؛ لتقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والده رفع اللّه - تعالى - الوالدين إلى الولد في درجته؛ لتقر بذلك أعينهم برفع الأسفل إلى الأعلى والأدون إلى الأفضل، وهو كقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}، يعني: بإيمان الآباء، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ}، يعني الآباء {مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

ويحتمل أن يكون هذا في الشفاعة، أو لا يدرى ما ذلك النفع وما مقداره.

أو يحتمل قوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}: ليس على حقيقة القرب؛ ولكن على الكبر والعظم، وقد يتكلم بهذا كقوله: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}: ليس على أن آية هي أكبر من أخرى، ولكن على وصف الكل منها بالكبر والعظم؛ فعلى ذلك قوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} على وصف كل منهم بالنفع؛ على الإعظام والإكبار، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله - تعالى -: {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}، أي: أوجب؛ كقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، أي: واجب للمحسنين، وغيره من الآيات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه}

سمى اللّه - تعالى - المواريث فرائض؛ لأنه كان بإيجاب اللّه - تعالى - لا باكتساب من الخلق؛ إذ لم يملك الخلق أعين هذه الأموال، ولكنه إنما ملكهم المنافع منها، وإلى وقت وفاتهم فإذا ماتوا صار ذلك المال للذي جعل اللّه له؛ لذلك سمى فرائض.

وقوله: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ببدو حالهم ومعاشهم ومصالحهم، وما يصلح لهم وما لا يصلح {حَكِيمًا} فيما فرض من قسمتها وبينها.

والحكيم: هو المصيب واضع كل شيء في موضعه، والظالم: هو واضع الشيء في غير موضعه.

١٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ. . .} إلى آخر ما ذكر: فيه مراد الخصوص، وإن كان مخرج الخطاب عافا؛ لأن الزوج أو الزوجة إذا لم يكن على دين صاحبه وعلى وصفه لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن ليس لأحد الاحتجاج بعموم المخرج، على ما ذكرنا في الولد والوالد والأم وغيرهم: أنه إذا لم يكن بعضهم على وصف بعض لم يجز بينهما التوارث؛ دل أن عموم مخرج الخطاب لا يدل على عموم المراد، ثم الآية معطوفة على ما سبق من الآيات؛ لأنها ذُكرت بحرف العطف والنسق بقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} والربع إن كان لهن ولد {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}، والثمن إن كان لكم ولد، فبين في الآية الأولى ميراث الأب والأم وميراث الأولاد، ولم يبن ميراث الأزواج، ثم بين في هذه الآية؛ فنسق على الأول؛ دل أن الأزواج والزوجات إذا كانوا معهم فإن الحكم لا يختلف فيهم، يكون للأم الثلث إذا لم يكن هنالك ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدا، والسدس إن كان له ولد أو اثنان من الإخوة والأخوات يكون لها مع هَؤُلَاءِ ثلث ما بقي، حيث نسق هذه على السابقة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً}

اختلف في الكلالة:

قَالَ بَعْضُهُمْ: الكلالة: الميت الذي لا ولد له ولا والد.

وعن الحسن أنه قال: الكلالة: الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو الإخوة والأخوات من الأب، ذهب في ذلك إلى ما ذكر في آية أخرى قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ. . .} إلى آخر ما ذكر. والنصف إنما يكون للأخت من الأب والأم، أو الأخت من الأب، وذلك تفسير الكلالة؛ دل أنها الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب.

وروي عن أبي بكر الصديق - رضي اللّه عنه - أنه قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.

وروي عن عمر - رضي اللّه عنه - أنه قال: لقد أتى عليَّ زمان وما أدري ما الكلالة، ألا وإن الكلالة ما لم يكن له ولد ولا والد.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الكلالة ما خلا الولد والوالد.

وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها اللّه - تعالى - في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية أنزلها في الزوج والمرأة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة من الأب والأم، والآية التي في سورة الأنفال في: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه}، مما جرت في الرحم من العصبة.

وروي عن عمر - رضي اللّه عنه - أنه قال: إذا كانت الكلالة بعضهم أقرب من بعض بأبٍ فهو أحق بالمال.

وحديث عمر هذا يبين أن الكلالة، اسم يقع على الإخوة من الأم ويقع على الإخوة من الأب، ويقع على الإخوة من الأب والأم، وهو ما ذكرنا في قول أبي بكر الصديق وعمر - رضي اللّه عنهما - أن الكلالة ما عدا الولد والوالد، فكانوا يذهبون - واللّه أعلم - أن الأعمام وبني الأعمام يرجعون في النسب مع الميت إلى جده، وقد تكللّهم الجد، وكذلك الأخوال والخالات وأولادهم يرجعون مع الميت إلى جده أبي أمه، وقد تكللّهم أبو الأم؛ فسبيلهم في ذلك سبيل الإخوة والأخوات الذين تكللّهم الأب والأم، إلا أنهم لما كانوا أبعد في النسب من الإخوة والأخوات لم يرثوا معهم، فأجمعوا أن معنى قوله - سبحانه وتعالى -: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ}، هو في الأخت من الأب والأم، أو من الأب، إذا مات الرجل ولا ولد له ذكر ولا أنثى يعطى الأخت النصف تسمية، فقال قوم من الشيعة: الآية تدل على أنه إن ترك ابنة وأختا أن المال كله للابنة، ولا شيء للأخت؛ لأن اللّه - تعالى - جعل لها الميراث إذا لم يكن له ولد؛ فسوى الذكر والأنثى من الأولاد.

وليس الأمر كما قالوا؛ لأنا إذا جعلنا للابنة النصف وجعلنا ما بقي للأخت فلم نعطها ما أعطيناها بالتسمية؛ ألا ترى أنه لو كانتا أختين كان لهما عندنا ما بقي، ولو جعلنا ذلك لهما تسمية، أعطيناهما الثلثين؛ لأن اللّه - تعالى - جعل لهما الثلثين بالتسمية، وليس سبيل ما تأخذه الأخت بالتسمية لا ينقص منها شيئًا ما تأخذه من الباقي بغير تسمة؛ ألا ترى أن اللّه - تعالى - جعل للأبوين السدسين مع الولد، فإن كانت ابنة وأبًا فلها النصف، وما بقي للأب، فقد أعطينا الأب أكثر مما سمى اللّه - تعالى - ولكنا لم نعطه الزيادة بالتسمية؛ فلم يلزمنا الخلاف في زيادثه، فإن خالفونا في ذلك، قيل: قد سبق لذلك جواب ما يدل على أن الأب بالباقي أولى من الابنة؛ لذلك لم نذكره في هذا الموضع.

فإن قال: الابنة أولى بما زاد على النصف؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}؛ فكانت الابنة أحق بذلك من غيرها.

قيل له: أإن قوله - تعالى -:، {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه} - إنما أوجب أنهم أولى ببعض من الأجنبيين؛ بين ذلك قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة، فنسخ اللّه ذلك، وجعل الميراث لذوي القرابة. وليس في الآية دليل على أن القريب أولى بالميراث ممن هو أبعد منه في القرابة، وقال اللّه - تعالى -: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}، يقول - واللّه أعلم -: الأخ من الأب يرث الأخت المال كله؛ إن لم يكن لها ولد، وترث من الأخ النصف إذا كان هو الميت، وقال اللّه سبحانه وتعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}؛ فأجمعوا أن الأختين وما زاد من الميراث سواء. وقال اللّه - تعالى -: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}، فأجمعوا أن الرجل والمرأة إذا مات أحدهما وترك أخًا وأختًا فما زاد على ذلك من الذكور والإناث كان الميراث بينهم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}؛ فهذا ما نص اللّه - تعالى - عليه في فرائض المواريث.

وقد تكلم أهل العلم في الرد، والعول، وميراث ذوي الأرحام:

فأما ميراث ذوي الأرحام: فإن اللّه - تعالى - قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فمن زعم أن المال لبيت المال فلم يجعل بعض الأرحام أولى ببعض؛ بل جعل الغرباء أولى بالميت من أولى الأرحام؛ فكان قول المورثين عندنا أولى، وهو قول عمر، وعلى، وعبد اللّه بن مسعود، وجماعة من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - إلا زيد بن ثابت - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فإنه جعل ذلك لبيت المال.

فَإِنْ قِيلَ: إن قول اللّه - سبحانه وتعالى -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} إنما هو فيمن سمى اللّه لهم سهامًا.

قيل: في الخبر دليل أنه في غير الذين سمى اللّه لهم سهامًا: ما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اللّه وَرَسُولُهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ، وَالخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ ".

وروي -أيضًا- أن عمر - رضي اللّه عنه - قضى للخالة بالثلث، وللعمة بالثلثين.

وعن زر بن حبيش، عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قسم الميراث بين العمة والخالة.

وعن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الخالة والدة.

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال في العمة والخالة: للعمة الثلثان، وللخالة الثلث.

فأخذ علماؤنا في ذلك بما رُوي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وعن الأجِلَّة من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - وكان ذلك موافقا لظاهر الآية وعمومها، وكان اتباع ذلك عندهم أولى من غيره.

فأما الكلام في العول: فإن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - كان ينكره، ويقول: لا تعول

الفريضة.

وكان علي وعبد اللّه وزيد بن ثابت يقولون بعول الفرائض.

وروي عن الحارث قال: ما رأيت أحدًا قط أحسب من علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - أتاه آت، فقال: يا أمير المؤمنين، رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وامرأته، ما لامرأته؟ قال: صار ثمنها تسعًا.

وكان ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - يكره أن ينقص الأب من السدس، وقد سمى اللّه - تعالى - له السدس، ثم لم يمض على هذا الأصل؛ لأنه قال في الابنتين وأبوين وامرأته: للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، وما بقي فللابنتين؛ فنقص الابنتين مما سمى اللّه لهما، فلم كانتا أولى بالنقصان كله من غيرهما؟

وسائر الصحابة أدخلوا النقصان على كل وارث بقدر نصيبه؛ لئلا يلحق النقصان على بعض، ويأخذ البقية كمال نصيبهم، وجعلوا ذلك كقوم أوصى لهم رجل بوصايا تتجاوز الثلث إذا جمعت؛ فالحكم أن يقسم الثلث بينهم بالحصص، وكقوم صح لهم دَيْن على ميت، وتركته لا تفي بذلك؛ فهم جميعًا أسوة: يلحق كل واحد منهم النقصان بقدر حصته.

وأما الردُّ: فإن عليًّا - رضي اللّه عنه - وعبد اللّه - رضي اللّه عنه - قالا به، على اختلافهما فيمن يرد عليه، وسبيل ذلك سبيل ذوي الأرحام؛ لأن ذا الرحم بباقي المال أولى من الأجنبيين؛ بقول اللّه - سبحانه وتعالى -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}؛ فمن لا رحم له فلا حق له غير سهمه.

وليس في الزوج والزوجة خلاف بين أهل العلم أنه لا يرد عليهما، ولأن في الآية دليل الرد على غير الزوجين من أهل السهام ومنعَ الرد عليهما؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر للأبوين السدسين إذا كان له ولد، وسمى للأم الثلث إذا لم يكن له ولد، ولم يسم للأب شيئًا؛ فيرد الباقي عليه، وكذلك سمى للذكور من الأولاد مع الإناث نصيبًا بقوله: {يُوصِيكُمُ اللّه فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، ولم يسم لهم شيئًا في حال الانفراد؛ فيرد الكل عليهم، ولم يترك للزوجين ذكر تسمية سهامهما في حال؛ بل ذكر سهامهما في الأحوال كلها في حال الولد، وفي حال الذي لا ولد له؛ فلذلك منع دليل الرد عليهما.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّه} ومرة: {فَرِيضَةً مِنَ اللّه}؛ حتى يعلم أنهما واحد.

ثم ذكر المضارة في ميراث الإخوة والأخوات، ولم يذكر في الولد والوالد والزوج والزوجة؛ فهو - واللّه أعلم - يحتمل وجهين:

يحتمل: أنه ذكر في هذا أنه بهم ختم المواريث؛ فتكون تلك المضارة كانت كالمذكورة في الأولاد، أو الوالدين والأزواج؛ إذ بذلك ختم.

ويحتمل: أنه ذكر هاهنا المضارة ولم يذكر فيما ذكرنا؛ لما في الطبع يقصد الرجل إلى مضارة الأخ والأخت ومَنْ بَعُدَ منه، ولا يقصد في المتعارف إلى مضارة الآباء والأولاد ومن ذكرنا، فإذا جاء النهي في مضارة من يُقصد في الطبع - بقصد الرجل - مضارته؛ فَلَان ينهى عنها فيما لا يقصد بالطبع أحق.

ثم بيان المضارة في الوصية ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ "

وقوله: " إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِياءَ خَيرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ "، وما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ الخَيرِ سِتِّينَ سَنَةً، فَإِذَا أَوْصَى خَانَ فِي وَصِيتِه، فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ؛ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الشَرِّ سِتِّينَ سَنَةً، فَيَعْدِلُ فِي وَصِيّتهِ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ " ثم يقول أبو هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: اقرءوا إن شئتم: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ. . .} إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ}

وما روي: " الثُّلثُ حَيفٌ ".

وما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ {تِلْكَ حُدُودُ اللّه. . .} إلى آخره، قال: في الوصية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}.

ثم الإضرار قد يكون -أيضًا- إذا أوصى لوارث ولم يوص للباقين؛ لأنه أضر به بالوصية لبعض ورثته الباقين؛ فلا فرق بين أن يضر بعض الورثة وبين أن يضر الورثة كلهم؛ ففيه دليل بطلان الوصية لبعض الورثة دون بعض.

ثم الإضرار قد يكون بالدَّيْن على ما يكون بالوصية؛ لأنه إذا أقر المريض لبعض الورثة بدين، فإن إقراره لا يجوز كما لا تجوز وصيته، والإقرار بالدَّين أحق ألا يجوز من الوصية؛ لأن الإقرار في المرض جوازه بحق الأمانة؛ إذ يجوز جواز الشهادة، والشهادة أمانة، والوصية جوازها بحق الملك؛ فإذا بطلت الوصية لوارثه فإقراره له في المرض أحق أن يبطل؛ وعلى ذلك إذا كان عليه دين في الصحة، فأقر بدَين في المرض؛ فغرماء الصحة أولى بدينهم من غرماء المرض؛ لأن في ذلك إضرارًا بغرماء الصحة؛ لأن دينهم قد تعين في ماله، وتحول من الذمة إلى التركة؛ ألا ترى أنه ليس له أن يقضي غريمًا دون غريم! فإذا كان ما ذكرنا - لم يكن له قسمة المال بين غرماء الصحة وبين من أقر لهم بالدَّين في المرض؛ إذ فيه الإضرار بهم؛ إذ قد تعين حقهم؛ فلا فرق أن يكسب الضرر على الوارث وبين أن يكسب الضرر على الغرماء.

وإذا باع شيئًا بقيمته في المرض أو استقرض؛ فإنه يجوز ويبدأ به؛ لأنه يعمل للغرماء؛ إذ يقضي ديونهم مما أخذ.

وإذا تزوج أو استأجر فيكون أسوة الغرماء؛ لأنه لم يعمل لهم، إنما يعمل لنفسه، وليس فيه اكتساب الضرر على الغرماء، فيكون أسوة، ثم إذا أضر لم يجز، ويرد ذلك الضرر ويفسخ.

فَإِنْ قِيلَ: إن الرجل قد ينهى عن الإضرار في نفسه وماله، ولو فعل يجوز.

قيل: إن الإضرار إذا حصل في ملكه أو في نفسه - يُنْهي ويجوز؛ لأنه لم يضر غيره، وإذا حصل في ملك غيره لم يجز وَرُد، وهاهنا إنما حصل في ملك الورثة والغرماء؛ لذلك بطل، ولا يوصي بأكثر من الثلث، ولا يوصي لوارث، ولا يقر بحق ليس عليه مضارة للورثة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَصِيَّةً مِنَ اللّه}

يحتمل قوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللّه}، أي: الذي نهي عن المضارة وصيةً.

ويحتمل: الذي فرض عليكم من المواريث؛ وصية من اللّه وفريضة منه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه عَلِيمٌ}.

بمن ضارَّ الوارث، وزاد على الثلث، وبمن لم يضار.

{حَلِيمٌ}

لا يعجل بالعقوبة على من ضار.

ويحتمل العليم والحليم أن يكونا سواء؛ لأن ضد {حَلِيمٌ} سفيه، وكذلك الحليم.

١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه}

قيل: فرائض اللّه التي أمركم بها من قسمة الميراث.

ويحتمل {تِلْكَ حُدُودُ اللّه}: ما حد لنا حتى لا يجوز مجاوزتها، وقد تقدم ذكرها في سُورَةِ البقرة. وذكر حدود اللّه، وقد يجوز أن يكون للخلق حدود، يقال: حدُّ فلان؛ فإذا لم يفهم من حدود اللّه ما فهم من حد الخلق كيف فهم من قوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، و {استَوَى إلَى السَّمَاءِ} ما فهم من استواء الخلق؟! فإذا لم يفهم من حدود اللّه ما فهم من حد الخلق - لم يجز أن يفهم من استواء اللّه ما يفهم من استواء الخلق، وكذلك لا يفهم من رؤية الرب ما يفهم من رؤية المخلوق، ولا يفهم من مجيئه مجيء الخلق، ولا من نزوله نزول الخلق، على ما لم يفهم من قوله - تعالى - {تِلْكَ حُدُودُ اللّه} حدود الخلق؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تِلْكَ حُدُودُ اللّه} يحتمل وجهين:

أحدهما: أوامره ونواهيه، وما حَرَّم وأحلَّ.

ويحتمل: حدود شيء من ذلك؛ فيرجع تأويل الأول إلى أنفس العبادات، والثاني: إلى نهايات العبادات.

والمعروف من الحدود التي تنسب إلى الخلق وجهان:

أحدهما: نهاية المنسوب إليه، وذلك حق حد الأعيان.

والثاني: الأثر الذي يضاف إليه، وذلك حد الصفات أن يقال: حد الفعل فعل كذا، وحد البصر والسمع، يراد به الأثر الذي به يعرف، أو هنالك ما ذكر، ثم لم تكن الحدود التي أضيفت إلى اللّه - سبحانه وتعالى - على واحد من الوجهين اللذين يضافا إلى الخلق؛ إذ قد ثبت بضرورة العقل وحُجج السمع تعاليه عن المعاني التي هي معاني خلقه؛ فعلى ذلك ما أضيف إليه من طريق العقل من الاستواء، والمجيء، والرؤية - لم يجز في ذلك تصوير المعنى الذي في إضافة ذلك إلى الخلق يكون بما في ضرورة العقل والسمع جلاله وكبرياؤه عن ذلك المعنى، وباللّه العصمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَرَسُولَهُ}.

قيل: من يطع اللّه في أداء فرائضه أوسنة رسوله.

{يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ. . .} إلى آخر ما ذكر.

وقيل: ومن يطع اللّه فيما أمر ونهى، وأطاع رسوله في أمره ونهيه؛ فله ما ذكر.

وقيل: إذا أطاع اللّه فقد أطاع رسوله، وإذا أطاع رسوله فقد أطاع اللّه - تعالى - وهو واحد، كقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}

وقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه} - تعالى -: فيما أمر ونهي، وحَرَّم وأحلَّ، {وَرَسُولَهُ}: فيما بلغ وبين.

وقيل: ذا ليس بتفريق، لكن من الذي يطيع اللّه هو الذي يطيع رسوله؛ لأنه إلى طاعة اللّه - تعالى - دعاه، وعلى عبادته رغب؛ فتكون طاعتُهُ طاعتَهُ، كقوله - تعالى -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه}، وكقوله - سبحانه -: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي. . .} الآية.

١٤

وقوله - تعالى -: (وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ ... (١٤)

وهذا كذلك -أيضًا- إذا عصى اللّه؛ فقد تعدى حدوده، ومن تعدى حدوده فقد عصى اللّه.

ويحتمل قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ}: فيما لم ير أمره أمرًا ونهيه نهيًا، {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}، يعني: أحكامه وشرائعه، أي: لم يرها حقًّا -:

{يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}

وله ما ذكر.

١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}، {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}

قيل: كان هذان الحكمان في أول الإسلام: الأول منهما للمرأة، والثاني للرجل.

وقيل: إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة، وآية الحبس كانت في حبس المرأة.

ويحتمل أن تكون آية الأذى في البكر في الرجل والمرأة جميعًا، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة جميعًا.

ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصة: فيما يأتي الذكرُ ذكرًا؛ على ما كان من فعل قوم لوط، وآية الحبس في الرجال والنساء جميعًا.

فإن كانت آية الأذى في الرجال خاصّة؛ ففيها حجة لأبي حنيفة - رضي اللّه عنه - حيث لم يوجب على من عمل عمل قوم لوط الحدَّ؛ ولكن أوجب التعزير والأذى، وهو منسوخ إن كان في هذا، وإن كانت في الأول؛ فهي منسوخة.

ثم اختلف بما به نسخ:

فقال قوم: نسخ بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}،

لكن عندنا هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما؛ فكيف يكون به النسخ؟! ولكن نسخ عندنا بالخبر الذي روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلاً: البِكْرُ بِالبِكْرِ، والثيبُ بِالثيبِ، البِكْرُ يُجْلَد ويُنْفَى، والثيبُ يُجْلَدُ وَيُرجَمُ ". ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة.

فَإِنْ قِيلَ: في الآية دليل وعد النسخ بقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا}؛ فإنما صار متسوخًا بما وعد اللّه في الآية من النسخ، لا بالسنة.

قيل: ما من آية أو سنة كان من حكم اللّه النسخ إلا والوعد فيه النسخ، وإن لم يكن مذكورًا؛ لأن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ؛ لأنه بدو، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية؛ فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه بوحي يكون قرآنا يتلى وبين أن ينسخه بوحي لا يكون قرآنا، وفيه أخبار كثيرة:

روي أنه رجم ماعزًا لما أقرّ بالزنا مرارًا، ورجم -أيضًا- غيره: ما روي أن عسيف الرجل زنا بامرأته،

وقال: سأقضي بينكما بكتاب اللّه تعالى،

وقال: " وَاغْدُ يَا أُنَيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ هِيَ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ".

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائله: ما نجد الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل، وقامت البينة، أو اعترف، وقد قرأناها: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتَّة نكالا من اللّه "، رجم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده.

وقال قوم: الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية، ولما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أنه رجم يهوديين ".

قيل: إنما رجم بحكم التوراة؛ ألا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة، ودعا علماءهم فأمرهم أن يقرءوا عليه؛ فوضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرءوا غيره؛ فقال ابن سلام: إنهم كتموه يا رسول اللّه، ثم قرأ هو؛ فأمر برجمهم، ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة؛ لذلك لم يقم عليهم الرجم.

فإن قال قائل: إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله - تعالى -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}،

قيل: لا يحتمل وجوب الحد عليه بذلك؛ لأنه مختلف حكم هذا من هذا في الحرمة، ووجوب المهر؛ وغير ذلك، فلا يحتمل أن يعرف حكم شيء لما يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} -: في الآية دليل جواز القياس؛ لأنه ذكر الحكم في النساء، ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم، وهما لا يختلفان في هذا الحكم؛ ما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله؛ دل أن ما ترك ذكره في المنصوص إنما ترك؛ للاستدلال عليه، والاستنباط من المنصوص والانتزاع منه.

وقال قوم: إن على الثيب الجلد والرجم جميعًا؛ ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت، عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " خُذُوا عَني خُذُوا عَني؛ قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُن سَبَيلا: البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وُينْفَى، وَالثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ وُيرجَمُ ": أوجب الجلد والرجم على الثيب أما عندنا: فإنه لا يوجب مع الرجم الجلد؛ لما روينا من الأخبار عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، أنه رجم ماعزًا، ولم يذكر أنه جلده، وما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " اغْدُ يَا أُنَيسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا ": لم يُذكر هنالك جلد، والأخبار كثيرة في هذا.

وروي أنه قال: " مَنْ أصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيئًا فَلْيَستَتِرْ بِسَتْرِ اللّه الَّذِي سَتَرَهُ عَلَيهِ، فَإِن مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيهِ حَدَّ اللّه ".

ثم يحتمل قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ ويرجَمُ " في اختلاف الأحوال: يجلد في حال، ويرجم في حال، أو يجلد ثيب ويرجم آخر؛ لأنه لا كل ثيب يرجم؛ لأنه إذا كان ثيبا غير محصن لا يرجم؛ دل أنه على ما ذكرنا.

أو يحتمل قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وُينْفَى، وَالثيبُ بِالثيبِ أي: البكر مع البكر، والثيب مع الثيب؛ فيكون ثيبا يجلد وثيبًا آخر يرجم.

ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر:

قال قوم: النفي ثابت واجب.

وعندنا: إن كان فهو منسوخ، ودليك نسخه: ما روي في خبر زيد بن خالد، وكان الرجل بكرا، لم يذكر أنه نفي.

وما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه نفى رجلا؛ فارتد ولحق بالروم؛ فقال: لا أنفي بعد هذا أبدًا.

وما روي أنه قال: كفى بالنفي فتنة.

وإن كان فهو عقوبة وليس بحد؛ كحبس الدعارة وغيره.

والدليل على أن النفي ليس بحد أن اللّه - سبحانه وتعالى - قال في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، والأمة لا تنفي؛ لما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَجلِدْهَا، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ": أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي، ولو كان حدا لأمر به كما أمر بالجلد؛ دل أنه ليس بحد في الحر، ولأنه أوجب على الإماء نصف ما أوجب على الحرائر، ولا نصف للنفي؛ دل أنه ليس بحد، ولا يجب ذلك، أو إن كان فهو حبس، وفي الحبس نفي، فيحبسان أو ينفيان؛ لينسيا ما أصابا؛ لأن كل من رآهما يذكر فعلهما؛ فينفيان لذلك، لا أنه حد؛ ولكن لينسبا ذلك ولا يذكر.

وقوله -أيضًا-: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ. . .} إلى قوله - تعالى -: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا}، - يخرج على وجهين - لو كان الإتيان الزنا:

أحدهما: أن يكون في جميع الإناث الحبس، وفي الذكور: الإيذاء؛ ولذلك جمع بين الجميع في الخبر الذي به النسخ؛ فارتفع الحبس والأذى جميعًا، وذلك معقول: تأديب الرجل به أزجر له، وحبس المرأة أقطع لوجوه الزنا.

أو أن تكون الآية الأولى: في المحصنات؛ على تضمن المحصنين بالمعنى، والآية الثانية: في الذكور؛ على تضمن الإناث بالمعنى، لكن جرى الذكر على ما ظهر من فضل صيانة الأبكار في الإناث: إما تدينًا، أو حياء الافتضاح، أو بما الغالب عليهن الصون من المحارم، والحفظ عن قرب الذكور، ليس بشيء من ذلك في الذكور ولا في الثيبات من النساء، على أنه بعيد بلوغ النساء في قلة الحياء إلى أن يُعْلِنَ حتى يشهده أربع، والغالب عليهن ألا يخالطن هذا القدر من العدد.

ثم الدلالة على دخول الكل - قول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنَ سَبِيلًا. . . ": ذكر لهن؛ على ما جرى به الذكر في القرآن، ثم جمع في التفسير بين الكل؛ ثبت أن الذكر قد يضمن الكل، وذلك يبطل تأويل من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور، ومتى يحتمل وجود الكل مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة، والعار اللازم لهن، ثم كشف ذلك لجميع محارمها، ثم خوف الانتشار به ظاهرًا، وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى تمكن من ذكر بحضرة من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها؟

فتأويل من وجَّهَ الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف.

ثم المروي من السنة، ثم بما أجمع عليه أهل التأويل عمل صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينه الكتاب بالسنة، ويحكم على اللّه - تعالى - وعلى رسوله بحجر هذا النوع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا. . .} الآية، ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة، فكأن الخطاب عليهم خرج، ثم قد أثبت الفاحشة منهن، ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدون بها؛ فعلى هذا أن ليس للأئمة تولي حد الزناة بعلمهم حتى يكون ثَمَّ شهود، وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهي إليه من إعلان الفعل من الزناة؛ إذ ذلك أمر معلوم فيما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقة ذلك بالولد يكون، فأما من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن، فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا يعلم حقيقته أبدًا؛ يدل على ذلك جميع الأمور التي منها المباح أو المحظور: أن المحظور منه أبعد من الظهور والعلم به من المباح؛ فعلى ذلك أمر هذا مع ما زيد هاهنا ما جعل فيه من حد الزاني وجهين:

أحدهما: الزجر عن هتك هذا النوع من الستر حتى خرجت شهادة من رمى بذلك؛ بما هتك ستر اللّه.

والثاني: فحش الشين بفاعل ذلك، ولزوم المسبة في صاحب ذلك، وذلك غاية معنى لزوم الشين، وكذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيْئا فَليَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللّه، فَإِنهُ مَن أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَد اللّه ". فإذا بلغ العمل الذي حده ما ذكرت من العقوبة، من نهاية الستر النهاية من الإعلان حتى أظهر ذلك الجماعة بفعل من يشينه فعله ما ذكرت، استحق ما ذكرت من العقوبة بجرأته على ذلك بحله، وبقلة حيائه، حيث أظهر الذي ذلك حقه الستر عقوبة ذلك الفعل، فألزم من إليه ذلك القيام به للّه، ثم جعل اللّه في ذلك الفعل عقوبات مختلفة على اختلاف أوقات الفعل وأهله، على ما علم من مصلحة الخلق بها، وزجرهم، وتكفيرهم بها.

ثم إن اللّه - سبحانه وتعالى - جعل أول عقوبة الزنا في نوع من الخلق في الإسلام الحبس في البيوت، فهو - واللّه أعلم - مخرج على أوجه:

أحدها: إنه كان الزنا في الابتداء في نوع ظاهر يكتسبون به عرض الدنيا في ذلك في الإماء حتى قال اللّه - تعالى -: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ. . .} الآية، وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزناة من الإماء، حتى بلغ من ظهور ذلك إلى أن يمازج به الحرائر في الطرق تعاميا عن حالهن؛ فنزل قوله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ}، وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت غلب عليهم خوف مواقعة الزنا، وكذلك على الحرائر؛ لكثرة ما يرين أو يسمعن، وذلك معنى يبعث من شَرِهَت نفسه، وقل تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه، وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر، فخفف اللّه عقوبته في الابتداء أن جعل فيه الحبس والإمساك في البيوت، ثم صار ذلك إلى الضرب؛ لما أن تحرج الناس وعظم ذلك في أعينهم، وجعل في الشتم به الحد؛ ليعرفوا عظم موقعه عند اللّه وينتهوا عن فعله، وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم، وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر، ويرتفع جميع معاني الشبه لعظيم أمره.

والثاني: أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض لبعض، ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة؛ فغلب عليهم الأمر، واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك.

ثم في الحبس وجهان:

أحدهما: الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط وتلاقي الأبصار.

والثاني: ما فيه من فضل ضجر وتضييق الحال؛ إذ جعل ذلك إلى الموت، فيكون في ذلك عقوبة من حيث الضجر، ومعونة على الكف عنه بالحبس حتى لا يقع بصر ذكر على أنثى وأنثى على ذكر.

والثالث: أن يكون في الحبس ترغيب الأرحام في الحفظ وإلزام القرابة بعض ما يزجر عن تضييع حقوق الرحم، ويدعو إلى القيام بالكفاية؛ إذ ضيق على الفاعل ذلك، وذلك يوجب قبل المواقعة الاستعلام عن الأحوال والجهد في الحفظ؛ إذ في ذلك بعض عقوبة أهل الاتصال من تكليف الإمساك والقيام بالكفاية؛ فيكون أبلغ في العفاف، وأقرب إلى الصلاح، وعلى مثل ذلك جعل أمر المعاقل؛ ليقوم أهل الصلاح في كل قبيلة في كف أهل الفساد عن الفساد، واللّه أعلم.

ثم لما انقطعت العادة وقام الناس بالتعاهد، وتفرق الفريقان حتى لا يؤذن بالاجتماع، إلا أن يكون ثَمَّ مَنْ جُبِلَ على الإياس من ذلك وأنشئ على قطع الشهوة فيهن، فجعل في ذلك حد، وجعل في ذلك لهن سبيلا، وذلك - واللّه أعلم - يخرج على أوجه، يجب التأمل في الوجه الذي سمى ما نسخ به اللازم في ذلك، وذكر فيما ذكر حد مرة ورجم ثانيًا، ومعلوم أن المجعول له السبيل، والرجم والحد أشد عليهم من الحبس، وقد رُوي عن نبي الرحمة - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلاً، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائة وَتَغْريبُ عَامٍ، والثيبُ بِالثيبِ يُجْلَدُ وُيرجَمُ " فهو - واللّه أعلم - أن بهذه الشريعة خلى سبيلهن، لا أن أوجب على المحبوسات إقامة ذلك بما قد حبس بالزنا، ولكن في هذا تخلية السبيل، على أنهن؛ إذا زنين فعل بهن ذلك على رفع الحبس عنهن إذا حبس بما لم يبين حد ذلك، فإذا بين زال ذلك ولا حد حتى يكون منها ذلك، فالسبيل المجعول لهن تخلية السبيل، ثم بين الحكم في الحادث.

ووجه آخر: أن السبيل في الحقيقة مجعول لمن كلف إمساكهن، وإن أضيف إليهن بما فيهن ضيق عليهم الأمر، وذلك كقوله - تعالى -: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، والإماء لا يؤتَين الأجر، لكن بما بمعنى فيهن ذكر الأجر، فأضيف إليهن، وعلى نحو ما أضيف أهل القرى إلى القرى بالتسمية، فأخرجت على تسمية القرى، وإذا كان المراد أهل ذلك في حق تسمية الأهل التذكير والقرية التأنيث، فكأنه جعل للمأمورين بالإمساك سبيلا في أن يقيموا الحد، ويزول عنهم مؤنة الإمساك والقيام بالكفاية.

والثالث: أن يكون في طول الحبس ضجر وضيق، وحيلولة بين المحبوس والشهوات كلها، وقطع ما بينه وبين الأحباب، وتحمل مثله بمرة أيسر على النفس وأهون من دوام الذل والقهر، ثم لا مخلص عن ذلك إلا بما في الأول يكون ثمرة؛ فلذلك سمي - واللّه أعلم - ذلك سبيلاً لهن.

ثم دل الخبر الذي ذكرت على أمرين:

أحدهما: أن الحبس -وإن كان مذكورًا في النساء خاصة- فهو في جميع الزناة؛ لأنه قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني، قَدْ جَعَلَ اللّه لَهُن سَبِيلًا " ثم ذكر ما به جعل لهن السبيل، في الذكور والإناث، في المحصنين وغيرهم جميعًا؛ ليعلم أن الحكم يجمع الكل وإن كان الذكْرُ فيهن، وذلك كما ذكر حد المماليك في الإماء، وحد الزناة في قذف المحصنات، والحكم يجمع الذكر والأنثى من حيث اتفاق المعنى الذي له جعل، فمثله فيما نحن فيه.

والثاني: بيان نسخ المذكور من الحكم في الكتاب بالسنة، وذلك لوجهين:

أحدهما: أنه لم يوجد على الترتيب الذي ذكر في القرآن مع ما ذكر تخلية السبيل، وليس بمذكور في شيء من القرآن؛ ثبت أن ذلك كان بوحي غير القرآن.

والثاني: أنه - عليه السلام - قال: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني " ثم أخبر عن جعل اللّه لهن السبيل؛ فدل قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " خُذُوا عَني، خُذُوا عَني " أنه بيان اللّه، وهكذا معنى النسخ أن بيان جعل اللّه مدة حكم الأول بما يحدث فيه الحكم، وليس قول من يقول في هذا في القرآن وعد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سَبِيلًا} - معنى؛ لأن كل شيء في حكم اللّه أنه ينسخه، فالوعد في حكمه قائم، إلا أن يقول قائل: لا يصدق الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ببيان وعد الحكم، وإنما يصدق ببيان وعد الشرط؛ فيحتاج أن يحدث منه إيمانًا، واللّه الموفق، مع ما إذا جاز أن يعد النسخ المذكور في القرآن حقيقة، لا فيه يجوز أن ينسخ المذكور حقيقته لا فيه.

وبعد، فإن من يقول هذا بعثه عليه جهله بمعنى النسخ: أنه البيان عن منتهى حكم المذكور من الوقت، ولا ريب أن لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بيان منتهى الحكم من النوع، فمثله الوقت.

ثم إذا كان هذا أول عقوبة في الإسلام؛ فثبت به نسخ الحكم بالتوراة والعمل إذا كان فيها الرجم، وقد ذكر أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما رجم بحكم التوراة،

وقال: " أَنا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّة أَمَاتُوهَا ". وإذا ثبت أن ذلك حكم التوراة ثم ثبت نسخ حكمه، فلا يقام عليهم الرجم إلا بعد البيان مع ما جاء عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ أَشْرَكَ بِاللّه فَلَيسَ بِمُحْصَنٍ "، وأنه أخبر بالرجم في القرآن للمحصن.

وقال قوم: عقوبة الحبس في الإناث خاصة، وأما في الذكور ففيهم الأذى باللسان والتعزير بقوله - تعالى -: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا. . .} الآية، وهذا قريب من حيث كانت النساء مكانهن البيوت، وأمكن حفظهن عن الزنا، وتسليمهن إلى الأزواج مرة والمحارم ثانيًا، والرجال إذا حبسوا تحولت مؤنهم إلى غيرهم، فتكون عقوبة فعلهم تلزم غيرهم، والراحة تكون لهم، وأمَّا النساء فمؤنهن في الأصل على غيرهنَّ، فليس في حبسهن زيادة على غيرهن، فذلك عقوبة لهن مع ما كان الرجال بحيث يمكن تعييرهم، وذلك أبلغ ما يزجر العقلاء، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الرجال خاصة؛ إذ لا يذكر في عمل قوم لوط العقوبة، وقد علم اللّه - سبحانه وتعالى - حاجة الناس إلى معرفة عقوبة ذلك؛ إذ قد جعل اللّه - تعالى - في إتيان النساء حقوقا وحرمات وأحكامًا ليست في إتيان الذكور، عرف الخلائق تلك؛ فلم يحتمل أن يترك ذكر عقوبة للذكور في الزنا بعد أن فرق أحكام الأمرين؛ فيشبه أن تكون الآية على ذلك؛ وأيد ذلك عَزَّ وَجَلَّ أنه - سبحانه وتعالى - قال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} ولم يذكر في ذلك جعل السبيل، وقد ذكر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذلك في كل أقسام الزنا، ثبت أن ذلك فيما ذكر، فتكون عقوبة الأولى في ذلك أخف من الحد، فكذلك عقوبة الثانية مع ما يكون فيما يؤذيان بتفريق، وهو تعزير، وذلك هو الباقي أبدًا إذا لم يظهر معنى النسخ، وأيد الذي ذكرت استواء الذكور والإناث في جميع عقوبات الزنا في قديم الدهر وحديثه من حدود المماليك والأحرار، والثيبات والأبكار، فعلى ذلك أمر تأويل الآية.

والنفي المذكور في الخبر يحتمل وجوهًا:

أحدها: ما ذهب إليه الخصوم من جعله عقوبة، وأنه النفي من البلد، لكن الحدود إذا جعلت كفارات قد جعلن زواجر، وفي الزنا بخاصة إذا أمر فيه بالحبس أريد قطع السبيل إليه، وفي الإشخاص والإخراج من البلدان تمكين، وذلك بعيد، واللّه أعلم.

فعلى ذلك لو كان عقوبة فهو على الحبس، فينتفي عن وجوه الاجتماع على ما كان من قبل، فينتفي ذلك العذر منه؛ لظهور خشوع التوبة.

وقد يحتمل أن يراد بالنفي قطع الذكر ورفع المسبَّة، فينفى؛ لينسى ذلك؛ فلا يعير بذلك، وكذلك في الإماء ولا في الكفر؛ إذ ما فيهم من الذل أعظم مع ما لا يجب بسبِّ من ذكرت حد؛ ليعلم عظيم موقع ذلك في الأحرار، ولو كان على العقوبة فهو منسوخ بما جرت السنة في الإماء بحدهن من غير ذكر الحبس، وقد قال اللّه سبحانه وتعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، والمذكور في الثيب يحتمل: يجلد في حال ويرجم في حال؛ إذ لا كل ثيب يجلد، وإن كان ثم نسخ بما ذكر من خبر ماعز وغيره.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآذُوهُمَا} قيل: فآذوهما، بالحد.

وقيل: فآذوهما بالتعيير {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} كُفوا عن ذلك. وقيل: سبوهما، لكن ذا قبيح، والتعيير أقرب.

١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}

يحتمل قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ} كذا؛ أي: توفيق التوبة وهدايته على اللّه - سبحانه وتعالى - إذا كانت نفسه ترغب فيها، وتميل إليها على اللّه أن يوفقه على ذلك؛ إذا علم اللّه منه أنه يتوب.

ويحتمل قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه} سبحانه وتعالى أي: قبول التوبة على اللّه - تعالى - إذا تاب ورجع عما كان فيه وارتكبه.

وفي قوله -أيضًا-: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه} لمن ذكر، يحتمل قبولها بمعنى أن الذي لا يُسَوِّفُ التوبة ولا ينتظر بها وقت المنع عن ركوب ما عنه يتوب والإياس من إمكان العود إلى ما عنه يتوب، فاللّه يقبلها إذا كان ذلك دأبه وعادته.

وإن بلغ هو ذلك الضيق بأمر دفع إليه، أو كان يتوب من قريب من الذنب بألا يستخف به؛ فيترك الرجوع؛ لقلة مبالاته به، فلا يقبلها ممن هذا وصف توبته، وحال استخفافه بالذنب.

والثاني: أن يكون توفيق التوبة والهداية إليه ممن يفزعه ذنبه ويبعثه على الرجوع إلى اللّه، والتعرض لرحمته وإحسانه، ولا يوفق من لا يبالي بالذي يذكر ولا يتضرع إليه.

وقيل: الأول في الصغائر، والثاني في الكبائر، والثالث في الكفر: بأن صاحب الصغيرة أرق قلبًا وأخص ذكرًا له ورجوعًا إلى ربه، وصاحب الكبيرة أقسى قلبًا من الأول وأظلم، فهو لا يندم إلا بعد شدة، وبعد طول المحنة وضيق القلب، فليس على اللّه قبول توبة من يتوب في تلك الحال، ولا توبة من بأن منه ما يأمله بالذي عليه قبول ذلك، ولكن بفضله وبرحمته يقبل ويوفق له بما كان منه من الخيرات والحسنات التي هُن أسباب التقريب إلى اللّه - سبحانه وتعالى - والكافر لا يقبلها؛ إذ هو لا يتوب حتى يموت؛ فيستيقن بالعذاب، واللّه أعلم.

ويحتمل أن تكون هذه الأجرة في الكفار؛ فيكون فيهم من يظهر التوبة عند الضرورة والدفع إلى الحال التي يزول عنه وسع الإمكان، ويأنس من الإمهال؛ ليصل إلى ما كان له يذنب، فاللّه لا يقبل توبته؛ إذ ليست في الحقيقة تَوْبَةُ مَمكَّنٍ، بل توبة مضطر، وتوبة دفع ما حل به، إذ هو وقت يشغل عن الاستدلال، وعن الوقوف على الأسباب من جهة التأمُّل والنظر، ولا يرى غير الذي أقبل عليه يظن أن له الخلاص بالذي يبدّل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} هذا -أيضًا- يحتمل وجهين:

يحتمل جهل الفعل؛ فيقع فيه من غير قصد.

ويحتمل: قصد الفعل، والجهل بموقع الفعل.

والعمل بجهالة يخرَّج على وجوه: يكون عن غلبة: تغلب عليه شهوته؛ فيعمل ذلك العمل على طمع منه أنه سيتوب من بعد، ويصير رجلاً صالحًا؛ على ما فعل إخوة يوسف، حيث قالوا: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} ثم سماهم جهلة بذلك في آية أخرى، حيث قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}.

ويحتمل العمل بالجهالة: هو أن يعمل على طمع المغفرة، ويتكل على رحمة اللّه وكرمه.

ويحتمل العمل بالجهالة: جهالة عقوبة عمله على ذلك.

وكذلك الخطأ والنسيان على وجهين: خطأ الفعل: وهو الذي ليس بصواب ولا رشد.

وخطأ القصد عمد الفعل: وهو الذي قصد أحدًا فأصاب غيره.

والنسيان على وجهين -أيضًا-:

نسيان ترك: وهو الذي يجوز أن يضاف إلى اللّه - سبحانه وتعالى - بحال؛ كذلك الجهالة، واللّه أعلم.

والأصل في الشيء المنسي أنه متروك، فسمي المتروك من الرحمة والكرامة منسيًّا؛ فتجوز الإضافة إلى اللّه - تعالى - من هذا الوجه.

وقيل: نزل قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ. . .} الآية - في المؤمنين.

١٨

وقوله: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ... (١٨) إلى آخر الآية، في الكافرين.

وقيل: إنهما جميعًا في المؤمنين، والثالثة في الكفار.

وقيل: إن الأولى في المؤمنين، والثانية في المنافقين، والثالثة: في الكفار.

وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: إن اللّه - تعالى - يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

ورُوي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ تَابَ قَبلَ أَنْ تُغَرغِرَ نَفْسُهُ وُيعَايِنَ المَلَائِكَةَ قَبِلَ اللّه تَوْبَتَهُ ".

والأصل في هذا أن توبة الكافر تقبل إذا كان توبته توبة اختيار، وأمَّا إذا كانت توبته توبة اضطرار ودفع فإنها لا تقبل أبدًا؛ كقوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} إذا كان إيمانه إيمان دفع واضطرار عند معاينة العذاب فإنه لا يقبل أبدًا، وهو -أيضًا- كإيمان فرعون، حيث قال: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. . .} الآية، لم يقبل إيمانه؛ لأنه إيمان دفع واضطرار؛ فعلى ذلك كل إيمان كان إيمان دفع واضطرار فإنه لا يقبل أبدًا، وكقوله: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ}.

وقيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. . .} توبة تشريط، فلم تقبل؛ لأنه لم يقطع القول فيه قطعا.

وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} هم الذين يتوبون عند معاينتهم الموت؛ أخبر أنه لا يقبل توبتهم؛ لأنهم يتوبون توبة دفع واضطرار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} لا تقبل توبتهم، لأنهم يتوبون في الآخرة؛ دفع العذاب عن أنفسهم؛ كقوله تعالى: {مَآ أَشْرَكْنَا}، و {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}.

١٩

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}.

قَالَ بَعْضُهُمْ: كان يجوز لهم أن يرثوا النساء طوعًا؛ لأنه إنما نهي أن يرثوهن كرهًا، فكان فيه دليل جواز وراثتهن طوعًا.

وأما عندنا: فإنه ليس فيه دليل جواز وراثتهن طوعًا، وإن كان النهي إنما كان في حال الكره؛ لأن الأصل عندنا: أن ليس في حظر الحكم في حال دليل إباحته في حال أخرى، ولا في إباحته في حال دليل حظره في حالة أخرى، ولا في حله في حال دليل حرمته في حال أخرى، ولا في حرمته في حال دليل حله في حال أخرى، دليل ذلك قوله - تعالى -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}، ليس على أن لهم أن يقتلوا إذا لم يخشوا الإملاق،

وقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، ليس فيه أنه لا يحل له؛ إذا لم يؤت أجورهن،

وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}.

والقصة في الآية ما قيل: إن الرجل إذا مات وترك امرأة، كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها: إن شاءوا تزوجوها وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يتزوجوها؛ فنزلت الآية في ذلك.

وقيل -أيضًا-: كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل أقبل أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبًا فيحدث نكاحها طوعًا وكرهًا؛ فنزلت الآية في ذلك.

والآية عندنا خرجت مخرج بيان التحريم على ما كانوا يفعلون؛ دليل ذلك قوله - تعالى -: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} نهي الأبناء أن ينكحوا ما نكح آباؤهم من النساء؛ فدل أن النهي كان في الحالين جميعًا: في حال الكره والرضا، واللّه أعلم.

وفي قوله: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا. . .} الآية، تحتمل حرمة وراثتهن أبدًا، وأن ذكره " كرهًا " لأوجه:

أحدها: أن ليس في ذكر الحرمة في وجه أو ذكر الحكم في حال دلالة تخصيص الحال؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ}،

وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -. {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، أنهن يحللن وإن لم يؤتين أجورهن، وإذا لم يصر ذلك شرطا صار كأنه قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}، واللّه أعلم.

والثاني: أن تكون الوراثة أبدًا تكون كرهًا ويجب الميراث سواء من فيه وله أولاد إذا كان وجه الوراثة، فذكره ذلك وغير ذلك سواء.

والثالث: أنهم كانوا يتوارثون النكاح، وهو أمر لا يحتمل الانقسام، ولا عند الاشتراك بالاستمتاع، فكان ذلك على تراض منهم لواحد.

أو أن، يكون فيما كانت الوراثة ترجع إلى واحد؛ فيكون ذلك له بحق النكاح لا الميراث، فإذا حرم النكاح في حق من يرث من الذكور -وهم الآباء والأبناء- فبطل الميراث لو كان يجوز أن يورث.

ثم دلت هذه الآية في قطع وراثة منافع الأبضاع، وملك الأبضاع أدوم من ملك الإجارات؛ فيجب أن يكون قطع الإجارات أولى.

ودليل آخر على بطلان الوراثة: أن المرأة قد ترث الميراث؛ فتكون وراثة بعض نفسها، فبطل من حيث يراد إثباته.

وقوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} اختلف فيه.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو معطوف على ما تقدم، وهو ما ذكرنا من الوراثة، نهى أن يعضلوهن؛ ليُذْهِبُوا ما آتوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة؛ قيل: لم يكن يومئذ عقوبة؛ إذا أتت المرأة بفاحشة سوى أخذ المهور منها، وكانوا يمسكونها على الوراثة، فإذا أتت بفاحشة أخذ ما آتاها، ثم يسرحها.

فَإِنْ قِيلَ: إنما نهاها عن الوراثة؛ لأن الولي إذا ورثها ورثت هي نفسها؛ فيبطل بذلك، فالنهي لذلك.

قيل: لو كان لذلك فالمرأة إذا كانت ممن لا ترث عن الزوج مملوكة يجيء أن يحل ذلك؛ إذ لا وراثة ثَمَّ، فإذا لم يجز دل أنها خرجت على بيان التحريم، واللّه أعلم.

وقيل: في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} على الابتداء، ليست على الأول، نهي الزوج أن يأخذ منها ما آتاها من المهر إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.

ثم اختلف في قوله - تعالى -: الفاحشة.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الزنا، وهو ما ذكرنا.

وقال آخرون: الفاحشة - هاهنا - هو النشوز، أي: إذا نشزت فلا بأس أن يأخذ منها ما آتاها.

وقيل: هو ما ذكره - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا}، لا تأخذوا منه شيئًا: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، نهى الأزواج أن يأخذوا منهن شيئًا إلا عندما يخافا ألا يقيما حدود اللّه، فحينئذ أباح أخذ ما افتدت به، فعلى ذلك قوله: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}، وهو ما ذكرنا من النشوز وخوف ترك إقامة حدود اللّه؛ فعند ذلك أباح له أخذ ما آتاها، واللّه أعلم.

وقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} اختلف فيه:

قيل: هو كقوله - تعالى -: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}

وكقوله - تعالى -: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ}.

وقيل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}: في كلامها، وبرها، والإنفاق عليها، والإحسان إليها والاجتناب عما لا يليق بها من الشتم والإيذاء، وغير ذلك.

{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يحتمل: بالفضل، ويحتمل: كما لو فعل بك مثل ذلك لم تنكره، بل تعرفه وتقبله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} قيل فيه بوجهين:

قيل: كرهتم صحبتهن من قبحهن ودميمتهن، أو سوء خلقهن، فصبرتم على ذلك {وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}

قيل: يهب لكم منهن أولادًا تقر بهم أعينكم، أو يعطي لكم في الآخرة ثوابًا جزيلاً بصحبتكم إياهن.

وقيل في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي: كرهتم فراقهن، ويجعل اللّه في الفراق خيرا كثيرًا؛ كقوله - تعالى -: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}.

* * *

٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} والقنطار: قيل: مائة رطل.

وقيل في حرف ابن مسعود: " قنطارا من الذهب ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: إن كرهت امرأتك أو أعجبتك غيرها؛ فطلقت هذه وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها وإن كان قنطارًا.

والقنطار: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.

وقيل: القنطار ألف ومائتا دينار، فهذا على التمثيل، ليس على التقدير، ووجه النهي والوعيد في ذلك - واللّه أعلم - ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إِنَّ النسَاءَ عِنْدَكُم عَوَان، اتخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللّه - تَعَالَى - وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُن بِكَلِمَةِ اللّه تَعَالَى " فوعد - عَزَّ وَجَلَّ - الأزواج في غير آي من القرآن عن أخذ مهور النساء وغيرها من الأموال؛ لضعفهن في أنفسهن، والرجال هم القوامون عليهن؛ لئلا يبسط الأزواج في أموالهن؛ إشفاقًا عليهن، أو لما إذا أخذ منها مهرها تبقى تلك المنفعة بلا بدل، وذلك زنا؛ وعلى هذا يجيء ألا يجوز له أن يخلطها؛ لأنه إذا أخذ منها مهرها بقيت له المنفعة بلا بدل، لكنه أجيز له ذلك؛ لأنه تقلب في الملك، وكل من تقلب في ملكه ببدل يأخذه جاز له ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا} قيل: ظلمًا بغير حق.

وقيل: إذا أراد طلاقها لا يضارها بكذب لتفتدي منه مهرها.

{وَإِثْمًا مُبِينًا}: ويحتمل أن يكون البهتان والإثم واحدًا.

٢١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ ... (٢١)

وقيل: الإفضاء: هو الجماع. والأشبه أن يكون الإفضاء: الاجتماع؛ لأنه أضاف إليهما جميعًا، فهو بالاجتماع أشبه وإليه أقرب؛ فيجب المهر بالاجتماع والخلوة بها، والجماع فعل الزوج، يضاف إليه خاصة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}

قيل: عقدة النكاح.

وقيل: هو ما ذكرنا في قوله - تعالى -: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.

وقيل: الميثاق الغليظ ما ذكر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " اتَّقُوا اللّه فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنَّكُم إِنَّمَا اتخَذْتُمُوهُن بأمَانَةِ اللّه، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُن بِكَلمِة اللّه، وإنَهُنَّ عِنْدَكُم عَوَان لَا يَمْلِكْنَ مِنْ أَمْرِهِنَّ شَيئًا ".

وقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَآ أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُم عَلَى نِسَائِكُم حَقا، وإنَّ لَهُنَّ عَلَيكُم حَقًّا، وإنَّ مِنْ حِقكُمْ عَلَيهِنَّ أَلا يُوطِئنَ فُرُشَكُم، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأحَدٍ تَكْرَهُونَهُ، وَلَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مبُيَنةٍ، فَإِنْ هُن فَعَلْنَ ذَلِكَ فَقَدْ أَحَلَّ اللّه لَكُم أَنْ تَضْرِبُوهُن ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ - يعني: غير شائن - وَإِنَّ مِنْ حَقهِن عَلَيكُمُ الكُسوَةَ والنَّفَقَةَ بِالْمَعْرُوفِ ".

وقيل: إن رجلا سأل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ماذا يحل لنا من نسائنا؟ وما يحرم علينا منهن؟ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حَرْثُكَ، فَأْتِهِ أنى شِئْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الوَجْهَ، وَلَا تُقَبحْهُ، وَلَا تَهْجُرهَا إِلا فِي بَيتِهَا، وَأَطْعِمْهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَاكْسُهَا إِذَا اكْتَسَيتَ ".

وقيل: الميثاق الغليظ: ما أقروا به من قول اللّه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.

٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ (٢٢) حرم - اللّه تعالى - على الأبناء نكاح نساء الآباء، وذلك أنهم كانوا يعملون في الجاهلية ما قيل في القصة: أن أبا قيس توفي فعمد ابنه - يقال له: محصن - فتزوج امرأة أبيه، فنهى اللّه - تعالى - عن ذلك، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}.

وقيل: إن رجلًا من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج سالاًّ سيفه؛ فقيل له: ما شأنك؟ فقال: إن رجلاً تزوج بامرأة أبيه، فهذا إذا تزوجها مستحِلًّا لها، فهو يكفر لذلك: كأن قصد قتله؛ وكذلك حرم اللّه - سبحانه وتعالى - على الآباء نكاح نساء الأبناء بقوله - تعالى -: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا}: أي: إنكم إذا انتهيتم عن ذلك في الائتناف يغفر لكم ما قد سلف، وإن كان فاحشة وقيل: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قبل: التحريم.

{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي: صار فاحشة في الإسلام:

{وَمَقْتًا} قيل: بغضًا.

{وَسَاءَ سَبِيلًا} أي: بئس المسلك تزوج نساء الآباء.

ويحتمل أن تكون الآية في الطلاق؛ إذ كان الرجل يطلق امرأته ثم يندم على طلاقها، فيتزوجها ابنه، فيمقت ذلك الأب ويبغض.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَسَاءَ سَبِيلًا}: أي: بئس السبيل نكاح امرأة أبيه، حيث مقت أبيه وبئس مقت أبيه المسلك.

٢٣

وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخره، يحتمل وجهين: يحتمل: أي: حرم عليكم الاستمتاع بأمهاتكم وبناتكم وأخواتكم. . . وما ذكر، والجماع بهن.

ويحتمل: حرمة النكاح، أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم، فإن كان هذا أراد، فلا يحرم النكاح لنفس النكاح، ولكن يحرم النكاح؛ لما به يوصل إلى الاستمتاع بالنساء، وإليه يقصد؛ فدل أنه يحرم الجمع بين الأختين في الاستمتاع في ملك اليمين، ولا يحرم الجمع بينهما في العقد.

ثم ذكر الحرمة في الأمهات والبنات والأخوات، ولم يذكر في الجدات فهُنَّ محرمات وإن علون، ولم يذكر في بنات البنات، فهُنَّ محرمات وإن سفلن.

٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} اختلف في تأويله:

قال ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " والمحصنات عن النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال: ذات الأزواج من المسلمين والمشركين.

وقال علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: ذات الأزواج من المشركين.

وذهب عبد اللّه في تأويل الآية إلى أن بيع الأمة طلاقها؛ فيحل للمشتري وطؤها، وأسر الكتابية والمشركة يحلها لمولاها؛ وإن كان لها زوج في دار الحرب.

وذهب علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إلى أن الآية نزلت في المشركات.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كل ذات زوج إتيانها زنا؛ إلا ما سبيت.

وروي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: وقعت في سهمي يوم أوطاس جارية، فبينا أنا أسوقها إذ رفعت رأسها إلى الحل فقالت: ذلك زوجي؛ فأنزل اللّه - سبحانه وتعالى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. . .} الآية، قال أبو سعيد - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: فاستحللنا فروجهن بها.

بيّن أبو سعيد الخدري، في حديثه أن الآية نزلت في المشركات ذات الأزواج،

وكأن حديثه يقوي قول علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - ومن وافقه.

وقيل -أيضًا- في تأويل الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ} قال: والمحصنات من النساء حرام على الرجال إلا ما ملكت يمينك، قال: ملك يمينه امرأته.

وعن أبي قلابة قال: ما سبيتم من النساء، إذا سبيت المرأة ولها زوج من قومها، فلا بأس أن يطأها.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} قال: لا يحل له أن يتزوج فوق أربع نسوة وما زاد عليهن، فهو عليه حرام كأمه وابنته وأخته: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الإماء فإنه على أربع، وأكثر من أربع.

وعن أبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنه -: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} هن نساءكنَّ نُصيبهن، يهاجرن ولا يهاجر أزواجهن، فمنعناهن في هذه الآية، ثم أنزل اللّه - عز وجل - في الممتحنة: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، حللن لنا بعد أن نتزوجهن، وفيه نهى عن الزنا وأباح التزويج، فجعلوا ملك اليمين التزويج.

وأصح التأويلين وأولاهما بالقبول ما روي عن عليٍّ أبن أبي طالب - رضي اللّه عنه -،

وابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - لما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك، وظاهر القرآن يدل على أن ذلك هو الحق؛ لأن اللّه - تعالى - قد فَصل في غير هذا الموضع بين التزويج وملك اليمين، فجعل ملك اليمين الإماء؛ ألا ترى إلى قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}

وقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}، فهاتان الآيتان تدلان على أن قول اللّه - سبحانه وتعالى - في آية المحصنات: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على غير الأزواج، كما روي عن الجماعة من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - الذين ذكرناهم، ثم الكلام بين علي وابن مسعود - رضي اللّه عنهما - ونحن نعلم أن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أوجب على الأمة إذا باعها مولاها ولها زوج - العدة؛ إذا كان قد دخل بها، وأنها عنده لا تحل لمولاها حنى تنقضي عدتها، فلم يجعلها حلالا للمولى الثاني بملكه إياها؛ فكان قول علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أشبه بظاهر الآية؛ لأنه تأول الآية على متزوجة تحل بالملك لمولاها في حال الملك من قول عبد اللّه؛ إذ جعلها محرمة وإن كانت مملوكة حتى تمضي عدتها.

وفي ذلك وجه آخر: وهو أن اللّه - تعالى - قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وعند اللّه يحرمها على البائع ويحلها للمشتري، ولم يخص اللّه - تعالى - أحدًا من المالكين.

وروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حمل الآية على امرأة كافرة متزوجة سبيت، فأحلها اللّه - تعالى -: هي لمالكها، فلم تعرف من حال المملوكة، هذا مع موافقة الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وظاهر الآية يدل على أن المأسورة ذات الزوج لا عدة عليها، وهو قوله - تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .} إلى قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، فأمر ألا يردهن إليهم وينكحهن، فلما جاز أن يتزوج الحرة إذا خرجت مسلمة ولا عدة عليها، حلت إذا سبيت فملكت قبل أن تعتد.

والثاني: إنها كانت حرة، فأبطل السبي حكم الحرية والزوجية، فكذلك يبطل حكم العدة.

هذا كله إذا سبيت ولم يكن معها زوجها، فأما إذا سبيت وزوجها معها، فإن الفرقة لا

تقع بينهما؛ لأنها لو بانت من زوجها بانت للرق، والرق لا يمنع ابتداء النكاح كيف يعمل في فسخ نكاح ثابت؟ ولكن اختلاف الدارين هو الموقع فيما بينهما الفرقة؛ لفوت الاجتماع بينهما، وإذا فات الاجتماع بين الزوجين والإياس عن الانتفاع وقعت الفرقة فيما بينهما، وهذا يبطل قول من يقول: إنه تقع الفرقة فيما بينهما للرق.

والثالث: أن العدة حق من حقوق الزوج؛ يبين ذلك قول اللّه - سبحانه وتعالى -: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}، فلا يجوز أن يبقى للحربي على المسلمة الخارجة إلى دار الإسلام حق، فإذا لم تكن عليها العدة لها أن تتزوج، وسبيل الأمة المسبية مسألة الحرة المسلمة؛ لأن حكم الإسلام قد جرى عليها؛ فحلت للمولى وإن كان لها في دار الحرب زوج.

ومن الدليل -أيضًا- على أن المسبية ذات الزوج يحل تزوجها ووطؤها لمولاها: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تزوج صفية بنت حيي بن أخطب في رجوعه من خيبر قبل أن يصل إلى المدينة، ومعلوم أنه كان لها زوج كبير، وأن عدتها منه لو كانت واجبة لم تنقض في تلك المدة؛ فهذا يبين ألا عدة على مسبية من زوجها المقيم في دار الحرب، ولا على مسلمة إذا خرجت من دار الحرب، وأقام زوجها هنالك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية.

قيل فيه بأوجه ثلاثة:

أحدها: في المسبية ذات الأزواج، وكذلك روي عن عليٍّ وأبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنهما - فيكون فيه أمران:

أحدهما: الحرمة على الأزواج.

والثاني: ارتفاع العدة؛ إذ هما حقان للحربي، وحقه في نفسه لا يمنع الاسترقاق، ولو كانت حُرة الاستمتاع فمثله في زوجته، لكن يدخل على هذا سبي الزوج معها أن الرق قد ثبت فيهما ولم يبطل النكاح؛ فيجاب لهذا بوجهين:

أحدهما: الاستحسان من حيث يلزم المولى حق الإنكاح بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ. . .} الآية، فلم يبطل عليه التجديد، وليس هذا في سبي الزوجة؛

فلا تعفف لها به، وهو في دار الحرب.

والثاني: أن يكون الزوج وحق الرق إنما يجب إذا أخرج المرء من يد نفسه، والمملوك قد يكون له يد في النكاح، فكأنها لم تخرج من يده إذا سبي معها، وإذا لم يسبيا لا يكون لمن في دار الحرب يد في دار الإسلام.

وفي حق الآية عبارة أخرى: أنها إذا سبيت دونه انقطعت عنها عصمة الزوج، وقد جعل اللّه - تعالى - انقطاع عصمته بسبب حل غيره؛ لقوله - تعالى -: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ. . .} إلى قوله {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}، وقد جعل ذلك في الزوج سببًا لقطع عصمته بقوله - تعالى -: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، وعصمة الزوجين عصمة مشتركة، أيهما خرج مسلمًا خرج لئلا يعود، وكذلك المختلف يختلف لئلا يخرج؛ فبطلت العصمة بينهما، وأحل التناكح، ولو خرجا معًا لا، فمثله أمر السبي.

وتأويل آخر: أن يكون قوله - تعالى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية إلى قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية، على ألا يحل وراء الأربع إلا ملك يمين، وعلى هذا في غير ذات الأزواج، وقد روي مثله عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - ويكون في ذلك بيان ما كانت حرمته من حيث العدد، ويختص في النكاح، فإن كان النكاح وملك اليمين فيما كانت الحرمة من حيث المنكوحة يستوي من حيث كانت حرمة العدد بحيث العقد بما فيه من الحقوق التي لا يقوم لها إلا بشر قد عصم، وملك اليمين لا يجب فيه ذلك، وما كانت الحرمة بحيث نفس المرأة تستوي لاستواء الملكين في حق الحل والحرمة.

ووجه آخر: قيل: المحصنات: هن الحرائر، وما ملكت أيمانكم بالنكاح، فذهب من يقول بهذا إلى ما لو لم يذكر " أيمان "، ولكن قال: " المحصنات من النساء إلا ما ملكتم "؛ فيكون التحريم في غير النكاح، لكنه بعيد على المعهود من الكلام أنه لا يتكلم به إلا في ملك اليمين خاصة، ويجوز جعل الأمرين من الإماء على خطر وطء الزانيات على الموالي، واختيار المتعففات منهن لمكان الأولاد.

وقوله - تعالى -: {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ}

قيل: كتب اللّه عليكم ما ذكر مما مر في هَؤُلَاءِ الإناث.

وقال الكسائي: نصب كتاب اللّه على قوله: حرم كذا وأحل كذا، كتاب اللّه عليكم؛ على الأمر؛ يقول: عليكم كتاب اللّه، ودونكم كتاب اللّه، اتبعوا كتاب اللّه، في نحو هذا المعنى.

وقيل: {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ} يقول: هذا حرام اللّه عليكم في الكتاب.

وقيل: هذا التحريم من النكاح قضاء اللّه عليكم في الكتاب.

وقوله - جل وعز -: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} اختلف فيه:

قيل: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي: ما سوى ذلكم، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه؛ دليله قوله: {وَيَكفرونَ بِمَا وَرَآءَهُ}، أي: سواه.

وقيل: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي: ما قبله وأمامه، وهو كقوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}، وهو كان أمامهم.

وقيل: {وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي: بعد ذلك وخلفه، وهو ظاهر.

ومن قال سوى ذلك يقول: أحل لكم ما سوى ذلكم الذي حرم عليكم ما لم يسم لكم.

ومن قال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: أمام ذلك وقبله، وهو ما ذكر قبل هذه المحرمات: قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}.

ومن قال: {مَا وَرَاءَ}: بعد، أي: ما بعد الأربعة الأصناف المحرمة: المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاعة، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، يقول: أحل لكم ما بعد هَؤُلَاءِ الأربعة الأصناف.

وقيل في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}: هن المتعففات من الإماء {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من الإماء المسافحات الزانيات، كأنه قال: فاستمتعوا بالمتعففات منهن ولا تستمتعوا بالزانيات؛ لأنهن يلبسن عليكم النسب، وهو كقوله - تعالى -: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}.

وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} بين اللّه - تعالى - أن النكاح لا يكون إلا ببدل يكون مالًا؛ لأنه قال: {بِأَمْوَالِكُمْ}.

وفي الآية دلالة -أيضًا- على أن ما يملك ولا يقع عليه اسم المال لا يَكْفِيَنَ مهرًا؛ لأنه قال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ولا يسمَّى الدانق والحبة: مالًا، ولو كانت الحبة مالًا كانت التمرة مالًا، فثبت بما وصفنا من دلالة الآية أن المهور لا تكون إلا من الأملاك.

فَإِنْ قِيلَ: روي أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: " قَدْ زَوجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ قيل: تأويله عندنا - واللّه أعلم -: " بما معك من القرآن " أي: من أجل ما معك من القرآن، ولا يجوز أن تكون السورة مهرًا بدليل الكتاب؛ لأنها ليست بمال، وكذلك كل شيء ليس بمال ولا يكون له قيمة، فلا يجوز أن يكون مهرًا، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}، يدل على أن السورة وما لا يتمول لا يكون مهرًا.

وروي عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - تزوج على وزن نواة من

الذهب.

قلنا: وزن نواة من الذهب يكون دينارًا.

فَإِنْ قِيلَ: قد بين في الخبر قيمتها ثلاثة دراهم وثلث، لكن لا ندري من كان المقوم للنواة، ولا يجوز أن يجعل تقويم ذلك المقوم وتفسيره حجة على علمائنا حتى نعلم ذلك، مع ما قال قوم: إن النواة عشرة دراهم، وهو ما قال إبراهيم.

فَإِنْ قِيلَ: روي عن جابر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَعْطَى فِي نِكَاح مِلْءَ كَفهِ طَعَامًا أَوْ دَقِيقًا أَوْ سَوِيقًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ ".

وكذلك يقول أصحابنا - رحمهم اللّه - ولكن يتم لها عشرة دراهم، ولم يقل النبي - - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ولا شيء عليه سوى ذلك مع ما يقول المخالف لنا إذا كان المهر مما لا يتمول لم يكن مهرًا، وملء الكف من الطعام لا يتمول، وإن جعل ذلك مهرًا فقد ترك أصله: أن ما لا يتمول فليس بمهر، فكذلك ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " زَوجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ " ولم يذكر أن ليس عليه سوى ذلك، وأهل العلم مجمعون على أن السورة لا تكون مهرًا.

ومن الحجة لعلمائنا ما روي عن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنه - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةٍ ".

وروي عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم ".

وعن ابن عمر - رضي اللّه عنه - مثله.

على أن أهل العلم أجمعوا أن النكاح لا يكون إلا ببدل، وأنه خالف سائر الأملاك التي توهب ويتصدق بها بغير بدل، وكل يجعل لذلك حدا، وإن اختلفوا في ذلك المقدر والحد، وكل يقول -أيضًا-: إن التافه لا يكون مهرًا، فذهب أصحابنا أن الفروج لما لم تملك إلا ببدل، لم يجعل البدل إلا ما أجمعوا عليه، وهو عشرة دراهم؛ إذ كان النكاح مخصوصًا ألا يملك إلا ببدل دون غيره من الأملاك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}

قيل: متناكحين غير زانين بكل زانية.

وقيل: {بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} أي: عفائف للفروج، وغير مسافحين في العلانية بالزنا؛ وكأنه أمر - عَزَّ وَجَلَّ - ابتغاء النكاح بالأموال، ونهي عن الاستمتاع بغير مال.

وقيل: المسافح الذي يزني بكل امرأة يجدها، والمسافِحَةُ كذلك تزني بكل أحد.

والمتخذات أخدان: هن اللاتي لا يزنين إلا بأخدانهن.

والسفاح من الفعل: ما ظهر وعلا.

مسألة في المتعة:

وقوله - تعالى -: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

ذهب قوم إلى جواز المتعة بهذه الآية؛ يقولون: ذكر الاستمتاع بهن ولم يذكر

النكاح، وذكر الأجر بعد الاستمتاع، والمهر إنما يجب في النكاح بالعقد: يؤخذ الزوج أولا بالمهر ثم يستمتع بها؛ فهو بالمتعة والإجارة أشبه؛ كقوله - تعالى -: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، أمر بإيتاء " الأجرة إذا أرضعن فعلى ذلك: لما ذكر الاستمتاع بهن، وأمر بإيتاء الأجر لا المهر؛ دل أنها نزلت في المتعة.

وأمّا عندنا: فإنها نزلت في النكاح؛ دليله ما تقدم من الذكر، وهو قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} نكاحًا،

وقوله: {مُحْصِنِينَ} هو: متناكحين، {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} هو غير زانين.

وقوله - تعالى -: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} كل ذلك يدل أنه في النكاح، فكذلك قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} في النكاح {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقد سمى اللّه المهر أجرًا؛ كقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}،

وقال: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.

وأما قولهم: ذكر إيتاء الأجر بعد الاستمتاع والمهر يجب بالنكاح - فهو على التقديم والتأخير؛ كأنه قال: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن؛ كقوله - تعالى -: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ}، أي: طلقوهن، -إذا طلقتم- لعدتهن، ونحو ذلك كثير.

وقال أبو بكر الأصم: دل قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} فآتوهن مهورهن كملا، وإذا لم يدخلوا بهن فالنصف بالآية الأخرى؛ فهذا فائدة ذكر الأجور والاستمتاع، وهو بالنكاح أشبه وأولى من المتعة؛ لما ذكرنا من تحريم الأجناس من المحرمات في أولها وإباحتها

في آخرها ما وراء ذلك، وبين -أيضًا- أن الاستمتاع هنا النكاح، وأن الأجر هو المهر؛ لما ذكرنا.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: رحم اللّه عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللّه بها أمة مُحَمَّد؛ فلولا نهيه عنها إيانا ما زنى إلا شقي، وكان يراها حرامًا حلالا.

قال: وكان يقول في حرف أُبي: " إلى أجل مسمى ".

وروي عنه أنه قال: إن الناس هذا قد أكثروا في المتعة، فقال: إنها لا تحل إلا لمن اضطر إليها؛ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير؛ فدل قوله: إنها بمنزلة الميتة على أنه رجع عن قوله الأول؛ فإن كانت المتعة في حال غير الضرورة حرامًا فهي في حال الضرورة حرام، وإنما أحل اللّه المحرم في الضرورة إذا خاف الرجل على تلف نفسه، وليس في ترك الوطء خوف تلف نفسه.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله - تعالى -: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} قال: نسخها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ. . .} الآية.

هذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول.

ومن الدليل على تحريمها قول اللّه - سبحانه وتعالى -: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، فحرم اللّه - تعالى - من الجماع ما عدا النكاح وملك اليمين، والمتعة ليست بملك نكاح، ولا ملك يمين؛ فهي

داخلة في التحريم.

ومن الدليل على تحريمها ما روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية.

وعن سبرة الجهني، عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نهي عن متعة النساء يوم فتح مكة.

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: نهى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية.

وفي خبر آخر أنه كان قائمًا بين الركن والمقام وهو يقول:: إِني كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُم فِي المُتْعَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيءْ فَلْيُفَارِقْهُ، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آَتيتُمُوهُنَّ شَيئًا؛ فَإِن اللّه - عَز وَجَلَّ - قَدْ حَرَّمَهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ".

وعن ابن عمر - رضي اللّه عنه - قال: سمعت عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول في المتعة: لو تقدمت فيها لرجمت.

وعن عبد اللّه قال: المتعة -متعة النساء- منسوخة، نسخها الطلاق، والصداق، والعدة، والمواريث، والحقوق التي تجب في النكاح.

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها إذا ذكر لها المتعة قالت: واللّه ما نجد في كتاب اللّه النكاح والاستسرار، ثم تتلو هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية.

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: متعتان كانتا على عهد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما. فأنكر قوم على عمر - رضي اللّه عنه - إقراره أنهما فعلا في عهد النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونهيه عنهما.

لكن الجواب في ذلك كحكم أنه علم بنهي النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن متعة النساء، وما نزل فيها من نص القرآن؛ فكان وعيده لاحقًا بمن فعلها لعلمه بأنها منسوخة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يحتمل الإجارة.

ويحتمل التسريح بالنكاح أنه إذا كان بعد الاستمتاع يؤتيهن كل المهر؛ لأنه ذكر المهر في النكاح، والبعض بعد الطلاق، فبين الكل في هذا، وأيد هذا التأويل ما كان عليه ذكر المحرمات والإحلال أنه كله بالنكاح، وكذلك على ذلك قوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا}، أن كله في النكاح لا في الإجارة وإن ذكر فيه الأجر كما ذكر للإماء، ولو كان بالإجارة فهو منسوخ بقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}، كان ذلك إجارة وصف أنه بغي، ونهوا عن ذلك.

وبقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}، ذكر أن مُبتَغي وراء ذلك باغٍ بهذا لو عرف بحكم الكتاب، فما ذكرته له ناسخ، ولو عرف بالإخبار، فكانت أخبار الإباحة رويت مقرونًا بها النهي، فمن رام الأخذ بطرف منها على الإغضاء عن الطرف الثاني أعطى خصمه الإغضاء عليه بالطرف الثاني والمنع عما قال به.

ثم امتناع الأمة عن العمل على ظهور الحاجة، ونفور الطباع عن قبول مثله من أحد في المتضدين؛ فاصبر على الحق.

ثم دل ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: نسخه الطلاق والعدة - أن الأول كان نكاحها يمضي بمضي المدة أبطله ارتفاع أحكام النكاح عنه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}.

في الآية دلالة أن الزيادة في المهر جائزة؛ لأن الفريضة هي التسمية.

فَإِنْ قِيلَ: قوله: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ} معناه قوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ. . .}: هو أن تبذل المرأة من مهرها شيئًا للزوج، أو الزوج لها.

قيل: لو كان ذلك كذلك برضاها؛ يعني: رضا زوجها،

وقال: {تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} فجعل للزوج في الرضا نصيبًا، ومعناه - واللّه أعلم - أن الزوج إذا زاد على المهر فذلك جائز، فهذا التراضي إنما يكون منهما جميعًا في الحالين، وذلك أصل الزيادة في المهر، والثمن في البيع، وأشباه ذلك.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يخطب أم سلمة ويقول: " إِنْ كَانَ إِيْمَانُكِ أَنْ أَزِيدَكِ فِي الصدَاقِ زِدْتُكِ، وَإِنْ أَزِدْكِ أَزِدِ النّسوَةَ ".

وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: زدها، فهو أعظم للبركة.

وروي عن عثمان وعمار كذلك.

وقد دل الكتاب والسنة وقول الصحابة على جواز ذلك، فهو الحق، وعلى ذلك جمهور المسلمين في بياعاتهم وتجاراتهم.

ومن الدليل -أيضًا- على جواز الزيادة في الثمن والمهر وأنها تصير كأنها كانت مسماة في عقد البيع -: أن رجلا لو اشترى من رجل عبدًا بيعًا باتًّا، ثم إن أحدهما جعل لصاحبه الخيار يومًا فنقض البيع - أن نقضه جائز، ويصير ذلك كالخيار المشروط في أصل البيع، وكذلك رجل اشترى عبدًا بألف درهم حالَّة، ثم إن البائع أَخلَّ المشترى في الثمن

 شهرًا - كان الأجل جائزا، ويصير كأنهما سميا الأجل في عقد البيع، فوجب أن تكون الزيادة بعد البيع في الثمن، كأنها كانت في عقد البيع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، {عَلِيمًا}، فيما حرم وأحل، {حَكِيمًا} حيث وضع كل شيء موضعه.

٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم}

وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} فقال بعض أهل العلم: لا يجوز تزوج الأمة حتى يعجز عن نكاح الحرة، ويخشى مع ذلك العنت، فإذا اجتمع الأمران فحينئذ يجوز أن يتزوج الأمة، ولا يجوز أن يكون تأويل الآية في هذا؛ وذلك أن الإماء أعز وجودا اليوم من الحرائر، ويجد الرجل حرة يتزوجها بأدنى شيء ما لم يجد بمثله الأمة، إلا أن يقال: إن الإماء في ذلك الزمان أوجد، وإن الحرائر أعز، وإن مؤنة الإماء ومهورهن أقل، فخرج الخطاب على ذلك.

أو أنه لما نزل قوله - سبحانه وتعالى -: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}، رغب السادات في تزويج الإماء بشيء يسير، فعند ذلك نزل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. . .} الآية، وإلا الأمر الظاهر ما ذكرنا أنهن أعز وجودًا من الحرائر وأكثر مؤنة، وأن الحرائر أهون وجودا، ومؤنتهن أقل.

أو أن تكون الآية في الإنفاق عليهن، ليس في ابتداء النكاح، وهو أن الرجل إذا تزوج حرة لزمه أن ينفق عليها شاء أو أبى، فإذا عجز عن الإنفاق عليها يطلقها ويتزوج بأمة؛ إذ نفقة الأمة على سيدها ونفقة الحرة عليه، فأمر أن يطلق الحرة التي نفقتها عليه ويتزوج أمة تكون نفقتها على سيدها، هذا أشبه - واللّه أعلم - مما قاله أُولَئِكَ.

ذلك، أو ما هو أعظم في الوجود.

وأمَّا النفقة والمسكن فقد يكون بمال السيد دون أن يؤخذ به، وفي الحرة هي لا سبيل إليها إلا بمال الزوج، ففيهما بذكر الوجود، لا فيما يستوي الذكر فيه في المتلو.

ثم في الحاجة على ما عليه العرف فيه فضل، ولا قوة إلا باللّه.

والوجه الثاني: ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الحُرةِ " ولو كان يجوز نكاحها عند وجود طول الحرة، لم يكن للنهي عن ذلك بعد النكاح وجه؛ إذ ليس لذلك وجود؛ لما الطول يمنع وجوده.

والثالث: أن الذي به يجب النكاح ليس للوجود شرط فيه، والذي به الإمساك شرط؛ إذ قد يجوز بذمة من لا يملك شيئا ولا يمسك بمثله، ثبت أن ذلك في حق الإمساك.

وبعد: لو كان يمنع بالذي ذكر، لكان جوازه بحق الضرورة، وهذا مما لا يقع به الضرورة، ثبت أن ذلك في حق الإمساك.

ثم لو كان التأويل على النكاح لم يكن في ذلك تحريم النكاح على وجود طول الحرة؛ لخصال:

أحدها: أن ذلك يوجب أن يكون نكاح الإماء يجوز بحق الإبدال والاضطرار، وذلك لا يحتمل حق النكاح؛ لوجوه:

أحدها: أن طريق ذلك طريق إباحة ورخص، والفروج لا تحتمل الإباحات؛ بل الإباحة توجب حد المبيح وعقوبته، وتجعل كمبيح ما لا يملكه.

والثاني: أن الحرمات التي كانت في جميع النكاح كانت ظاهرة لم يرتفع شيء منها لحاجات وكذا نكاح الإماء لو كان من المحرمات، بل الحكم أن كل امرأة لا تحتمل النكاح فهي لا تحل بملك اليمين، فلو قلنا: إنه لا يحل نكاحها لذاتها لم يحل في ملك اليمين، فإذ حلَّت بأن ما ذكرت، وليس كالزيادة على الأربع؛ لأن تلك الحرمة لحق المنكوحة لا لمكان المرأة، وكذلك الأخت ونحو ذلك؛ دليل ذلك جواز ذلك لا بحق

قيل: صار ذلك شرطًا فيه؛ لأنه فرض لزمه بشريطة لم يكن له الخروج والتعدى إلى غيره، وأمَّا النكاح: فليس هو بفرض لزمه بوجود الطول والقدرة والعتاق، وما ذكر فرض لزمه بوجود الطول والقدرة عليه، ويجوز الطعام، لكن لم يسقط الفرض الذي لزمه عنه؛ لذلك صار شرطًا فيه، والأول لم يصر.

فإن قال: ما معنى الآية إذن؟ قيل: معنى الآية على الاختيار والأدب، أو على الإنفاق الذي ذكرنا، أو ألا يختار نكاح الأمة على نكاح الحرة إذا كان له طول الحرة؛ على ما جاء عن عمر - رضي اللّه عنه - قال: أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه، وأيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه. لا يختار نكاح الأمة وله إلى طول الحرة سبيل.

ويجيء أن يكون قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} هو ألا يحمل على الزنا، ولكن يحمل على مخالطتهن الناس واسترقاق الأولاد، فإذا أمنه السيد عن استرقاق الولد، وعن ترك الاختلاط بالناس، فعند ذلك يتزوجها؛ إذ قلوب الناس لا تحتمل اختلاط أزواجهم بالناس واسترقاق الأولاد، فَحَمْلُ العنت على هذا أشبه من الزنا.

ومن الدليل -أيضًا- على ألا يعتبر الطول على التزوج على ما قالوا: إذا تزوج أمة ثم قدر على تزوج الحرة لم يفسد نكاح الأمة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - فعلى ذلك طوله في الابتداء على نكاح الحرة لا يمنع جواز نكاح الأمة، واللّه أعلم.

على أن عدم الطول في الأصل لا يمنع نكاح الحرة؛ إذ المهر شيء يلزم الذمة، وعدم النفقة يمنع الإمساك عنده؛ فدل أن الآية لعدم نفقة الحرة أشبه وأقرب من عدم طول مهر الحرة في الابتداء؛ على ما ذكرنا.

والأصل: أن كل أمر يجوز بشرط الاضطرار؛ فإن ارتفاع الضرورة يمنع البقاء، فإذا لم يمنع بأن أنه لا على الحل بالضرورة، وعلى ذلك يختار لمن تحته حرة مفارقة الأمة؛ إذ بإمساكها رِقُّ الولد الذي يَقْبُحُ في العقل اختياره، ومخالطة الزوجة في الطبع نفار منه، فمثله في الابتداء - واللّه أعلم - مع ما قال اللّه - تعالى -: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وليس عن الذي فيه الضرورة شرط الصبر، ثم القول واحد فيهن بملك المال وهو غائب عنه يخشى العنت إلى أن يبلغ ذلك أنه لا يمنع النكاح، وجميع ما له الحرمة، يستوي غيبة ذلك وحضرته: كنكاح الأمة على الحرة، والأخت على الأخت، ونحو ذلك، مع ما لو

كانت خشية العنت تصير سببًا للحل في شيء لكان ملك الحرة التي هي عنه غائبة؛ إذ لم تصر الضرورة مبيحة، فإذن بأن أن الحرمة لنفس النكاح في الوجود والحل لعدمه لا للسبيل إلى ذلك وغير السبيل.

ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} إنما هو الضيق؛ كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَأَعْنَتَكُمْ}، أي: يضيق عليكم مخالطة الأيتام.

أو الإثم؛ كقوله - تعالى -: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، وكل رجل فيه وسع الاستمتاع فهو يخشى الإثم، فيجيء أن يباح له على كل حال، أو يرجع إلى الضيق؛ فيكون المقصود منه الإمساك دون العقد، واللّه أعلم.

ثم خشية الزنا يحتمل أن يصير شرطًا للحل، وقد حصل له عقوبة، فيها أبلغ الزجر لمن عقل من: رجم أو حد، بل يفرض عليه اتقاء ذلك بكل وجوه الإمكان، ومعلوم أن اللّه قد جعل عنه بغير النكاح سبيلا في الاستمتاع، أيضًا، وقد جاء -أيضًا- الأمر بالصيام بأنه له وجاء، فإنما خشية ذلك خشية حظر، لا حقيقة، فلم يجز أن يجعل عذرًا لرفع الحرمات ولقدر عليه بالمباح من الصيام.

القول في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، نقول - وباللّه التوفيق -: تحتمل الآية وجهين:

أحدهما: طول عقد النكاح أمن ملك المهر. والثاني: طول إمساك الحرة؛ للاستمتاع من النفقة والكسوة والمسكن، وهذا الوجه أحق؛ لأوجه: أن طول عقد النكاح، مذكور -أيضًا- في نكاح الأمة، بقوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ومعلوم وجود الحرة بالمهر الذي يوصف في المعروف من المهور، بل لعل ذلك في الحرائر أوجد؛ إذ قد جاز نكاح الحرائر بالأشياء الضعيفة، ومعروف وجودهن في كل عصر بدون ما يوجد من مثله الإماء، فمحال أن يشترط في نكاح الإماء عدم ما لا يوجد السبيل إليه إلا بوجود

ذلك، أو ما هو أعظم في الوجود.

وأمَّا النفقة والمسكن فقد يكون بمال السيد دون أن يؤخذ به، وفي الحرة هي لا سبيل إليها إلا بمال الزوج، ففيهما بذكر الوجود، لا فيما يستوي الذكر فيه في المتلو.

ثم في الحاجة على ما عليه العرف فيه فضل، ولا قوة إلا باللّه.

والوجه الثاني: ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " لا تُنْكَحُ الأَمَةُ عَلَى الحُرةِ " ولو كان يجوز نكاحها عند وجود طول الحرة، لم يكن للنهي عن ذلك بعد النكاح وجه؛ إذ ليس لذلك وجود؛ لما الطول يمنع وجوده.

والثالث: أن الذي به يجب النكاح ليس للوجود شرط فيه، والذي به الإمساك شرط؛ إذ قد يجوز بذمة من لا يملك شيئا ولا يمسك بمثله، ثبت أن ذلك في حق الإمساك.

وبعد: لو كان يمنع بالذي ذكر، لكان جوازه بحق الضرورة، وهذا مما لا يقع به الضرورة، ثبت أن ذلك في حق الإمساك.

ثم لو كان التأويل على النكاح لم يكن في ذلك تحريم النكاح على وجود طول الحرة؛ لخصال:

أحدها: أن ذلك يوجب أن يكون نكاح الإماء يجوز بحق الإبدال والاضطرار، وذلك لا يحتمل حق النكاح؛ لوجوه:

أحدها: أن طريق ذلك طريق إباحة ورخص، والفروج لا تحتمل الإباحات؛ بل الإباحة توجب حد المبيح وعقوبته، وتجعل كمبيح ما لا يملكه.

والثاني: أن الحرمات التي كانت في جميع النكاح كانت ظاهرة لم يرتفع شيء منها لحاجات وكذا نكاح الإماء لو كان من المحرمات، بل الحكم أن كل امرأة لا تحتمل النكاح فهي لا تحل بملك اليمين، فلو قلنا: إنه لا يحل نكاحها لذاتها لم يحل في ملك اليمين، فإذ حلَّت بأن ما ذكرت، وليس كالزيادة على الأربع؛ لأن تلك الحرمة لحق المنكوحة لا لمكان المرأة، وكذلك الأخت ونحو ذلك؛ دليل ذلك جواز ذلك لا بحق

الإبدال والاضطرار، إذا عدم نكاح غيره.

وبعد: فإنه لم يجعل في شيء من الحل والحرمة المال؛ بل قال - تعالى -: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا. . .} الآية؛ صير العدم شرط الترك، وله قد يفسخ، لا أنه شرط الإباحة، فكذلك أمر نكاح الإماء.

والثالث: إذ الأصل في إضافة الحل والحرمة إلى حال أنه لا يوجب ضد ذلك في غير تلك الحال؛ بل هو في غيرها موقوف على قيام الدليل من ذلك المضاف إليه أو غيره، لا أنه يوجب ذلك؛ دليل ذلك أمور النكاح؛ قال اللّه - تعالى - لنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ}، لا أنه لو لم يؤتهن الأجور لم يحللن، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ. . .} الآية؛ لأن الحد لا يجب لو لم يحصن، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لا على جعل الإيمان شرطا، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، لأن الأمة لا تحل إذا لم يخف العدل في الحرائر، وغير ذلك مما يكثر؛ إذ ليس في إضافة الحل إلى حال قطعه عن غيره، فمثله أمر النكاح فيما نحن فيه.

ثم احتج بعضهم بالآيات التي فيها: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}، لتوجيه ذلك الحق هاهنا وقد دخل جواب هذا فيما قلنا: إن الحكم في غيره موقوف على الدليل فيه منعنا لا بهذا، مع ما بينا دليل ما نحن فيه ليس بشرط؛ ألا ترى أنه ذكر شرط الإيمان في المحصنات؟! ومن لم يصر شرطًا وقد صار في الكفارات ونحو ذلك؛ فمثله ما نحن فيه.

ثم الفصل بين الأمرين يقع من وجوه:

أحدها: أن تلك بحق الإبدال والاضطرار؛ دليله: زوال حكمه عند الارتفاع وفي هذا إلا ألا يرتفع لنكاح الحرة؛ فلذلك اختلف الأمران، ولو جعلنا الأمر به في حال أو الإشارة بالحل إليها دليلًا على النهي عن ذلك كان نهيا عن نكاح الإماء في حال طول الحرائر؛ فلا يحتمل أن يكون النهي مبطلا للفعل لأوجه:

أحدها: أن المعنى الذي له يقع النهي كان معقولاً، وبمثله لا يحتمل الفساد، وذلك يخرج على وجهين:

أحدهما: أن يرق ولده.

والثاني: أن تخالط امرأته الرجال، وذلك بعض ما يشين الرجل.

ثم كان نكاح الزانية مع النهي عن ذلك يجوز، ومع الأمر بطلاقها ومعلوم أن ذلك أعظم في الشين؛ إذ قد ظهر به ما يخافه في المملوكة، ويصير ولده مشتوما بأمه ما هو أوخش في العقول من كل رق وعبودة ويقال له: يا ابن الزانية، وذلك -أيضًا- تلبيس النسب وشبهه، ثم لم يجب به الفساد؛ فأمر المملوكة بالأحرى.

وأيضا لم يختلف على نهي الحرمة عن نكاح العبيد، وله يفرق الأولياء، ويصرف حق نسب الآباء إلى الموالى؛ إذ معلوم أن الطعن عليهن في الخلاف قبح منه عليهم، ثم لم يمنع ذلك جواز النكاح؛ فمثله ما نحن فيه.

وأيضًا إن الحرمة على وجهين: حرمة لنفس المنكوحة أو الاستمتاع وحرمة لحق النكاح، وكل محرمة لذاتها فهي لا تحل بملك اليمين ولا بملك النكاح، وما كانت الحرمة بحيث النكاح تحل، فإذا كانت الأمة تحل بملك اليمين ثبت أن حرمتها ليست لنفسها ولا للاستمتاع فهي تحل بملك اليمين، بل حلها في الأصل بملك النكاح أحق؛ إذ

ليس إلا للاستمتاع، فإذا حلت به فبالأحرى أن تحل بالنكاح، ثم قد يحرم للنكاح أشخاص ألا يحر من للأموال بحال، فكذا ما نحن فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل - واللّه أعلم -: حقيقة إيمانكم، وأنتم لا تعلمون ذلك.

ويحتمل - واللّه أعلم -: بإيمانكم، وغيره لا يعلم حقيقة ذلك.

وفيه لزوم العمل بالظاهر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.

يحتمل: بعضكم من بعض في الدِّين.

ويحتمل: بعضكم من نسب بعض؛ فهذا يدل على أن بعضهم من دين بعض، ومن نسب بعض؛ فليس لبعض على بعض فضل من جهة الدِّين والنسب؛ إذ نسبهم ودينهم واحد، وليس للحرة على الأمة فضل من هذا الوجه.

وفي قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}

قيل: إن قوله {أُحْصِنَّ} تزوجن، وقيل أسلمن.

فكيفما كان التأويل لم يصر الإحصان شرطا في لزوم ذلك العذاب؛ لأنها إذا كانت على غير هذا الوصف لزمها ذلك الحكم؛ دل أن وجوب ذلك الحكم في حال على وصف - لا يمنع وجوب الحكم في حال أخرى على غير الوصف الذي وصف في تلك الحال، وهذا بالمخالف لنا ألزم؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}، أن النهي وقع على جميع المشركات: كتابيات وغير كتابيات، ثم صار الكتابيات منسوخة بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، ثم قال: إذا كان له طول محصنة كتابية لم يحل له نكاح الأمة المؤمنة، وقد أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمة المؤمنة خير من مشركة، وهو يقول: بل المشركة خير من الأمة؛ فهذا يدل على اضطراره في قوله على مذهبنا ما قلنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} الآية، على المشركات خاصة من غير الكتابيات عندنا؛ دليله: قوله - تعالى -: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ. . .}، ذكر المشركات وذكر الكتابيات؛ دل هذا أن المشركات في هذه الآية غير الكتابيات، وقد ذكرنا الوجه في ذلك في صدر السورة ما يغني عن ذكره في هذا الموضع.

فإن كان ما ذكرنا - حل له أن يتزوج كتابية محصنة كانت أو أمة، وقد أقمنا الدليل على أن ليس في ذكر الإيمان فيهن دليل جعله شرطًا في جواز نكاحهن؛ على ما لم يكن في ذكر الإيمان، في المحصنات من المؤمنات دليل جعل الإيمان فيهن شرطًا.

وقوله: {وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ}، أي: هو أعلم بحقيقة إيمانهن وأنتم لا تعلمون حقيقته، وإن كان أثبت لنا علم الظاهر بقوله - تعالى -: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ)، أمرنا بالعمل بعلم الظاهر، لا بعلم الحقيقة بقوله: {اللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}؛ فهذا يدل على أن الإيمان هو عمل القلب، لا عمل اللسان؛ لأنه لو كان عمل اللسان لكان يعلم حقيقته كل أحد؛ فظهر أنه ما وصفنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} قيل فيه وجوه:

بعضكم من بعض في الولايات في الدِّين، كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

وقيل: بعضهم من بعض في النسب؛ إذ كل منهم من أولاد آدم.

ويحتمل: بعضكم من بعض قبل الإسلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}

أي: بإذن ساداتهن؛ سفى السادات أهلا لهن؛ دل أنهن من أهلهم.

وفيه أن للمرأة أن تزوج نفسها إذا أذن لها وليها؛ الأن اللّه - تعالى -، قال {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} فلو كان أهلهن هم الذين يُنكحونهن - لم يكن لطلب الإذن معنى.

وفيه أن للمرأة ولاية النكاح؛ لأنه قال: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، والمرأة إذا كانت لها جارية، لها أن تزوج من غيره، وهذا في النساء أولى لأن الرجل إذا كانت له جارية - يستمتع بها ولا يزوجها من غيره، والمرأة إذا كانت لها جارية هي التي احتاجت إلى تزويج جاريتها؛ لذلك كان في هذا أولى.

وفيه أن ليس للعبد ولا للأمة أن يتزوج إلا بإذن السيد، وكذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَيمَا عَبدٍ تَزَوجَ بِغَيرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ ".

وقال بعض أهل العلم: قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} إذا كن مؤمنات؛ على ما سبق من ذكر الإيمان بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّه أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} لكن هذا وإن كان نهيًا عن نكاح الإماء إذا كن غير مؤمنات لم يدل ذلك على فساد نكاحهن إذا كن غير مؤمنات؛ ألا ترى أن النساء نُهِينَ عن تزويج أنفسهن من العبيد، وذلك مما يشينهن، ثم لم يمنع ذلك النهي عن التزويج منهم؛ فعلى ذلك لا يمنع شرط الإيمان فيهن والنهي عن نكاحهن - فساد النكاح ولا بطلانه، وكذلك الرجل نهي أن يتزوج كتابية حرة وهو واجد الحرة المؤمنة. ثم مع ما نهى عن نكاحها - إذا فعل ذلك جاز النكاح، فعلى ذلك الأول.

وكذلك قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ}، ذكر الصلاح فيهم، ثم إذا كانوا على غير ذلك الوصف جاز؛ فكذلك الأول.

وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ}

ذكر الإحصان فيهن، ثم لم يصر الإحصان فيهن شرطًا في جواز النكاح؛ لأنهن إذا كن

غير محصنات يجوز نكاحهن؛ فعلى ذلك الأول، ولو كان الطَّوْل والقدرة مما يمنع جواز نكاح الإماء -وجواز نكاح الإماء بمعنى البدل- لكان إذا تزوج أمة ولم يكن له طول على نكاح الحرة في ذلك الوقت، ثم كان الطول على نكاح الحرة - يجيء أن يفسد النكاح؛ لأنه إذا منع الابتداء يمنع القرار في ملكه؛ فإذا لم يمنع دل أنه ليس على حكم البدل؛ إذ الأبدال ألا قرار لها ولا ثبات، عند وجود الأصول؛ دل أنه ليس عنه؛ ولكن على الاختيار والتأديب ألا يختار نكاح الإماء على الحرائر والمسافحات على المحصنات، ولا يختار المشركات على المؤمنات.

فَإِنْ قِيلَ: إنكم تمنعون من نكاح الأمة على الحرة، ثم لا تفسخون نكاح الأمة إذا كانت عنده أمة فتزوج حرة.

قيل له: إنما يمنع عن نكاح الأمة على الحرة لحق حرمة الجمع: كالجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، فأما إذا لم يكن ثَمَّ جمع لا يمنع، وهذا ليس بجمع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}

بإذن أهلهن على ما ذكر الإذن في النكاح بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}.

ويحتمل -أيضًا- أن يؤتى أجرها وإن لم يأذن له مولاها، إذا كانت الجارية ممن يحفظ مال سيدها ويتعاهده؛ إذ الناس يشترون المماليك لحفظ أموالهم وصون أملاكهم، نحو ما جاء من الوعيد عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّكُم رَاعٍ، وَكُلُّكُم مَشئُولٌ عَنْ رَعيتهِ، حَتى العَبد عَنْ مَالِ سَيدِهِ ".

فإذا كان ما وصفنا - لا بأس بأن يدفع الأجر والمهر إليها إذا كانت هي ممن تحفظ ماله وتصونه.

ثم من الناس من استدل بقوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على حقيقة الملك للمماليك، ويبيح لهم التمتع بالجواري، وبقوله - تعالى أيضًا -: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}، لو لم يملكوهم حقيقة الملك - لم يكن لوعد الغنى لهم معنى؛ لأنه لا يقع لهم الغنى أبدا، وكانوا لا يملكون؛ دل أنهم يملكون حقيقة الملك وأما عندنا فإنهم لا يملكون حقيقة الملك؛ استدلالا بقوله - تعالى -: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}، أخبر أن ليس لهم فيما رزقهم شركاء مما ملكت أيمانهم؛ دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك.

فإن قالوا: أليس يملكون التمتع في النكاح إذا ملكوا ما منع -أيضًا- أن يملكوا رقاب الأشياء إذا ملكوا؟

قيل: إن السادات لا يملكون من المماليك رقبة ما يتمتع به بالأسر؛ ألا ترى أن السيدة لا تملك من عبدها التمتع به؛ دل أن ملك ذلك للعبد خاصة؛ لذلك ملك ملك التمتع في النكاح.

وأمَّا قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}، بغناء ساداتهم؛ إذ مقدار ما يطعمون ويشربون مما جعل لهم الانتفاع به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ما ذكرنا من الإذن من أهلهن، أو لما جعل النهي حفظ الأموال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِالْمَعْرُوفِ}

قيل: مهر غير مهر البغي، وقيل: هو المعلوم.

وقوله - تعالى -: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}

وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}

قيل: فإذا أسلمن.

وقيل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}: فإذا تزوجن.

ويحتمل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}: فإذا بلغن مبلغ النساء.

وقيل: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي: عففن، وتأويله - واللّه أعلم -: ما ذكره في أول

الآية.

وقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}، أنهن إذا تركن للتعفف، ولم يكرههن على البغي - فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب؛ فهن الحرائر؛ لأن عذاب المتزوجة إذا دخل بها زوجها - الرجمُ، ولا نصف للرجم، وإنما حد الأمة الجلد؛ فلا يجوز أن يكون المحصنات في هذا الموضع ذات الأزواج؛ لأن عذاب ذات الأزواج الرجم، ولا نصف له؛ دل أنه أراد بالإحصان: الإسلام.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وسعيد بن جبير، وجماعة من أهل العلم: أن لا حد على الأمة حتى تتزوج.

وأما عندنا: فإن عليها الحد؛ لما رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر بجلد الأمة إذا زنت وإن لم تنزوج؛ فذلك حجة لقول من قال: إحصانها إسلامها، وهو ما رُويَ عن أبي هريرة، وزيد بن خالد، وشبل - رضوان اللّه عليهم - قالوا: كنا عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فسأله رجل عن الأمة تزني قبل أن تحصن؟ قال: " اجْلِدْهَا؛ فَإِنْ زَنَتْ فَاجْلِدْهَا. . . " ثم قال في الثالثة أو الرابعة: " فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ ".

هذ الخبر يدل على أن الأمة إذا زنت تجلد وإن لم تتزوج.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}

أي: وإن تصبروا ولا تتزوجوا الإماء فهو خير لكم؛ لأن أولادكم يصيرون عبيذا؛ فهذا يدل اعى أن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} - كله على الاختيار، ليس على الحكم ألا يختار، ولا على أنه إذا فعل لا يجوز.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ}

يحتمل وجهين:

 يحتمل: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ حيث كفر عنكم ما ارتكبتم في الدنيا بالعذاب الذي يقام عليكم، ولم يجعل عذابكم في الآخرة؛ إذ عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، وذلك من رحمته.

ويحتمل: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} من رحمته أن يجعل الحدود في الدنيا زواجر عن العود إلى ارتكاب مثله من الأفعال.

٢٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}

يحتمل قوله: يريد اللّه أن يبين لكم ما تؤتون وما تنفقون، وما لكم وما عليكم، ويبين ما به صلاحكم ومعاشكم في أمر دينكم ودنياكم، لكن حقيقة المراد بالآية: إما أن يكون أراد جميع ما ذكر، أو معنى خاصا مما احتمله الكلام، وليس لنا القطع على ما أراد به.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}

يحتمل وجوهًا:

أي: يبين لكم سبيل الذين من قبلكم، أي: سبيل الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأهل الهدى والطاعة منهم؛ ليعلموا ما عملوا هم وينتهوا عما انتهوا، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}: سبل الذين من قبلكم.

ويحتمل: قوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: أمر الرسالة والنبوة؛ ليهديكم مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو رسول؛ إذ أمر الرسالة والنبوة ليس ببديع، قد كان في الأمم السالفة رسل وأنبياء - عليهم السلام - فأمر رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونبوته ليس ببديع ولا حادث؛ كقوله - تعالى -: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ}.

ويحتمل قوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: يبين لكم أن كيف كان سنته في الذبن خلوا من قبل في إهلاك من عاند اللّه ورسوله، واستئصال من استأصلهم بتكذيب

الرسل والأنبياء - عليهم السلام - والخلاف لهم؛ كقوله - تعالى -: {سُنَّةَ اللّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}، وقوله - تعالى -: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ}.

وقيل: {سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} شرائع الذين من قبلكم من المحرمات والمحللات: من أهل التوراة، والإنجيل، والزبور، وسائر الكتب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتوُبَ عَليكُم}

أي: يريد أن يتوب عليكم.

وفي قوله - تعالى -أيضًا-: {سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يحتمل: يهديكم تلك السنن، أي: يبينها لكم أنها كانت ماذا؟

ويحتمل: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} بمعنى: جعل تلك السنن هداية لكم. ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِكُمْ} يحتمل: سنته وسيرته في الذين من قبلكم؛ لتعتبروا بها.

ويحتمل: سنتهم التي لزموها، وسيرتهم التي سلكوها بما لها من العواقب؛ لتتعظوا بها، واللّه أعلم بحقيقة ما انصرف إليه مراد الآية، لكن فيما احتمله، فهاهنا موعظة بيناها فيه، وعلى ذلك معنى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} يحتمل: كل ما به لنا نفع، أو كل ما بنا إليه حاجة، أو كل ما علينا القيام به، أو يرجع ذلك إلى الخاص مما يريد بالآية الإخبار عنه، وأن الذي علينا النظر فيما قد يفضل البيان عنه، وفيما أنبأنا عن سنته فيمن تقدمنا مما نرجو به الهداية والشفاء؛ للقيام بما علينا في ذلك من الحق دون الشهادة عليه - جل ثناؤه - بالمراد فيها في مخرج الكناية دون التصريح من الموعود.

وقوله - تعالى -: {لِيُبَيِّنَ} وأن يبين في مفهوم الخطاب فيما جرى به الذكر في هذه الآية واحد؛ إذ لو كان ذكر " أن " لسبق إلى الفهم غير الذي سبق في هذا على حق العباد من التفاهم، واللّه أعلم.

ثم كان معلومًا فيما أراد بقوله: {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} أنه لو لم يبين ما أراد بهذا الوعد ولم يهد - أنه كان يلحقه الخلف في الوعد؛ فعلى ذلك فيمن قال: يريد اللّه أن يتوب عليكم، ويريد اللّه أن يخفف عنكم: لو لم يكن يخفف ويتوب على من أريد بقوله: يتوب ويخفف عنكم - يلحقه الخلف في الوعد، ثم يخالف وصف كافر في حال

 أنه ممن تاب اللّه عليه؛ ثبت أنه لم يدخل في قوله - سبحانه وتعالى -: {وَاللّه يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}

فإذا ثبت أنه لم يدخل فيه وجب فيه أمران:

أحدهما: أن الإرادة ليست بأمر؛ إذ قد أمر الكافر بالتوبة.

والثاني: أن كل من لم يتب فهو ممن لم يرد اللّه أن يتوب عليه، وهو في قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}، على أن اللّه - تعالى - قال في المؤمنين: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الْآخِرَةَ}، وقال في الكفار: {يُرِيدُ اللّه أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ}، على التفريق بين الذي في علمه أن يختم مؤمنا، ومن في علمه أن يختم كافرا، على أن إرادة الهداية مع إرادة ألا يجعل له الحظ في الآخرة على الموعود - خلف، وإرادة من لا تدبير له في فعله، ولا يتصل به فعله - تمنٍّ في متعارف الأمر وتشهٍّ، ولا يجوز أن يضاف إلى اللّه - تعالى - الإرادة من هذا الوجه؛ فكان له حق الإرادة وهي التي يوصف بها من فعله الاختيار ثبت أن للّه - تعالى - في فعل العباد فعلا: بحيث فعله يوصف بالإرادة، وفي ذلك وجوب القول بخلق أفعال العباد.

أو أن يكون المراد من تلك الإرادة - إذا لم تحتمل التمني، ولا الأمر - أن تكون الإرادة التي تنفي القهر والغلبة؛ فيلزم إذا ثبت نفي القهر - الوصفُ بالإرادة، وثبت أنه مريد لكل فعل نفي عنه القهر في وجوده، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه عَلِيمٌ}

بما يؤتي وينفي، عليم بما به معاشكم وصلاحكم، وما به فسادكم وفساد معاشكم، ونحوه.

{حَكِيمٌ}

وضع كل شيء موضعه، واللّه أعلم.

٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... (٢٧)

قالت المعتزلة: قد أراد اللّه - تعالى - توبة من لا يتوب؛ فيقال لهم: ما التوبة

 عندكم؟ أليس عندكم التوبة: التجاوز والدعاء؟ فإذا وعد أن يتوب ولم يفعل - فهل ترك ذلك لا بعجز أو ذلك إلا لعجز أو بداء به، أو ذلك الوصف له بالعجز أو الجهل، فنعوذ باللّه من الزيغ عن الحق، والسرف في القول.

وأما تأويله عندنا: واللّه يريد أن يتوب عليكم في الذي علمه أنهم يتوبون، أو كان ذلك إخبارًا عن قوم أراد اللّه أن يتوب عليهم فتابوا.

وقال قوم: قوله: {وَاللّه يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: يأمر أن يتوبوا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} الآية.

أي: من اختار الدنيا على الدِّين، والأولى على الآخرة؛ لهوى يتبعه، وشهوة تغلبه، لا لتقصير من اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن البيان؛ بل لتركهم النظر والتأمل بالعواقب غلبت عليهم شهواتهم، واتبعوا أهواء أنفسهم: إما رياسة طلبوها، وإما سعة في الدنيا بغوها؛ فذلك الذي يمنعهم عن النظر في العاقبة، والتأمل في الآخرة؛ لذلك مالوا ميلا عظيمًا، وخسروا خسرانًا مبينًا، وضلوا ضلالاً بعيدًا.

٢٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُ اللّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... (٢٨) يحتمل هذا: أنه خفف علينا، ولم يحمل ما حمل على الأمم السالفة من الإصر والشدائد والأثقال والمشقات، مما جعل

 توبتهم قتلَ بعضهم بعضًا، وجعل توبتنا الندامة بالقلب، والرجوع عما ارتكبوا.

أو أن يقال: خفف عنا؛ حيث لم يستأصلنا، ولم يهلكنا بالخلاف له وترك الطاعة، على ما استأصل أُولَئِكَ وأهلكهم.

ويحتمل التخفيف عنا -أيضًا-: وهو ما خفف علينا من إقامة العبادات والطاعات، من نحو: الحج، والجهاد، وغيره، حتى جعل القيام بذلك أخف على الإنسان وأيسر من قيامه بأخف العبادات أوالطاعات، وأيسرها، وذلك من تخفيف اللّه علينا وتيسيره؛ فضلا منه ورحمة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}

يحتمل: أن يكون أراد به الكافر؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}، وكقوله - تعالى -: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}، وقد قيل: كل موضع ذكر فيه الإنسان فهو في كافر من ضعفه يضيق صدره، ويمل نفسه بطول الترك في النعم حتى يضجر فيها.

ويحتمل: أنه أراد به الكافر والمسلم، ووضعُه في ابتداء حاله أنه كان ضعيفًا؛ كقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ}.

ويحتمل وصفه بالضعف له؛ لأنه ضعيف في نفسه، يمل من الطاعات والعبادات التي جعل اللّه عليه، ليس كالملائكة؛ حيث وصفهم أنهم لا يفترون ولايستحسرون، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}، ولا كذلك بنو آدم.

٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}

الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى؛ لأنه استثنى التجارة عن تراضٍ من أكل المال بالباطل بينهم، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز؟! لكنه يحتمل - واللّه أعلم - أن يكون على الابتداء والائتناف؛ كأنه قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، استثنى السلام، والسلام ليس من جنس اللغو، لكن معناه ما ذكرنا: لا يسمعون فيها لغوًا، ولكن يسمعون فيها سلامًا.

ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام؛ كقوله - تعالى -: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ)، دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصة؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي غيرهم أقوام مجرمين؛ دل الثنيا على مراد الخصوص؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم - على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض، وإن كان -في الحقيقة- يصير مال هذا بمال هذا، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه؛ فيلزمه بدله؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصًا؛ فهو -في الحقيقة- تجارة.

أو يحتمل: أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا - كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب.

وفيه دليل: أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل، وترك الشيء بالشيء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}، ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر، ثم سمى ذلك تجارة بقوله - تعالى -: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.

وفيه دلالة: أن البيع يتم بوقوع التراضي بين المتبايعين، وليس كما قال قوم: لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان؛ فكانوا تاركين - عندنا - لظاهر هذه الآية، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الْمُتَبَايِعَانِ بِالخيَارِ مَا لَم يتَفْرَّقَا " - لكن معناه عندنا: أن يقول الرجل للرجل: بعتك عبدي بكذا، فلصاحبه أن يقول: قبلت البيع، ما دام في مجلسه.

أو يحتمل: أن يكون إذا قال: بعتك، كان له الرجوع قبل أن يقول الآخر: قبلت.

على أن قوله - عليه السلام -: " مَا لَم يتَفْرَّقَا "، لا يوجب أن يكون تفرقًا عن المكان وتفرق الأبدان؛ ألا ترى أن اللّه - سبحانه وتعالى - قال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}، ولا يفهم المعنى من ذلك تفرق المكان والأبدان؛ ولكن وقع ذلك على القول والطلاق.

على أن في الآية بيان تمام البيع بوجود التراضي بقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. ومما يدل على ذلك -أيضًا-: قوله - تعالى -: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، فلو كان البيع لا يتم بالتراضي؛ فمتى يشهد: قبل التفرق أو بعد التفرق؟ إن أشهد قبل التفرق، فهل المقر صادق في أن لصاحبه عليه الثمن أو كاذب؟ إذ كان البيع لم يتم، وما ينفعه الإشهاد إن كان للمقر أن يبطل إقراره برد السلعة.

وإن كان إنما يشهد بعد التفرق فقد يجوز أن يتلف المال بالتفرق قبل الإشهاد؛ فأين التحصين الذي أمر اللّه تعالى؟!

ومما يدل على تأويلنا في الخبر: ما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا مِنَ بَيعِهِمَا، أَوْ يَكُونُ بَيّنَهُمَا خِيَارٌ "، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَيعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَم يَتَفَرقَا، وَلَا يَحِل لِأَحَدٍ أَنْ يُعَجلَ فِرَاقَهُ خشية أَنْ يَستَقيلَهُ ".

وقوله: " يستقيله " يدل على أن ليس له أن يرده إلا بأن يقيله صاحبه؛ ويدل قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَالَم يَتَفْرقَا مِنْ بَيعِهِمَا " - على أن التفرق هو الفراغ من عقد البيع لا غيره.

ومما يدل على أن الخيار ليس بواجب: قول عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - إن البيع عن صفقة أو خيار؛ فكان موافقًا لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - يقول: دل قوله - تعالى -:

{لَا تَأكُلُوا. . .} إلى قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} - على الإذن في الأكل إذا وجدت التجارة عن تراض من الناس، والتجارة معروفة عند جميع من له عقل، ومعروف أن تفرق

المتعاقدين بعد الفراغ من العقد لم يعرف -فيما هو عند الخلق- تجارة، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة، وقد أذن في الأكل، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا، وأيد ذلك قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد، لا التفرق، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر، وكل أهل التبايع به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود، ولا يجوز شذوذ العلم بحق ذلك محله؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أئمة الهدى، لا ينتهون عن ذلك، واللّه أعلم.

فإذا لزم ذا الولاء المروي من الخيار: أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه، بل لعله بغيره أولى، ثم يخرج على وجوه:

على إضمار: حُقَّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل، لا في حق العبادة عن واجب؛ دليله رواية عبد اللّه بن عمر - رضي اللّه عنه - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَم يتَفْرقَا ".

أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه؛ خشية أن يستقيله؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب - كالفسخ في الاستقالة، واللّه أعلم.

والثاني: أن يريد به: ما داما في التبايع؛ دليل ذلك احتمال اللفظ في قوله - سبحانه -: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، والإشهاد على التبايع، والتبايع هو فعل اثنين، وقد ثبت منهما مع الفراغ - الإشهاد على التبايع، وهذا أحق بوجوه:

أحدها: حق اللغة أنه اسم التفاعل، وهو اسم لفعلهما؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه: كالتضارب، والتقاتل، ونحو ذلك، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل.

والثاني: بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " البَيعَانِ بِالْخِيارِ مَا لَمْ يَتَفَرقَا مِنْ بَيْعِهِمَا، وَبَيْعُهُمَا مَعْرُوفْ "، واللّه أعلم.

والثالث: متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان، واللّه أعلم.

والرابع: أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح، وإذا تفرقا لا، وهو أولى؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطًا للفساد ومنع الإصلاح، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض؛ فهو على الوجود قبل التفرق، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر: اختر - انقطع خياره لو كان تفرقا من القول، وليس فيه زيادة على ما في قوله: بعت منك، في حق الإصلاح؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح، لا للإصلاح - واللّه أعلم -

قوله: إن للناس عرفًا في التبايع من وجهين:

أحدهما: في التعاقد.

والثاني: في التقابض؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما، وجاز ذلك -أيضًا- بحق الآية في الإباحة عن تراض، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع؛ كقوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}

وقوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}، وذلك مع قوله - سبحانه وتعالى -: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}، وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية؛ إذ قد جعل الرضا سببًا، وهو بما يجهل غير محق، وإنَّمَا يعلم بالرؤية.

وفيه أنه بالقبض يمضي حق العقد؛ إذ التجارة للأكل، ولا يوصل إليه إلا بالقبض، فإذا فات، فات ما له التجارة؛ فيبطل، واللّه أعلم.

وفي قوله -أيضًا-: " تبايعا " وإن كان اسما لفعل اثنين، فلما يتصل صحة كلام كل

 واحد منهما إذا كان الآخو حاضرا؛ فكأنهما اشتركا في صحته؛ فصارا به متبايعين، نحو قوله: حتى يتفرقا، والتفرق اسم لفعل اثنين، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه - فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما بجنب الآخر؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما، واللّه أعلم.

وقوله - جل وعز -: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}

يحتمل وجهين:

أي: لا يقتل بعضكم بعضًا؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه وإلا لم يقتل به.

والثاني: أنه أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة؛ إذ كلهم من جنس واحد، ومن جوهر واحد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}

أي: من رحمته: أن جعل لكم فيما بينكم القصاص، وأخذ النفس بالنفس، والمال بالمال، وفي ذلك حياة أنفسكم، وإبقاء أموالكم.

ومن رحمته -أيضًا-: أن جعلكم من جوهر واحد؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره، ويسكن إليه، واللّه أعلم.

ومن رحمته: أرسل إليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب، وأوضح لكم السبل.

ومن رحمته: أن أمهل لكم، وستر عليكم، ودعاكم إلى المتاب.

ومن رحمته: دفع عنكم الآفات، وأوسع لكم الرزق، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا، وسلموا عن كل داء.

٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا ... (٣٠) عدوانًا لمجاوزته حدود اللّه، وظلمًا على صاحبه. والعدوان هو التعدي والمجاوزة عن حدود اللّه؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه}.

ويحتمل قوله: (وظلمًا) على نفسه؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، وقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، وقوله - تعالى -: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.

وهذا الوعيد - واللّه أعلم - لما يفعل ذلك مستخفا بحدود اللّه واستحلالا منه لذلك؛ وإلا لو كان ذلك على غير وجه الاستخفاف بها والاستحلال لها - لم يستوجب هذا الوعيد؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} إنما جاء هذا في قتلى العمد، ثم أبقى الأخوة فيما بينهما، وأخبر أن ذلك تخفيف منه ورحمة، وفيما كان الفعل منه فعل الاستخفاف والاستحلال لا يجوز أن يكون فيه منه رحمة، ويخلد في النار؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}، إذا قتله مستحلا له مستخفا بتحريم اللّه إياه؛ فاستوجب هذا الوعيد، وأما من فعل على غير الاستحلال والاستخفاف بحدوده فالحكم فيه ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى، أيضًا -: {عُدْوَانًا وَظُلْمًا} يحتمل: الاستحلال؛ دليله قوله - عز وجل -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} ثم قال - عز وحل -: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}،

وقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فأبقى الأخوة التي كانت بقوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}؛ فثبت أن الأيمان بعدُ باق فأبقى له الرحمة والأخوة، وهاهنا زال؛ لذلك افترقت الآيتان.

والثاني: أنه وعد اختلافهم، ولم يذكر الخلود، وجائز تعذيبه في الحكمة والتنازع في الخلود لا غير.

والأصل في هذا ونحوه: أنه لم يتنازع أن يكون فعله الذي فيه الوعيد إن كان ثَمَّ خلود، فهو الذي يزيل عنه اسم الإيمان، ويبطل عنه حق فعله، وإنما التنازع في إبقاء اسم الإيمان في لزوم الوعيد؛ فهي فيمن لم يبق له الاسم، واللّه أعلم.

٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... (٣١)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: كبائر الشرك؛ لأن كبائر الشرك أنواع، منها: الإشراك باللّه، ومنها جحود الأنبياء صلى اللّه عليهم وسلم، ومنها: الجحود ببعض الرسل، عليهم السلام، ومنها: جحود العبادات، واستحلال المحرمات، وتحريم المحللات، وغير ذلك، وكل ذلك

شرك باللّه.

فقيل أراد بالكبائر كبائر الشرك، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعودا لها المغفرة بالمشيئة بقوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وعد المغفرة لما دون الشرك، وقرنها بمشيئته؛ فهو في مشيئة اللّه - تعالى -: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وباللّه التوفيق.

وقيل: أراد بالكبائر كبائر الإسلام.

ثم يحتمل وجهين بعد هذا:

يحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر.

ويحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال في آخره: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، والتكفير إنما يكون بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات.

ويحتمل: أن يكون التكفير لها جميعًا وإن لم تجتنب؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ ألا ترى أنه روي عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " شَفَاعَتِي نَائِلَة لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتي ".

وروي عن عليٍّ أبن أبي طالب، - رضي اللّه عنه - أنه سمع امرأة تدعو: اللّهمَّ

اجعلني من أهل شفاعة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَهْ! فَقُولي: اللّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الفَائِزِينَ؛ فَإِنَ شَفَاعَةَ مُحَمدٍ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الكَبَائِرِ " ثم قرأ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .} الآية.

ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها:

فقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أوجب الحد فهو كبيرة: من نحو الزنا، والسرقة، والقذف، وغير ذلك.

وقال آخرون: الإشراك باللّه، وقتل النفس التي حرم اللّه بغير حقها، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقول البهتان، والفرار من الزحف.

وروي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " من أول السور إلى هنا من المحرمات، فهو من الكبائر.

وروي أنه قيل لابن عَبَّاسٍ: إن عبد اللّه بن عمر، يقول: الكبائر تسع. فقال، ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: هن إلى التسعين أقرب، ولكن لا كبيرة مع توبة، ولا صغيرة مع إصرار.

وروي عن الحسن قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا تَقُولُونَ فِي الزنَا وَالسرِقَةِ وَشُربِ الْخَمْرِ؟ " قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: " هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَة " ثم قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا أُنْبَئُكُم بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: " الْإشْرَاكُ بِاللّه، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ " قال: وكان متكئًا فجلس، ثم قال: " أَلَا وَقَوْلُ الزورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُورِ " قاله ثلاثًا.

وقوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}

ذكر تكفير السيئات إذا اجتنب الكبائر، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر، فهو في مشيئة اللّه: إن شاء [غفر] (١)، وإن شاء عذَّب؛ على ما ذكرنا: أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى، حظرًا كان أو إحلالا، واللّه أعلم. (١) في الكتاب المطبوع هكذا [كفر] ولعل الصواب ما أثبتاه يؤيده ما بعده (عذَّب)، أو تكون [كفَّر] بتشديد الفاء. واللّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

 ويقرأ في بعض القراءات: (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) (١) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفًا: أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك، واللّه أعلم.

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}

قيل: الجنة.

٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية.

قيل: لا يتمنى الرجل مال أخيه، ولا امرأته، ولا داره، ولا شيئا من الذي له؛ ولكن ليقل: اللّهمَّ ارزقني، تذكر النوع الذي رغبت؛ فاللّه واجد ذلك، وهو الواسع العليم.

وقيل: هو كذلك في التوراة.

وقيل: إن أم سلمة قالت: يا رسول اللّه، يغزو الرجال ولا نغزو، ويذكر الرجال ولا نذكر؛ فنزلت الآية: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّه بِهِ} إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}.

ويحتمل: أن يكون هذا التمني في الديانة وفي الدنيا:

أما في الديانة: هو أن يتمنى أحد أن يكون قدره مثل قدر آخر عند الناس من العلم، والزهد، وغير ذلك؛ فنهي أن يتمنى ذلك؛ إذ لم يبلغ هو ذلك المبلغ إلا باحتمال المكاره

والمشقة والجهد.

وفي الدنيوية: هو أن يتمنى مال: أخيه، وزوجته، وخدمه.

ويحتمل: أن يكون معنى التمني: ما ذكر في خبر أم سلمة؛ لأن في ذلك الكفران بنعم اللّه؛ لأن النساء -وإن لم يُجْعَل عليهن القتال وغيره من الخيرات- رفع عنهن بعض المؤُنات؛ ففي التمني الكفرانُ بتلك النعم التي أنعم اللّه - تعالى - عليهن.

وفي قوله -أيضًا-: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّه}، أي: الذي فضل اللّه بعضكم على بعض؛ فهو - واللّه أعلم - لما فيه السخط بحكمه، يريد الصرف إليه، أو لما فيه أنه إنما قصر فضله على ما رأى وألا يسع فضله له وللذي فضله، ولما النظر إلى ما أكرم به غيره بحق التمني -يلهى عن نعم اللّه- تعالى عليه، أو لما يخرج ذلك مخرج العداوة، وحق نعم اللّه على كل أحد - أن يُعرف التعظيم له، وكذلك قيل: فضلت على غيرك؛ لترحمه وتتفضل عليه؛ للتعظيم، والتمني أوخش من الحسد؛ لأن الحسد هو إرادة الصرف عنه، وفي التمني ذلك وإرادة الفضل له به عليه.

{وَاسْأَلُوا اللّه} - سبحانه وتعالى - {مِنْ فَضْلِهِ}، وكان فضله في الحقيقة هو ما له ألا يبذل، وذلك يخرج على فضل في الدِّين، أو فضل في الخلق والمروءة، فأما فيما يرجع إلى نعم الدنيا مما لا يسثعمله في أحد ذينك الوجهين - فهو في الظاهر نعمة، وفي الحقيقة بلية ومحنة؛ قال اللّه - سبحانه وتعالى -: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ}، الآية، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. . .}.

وجائز أن تكون الآية في النهي، مع ما مكنوا من النعم ووفقوا للخيرات:

فإن كان لما وفقوا للخيرات - فحق ذلك أن يشكر للّه؛ بما أكرم به من حسنات، ويرغب في التوفيق لمثله.

وإن كان في أمر النعم - فحقه أن يعينه بالدعاء؛ لتكون النعمة له نعمة، لا بلية

 ونقمة، وترغب فيما يقربك إلى اللّه في عاقبة.

وقد ذكرنا أن أم سلمة تمنت بعض ما يقوم به الرجال من العبادات: نحو الجهاد وأشكاله؛ فنزل النهي عن ذلك، والترغيب في فضله في نوع ما تحتمل هي من الخيرات، دون الذي يفضل عليهن بالرفع عنهن، واللّه أعلم.

وفي قوله -أيضًا-: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللّه بِهِ. . .} الآية - يحتمل أن يكون على ما خاطب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقوله - تعالى -: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .}، الآية؛ فأخبر أن الذي أُعطي - لم يعط للكرامة؛ ولكن ليفتنهم به، والعقل يأبى الرغبة فيما يفتن به دون ما يكرم به، ثم بيَّن الذي هو أولى بالمشتهي من التمني، فقال: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} فرغب فيما له، وأمر بالسؤال من فضله؛ إذ لا يكون كسبه له إلا بفضله: كقوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، ثم قال اللّه - عز وجل -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}، [فبين أن كسبه عليه إلا بفضل اللّه]، وبين أن الأولى به الإقبال على ما له عاقبته، والتضرع إلى اللّه - تعالى - بالإكرام دون الذي عليه في ذلك؛ خوف المقت، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْأَلُوا اللّه مِنْ فَضْلِهِ}

مِثْلَهُ؛ فإن فضله واسع، ولا يتمنى مال أخيه وداره.

أو اسألوا اللّه - تعالى - العبادة، ولا تتمن ألا يكون لأخيك ذلك، ويكون لك، ثم أخبر أن ما يكون للرجال إنما يكون بالاكتساب، وما يكون للنساء يكون بالاكتساب، يكون لكل ما اكتسب من الأجر وغيره.

٣٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (٣٣)

احتمل هذا - واللّه أعلم - أن يكون معطوفًا، مردودًا إلى قوله - سبحانه وتعالى -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ} الآية، ذكر - هاهنا - ما يرث الرجال والنساء من الوالدين والأقربين، ولم يذكر ما يرث الوالدان من الأولاد والأقربون بعضهم من بعض: من نحو العم، وابن العم، وغيرهم من القرابات؛ فذكر - هاهنا - ليعلم أن للمولى من الميراث مما ترك الوالدان والأقربون ما لأُولَئِكَ من الوالدين والأقربين إذا لم يكن أُولَئِكَ أن جعل لهَؤُلَاءِ ما جعل لأُولَئِكَ، ولم يذكر -أيضًا- ما للوالدين من

الأولاد في قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. . .} الآية، ولكن ذكر في آية الوصية في قوله - تعالى -: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ}، ذكر الوصية للوالدين والأقربين؛ ولم يذكر للأولاد - واللّه أعلم - أن الرجل قد يؤثر ولده على نفسه، وعلى غيرهم من الأقرباء، ولا كذلك الولد للوالد؛ فذكر الوصية للوالدين والأقربين لهذا المعنى؛ ليصل إليهم المعروف، وأمّا الأولاد فإنهم لا يؤثرون عليهم غيرهم؛ لذلك لم يذكرهم، واللّه أعلم.

وقيل في قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} أي: بينا، فيكون فيها بيان ما في الأولى من المواريث.

ثم قيل في الموالي: إنهم هم العصبة، وقيل: هم أولياء الأب، أو الأخ، أو ابن الأخ، وغيرهم من العصبة.

وقيل: هي الورثة، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، وكله واحد.

وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَنا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ، مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لَمَوالي العَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً أَوْ ضيَاعًا فَأَنا وَليُّهُ؛ فَلَا دُعَاءَ لَهُ ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلْحِقُوا المَالَ بِالْفَرَائِضِ،

فَمَا أبْقَتِ السهَامُ فَلأِوْلَى رَجُل ذَكَرٍ ".

وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ قال: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " مَا أَحْرَزَ الوَالِدُ أَوْ الَوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ ".

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كتب: إذا كانت العصبة بعضهم أقرب بأم - فهم أحق بالمال.

وأجمع أهل العلم على أن أهل السهام إذا استوفوا سهامهم وبقي من المال شيء - أنه لعصبة الميت، وهم الرجال من قرابته من قبل أبيه ومواليه، وأنه لا يكون أحد من النساء عصبة إلا الأخوات من الأب والأم، أو من الأب مع البنات، والمرأة المعتقة؛ فإن هاتين عصبة، وأجمعوا أن كل من اتصلت قرابته من قبل النساء بالميت فليس بعصبة، وأن المرأة إذا أعتقت عبدًا أو أمة فإنها عصبة المعتق بعد موت أمه، إلا ابن مسعود - رضي اللّه عنه - فإنه يجعل لذوي الأرحام دون الموالي.

وأجمعوا أنه إذا اجتمع عصبتان فأقربهما أولى، وأقرب العصبة الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد وإن علا، والأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ثم ابن العم من الأب والأم، ثم ابن العم من الأب، ثم مولى النعمة، ثم ابن مولى النعمة وإن سفل، فهَؤُلَاءِ كلهم عصبة الميت، وأقربهم أولاهم بما فضل من المال عن أصحاب السهام المذكور سهامهم، هو - واللّه أعلم - موافق لما ذكرنا من دليل الآية والسنة، وما تواتر من الروايات عن الصحابة، رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين.

وفي قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}، يحتمل: ولكل من

الموالي جعلنا؛ على إضمار " نصيب " أو " حق " فيما ترك الوالدان والأقربون؛ فيكون تأويله قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ}، فيكونون هم مواليه بحق الميراث على تأويل أنهم أولى بما تركوا، وعلى مثله قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}، ووليه من يلحقه في ملكه؛ يفسره قوله - تعالى -: {يُوصِيكُمُ اللّه}، وجميع آيات المواريث، إلا أنه لم يذكر للوالدين في هذه الجملة ولا للزوجين، ولا يدخلون في اسم القرابة، ولا في اسم الأولاد وقد جاء بالإيجاب لهم الكتاب وأجمعت عليه الأمة على غير دعوى النسخ فيه من أحد؛ ليعلم أن التخصيص بالذكر فالحق لا يقطع حق غير، لكنه يكون الأمر موقوفًا على وجود دليله، واللّه أعلم.

على أن في الإيجاب للأقربين وللموالي كفاية عن ذكر من ذكر؛ إذ بهم تكون كل القرابة، وبالتناكح يكون النسل، وهو المجعول لذلك، وكذلك لا يسقط حق هَؤُلَاءِ بحال ولا يحجبون عن الكل بأحد، وقد جرى ذكر حقهم فيما نسخته هذه الآية من الوصية، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله - تعالى -: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} مَنْ يرجع الموالى إلى الذين ورثوه من تركة الأبوين والأقربين يجيز أن قد تجري المواريث فيما قد ورث نحو ما تجري فيما لم يكن ورث مرة؛ فرجع ذا إلى غير أولاد الأول وأقرباء الأول، أو أن يكون المقصود فيما ترك الوالدان والأقربون بما ذكر في أيهم نصيبًا مفروضًا أن يكون هذا فيما ترك الوالدان والأقربون مع أصحاب الفرائض؛ فتكون هذه الآية في بيان حق العصبات؛ إذ لم يذكر لهم دون أن يكون معهم أصحاب الفرائض يرثون بحق السهام، لا بحق الفضول؛ فتكون عمل الآيات في المواريث ثلاث:

أحدها: في أصحاب الفرائض، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}.

والثاني: حق في العصبات، وهو قوله - تعالى -: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ. . .} الآية.

والثالث: في حق ذوي الأرحام، وهو قوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .}

ثم ألحق بهَؤُلَاءِ في حجاب الأبعدين - أهلَ العقد بقوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وإنما ذكر ذلك فيما يترك الميت، ولا وجه للعون والرفد منه أو النصر، مع ما ذكر نصيبهم في التركة، كما ذكر لأصحاب الفرائض، وعلى ذلك المرفوع لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيمن أسلم على يدي آخر أنه أحق الناس محياه ومماته، وكذلك روي عن عمر وعلي وعبد اللّه مع ما كانت المواريث بهذا من قبل، فنسخ بقوله - تعالى -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، فإذا ارتفع ذلك ذهب التناسخ فوجب لهم؛ إذ بيت المال يرث بولاية الإيمان جملة، ولهذا تلك الولاية وولاية أخرى؛ فهو أحق، واللّه أعلم. ويخلف هَؤُلَاءِ من له رحم كما خلف ولاء العتاقة بما تقدم من النعمة بالإعتاق - حق العصبة من ذي النسب بقوله - عليه السلام -: " الولاء لحمة كلحمة النسب ".

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.

قيل: هو من الأيمان كان حلفٌ في الجاهلية يقول الرجل لآخر: ترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك، وتنصرني وأنصرك. ويتحالفان على ذلك.

وقد قرئ بالألف " عاقدت " فهو من المحالفة.

ثم روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلَفٍ فِي الجَاهِليةِ لمْ يَزِدهُ الإسْلَامُ إِلَّا شِدةٌ "

وقيل: هو من ضرب اليمين في اليمين، وهو المبايعة؛ كان الرجل يعاقد الرجل ويبايعه في الجاهلية، فيموت؛ فيرثه.

وقيل: إن أبا بكر - رضي اللّه عنه - عاقد رجلا، فمات؛ فورثه؛ ولذلك خص المماليك بالذكر بهذا من قوله - تعالى -: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لأنهم يشترون للخدمة، والمرء إذا خدم نفسه إنما يخدمها بيمينه، فإذا كان تأويل الآية ما ذكروا، فهو منسوخ بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وبما روينا من الخبر من قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَلَفٍ فِي الجَاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " ويحتمل أن تكون الآية فيمن أسلم على يدي آخر ووالاه؛ على ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْل الكُفْرِ عَلَى يَدَي رَجُلٍ مِنَ الْمُسلِمِينَ فَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ ".

وروي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رجلا سأل عن رجل أسلم على يد رجل ويواليه؟ قال: هو مولاه؛ فإن أبى فلبيت المال.

وروي عن مسروق قال: أتيت عبد اللّه فقلت: إن رجلا كان عاملا علينا فخرج إلى الجبل، فمات، وترك ثلاثمائة درهم؟ فقال عبد اللّه: هل ترك وارثًا أو لأحد منكم عليه عقد ولاء؟ قلت: لا؛ فجعل ماله لبيت المال. وكذا يقول أصحابنا - رحمهم اللّه -: من مات وترك وارثًا فماله لوارثه، وإن لم يكن له وارث فللذي أسلم على يديه ووالاه؛ لما روينا من الخبر: " هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ

وقوله: " محياه " في العقل، و " مماته " في الميراث، وما روينا عن الصحابة، رضوان اللّه عليهم أجمعين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قيل: هي الوصية إلى

 تمام الثلث؛ لأن الميراث قد نسخ بالآية التي في الأحزاب بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} ثم قال: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا}، فهي الوصية إلى تمام الثلث؛ فإذا كانت الآية في الذي أسلم على يديه ووالاه وعاقده فهو ليس بمنسوخ.

وقيل: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصر والمعونة والمشورة، ولا ميراث.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}

بما ذكر من الشرط والوفاء به، وباللّه التوفيق.

* * *

٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}

قال أهل التأويل: الآية نزلت في الأزواج؛ دليله قوله - تعالى -: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} والأزواج هم المأخوذون بنفقة أزواجهم، وفيه دليل وجوب نفقة المرأة على زوجها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.

وقال بعض أهل العلم في قوله - تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} - دليل ألا يجوز النكاح إلا بالولي، حيث أخبر أنهم القوامون عليهن دونهن.

قيل له: إن كانت الآية في الأزواج وفي الأولياء على ما ذكرت ففيه دليل جواز النكاح بغير ولي لا بطلانه، وذلك قوله - تعالى -: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أخبر أنه فضل بعضهم على بعض، وذلك التفضيل تفضيل خلقة، وهو أن جعل الرجال من أهل المكاسب والتجارات، والقيام بأنواع الحرف، والتقلب في البلدان والمدائن، والنساء ليس كذلك؛ بل جعلهن ضعفاء عاجزات عن القيام بالمكاسب والحرف والتقلب في حاجاتهن؛ فالرجال هم القوامون عليهن. وَالُونَ أمورهن، وقاضون حوائجهن، قائمون على ذلك، ففرض على الرجال القيام بمصالحهن كما ذكرنا مع ما فرض ذلك على الرجال، يجوز إذا ولين بأنفسهن وقمن بحوائجهن من البياعات، والأشرية، وغير ذلك؛ فعلى ذلك النكاح، وإن كان الرجال هم القوَّام عليهن، فإنهن إذا ولين ذلك بأنفسهن وقمن - جاز ذلك كما جاز غيره، وكذا ما أمر الأولياء بالتزويج في قوله - تعالى -: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ. . .} الآية، ونهاهم عن العضل عن النكاح بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ. . .} الآية؛ لأن ذلك حق عليهم أن يفعلوا حتى يلين ذلك بأنفسهن؛ إذ لا بد من حضور مشهد الرجال ومجلسهم ليشهدوا على ذلك، فذلك على الأولياء القيام به.

وكهذا ما جعل نفقتهن إذا لم يكن لهن مال على محارمهن؛ لأنهن لا يقمن بالمكاسب وأنواع الحرف والتجارات، والرجال يقومون، فجعل مؤنتهن عليهم؛ لضعفهن وعجزهن عن القيام بالمكاسب خلقة؛ ولهذا ما لم يجعل للذكور من المحارم بعضهم

على بعض النفقة؛ لما يقومون بالمكاسب؛ فإذا صار زَمِنًا وعجز عن المكاسب جعل نفقته على محارمه؛ لأنه صار في الخلقة كالمرأة، واللّه أعلم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال: أمراء عليهن أن تطيعه فيما أمر اللّه به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهلها، حافظة لماله، وفضله عليها بنفقته وسعته.

وقيل: نزلت الآية في رجل لطم امرأته لطمة في وجهها؛ فنشزت عن فراش زوجها، واستعدت إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول اللّه، لطمني زوجي فلان لطمة، وهذا أثر يده في وجهي؛ فقال لها رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اقْتَصِّي مِنْهُ "، وكان القصاص بينهم يومئذٍ بين الرجال والنساء في اللطمة والشجة والضربة، ثم أبصر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جبريل - عليه السلام - ينزل؛ فقال لها: " كُفي حَتى أَنْظُرَ مَا جَاءَ بِهِ جِبرِيْلُ فِي أَمْرِكِ "، فأتاه بهذه الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي: المسلّطون على آداب النساء في الحق.

وقيل: تفضيلهم عليهن بالعقل والميراث، وفي الفيء، واللّه أعلم.

ثم قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَرَدْنَا أَمْرًا وَأَرَادَ اللّه أَمْرًا، وَالذِي أَرَادَ اللّه خَيرٌ مِمَّا أَرَدْنَا ".

وقيل في قوله - تعالى -: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: بما ساقوا من المهر

والنفقة.

استدل الشافعي - رحمه اللّه - بقوله - تعالى -:، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ. . .} الآية، على أن النكاح لا يجوز إلا بالولي، فصرف تأويل الآية إليهم، وفيها: {وَبِمَا أَنفَقُوا} فيلزم الأولياء النفقة، وهو لا يقول به.

وبعد: فإن الآية لو كانت في الأولياء فهو في كل أمر لهن إليهم حاجة؛ فيخرج ذلك مخرج الحق لهن في أن يتولوا لهن العقود كلها، ويقوموا في كفايتهن وكفالتهن، لا أنهن لو قمن بأنفسهن يبطل فعلهن؛ فمثله أمر النكاح.

وأهل التأويل يحملون الآية على الأزواج، ومن تدبر الآية علم أنها فيما قال أهل التأويل دون الذي ذهب إليه الشافعي، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {قَانِتَاتٌ} يعني: مطيعات، والقانت: هو المطيع.

ويحتمل: مطيعات للّه تعالى:

ويحتمل: مطيعات للأزواج.

ويحتمل: {قَانِتَاتٌ} أي: قائمات بأداء ما فرض اللّه عليهن من حقوقه وحقوق أز وا جهن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}.

قيل: حافظات لما استودعهن اللّه من حقه، وحافظات للغيب لغيب أزواجهن.

وقيل: حافظات لأنفسهن -لغيبة أزواجهن- في فروجهن.

ويحتمل: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} أي: للّه في أموره ونواهيه، والقيام بحقوقه، وقانتات

وحافظات هو تفسير صالحات.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بِمَا حَفِظَ اللّه}

اختلف في تلاوته وتأويله؛ في حرف بعضهم بالنصب {بِمَا حَفِظَ اللّه} وتأويله: بحفظ اللّه، لكنه نصب لسقوط حرف الخفض، ومن رفعه جعل تأويله: بما استحفظهن اللّه تعالى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ}.

قال بعض أهل الأدب: سمي العلم خوفًا؛ لأنه اضطر في العلم.

وقال آخر -وهو الفراء-: الخائف: الظان؛ لأنه يرجو ويخاف.

وأما الأصل في أنه سمي العلم خوفا؛ لغلبة شدة الخوف؛ فيعمل عمل العلم بالشيء على غير حقيقته؛ لأنه يعرف بالاجتهاد، وبأكثر الرأي والظن، وهكذا كل ما كان سبيل معرفته الاجتهاد - فإن غالب الظن وأكبر الرأي يعمل عمل اليقين في الحكم ديان لم يكن هنالك حقيقة؛ ألا ترى إلى قوله تعالى -: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}، وألزمنا العمل بظاهر علمنا وإن لم نصل إلى حقيقة إيمانهن؛ فعلى ذلك إذا علم منها النشوز علم أكثر الظن وأغلبه يعمل عمل الذي ذكر في الآية من العظة وغيرها؛ لأن قوله - تعالى -: {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ليس على وجود النشوز منها للحال حقيقة؛ ولكن على غالب الظن؛ لأنها إذا كانت ناشزة كيف يعظها؛ وكيف يهجرها ويضربها؛ فدل أنه على غالب العلم؛ أولا ترى أنه من أكره على أن ينطق بكلام الكفر بقتل أو ضرب يخاف منه التلف - كان في حل وسعة أن ينطق به بعد أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان، وذلك إنما يعلم علم غالب الظن، وأكبر الرأي لا يعلم علم حقيقة، ثم أبيح له أن يعمل عمل حقيقة العلم؛ فكذلك الأول - واللّه أعلم - نهى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - المرأة عن عصيان زوجها، وأمرها بطاعته في نفسها، كما أمره أن يحسن عشرتها، وهذا هو - واللّه أعلم - هو الحق الذي ذكره اللّه - تعالى - في سورة البقرة مجملا بقوله - تعالى -: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وفسر الحق عليهن في هذه السورة وهو أن تطيعه في نفسها، وتحفظ غيبته؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.

وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " حَق الزوجِ عَلَى امْرَأَتِهِ إنْ دَعَاهَا وَهِي عَلَى قَتَبٍ أَنْ تُطِيعَهُ ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَعِظُوهُنَّ}

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: عظوهن بكتاب اللّه {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي رجعن إلى الفراش والطاعة، وإلا فاهجروهن، والهجران ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، فإن قبلت وإلا فقد أذن اللّه لك أن تضربها ضربًا غير مبرِّح، ولا تكسر لها عظمًا، فإن قبلت وإلا فقد حل لك منها الفداء.

ويحتمل قوله - تعالى -: {فَعِظُوهُنَّ}: يقول لها: كوني من الصالحات، ومن القانتات، ومن الحافظاتْ، ولا تكوني من كذا، على الرفق واللين؛ فإن هي تركت ذلك وإلا فاهجرها، والهجران يحتمل وجهين:

يحتمل التخويف على الاعتزال منها، وترك المضاجعة والجماع.

ويحتمل: أن يهجرها ولا يجامعها، لا على التخويف من ترك ذلك؛ فإن هي تركت ذلك وإلا ضربها عند ذلك الضرب الذي ذكرنا غير مبرِّح، ولا شائن، واللّه أعلم.

على الترتيب: يعظها أولا بما ذكرنا من الرفق بها واللين لعلها تطيعه وتترك ذلك، ثم إذا لم تطعه خوفها بالهجران؛ فلعل قلبها لا يحتمل الهجران وترك المضاجعة؛ فتطيعه؛ فإن هي أبت ذلك حينئذ هجرها، ولم يجامعها ولا يضاجعها؛ فإن هي أطاعته وإلا عند ذلك ضربها؛ فإن هي أطاعته وإلا فعند ذلك يرفعان إلى الحاكم، وهذا يجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يعظه على الرفق واللين أولا، ولا يغلظه في القول؛ فإن هو قبل ذلك وإلا عند ذلك غلظ القول به؛ فإن قبل ذلك وإلا بسط يده فيه على ما أمر اللّه - سبحانه وتعالى - الأزواج أن تعامل النساء من العظة، ثم الهجران، ثم الضرب، ثم الرفع إلى الحكمين.

وروي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللّه "؛ فترك الناس ضربهن، فجاء عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فقال: واللّه لقد دبر النساء يا رسول اللّه؛ فأمر بضربهن، قال: فأطاف بآل مُحَمَّد النساء كثيرًا يشتكين أزواجهن، فلما أصبح رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَقَدْ أَطَافَ الليلَةَ بآلِ مُحَمدٍ سَبعُونَ امْرَأَةً يَشْتَكِينَ الضربَ، واللّه مَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خَيَارَكُمْ

وقال: " خَيرُكُم خَيرُكُم لِأَهْلِهِ، وَأنا خَيرُكُم لِأَهْلي "

وقال: " أَحْسَنُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَأَلْطَفُهُمْ بِأهْلِهِ ".

قال: والموعظة كلام يلين القلوب القاسية، ويرغب الطبائع النافرة؛ فيكون ذلك تذكير عواقب الأمور ومبادئ الأحوال، واللّه أعلم.

وعلى ذلك يعظها زوجها بأن يذكرها نعم الربِّ - جل جلاله - وما جعل من الحق عليها، وما وعد في ذلك وأوعد.

ففي هذه الآيات دلالة لزوم الاجتهاد وتكليف ما لا يوصل إلى معرفة المكلف به إلا بالتدبر والعرض على الأمور المعتادة أو الأسباب المعقولة في جعلها أسبابًا للمصلحة، وسبلا للوقوف على ما في أصول تلك النوازل من الحكمة، ولا قوة إلا باللّه.

ثم جعل تأديبهن إلى الأزواج، لا إلى الأئمة؛ إذ عقوبة الأئمة تكون بالضرب أو الحبس وما يلحقها من المكروه فيما له أمر بالتأديب مع ما في ذلك من الستر، ويكون الغالب منه ما لا يجد لسبيل الإظهار عند الحاكم، ويكون في أوقات تضيق عن احتمال ذلك، ويكون ذلك أصلا لتأديب كل كافلِ أحدٍ من الأيتام والصغائر، وغير ذلك، واللّه أعلم.

والأصل: أن اللّه - تعالى - قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}، فجعل التأديب من الوجه الذي فيه حفظ المجعول لنا - آية، ورعاية ما جعل بينهم من المودة والرحمة، والمنازعات والخصومات إلى الحكام يقطع تلك؛ فجعل لهم من ذلك قدر ما لا يقطع مثله من التأديب المعنى المجعول بينهم؛ ولذلك لم تأذن بالضرب المبرح، ولا أذن إلا عند انقطاع الحيل التي جعلت للألفة والمحبة، على أن في خفيف ذلك إظهار الإشفاق على ما اعترض من خوف انقطاع المودة والرحمة، وإبداء العتاب الذي هو آية النصح والرحمة؛ إذ ذلك مما يخاف في ترك ذلك تمام ما قد افتتح من السر والشفقة، واللّه أعلم.

وقيل في قوله - تعالى -: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}: بما ساقوا من المهر والنفقة.

وقوله - تعالى -: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}

يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يهجرها في حال مضاجعته إياها في ألا يكلمها، لا أن يترك مضاجعتها؛ إذ المضاجعة حق بينهما عليه في تركها ما عليها، لا يؤذيها بما يضر حقه ونفسه، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: أي اهجروهن عن المضاجع ومضاجعة أخرى في حقها؛ فيكون حقها عليه في حال الموافقة وحفظ حدود اللّه بينهما، لا في حال التضييع، واللّه أعلم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: يهجرها في ألا يجامعها، ولا يضاجعها على فراشه، ويوليها الظهر، لكنه على هذا يشتركان في التأديب؛ لأنه به يؤدب نفسه في ذلك إلى حاجته، لكن المعنى من ذلك ألا يجامعها لوقت علمه بشهوتها وحاجتها، وإنما ينظر شهوته دونها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}

إن أطعنكم، أي: لا تطلبوا عليهن عللا.

وقيل: لا تكلفوهن الحبَّ، وإنما جعل اللّه الموعظة والهجران والضرر في المضاجع.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: فإن أطاعته فلا سبيل له عليها.

ثم الضرب هو ما ذكرنا أنه يضربها ضربًا غير مبرح، وهو ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " عَلِّقْ سَوْطَكَ - أَوْ ضَعْ حَيثُ يَرَاهُ أَهْلُكَ، وَلَا تَضْرِبْهَا بِهِ قيل: وبم نضرب؟ قال: بنعليك ضربًا غير مبرح، يعني: غير مؤثر ولا شائن.

 ويروى في خبر آخر: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " اتَّقُوا اللّه فِي النِّسَاءِ؛ فَإِنكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللّه، وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللّه، وَإِنَّ لَكُم عَلَيهِنَّ أَلَّا يُوطِئْنَ فِرَاشَكُم أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّح، وَلَهُنَّ عَلَيكُم رِزْقُهُن وَكُسوَتُهُن بِالْمَعْرُوفِ ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} هذا - واللّه أعلم - تذكير من اللّه عباده، وأمر منه إياهم: أنه مع علوه وسلطانه وعظمته وجلاله وقدرته، لا يؤاخذنا بأول عصيان نعصيه، ولا بأول عثرة نعثرها، مع قدرته على الأخذ على ذلك وإهلاكه إياهم، فأنتم لا تؤاخذوهن -أيضًا- بأول معصية يعصين فيكم، واللّه أعلم.

ويحتمل: ذكر هذه الآية وهو كذلك؛ ليذكر علوه وكبره؛ فيحفظ حده فيما جعل له من التأديب، ويذكر قدرته عليه.

٣٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا (٣٥)

كأن هذه المخاطبة - واللّه أعلم - لغير الأزواج؛ لأنه قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ولو كانت المخاطبة في ذلك للأزواج، لقال: فإن " خافا شقاق بينهما "، أو " إن خفتم شقاق بينكم ". وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} الآية، خاطب بذلك الأزواج؛ لأنه قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} وذلك إلى الزوج؛ إذ للزوج إذا خاف نشوز امرأته أن يعظها أولا، فإن قبلت وإلا فبعد ذلك هجرها، ثم يضربها إن لم تقبل ذلك؛ فإن لم ينفع ذلك كله فبعد ذلك رفع الأمر إلى الحاكم أو الإمام فوجه الحكمين.

وروي نحو ذلك عن عليٍّ بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - قال: يُبعَثُ الحكمان: حكمٌ من أهله وحكمٌ من أهلها، فيقول الحكم من أهلها: يا فلان، ما تنقم من زوجتك؟ فإذا قال: أنقم منها كذا وكذا، يقول: أرأيت إن نزعت عما تكره إلى ما تحب هل أنت تتقي اللّه وتعاشرها بما يحق عليك من نفقتها وكسوتها؟ فإذا قال: نعم، قال الحكم من أهله: يا فلانة، ما تنقمين من زوجك؟ فإذا قالت: أنقم منه كذا وكذا، فيقول: مثل ذلك؛ فإن قالت: نعم، جمع اللّه بينهما بالحكمين، بهما يجمع اللّه، وبهما يفرق.

ثم اختلف في الحكمين: هل يفرقان بينهما؟

قَالَ بَعْضُهُمْ: يفرقان بينهما إن شاءا، وإن شاءا جمعاهما.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين، فقيل لنا: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما.

وأما عندنا: فإنهما لا يفرقان إلا برضا الزوجين؛ دليلنا ما روي أن رجلا وامرأته أتيا عليًّا - رضي اللّه عنه - مع كل واحد منهما فئام من الناس؛ فقال علي - رضي اللّه عنه - ما شأن هذين؟ قالوا: بينهما شقاق، قال علي - رضي اللّه عنه -: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، إن يريدا إصلاحًا يوفق اللّه بينهما، فقال علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا

فرقتما، قالت المرأة: رضيت بكتاب اللّه، قال الرجل: أما الفرقة فلا؛ فقال على - رضي اللّه عنه -: كذبت، واللّه لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت.

أخبر علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن فرقة الحكمين إنما تجب برضا الزوجين، فلو كانت فرقتهما تجوز بغير رضا الزوجين - لم ينظر إلى سخط الزوج في الفرقة، ولقال علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - للحكمين: فرقا إن رأيتما ذلك، كره الزوج أو رضي.

وفي قوله -أيضًا- {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي: علمتم؛ إذ حق ذلك أن يجتهد في الحال بينهما فيعلم على الغالب، وللغالب حق العلم في الأعمال، وحق الريب في الشهادة، فذكر باسم الخوف على ما فيه من علم العمل، على أن في ظاهر الآية التفرق في المنزل حتى يبعث عن أهل كل واحد منهما ولو كانا في منزل واحد، فحقه أن يجمع بين الحكمين، لا أن يبعثا بذلك؛ يدل على ظهور الخلاف والشقاق، واللّه أعلم.

قال: وأمر الحكمين بالإصلاح بين الزوجين، وهو الأمر الذي أمر بين جميع المؤمنين من قوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}،

وقوله: {وَلَا تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}، الآية،

وقوله: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ} الآية، وذلك في حق التأليف وما به تمام الأخوة بقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، لا بما يضر به أهله، ويوجب التفريق بينهم والتباغض، وعلى ذلك أمر الحكمين في النكاح، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُمَا}

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُمَا}: هما الحكمان.

وعن مجاهد مثله.

وقال آخرون: قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُمَا}: هما الزوجان.

وفي الآية دليل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} وليس فيها دليل أن فرقتهما جائزة بشيء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.

يدل على أن الخلع إليهما دون الحكمين، وكان الحكمين يُوَجَّهَانِ؛ ليعرف مَنِ الظالم من الزوجين؟ يُستَظْهَرُ بهما على الظالم؛ لأن كل واحد منهما إذا شكى بين الناس من صاحبه - لا يعرف الظالم منهما من غير الظالم، فإن كان الزوج هو الظالم أُخِذَ على يده، وقيل: لا يحل لك أن تفعل هذا لتختلع منك، وأُمِرَ بالإنفاق عليها، وإن كانت هي الظالمة وكانت في غير منزله ناشزة - لم يؤمر بالإنفاق عليها، وقيل له: قد حلت الفدية، وكان في أخذها معذورًا بما ظهر للحكمين من نشوز المرأة، واللّه الموفق.

وفي قوله -أيضًا-: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} لا يخلو من أمرين: إما أن يريد به الزوجين، أو الحكمين.

ثم الإصلاح يكون مرة بالجمع، ومرة بالتفريق؛ فعلى الجمع تأويل التوفيق: الجمع بينهما، وعلى إرادة التفريق تأويله: التوفيق للإصلاح، وعلى التوفيق للإصلاح يدخل فيه الأمران، وفي ذلك أن الفرقة والاجتماع إليهما؛ إذ عليهما إرادة الإصلاح، وانصرف معنى الآية إلى الزوجين، وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا. . .}، إلى قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا. . .} الآية.

ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. . .} الآية.

فعلى ما ظهر منه النشوز صرف أمر التفرق إلى الزوجين، وكذلك قوله - تعالى -: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ. . .} إلى قوله - تعالى -: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، فاشركهما في الابتداء الذي به الفراق، أو يريد به الحكمين؛ فيكون ذلك على الترغيب في طلب الإصلاح بينهما، وعلى إيثار العدل والصواب؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. . .}، وقوله - تعالى -: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ. . .} الآية، فإذا أرادا الإصلاح يوفق اللّه بينهما، له

وجهان:

أي: بين الزوجين ببركة قيام الحكمين للّه وابتغائهما الصلاح بينهما؛ فيوفق الزوجين لما له النكاح من: السكن، والرحمة، والمودة، والعفة.

ويحتمل: {يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُمَا}: بين الحكمين في إصابة ما أرادا من الإصلاح. ثم العلم بإرادتهما الإصلاح لا يعلمه إلا اللّه؛ فلا يحتمل أن يوجب لهما في الحكم التفريق، والذي جوابه وعد التوفيق لم يبين، فلذلك لم يكن لهما حق التفريق، إنما إليهما إعلام ما اتفقا عليه، ثم هما عملا لهما وعليهما، فيكون لهما الرضا بما رأيا وغير الرضا، وأصله وجهان:

أحدهما: أنه استوجبا القيام بالتولية والتراضي من الزوجين أو بمن يخاف الشقاق بينهما: فإن قاما ببعث الناس، فقاما ببعث من لا يملك الفراق، فلا يستوجبان بهم ذلك، وإن قاما ببعث الزوجين فرضاؤهما بعثهما في ذلك لم يكن لهما غير الذي كان فيه الرضاء عليهما، واللّه أعلم.

والثاني: أنهما بعثا للعلم بالسبب الذي حملهما على الشقاق، ولعل السبب منهما؛ فلا يحتمل أن يلزمانه الطلاق بلا ذنب منه، فَيُمَكَّنُ به كل امرأة تريد مفارقة الزوج وإغرامه المهر، وإذا لم يحتمل ذلك لم يحتمل أن يكون لهما حق التفريق بهذا البعث مع ما بعثا لدفع الشقاق الهائج بينهما والرد إلى الصلاح الذي له كان النكاح، على أنه يمكن الأخذ على يدي الظالم منهما، والقهر على العود إلى ما فيه الصلاح بالتأديب - لم يجز أن يلزما الفراق وإن كرهاه، واللّه أعلم.

ثم الأصل: أنهما بالغان لا يلزمان النكاح إذا كرها ورأي القوم الصلاح إلى التناكح، على احتمال وجود الولايات في الأنكحة كانا ألا يلزما الطلاق إذا كرها على امتناعه عن وجوب الولايات به لغير الزوجين - أحرى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} مَنْ الظَالِمُ منهما؟ ومَنِ المظلومُ؟

 وقيل: {عَلِيمًا خَبِيرًا} بنصيحتهما لهما، عليمًا بما أَسَرتِ المرأة إلى حكمها، والزوج إلى حكمه، خبيرًا بما اطلع كل واحد من الحكمين من صاحبه على ما أفشى به إليه أصدقه أم لم يصدقه؟ واللّه أعلم.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " فأتوا حكمة من أهله وحكمة من أهلها ".

* * *

٣٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاعْبُدُوا اللّه}

قيل: وَحِّدُوا اللّه.

وقيل: أطيعوا اللّه. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم

{وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}

يحتمل: النهي عن الإشراك في العبادة والطاعة.

ويحتمل: النهي عن الإشراك في الربوبية والألوهية.

ويحتمل: النهي عن الإشراك في سلطانه، وغير ذلك؛ كل ذلك إشراك باللّه، وباللّه العصمة.

قال بعض أهل اللغة: العبادة هي الطاعة التي معها الخضوع.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: التوحيد، وأصلها: أن يجعل العبد نفسه للّه عبدًا، لا يشرك فيها غيره من هوى أو ما كان من وجوه الإشراك.

ثم له وجهان:

أحدهما: في الاعتقاد.

والثاني: في الاستعمال، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

أمر اللّه - تعالى - بالإحسان إلى الوالدين، وأمر بالإحسان إلى ذي القربى،

واليتامى، والمساكين. . . إلى آخر ما ذكر، لكن المعنى الذي به أمر بالإحسان إلى هَؤُلَاءِ الأصناف والفرق مختلف: أما إحسان الوالدين:

تَشَكُو لهما بما أحسنا إليه وربياه صغيرًا؛ كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ. . .} وقوله - تعالى -: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ. . .} الآية {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} يذكر حال صغره وضعفه أن كيف ربياه، ويشكر لهما على ذلك، ويحسن إليهما كما أحسنا إليه وربياه صغيرًا، وقال اللّه، - عَزَّ وَجَلَّ -أيضًا-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}، فإحسان الوالدين جزاء وتشكر لما أنعما هما عليه، وذلك يكون من جانب الولد؛ لأن مثله لا يلزم الوالدين لولده، وذلك فرض على الولد، حتى عد عقوق الوالدين من الكبائر؛ روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإشْرَاكُ باللّه، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ ".

والواجب على الرجل أن يطيع والديه وكل واحد منهما؛ إلا أن يأمراه بمعصية، أو ينهياه عن أداء فريضة، أو تأخيرها عن وقتها، فإن طاعتهما - حينئذٍ - معصية للّه، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، أمره بمصاحبتهما بالمعروف إلا أن يأمراه بمعصية؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم اللّه -: لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربًا؛ إلا أن يضطره الأب إلى ذلك؛ لأنه قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فمن المعروف في الدنيا ألا يقتله، ولا يشهر عليه السلاح.

وقالوا أيضا: إن مات أحدهما تولى دفنه، وذلك من حسن الصحبة والمعروف.

روي أن أبا طالب لما مات قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعليٍّ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ ".

ثم في هذه الآية تسوية بين الوالدين فيما أمر له من الإحسان إليهما، ولم يجعل للأب فضلا في ذلك على الأم؛ فذلك يدل على أن إسلام كل واحد من الأبوين إسلام للصغير؛ إذ كان الإجماع قائمًا في أن إسلام الأب إسلام لولده الصغار، وكذلك قول

رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " غَيرَ أنَّ أَبَويْهِ يُهَوِّدَانِهِ وُينَصِّرَانِهِ ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِذِي الْقُرْبَى}

أمر بالإحسان إلى ذي القربي، ومعنى الأمر به - واللّه أعلم - صلة يصل بعضهم بعضًا، وذلك من جانبين ما يلزم هذا أن يحسن إلى هذا لزم الآخر أن يحسن إليه، وذلك إبقاء للمودة فيما بينهم والمحبة، وذلك فرض -أيضًا- أن يصل بعضهم بعضا؛ لأن صلة القرابة فريضة.

والأمر بالإحسان إلى اليتامى يحتمل وجهين:

يحتمل: لما ليس لهم والد يقوم بكفايتهم على ما يقوم له والده، وأمر بذلك؛ لما يبر الرجل ولد آخر لمكان والديه، فإذا مات والده يمتنع عن ذلك، فأمر أن يحسنوا إليه بعد موت والده على ما كانوا يحسنون في حياته؛ لأنه في ذلك الوقت أحوج إليه؛ إذ لا شفقة لأحد عليه، وشفقة والده معدومة، واللّه أعلم.

ومعنى الأمر بالإحسان إلى المساكين يحتمل أيضا وجهين:

يحتمل: شكر اللّه على ما مَنَّ عليهم وأنعم بالإفضال على أُولَئِكَ؛ إذ لم يسبق منهم إلى اللّه معنى يستوجبون ذلك دونهم، أمر بالإحسان إليهم؛ شكرًا لما أنعم عليهم وأحسن إليهم.

والثاني: أنهم من جوهرهم وجنسهم في الخلقة؛ يحتاجون إلى ما يحتاج هَؤُلَاءِ من المأكل، والمشرب، والملبس، وغير ذلك، يأمرهم بالإحسان إليهم؛ شفقة منهم لهم؛ ليتقووا على أداء ما فرض اللّه عليهم؛ إذ هم مثلهم في الخلقة والجوهر، واللّه أعلم.

وهذا الإحسان في اليتامى والمساكين من جانب ليس من جانبين.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَابْنِ السَّبِيلِ}

أمر اللّه بالإحسان إلى ابن السبيل؛ للوجهين اللذين وصفتهما في المساكين، واللّه أعلم.

وقيل في اليتامى: إنه أمر الأوصياء بالقيام على ما لهم وحفظهم؛ رحمة لهم، وباللين لهم.

وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}

وهم ذوو قرابة، وله حقان: حق الجوار، وحق الرحم، كذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " الجِيرَانُ ثَلَاثَة: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِد، وَجَار لَهُ حَقَّانِ، وَجَار لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: فَأما الذِي لَهُ حُقُوق ثَلَاثَة: حَق القَرَابَةِ، وَحَق الإسْلَامِ، وَحَق الجِوَارِ، وَالَّذِى لَهُ حَقَّانِ: حَق الإسْلَامِ، وحَق الجِوَارِ، وَالذِي لَهُ حَق وَاحِدْ هُوَ حَق الجِوَارِ خَاصَّةً ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}

خص اللّه - سبحانه وتعالى - الْجَارِ الْجُنُبِ دون غيره من الجيران غير الملازقين، وكان ذلك دليلًا على أن الحقوق التي تلزم بالجوار إنما تلزم في الجيران الملازقين؛ لأنهم الجيران بالملك، يمس ملك بعضهم بعضًا، ويلصق به؛ كما في الرحم يمس أنفس بعضهم لبعض، ولهذا قال أبو حنيفة - رضي اللّه عنه -: إنه إذا أوصى لجيرانه، فالوصية للملازقين دون غيرهم؛ لأنهم هم الذين يلزم لبعضهم على بعض حقوق يقومون بأدائها في حال حياتهم، فإذا ماتوا فأوصوا إنما أوصوا بأداء ما كان بينهم، وكذلك قال في الوصية لذوي قرابته؛ إنها لقرابته الذين يفرض عليهم صلتهم إذا كانوا أحياء، فإذا مات فأوصى فإنما يوصي بأداء ما كان يؤدي في حال حياته، وذلك مما عليه الأداء؛ وفيه دليل على أن الشفعة الواجبة للجار إنما تكون للجار الجنب الملازق دون غيره من

الجيران، وقد ذكر رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حق الجار، وأمر بمسامحته.

وعن ابن عمر - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا زَالَ جِبرِيلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنهُ سَيُوَرِّثُهُ " وفي بعض الأخبار: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللّه وَالْيَوْمِ الآخِر، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ "، وفي بعضها: " مَا آمَنَ مَنْ أَمْسَى شَبعَانًا وَجَارهُ جَائِعٌ ".

وإذا بيع بجنبه دارٌ أو أرضٌ، فله أن يأخذها بالشفعة؛ لما روي عن عمرو بن

الشريد، عن أبي رافع، عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ " وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللّه، أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار؟ قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ مَا كَانَ ".

وعن رافع بن خديج قال: عَرَضَ عَلَيَّ سَعدٌ بيتًا له، فقال: خذه؛ فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني؛ ولكنك أحق به؛ لأني سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ ".

وعن أبي الزبير، عن جابر - رضي اللّه عنه -: أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بالجوار.

وعنه -أيضًا- قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الجَارُ أَحَق بِسَقبةِ جَارِهِ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا واحدًا يَنْتَظِرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ". وقول النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " يُنْتَظَرُ بِهَا وإنْ كَانَ غَائِبًا " يدل على أنه لا ينتظر بها أكثر من ذلك؛ وفي ذلك دليل على أن الشفيع إن أمسك عن طلب الشفعة، وقد علم بالبيع - بطلت شفعته، ومما يدل على ذلك -أيضًا- أن الشفعة إنما جعلت للجار - واللّه أعلم - بما يخاف عليه من سوء جوار المشتري، والضرر الذي عسى أن يلحقه منه، فلو جعلنا الشفيع على شفعته أبدًا لم يؤمن أن يبني المشترى في الدار، وينفق فيها نفقة عظيمة، ثم يجيء الشفيع فيطلب الشفعة؛ فيقال للمشتري: سلم الدار وارفع بناءك، وفي ذلك ضرر عليه بيِّن.

وعن علي وعبد اللّه قالا: قضى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة بالجوار.

وعن شريح قال: كتب إليَّ عمر - رضي اللّه عنه -: أن اقض للجار بالشفعة.

وإلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم اللّه - في إيجاب الشفعة للجار.

وأنكر قوم أن تكون الشفعة إلا فيما لم يقسم من الدور والأرضين، واحتجوا في ذلك بما روي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة قالا: " قضى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة ".

وكذلك روى أبو هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمثله.

لكن تأويل الحديث عندنا - واللّه أعلم -: أن قوله: " قضى بالشفعة فيما لم يقسم " قول الراوي؛ لأنه لم يحك عنه أنه قال: لا شفعة فيما قسم، فيحتمل أن يكون علم ذلك فحكاه، ولم يعلم بما روأه الآخرون بإيجاب الشفعة فيما قد قسم.

وأمَّا قوله: " فإذا وقعت الحدود، فلا شفعة "، فليس فيه بيان حكاية عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -. وقد يجوز أن يكون ذلك من الراوي، أو أن قال ذلك إنما قال في القسمة، لا شفعة في القسمة عندنا.

ثم قد جعل اللّه - تعالى - للجيران بعضهم على بعض حقوقًا باتصال أملاكهم، حتى قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ فَلْيَستَأذِنْ جَارَهُ " فإذا أراد البائع اختيار الجار الذي لا حق له على الجار الذي له حق، جعل له إبطال ذلك؛ إذ ليس غرضه من البيع إلا الثمن؛ وهو وقد يوجد ذلك من الجار؛ ولهذا ما توجب الشفعة في الهبات والصدقات مما يجوز أن يقصد بها أسبابا وأحوالا لا يوجد ذلك في الجار، وأما البيع فالمقصود فيه الثمن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ}

والْجُنُبِ: البعيد، بيّن - واللّه أعلم - ليعلم أن الحق الذي ذكر للجار من الإحسان إليه ليس هو بحق القرابة، بل هو بحق الجوار، فأمر بالإحسان إلى من له جوار بالملك نحو ما أمر بالإحسان إلى من له جوار بالنسب، ثم كان الحق قد يفترض بجوار النسب بمال مع ما كانت الصلة مفروضة فيمن مس ملكُهُ ملكَهُ في الملك وجوبه فيما وقع التَّمَاسُّ بالبدن

في البدن.

على أن الآية فيما أمر بالإحسان إلى جميع من ذكر قد يصير ذلك حقا يلزم بحال، فمثله حق الجوار، وذلك لا يعرف غير حق الشفعة، وقد جاءت به الآثار، وثوارث المسلمون في ذلك الطلب والاحتيال في الصرف والمنع؛ فبان أن الحق به ظاهر لا يحتمل الخفاء، مع ما لا يشك من القوام عن ذلك إلا وعنده حظ من العلم فيه لا يوجد مثله بشيء من الحقوق في غير أملاك المحقين، هذا البيان والظهور ثبت أن أمره كان معروفًا في الأمة حتى جرى به التوارث.

ثم هذا النوع من العلم لا يحتمل انتشاره ونيله بالرأي؛ فصار كسنة ظاهرة، لها حق التواتر مع ما يستغنى عن روايته، واللّه أعلم.

ثم اعلم أن الناس على اختلافهم متفقون على وجوب حق الشفعة بحق الشرك فيما يحتمل القسمة، وأما أن يجب بحق القسمة، فيجب ذلك في كل محتمل القسمة، وذلك مما يأباه الجميع، أو يجب بما جعل من حق الجوار الذي جاء به الكتاب، وجرت به السنة، أو بما جعل من تأذي بعض الجيران ببعض، والأمر بالمعروف في الخلق من الاستخبار عن أحوال الجيران قبل تأمل الدور وتفاوت القيم باختلاف الجيران بما في ذلك من المؤن والمضار، وأي هذين كان فالشفعة واجبة بالجوار؛ لأنهما أمران لا يسلم عنهما على ثبات الجوار؛ فيجب به الشفعة مع ما أمكن الجمع بين الآثار بما لا يحتمل تسمية الشريك جارًا من حيث الشرك لوجهين:

أحدهما: قوله - تعالى -: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}، لم يجعل الأرض من حيث الأرض متجاورة حتى أثبت لها القطع؛ فأوجب بالقطع التجاور مع ما كان الجوار في اللغة اسمًا للتقارب والالتصاق، لا لتداخل معروف، ذلك عند من تأبى نفسه مكابرة المعارف.

والوجه الآخر: ما لا يسمي الشركاء في عين العرصات جيرانًا، ثبت أن ذلك ليس من

أسماء الشرك؛ فلا وجه لصرف الخبر باسم الجوار إلى الشرك مع ما قد جاء ما يقطع من السؤال عن أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار أنه قال: " الجَارُ أَحَق بِسَقَبِهِ. . . ".

ومما جاء: " الجَارُ أَحَق بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبَا " إذا كان طريقهما واحدًا؛ فيجب بما ذكرت صرفه عن الشريك إلى وجه يوافق خبر الجار، وله أوجه ثلاثة:

أحدها: أن قوله: " قضى بالشفعة لشريك لم يقسم " غير مقابل لخبر الجوار؛ إذ هو أحق في القولين:

وما روي من القول: " إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ " فقد يحتمل أن يكون خبرًا عن هذا الفعل ألا شفعة في صرف الطريق وإظهار الحدود؛ إذ القسمة في معنى البيع في الأمور حتى منع الاقتسام في كل ما لا يحتمل التفاضل إلا بما يجوز به، فقيل: لا شفعة في هذا، واللّه أعلم.

والثاني: أن يكون إذا كان هذا فلا شفعة لهم مع من لم تقع بينهم الحدود، ولا صرفت بينهم الطرق، واللّه أعلم.

والثالث: إذا وقعت الحدود فتباينت، وصرفت الطرق فتباعدت؛ إذ فيما لم يتباينا ثم حد ليس واحد من الأمرين، وإذا احتمل خبر الشرك ما ذكرنا، ثبت أمر الشفعة بالجوار والشرك جميعًا على الترتيب، ولا قوة إلا باللّه.

ولو كان الجنب اسمه لبعيد الجيران بالنسب استحق بما كان الذي به الجوار يلتصقان، ويكون كل واحد منهما بجنب الآخر؛ إذ لا يسمى كل بعيد به، ففيه وجهان:

أحدهما: الحق بالاتصال.

والثاني: بيان ما به يكون الجوار، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} اختلف فيه:

قال علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: هي المرأة.

وقال عبد اللّه بن مسعود - رضي اللّه عنه - كذلك أيضًا هي المرأة.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: هو الرفيق في السفر، وكذلك قول مجاهد.

فإن كان الصاحب بالجنب هو المرأة، فالأمر بالإحسان من جانب، وإن كان هو الرفيق في السفر فمن جانبين، ما يلزم هذا يلزم الآخر مثله بحق المصاحبة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يحتمل الأمر وجهين:

بالإحسان إلى المماليك شكرًا لما أنعم عليهم مما جعل لهم من الخولة من جوهرهم وأمثالهم في الخلقة أذلاء تحت أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم.

أو لما هم أمثالهم في الحاجة من المطعم، والمشرب، والملبس، وهم مقهورون في أيديهم، وقد يترك الرجل النظر لمن هو مقهور في يده؛ أمر بالنظر إليهم، واللّه أعلم.

وقد جاءت الآثار في ذلك عن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كانت عامة وصية رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ".

وعن جابر بن عبد اللّه قال: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوصي بالمملوك خيرًا، ويقول: " وَأَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُم مِمَّا تَلْبَسُونَ ".

وعن علي - رضي اللّه عنه - قال سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيماننا.

 وعن أم سلمة - رضي اللّه عنها - قالت: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول في مرضه: " الصلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم " فجعل يتكلم وما يقبض بها لسانه.

وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لِلْمَملُوكِ طَعَامُهُ وَكسوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ ".

وعن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كان آخر وصية رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين حضرته الوفاة: الصلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكم "، ثم جعل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يغرغر بها في صدره، ولا يفصح بها لسانه.

وعن أبي ذر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول في المماليك: " هُم إِخْوَانُكُم، وَلَكِن اللّه خَوَّلَهُم إِياكُم، فَأطْعِمُوهُم مِما تَأكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُم مما تَلْبَسُونَ ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} الآية.

قيل: المختال: هو المتكبر.

وقيل: هو من الخداع.

وقيل: هو الذي يمشي مرحًا؛ وهو واحد، يتكبر على عبادة اللّه - تعالى - أو يتكبر على عباد اللّه - تعالى - ويخدعهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}؛ لأنه لا يحب الاختيال، وكذا في كل ما ذكر: لا يحب ذا ويحب ذا؛ كقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} والتائبين، ولا يحب الظالمين؛ لأنه يحب الطهارة والتوبة، ولا يحب الظلم ولا الكفر، فإذا لم يحب هذا، لم يحب فاعله لفعله وإذا أحب هذا، أحب فاعله لفعله.

٣٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ... (٣٧)

يحتمل أن تكون الآية تفسيرًا لما تقدم من قوله: {إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} ووصف لهم؛ إذ لا يتكلم بمثله إلا عن تَقَدُّمِهِ.

ويحتمل على الابتداء؛ كقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ. . .} الآية.

ثم يحتمل وجوهًا:

يحتمل قوله: يبخلون بما عندهم من الأموال، ويأمرون الناس به، وهكذا دأب كل بخيل أنه يبخل ويأمر به غيره.

ويحتمل: يبخلون بما عندهم من العلوم والأحكام، لم يُعَلِّمُوا غيرهم، ويأمرون الناس بذلك.

ويحتمل قوله: يبخلون بإظهار نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويأمرون الناس به؛ ألا ترى أنه قال: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} أي: يكتمون نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفته.

ويحتمل قوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} أي: يكتمون، من العلوم والحكمة.

ويحتمل: ما ذكرنا: أنهم يكتمون ويبخلون بما آتاهم اللّه من فضله من الأموال، ولا ينفقونها، وفي ترك الإنفاق والتصدق كتمان ما أنعم اللّه عليهم، وعلى ذلك روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ أَتَاهُ اللّه نِعْمَة فَلْتُرَى عَلَيهِ " لعله أراد بقوله: " تُرَى عَلَيهِ " أن ينفقها على نفسه ويتصدق بها ويلبسها.

وجائز أن يكون أراد - واللّه أعلم - الإنفاق والتصدق على غيرهم، فعلى ذلك كتمان ما آتاهم اللّه من الأموال إذا تركوا الإنفاق على غيرهم؛ لأن من كانت له الأموال لا يترك الإنفاق على نفسه.

 وقيل في قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} نزلت في كعب بن الأشرف كتم نعت مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكتب إلى الرؤساء من اليهود في الآفاق يأمرهم بكتمانه.

وأيضًا، في قوله: {يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}: أي: بما أنعم اللّه عليهم من الأموال، أو بما بين لهم من صفات الرسول - عليه أفضل الصلوات - أو بما أمروا به من العبادات، حملهم على الكفر أحد هذه الأوجه الثلاثة؛ أو كانوا استحلوا أحدها، فكفروا بذلك، لزمهم الذي ذكر في القرآن، واللّه أعلم.

وكتمانهم يرجع إلى كتمان النعت والحقوق والعبادات في أنفسهم؛ لئلا يعرفوا بالعدول عليهم عما في كتبهم، وذلك تحريفهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}

ظاهر، قد ذكرناه في غير موضع.

* * *

٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَا بِالْيَوْمِ. . .} الآية: أي، سرا وقيل: إنها نزلت في المنافقين: كانوا ينفقون مراءاة، ويصلون مراءاة كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين بذلك، وكانوا لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر سرًّا.

وقيل: إنها نزلت في الذين يسعون في معاداة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويخرجون معه ينفقون أموالهم مراءاة للناس، يطلبون بذلك الرياسة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}

يحتمل أن يكون هذا في الدنيا كقوله: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ. . .} الآية

 ويحتمل في الآخرة؛ كقوله - تعالى -: (فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)، فهذا - واللّه أعلم - لأن كلّا منهم كان يقبح الشيطان ويأنف عنه، ويحشن الملائكة ويحمدهم، حتى ضرب مثل القبح من الأشياء بالشياطين؛ كقوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}، وضرب مثل الحسن بالملائكة، وذلك لمعرفتهم بقبح الشياطين وحسن الملائكة؛ وذلك إنما عرفوا بالخبر؛ لأنهم لم يعاينوا ملكا عرفوا حسنه بالمعاينة، ولا شاهدوا شيطانًا عرفوا قبحه بالمشاهدة، ولكنهم عرفوا ذلك بالخبر؛ ففيه دليل إثبات النبوة؛ لأنهم ما عرفوا ذلك إلا بهم، دل استقباح الجميع الشياطين واستنكارهم، واستحسانهم الملائكة واستعظامهم من غير أن شهدوا من أحد من الفريقين - على قبول الأخبار؛ إذ عن الألسن نطقوا به؛ وعلى إثبات الرسالة؛ إذ هم جاءوا بالآثار عمن شهدهم وأنشأهم، واللّه أعلم.

٣٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (٣٩) هذا - واللّه أعلم - صلة قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} وفمعنى قوله: فماذا عليهم لو آمنوا باللّه واليوم الآخر - واللّه أعلم - وذلك أنهم كانوا ينفقون مراءاة طلب الرياسة وإبقائها؛ فقال: لو آمنوا باللّه واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم اللّه تبقى لهم تلك الرياسة، ويكون لهم الذكر؛ بل لو آمنوا كان ذلك في الإيمان أكثر ذكرًا، وأعظم قدرًا ومنزلة؛ ألا ترى أنه من أسلم منهم من الأئمة من نحو ابن سلام وغيره كان لهم ذكر في الإسلام وبعد موتهم من غير حاجة وقعت بهم إليهم في حق شرائع الإسلام، ومن مات منهم على الكفر لم يذكر أبدًا، فأخبر اللّه - سبحانه وتعالى - أن ليس في الإيمان باللّه واتباع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذهاب شيء مما يخافون ذهابه من الرياسة والمنافع التي يطمعون في وصولها إليهم، وغير ذلك؛ حيث قالوا: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}، فقال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي: لم يكن مما خافوا باتباع الهدى قليلًا ولا كثيرًا.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه بِهِمْ عَلِيمًا} يحتمل وجهين:

يحتمل: أنه كان على علم منه بما يفعلون من فعل الكفر والشر ونحوه من خلق إبليس، لا عن جهل ولا غفلة، ليس كصنيع ملوك الأرض أنهم إذا فعلوا فعلا ثم استقبل الخلاف فإنما يكون ذلك لفعله منهم وجهل بالعواقب، فاللّه - سبحانه وتعالى - كان لم يزل عالمًا بهم، لكنه تركهم على ذلك لما لا يلحقه الضرر بالعصيان، ولا النفع بالطاعة، بل حاصل الضرر والنفع يرجع إليهم.

والثاني: يخرج مخرج التحذير لهم والتنبيه؛ لأن من علم أن آخر يعلم بصنيعه كان أحذر وأخوف ممن يعلم أنه ليس عليه حافظ ولا رقيب، وعلى هذا يخرج قوله: (كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)، ليكونوا على حذر من ذلك.

وقيل: {وَكَانَ اللّه بِهِمْ عَلِيمًا} أنهم لن يؤمنوا.

وفي قوله -أيضًا-: {وَكَانَ اللّه بِهِمْ عَلِيمًا} أي: أنشأهم على العلم بما يفعلون؛ يبين أنه أنشأهم؛ ليعلم الخلائق أن مخالفتهم إياه لا تضره؛ إذ كل من يضره الخلاف لا يتولى ابتداءه إلا على الغفلة ببعضه من الضرر يلحقه بالخلاف.

والثاني: على التحذير وقت الفعل بتذكير المراقب عليه على ما عليه الأمر المعتاد من الانتهاء عن أمور تهواها النفس بالمراقب عليه.

ويحتمل: كان على إرادة نفي حدثية العلم، أو أخبر بعلمه بفعلهم وما لهم من الجزاء، واللّه أعلم.

* * *

٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وقوله - تعالى -: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} و {نَقِيرًا}، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.

ذكر هذا - واللّه أعلم - لئلا يظن جاهل إذا رأي ألم الأطفال والصغار وما يحل بهم أن ذلك ظلم منه لهم، لكن ذلك - واللّه أعلم - ليعلم أن الصحة والسلامة إفضال من اللّه -

تعالى - لهم، لا لحق ألهم عليه في، ذلك؛ إذ له أن يخلق كيف شاء: صحيحًا، وسقيمًا، ثم من ظلم آخر في الشاهد إنما يظلم لإحدى خلتين:

إما لجهل بالعدل والحق، وإما لحاجة تمسه يدفع ذلك عن نفسه، فيحمله على الظلم، فاللّه - سبحانه وتعالى - غني بذاته، عالم، لم يزل يتعالى عن أن تمسه حاجة؛ أو يخفى عليه شيء مع ما كان معنى الظلم في الشاهد هو التنازل مما ليس له بغير إذن من له وكل الخلائق من كل الوجوه له؛ فلا معنى ثَمَّ للظلم.

ثم قيل في الذرة: إنها نملة، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " مثقال نملة ".

وقيل: مثقال حبة، وهو على التمثيل، ليس على التحقيق، ذكر لصغر جثته أنه لا يظلم ذلك المقدار، فكيف ما فوق ذلك؟!، لا أن مثله يحتمل أن يكون، لكن لو كان فهو بتكوينه، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}

هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: من ارتكب كبيرة يخلد في النار ومعه حسنات كثيرة، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وهي الجنة، وهذا لسوء ظنهم باللّه، وإياسهم من رحمته.

عن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِنَّ اللّه - تعالى - لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حسَنَة يُثابُ عَلَيهَا إِمَّا رِزْقٌ فِي الدنْيَا، وَإِمَّا جَزَاءٌ فِي الآخِرَةِ ".

وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يَقُولُ اللّه - تَعَالَى -: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرةٍ مِنْ إِحْسَانٍ " قال أبو سعيد - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -:

 فمن شك في ذلك فليقرأ: {إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. . .} الآية.

٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ... (٤١)

يقول: بالنبي، يعني: بنبيها وجئنا بك يا مُحَمَّد على هَؤُلَاءِ شهيدًا عليهم، يعني: على أمته، شهيدًا بالتصديق لهم؛ لأنهم يشهدون على الأمم للرسل أنهم بلغوا ما أرسلوا به لما هو دليل صدقهم، وقامت براهينهم بالرسالة صارت شهادة على هَؤُلَاءِ؛ أي: لهَؤُلَاءِ؛ على هذا التأويل؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، أي: لها ويحتمل عليهم لو كذبوا وزلوا.

وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يعني: نبيها، {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد على أمتك شهيدًا على تبليغ الرسالة.

٤٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ... (٤٢) قيل فيه بوجوه:

إذا ميز اللّه أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، قال للوحش والطير والسباع: " كُوِني تُرَابًا "؛ فتكون ترابًا، فعند ذلك يتمنون أن يكونوا ترابًا مثل الوحش فسويت بهم الأرض.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: يجحد أهل الشرك يوم القيامة أنهم ما كانوا مشركين، فينطق اللّه - تعالى - جوارحهم؛ فتشهد عليهم؛ فيودون أنهم كانوا ترابًا؛ كقوله: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}، وقوله - تعالى -: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}؛ فذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} ليتنا لم نبعث

 ولم نحيا، ويقرأ " تُسَوَّى " و " تَسَوَّى " " وتَسَّوى "، و " [وتُسْوَى "، و " تستوى "، و " تُسْوَى] " (١) وفي حرف حفصة: " لو تستوى بهم الأرض ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا}.

قيل: لما أنطق اللّه - تعالى - جوارحهم وشهدت عليهم حين أنكروا أن يكونوا مشركين بقوله - تعالى -: {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} - لم يستطيعوا أن يكتموا اللّه حديثًا.

ويحتمل: على الاستئناف: لا يكتمون اللّه حديثًا.

ويحتمل: أن يكونوا يودّوا في الآخرة ويتمنوا أن لم يكونوا كتموا في الدنيا حديثًا.

* * *

٤٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}

واختلف في قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قيل: لا تدنوا مكان الصلاة وأنتم سكارى، وكذلك الجنب لا يدنو مكان الصلاة؛ وهو قول عن ابن مسعود، رضي اللّه عنه. (١) قال السمين:

وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم «تُسَوَّى» بضم التاء وتخفيف السين مبنياً للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي: تَسَوَّى بفتحِها والتخفيفِ، ونافع وابن عامر بالتثقيل. فأما القراءة الأولى فمعناها: أنهم يَوَدُّون أن اللّه تعالى يُسَوِّي بهم الأرض: إمَّا على أن الأرض تنشق وتبتلعهم، وتكون الباء بمعنى «على»، وإمَّا على أنهم يَوَدُّون أن لو صاروا تراباً كالبهائم، والأصل: يَوَّدون أن اللّه يُسَوِّيهم بالأرض، فَقُلِب إلى هذا كقولهم: «أدخلت القَلَنْسوة في رأسي»، وإمَّا على أنهم يودُّون لو يُدْفَنون فيها، وهو كمعنى القولِ الأول، وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرض أي: يُؤْخَذُ ما عليها منهم فديةً.

وأمَّا القراءة الثانية فأصلُها «تَتَسَوَّى» بتاءين، فحذفت إحداهما. وفي الثالثة حُذِفت أحداهما. ومعنى القراءتين ظاهرِ مِمَّا تقدَّم، فإن الأقوال الجارية في القراءةِ الأولى جاريةٌ في القراءتين الأُخْرَيَيْن، غايةُ ما في الباب أنه نَسَب الفعلَ إلى الأرض ظاهراً. اهـ (الدر المصون ٣/ ٦٨٦).

وقيل: قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نهي عن الصلاة في حال السكر؛ روي أن رجلًا صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص، فأكلوا، وسقاهم خمرًا، وذلك قبل أن تحرم؛ فحضرت صلاة المغرب، فأمهم رجل منهم فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكافرون}، بطرح اللاءات؛ فنزل قوله - تعالى -: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}.

وروي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا يُصَلِّيَنَ أَحَدُكُم وَهُوَ لَا يَعْقِلُ صَلَاتَهُ ".

وفي الآية دلالة: أن في الصلاة قولاً فرضًا، نهي عن قربانها في حال السكر؛ مخافة تركه، أو نهي عن قربانها في حال السكر؛ خوفا أن يدخل فيها قولا ليس منها؛ وفي ذلك دليل فساد الصلاة بالكلام عمدًا كان أو خطأ؛ لأن السكران لا يفعل ذلك على العمد، ولكن على الخطأ، والأصل في هذا: أنه لم ينهه عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة، ولكن فيه نهي عن السكر، وكذلك قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَلَاةَ للْعَبدِ الَآبِقِ، وَلَا لِلْمَرأَةِ الناشِزَةِ " ليس النهي فيه عن الصلاة، ولكن النهي عن الإباق والنشوز نفسه، وهكذا كل عبادة نهي عنها بأسباب تتقدم، فالنهي إنما يكون عن تلك الأسباب، لا عن العبادة التي أمر بها؛ لأن الإباق والنشوز والسكر ليسوا بالذي يعملون في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادة.

وفي الآية دلالة أن السكران مخاطب بقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نهي

عن قربان الصلاة في حال السكر، فالنهي إنما وقع في حال السكر، فإذا كان مخاطبًا عمل طلاقه ونفذت عقوده؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، فلو لم يكن عليهم ذكر في حال السكر لم يكن ليصدهم عن ذكر اللّه معنى ولا ذكر عليهم، دل أنه مخاطب، ولهذا ما قال أبو يوسف - رحمه اللّه -: إنه إذا ارتد عن الإسلام يكون ارتداده ارتدادًا؛ ولما نفذ طلاقه وسائر عقوده وفسوخه، فعلى ذلك الارتداد.

وعلى قول أبي حنيفة - رحمه اللّه - لا يصير مرتدًّا؛ استحسانًا، ليس كسائر العقود والفسوخ؛ لأن سائر العقود يتعلق جوازها باللسان، وإن كان رضا القلب شرطًا فيها، وأما الإيمان والكفر فإنما يكون بالقلب، وإن كانت العبادة باللسان تكون شرطًا فيما بين الخلق، فإذا كان كذلك فإذا سكر يُذْهِبُ السكرُ القلبَ؛ فجعل كأنه لم ينطق به، وإما كان سائر العقود تعلقها باللسان، فإذا نطق به جاز، واللّه أعلم.

ثم اختلف في قوله - تعالى -: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ. . .}

منهم من حمل على مكان الصلاة؛ إذ الصلاة فعل، والفعل لا يقرب.

ومنهم من حمل على الفعل؛ أي: لا تصلوا.

وأي الوجهين أريد به فالآخر داخل فيه؛ لأنه إذا نهي عن حضور مكانها لحرمته فهي أعلى في الحرمة، وأحق في المنع؛ وأيد ذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} والعلم بالقول يحتاج إليه في حق الفعل؛ لئلا يترك المفروض من الذكر فيفسد، أو يدخل المحرم فيه فيفسد، وفي ذلك دلالة أحد الوجهين، وفي حق العموم الوجهان جميعًا، وهو على الخطأ يقول؛ فثبت أن الخطأ من القول في الصلاة مفسدًا؛ إذ لو كان لا يفسد لم يكن سوى النهي، وفي التأخير نهي أيضًا، واللّه أعلم.

ولو أريد به الصلاة فإنما المكان لأجلها، فلا وجه للحضور دون إمكان الفعل للفعل،

واللّه أعلم.

وعلى ذلك أمر الجنب، واستثناء عابري السبيل؛ ليكون على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضًا، فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه؛ إذ كان فيه بالتيمم، واللّه أعلم.

وإذا أبيح للجنب على المنع عن دخول المسجد إلا بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر، واللّه أعلم.

ثم في المروي دلالة عمن أَمَّ في المغرب بـ {قُل يَا أَيُّهَا الكافرون} على طرح اللاءات في حال السكر حتى نزل قوله - تعالى -: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} - أن كلام الكفر في حال السكر لا يكفر صاحبه؛ إذ خاطبهم باسم الإيمان؛ فلذلك لم يكن عند أبي حنيفة - رحمه اللّه - كافرًا، على أن المخطئ لما يجري على لسانه كلمة الكفر لا يصير كافرًا في الحكم، والسكران يجري على لسانه على الخطأ؛ دليله ما لا يذكره، وما كان من عقد القلب فهو لا ينسى، وبخاصة المذاهب كلها يختار عن فكر الأسباب، وعن اختيار الأحق من الأمور عنده إما لحجة، أو شبهة، أو شهوة، من نحو الإلف بالتقليد، وحسن الظن، والذي يكون على ما ذكرت لا يحتمل السهو عنه حتى لا يخطر بباله لو أراد بدعوة عن قريب ثبت أنه كان عن خطأ، وقد جاء برفع الخطأ.

وأصله: أن اللسان معبر عن الاعتقاد في أمر الدِّين، وبخاصة في الكفر الذي يكون بالقلب خاصة بلا استعمال اللسان؛ فإذا كان مخطئا فهو أمر اللسان دون القلب الذي اللسان عنه معبر، ومن عبر الكفر باللسان ووصفه لا يكفر إلا بأن يكون يُعَبّرُ عن نفسه أنه اعتقده، فلذلك كان على ما بينا، على أنه قد يجري بتلاوة القرآن على اللسان بالغلط ما يكفر عليه بالتعمد؛ فلا يجوز أن يجعل تلاوته للتعظيم، والإيمان به كفرًا، ثبت بذلك رفع حكم الكفر عمن أخطأ في إجرائه على اللسان، فمثله السكران؛ إذ هو مخطيء، واللّه أعلم.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله - تعالى -: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}:

عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: هو أن يكون مسافرًا ولا يجد

الماء فيتيمم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: هو المسافر.

وقيل: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} نهي الجنب أن يدخل المسجد ومكان الصلاة إلا عابري سبيل، إلا مجتازًا.

ومن تأول الآية على المرور في المسجد فهو غير بعيد؛ يقول: إنما كره للجنب أن يستوطن المسجد، فأما المار لأمر يعرض له، فقد رخص له؛ ألا ترى أن الجنب رخص له أن يقرأ بعض الآية، ولا يجوز أن يتمها، فمروره في المساجد إذا لم يجلس فيه كقراءته بعض الآية إذا لم يتمها، وعلى ذلك أمر الجنب.

واستثناء عابري السبيل يكون على فعل الصلاة بالتيمم؛ فيكون في الآية دلالة التيمم للجنب، أو المكان؛ فيباح الدخول فيه على العبور فيه بالتيمم أيضًا؛ فعلى ذلك عندنا الدخول للاغتسال فيه إذا كان منه بالتيمم، واللّه أعلم.

وإذا أبيح للجنب دخول المسجد بالتيمم؛ فثبت أن التيمم قد جعل له الطهارة، فله الصلاة به لعذر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} الآية.

أباح اللّه - تعالى - للمريض المقيم أن يتيمم، والآية ذكرت المرض عامَّا، وأجمعوا أن المريض الذي لا يخاف أن يضر به الماء لا يتيمم، وإنما أجازوا أن يتيمم إذا خاف ضرر

الماء إن هو توضأ به؛ فدل أن اللّه - تعالى - لما أباح للمريض التيمم لم يبح باسم المرض، ولكنه لمعنى في المرض؛ دليله ما ذكر أنه لم يبح لكل مريض، وإنما أبيح لمريض دون مريض.

وفيه دليل لقول أبي حنيفة - رضي اللّه عنه - حيث أباح للمقيم الجنب التيمم إذا خاف على نفسه الهلاك؛ ألا ترى أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أباح للسفر التيمم، ولم يبحه باسم السفر، ولكنه أباح لمعنى فيه: وهو إذا كان بمكان إعذار والماء؛ ألا ترى أنه لا يباح له التيمم في الأمصار، وإن كان اسم السفر موجودًا؛ لعدم معنى السفر؛ فعلى ذلك إباحة التيمم للمريض إباحة لمعنى في المرض؛ ألا ترى أنه ذكر مجيئه من الغائط، والغائط هو المكان المطمئن الذي يقضي فيه الحاجة، ولا كل من جاء من ذلك المكان يلزمه الوضوء والتيمم؛ دل أنه لمعنى فيه، فعلى ذلك الأول.

وروي أن جريحًا غسل فمات، فبلغ الخبر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال: " قَتَلَوهُ، فَإِنَّمَا يَكْفِيهِم كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ "، وكذلك غسل محدود فمات، فقال: " قَتَلوه، إِنَّمَا يَكْفِيهِ كَفٌّ مِنْ تُرَابٍ " ونحو هذا، فإذا ثبت أن المراد من المرض والسفر والغائط المعنى الذي فيه لا لعين المرض والسفر والغائط؛ لما ذكرنا؛ دل أن كل مريض يباح له التيمم، وإنما يباح لمريض دون مريض، وكذلك لم يبح لكل أسفر وإنما يباح، لسفر دون سفر، ومكان دون مكان، وهو المكان الذي يعدم الماء فيه ويفقد.

فعلى ذلك المراد من قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}

عين اللمس وهو الجماع، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: الملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والجماع - نكاح، ولكن اللّه - تعالى - كنى.

وعن الحسن، وعبيد بن عمير، وعطاء، قالوا: الملامسة: الجماع.

فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في ذكر المرض والسفر والغائط والملامسة إذا كان المراد من ذكرها غيرها؟

قيل: الحكمة في ذكرها هو أن المرض في أغلب أحواله يُعْجِزُ المرءَ عن إصابة الماء، وكذلك السفر في أغلب أحواله يُعْجِز صاحبَهُ عن الماء، فخرج الذكر على أغلب الأحوال، وكذلك من جاء من الغائط؛ الأغلب أنه إنما يجيء عن قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا لا يخرجون إلا لقضاء الحاجة، وكذلك الملامسة من الزوجين، الأغلب فيها قضاء الوطر والحاجة، فعلى الأغلب خرج الذكر وإن احتمل غيره، وهذا يدل على أن الاحتجاج بالظواهر والعموم بحق المخرج باطل؛ لما لا يجوز لأحد أن يحتج بظاهر هذه الآية أن يقول: على كل مريض، أو على كل مسافر إلا كذا.

ثم اللمس إن أريد به الجماع، فهو ممكن لوجهين:

أحدهما: البلية بالقبلة، واللمس باليدين من الزوجين ظاهرًا لا يحتمل ألَّا يعرف به الرسول والأئمة من فعل العوام، فلو كان الوصف فيه لازمًا لا يحتمل ترك إظهار البيان حتى يلزم أكثر الأمة المنكر في فعل الصلاة، واللّه أعلم.

والثاني: أن يكون الأمر بالمعروف في كل لمس ومس جرى الذكر به بين الذكور والإناث فهو بحق الكناية عن الجماع، وكذلك سائر الحروف المحتملة للكناية عنه؛ من نحو: المباشرة، والغشيان، ونحو ذلك، وبه قال كل من أجاز التيمم للجنب في حق الصلاة من الصحابة - رضوان اللّه تعالى عليهم - واللّه أعلم.

وإن أريد به غير الجماع مما قد يحتمل وجوهًا، فهو لا يجمع الكل، ولكن يرجع إلى خاص، وهو الذي في الغالب أن يكون ثم خروج وإن لم يكن، وهي المباشرة الفاحشة؛ دليله ذكر المرض والسفر على غير اقتران الحكم بنفسه؛ إذ هو اسمان لوجوه، فانصرفا إلى غاية ما له وقعت الرخصة من العجز والعدم، فمثله أمر الوضوء في الأول، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}

قيل: التيمم: القصد؛ يقال: تيممت الصعيد وأممته، لغتان.

وقوله: {فَتَيَمَّمُوا}: تعمدوا صعيدًا طيبًا، فإذا كان التيمم القصد والتعمد إلى الصعيد - لم يجز إلا بالنية؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بالقصد إليه والتعمد، وذلك أمر بالنية؛ لأن القصد نية.

وفي حرف حفصة وابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - " فأموا صعيدًا طيبًا " أي: اقصدوا قصده، والصعيد، قيل: هو وجه الأرض، وسمي: صعيدًا؛ لما يصعد عليها.

وقيل: الصعيد هو الأرض التي تنبت؛ ألا تري أنه رُويَ عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " جُعِلَتْ لي الأَرْضُ مَسجِدًا وَطَهُورًا، إِلا السَّبَخَةَ وَالمَقْبَرَةَ " وقيل: إنها ملعونة؛ ولهذا قال أبو يوسف - رحمه اللّه -: إن التيمم لا يجوز من الأرض السبخة؛ لأنها ليست

بطيب، والطيب ما ينبت، وأما أبو حنيفة - رضي اللّه عنه - فإنه قال: الطيب: هو الطاهر الحلال، له أن يتيمم به إذا عدم الماء، الطيب: اسم ما أحل في كل نوع، من المقصود فيه، والمقصود في التيمم التطهر، فهو الطهور والطاهر، وأيده الخبر الذي ذكر من جعل الأرض طهورًا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}

الأمر يقع بمسح الأيدي على الذراعين دون الكفين؛ دليله أمر الوضوء أنه يُغْسَلُ الذراعان وقت غسلهما بلا غسل كفين؛ إذ قد تقدم غسلهما، فالذراعان دخلتا في المسح بذكر اليد، وكذلك في الوضوء؛ لأن الكفين يغسلان قبل غسل الوجه، فالأمر بغسل اليد يقع على الذراعين وما وراء ذلك.

وعن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي الجهيم قال: أقبل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من غائط أو بول، فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام، فضرب باليد الحائط ضربة فمسح بها وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها يديه إلى المرفقين، ثم رد السلام.

وهكذا يقول أصحابنا - رحمهم اللّه - بالضربتين: ضربة للوجه، وضربة للذراعين.

الأصل: أنه إذا قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}: أنه في وقت الأمر يفعل الغسل إلى المرافق غير مخاطب بغسل الكفين على حق غسل الذراع؛ إذ

 قد أمضى غسل فرضها، من قبل؛ فصارت الآية كأنها في غسل الذراع بالأمر بغسل اليد، وعرف بذلك غسل الكف لا بها، فمثله أمر التيمم؛ فصارت الآية كأنها في حق الذراع، ودخل الكف في ذلك بالخبر على أن أمر الطهارة فيما أضيفت إلى عضو أو بدن لم يحد لم يدخل كالمضاف إليه في الاشتراك بقضاء حقهما، نحو الجنابة، والوجه، والرأس، فكذلك أمر اليد في التيمم، لكن قصر عن التمام، بدلالة بيان السنة وعموم الفتيا، وما لا يشك في قضاء حكم الوضوء، وليس هو في بعض اليد فلا يجعل فيما ليس هو فيه بدله؛ إذ حقه التقصير عن كمال وظيفة الأصل، لا الزيادة عليه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَفُوًّا}

لما مضى من الذنوب

{غَفُورًا} لما يستقبل.

والعفو: الصفح والمحو، والغفر: الستر، هو يعفو عنه، ويستر على صاحبه.

أو يعفو من التجاوز؛ فيختلف اللفظ على إرادة معنى واحد.

* * *

٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} يقول: أعطوا حظًّا من علم الكتاب، وهم علماؤهم، يشترون الضلالة بعلم الكتاب.

ويحتمل: يشترون الضلالة بالهدى، وكذلك قيل في حرف حفصة على ما ذكر في

 غير هذه الآية: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}، وذلك أنهم كانوا آمنوا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، فلما لم يبعث على هواهم، كفروا به؛ كقوله - تعالى -: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.

ويحتمل: يشترون ضلالة غيرهم بالتحريف، والرشاء، ونحو ذلك؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه}،

وقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا}.

{أَلَمْ تَرَ} حرف التعجب عن أمر قد بلغه؛ فيخرج مخرج التذكير، أو لم يبلغه؛ فيخرج مخرج التعليم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} يحتمل وجهين:

{وَيُرِيدُونَ} أي: يتمنون أن تضلوا السبيل؛ لتدوم لهم الرياسة والسياسة؛ إذ كانت لهم الرياسة على من كان على دينهم، ولم يكن لهم ذلك على من لم يكن على دينهم؛ فتمنوا أن يكونوا على دينهم؛ لتكون لهم الرياسة عليهم.

وقيل: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي: يأمرونهم ويدعونهم إلى دينهم؛ لما ذكرنا من طلب المنافع، وإبقاء الرياسة، واللّه أعلم.

٤٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللّه أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ... (٤٥)

كأنهم - واللّه أعلم - يطلبون موالاة المؤمنين، ويظهرون لهم الموافقة، فنهي اللّه - تعالى - المؤمنين عن موالاتهم؛ كقوله - تعالى -: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا}. . .)، إلى قوله - سبحانه وتعالى -: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ. . .} الآية، فأخبر اللّه - تعالى - المؤمنين أنه أعلم بأعدائكم منكم.

ويحتمل أن يكون المؤمنون استنصروهم، واستعانوا بهم في أمر، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم أعداؤكم، وهو أعلم بهم منكم.

ثم قال: {وَكَفَى بِاللّه وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّه نَصِيرًا}

أي: كفى به وَلِيًّا ومعينًا، وكفي به ناصرًا.

ويحتمل قوله: {وَكَفَى بِاللّه وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّه نَصِيرًا} مما أعطاكم من أعطاكم؛ أي: لا ولي أفضل من اللّه - تعالى - ولا ناصرًا أفضل منه، منه البراهين والحجج، واللّه أعلم.

٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ... (٤٦) وفي حرف ابن

مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {وَكَفَى بِاللّه نَصِيرًا}، {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} على الاستئناف، والابتداء خبر، وفي حرف غيره: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} - معناه واللّه أعلم: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من الذين هادوا، لا ذكر للنصارى في ذلك.

وفي حرف ابن مسعود - رضي اللّه عنه - ذكر النصارى في الذين أوتوا نصيبًا.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " من الذين هادوا من يحرف الكلم عن مواضعه ".

ثم تحريف الكلم يحتمل وجهين:

يحتمل: تغيير المعاني وتبديل التأويل على جهالهم؛ كقوله - تعالى -: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ. . .} الآية.

ويحتمل: تغيير اللفظ والكتابة نفسها؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّه}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}

قيل: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}

قيل: اسمع قولنا غير مسمع، أي: غير مجيب.

وقيل: اسمع قولنا غير مسمع لا سمعت؛ على السب.

وقوله: {وَعَصَيْنَا}

الإسرار به منهم أظهره اللّه - تعالى - عليهم؛ ليكون آية للرسالة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرَاعِنَا}

قيل: يقولون لمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: راعنا سمعك.

وقيل: {وَرَاعِنَا}: أرعنا حقوقنا؛ وهو من الرعاية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي: تحريفًا، والتحريف ما ذكرنا؛ كقوله - تعالى -: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ. . .} الآية.

وقيل في قوله - تعالى -: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع يا مُحَمَّد منا قولنا غير مسمع منك قولك، ولا مقبول ما تقول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: لو قالوا: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، وانظرنا فلا تعجل علينا ننظر.

وقيل في قوله: {وَانْظُرْنَا}: أفهمنا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}

مما قالوا: سمعنا قولك وعصينا أمرك، لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: فدوام الرياسة التي خافوا فوتها لو أطاعوه واتبعوه؛ إذ قد مَن آمن منهم وأطاعوا نبيه فلم تذهب عنهم الرياسة والذكر في الدنيا؛ بل ازداد لهم شرفًا وذكرًا في الحياة وبعد الممات، وأمَّا في الآخرة فثواب دائم غير زائل أبدًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأقوَمَ}

أي: أعدل وأصوب لما ذكرنا.

{وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ}

واللعن: هو الطرد، طردهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - من رحمته ودينه، لما علم منهم أنهم لا يؤمنون باختيارهم الكفر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}

قيل: والقليل من أسلم؛ من نحو ابن سلام وأصحابه وغيرهم.

وقيل: قوله - تعالى -: {فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} منهم، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من

 الكتب والأنبياء، عليهم السلام؛ كقوله - تعالى -: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.

* * *

٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} دلت هذه الآية أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ ولا ممن أوتوا الكتاب؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقا لما معكم وليس عند المجوس كتاب حتى يكون المنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا لما معهم.

ثم قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقًا لما معكم، وإنَّمَا كان موافقًا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام، لا بالنظم واللسان؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظمًا ولسانًا، وكذلك سائر كتب اللّه - تعالى - موافق بعضها بعضًا معاني وأحكامًا، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان؛ دل أنها من عند اللّه - تعالى - نزلت؛ إذ لو كانت من عند غير اللّه كانت مختلفة؛ ألا ترى أنه قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام، حيث أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه موافق لما معهم، وهو في اللسان والنظم مختلف، والمعنى موافق.

ثم يحتمل قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} بصفته، ونعته، ونبوته، ومبعثه، وزمانه، فيه فيما معكم، لا يخالف في شيء من ذلك.

ويحتمل: أنه هو النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي آمنتم به قبل أن يبعث، فكيف كفرتم باللّه؟! واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا. . .} الآية.

قيل: لما نزلت هذه لآية قدم عبد اللّه بن سلام على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأسلم،

وقال: يا رسول اللّه، ما كنت أرى أني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.

وقيل: طمسها: أن تعمى أبصارها، وردها على أدبارها.

وقيل: طمس الوجوه: أن تعمى، وترد عن بصرتها، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بمحمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستيقنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نبي اللّه، يجدونه في كتبهم، يقول: حققوا إيمانكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبكتابه من قبل أن نضلكم عن هداكم؛ فتصيروا ضُلَّالًا؛ فلا تعلمون ما كنتم تعملون.

ويحتمل أن تكون الآية خرجت على الوعيد، وهي على التمثيل، لا على التحقيق.

ويحتمل: على التحقيق؛ كقوله - تعالى -: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} يحتمل الحقيقة؛ فيرجع إلى يوم القيامة، فيذهب عنه جميع محاسن الوجه.

أو نطمس وجوه الحق عنه بمعاندته، فيبصر الحق بغير صورته والباطل بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة، واللّه أعلم.

أو نطمس وجوههم عند أتباعهم الذين لأجلهم غيروا وحرفوا بما يطلعهم على خيانتهم، ويظهر لهم تبديلهم، وقد فعل بحمد اللّه تعالى.

وقد يحتمل الوعيد: أن يفعل بهم إن لم يؤمنوا حقيقة ذلك؛ كفعله بأصحاب السبت، تغير الجوهر، ثم لعل أُولَئِكَ قد أسلموا، أو نزل بهم ولم يذكر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا}

 أي: كان بأمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - مفعولا، كما يقال: الجنة رحمة اللّه، والمطر رحمة اللّه، أي: برحمة اللّه، فعلى ذلك معنى قوله - سبحانه -: {أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا} أي: بأمر اللّه كان مفعولا.

ويحتمل قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا}، أي: عذاب اللّه نازلا بهم.

٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (٤٨)

أجمع الناس أن اللّه، يغفر الذنوب كلها: الشرك وما دونه إذا انتهى وتاب بقوله - تعالى -: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} دل أن إطماع المغفرة لما دون الشرك لمن لم ينته عنه.

وقال الخوارج: الكبائر كلها إشراك باللّه، فمن ارتكبها دخل تحت قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، والمسألة بيننا وبينهم في ذلك، فيقال لهم: المعنى الذي صار به مشركا عندكم بارتكابه الكبيرة ذلك المعنى موجود في ارتكابه الصغائر؛ فيجيء أن يكون كافرًا، فإذا لم يصر بذلك كافرًا لم يصر بارتكابه الكبائر كافرًا.

وقالت المعتزلة: صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر.

وقال أبو بكر الأصم: ظهر الوعيد في الكبائر، وشرط المغفرة لما دون الشرك بقوله - تعالى -: {لِمَنْ يَشَاءُ} فهو للصغائر؛ كقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} أخبر أن من السيئات ما يكفر، ومنها ما لا يكفر، فهو للصغائر.

وأمَّا عندنا: فإن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أطمع المؤمنين المغفرة ما دون الشرك، ولو كان لا يجوز في العقل المغفرة لكان لا يطمع؛ لأنه لا يجوز أن يطمع ما لا يجوز في العقل، فإذا أطمع دل أنه يجوز في العقل المغفرة لما دون الشرك، ثم له المشيئة: إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم.

وأما إطماع المغفرة في الشرك: فإنه لا يجوز في العقل؛ لأن من اعتقد دينا إنما يعتقده

للأبد، وليس كل من ارتكب ذنبًا يرتكبه للأبد؛ بل إنما يرتكبه لقضاء شهوة تغلبه، فهو يندم على إثره؛ لذلك قلنا: يجوز في العقل إطماع المغفرة لما دون الشرك، ولا يجوز للشرك، وباللّه التوفيق.

ووجه آخر: أن الوعيد الذي ذكرته يحتمل الاستحلال، والاستخفاف بالأمر والنهي، فلا يتزل بما أطمع بهذه الآية من المغفرة؛ فيزال الطمع والرجاء بالوعيد المتوجه وجهين أو يوقف فيهم؛ فأما القطع في أحد الوجهين بالمحتمل ومنع القطع بالآخر للاحتمال فهو تحكم، ولا قوة إلا باللّه.

ووجه آخر: أن الآية في التفصيل بين المحتمل للغفران والذي لا يحتمل، فإذا صرفت إلى الصغائر فيبطل تخصيص اسم الشرك، ويلتبس على السامع محله، وليس أمر الوعيد فيما جاء بموضع التفصيل، بل الذي جاء بحق التفصيل ذكر الغفران بالتكفير، والتكفير يكون مقابلة الجزاء من حسنات أو عقوبات؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .} الآية، واللّه الموفق.

ووجه آخر: قال اللّه،- عَزَّ وَجَلَّ -: {لِمَنْ يَشَاءُ} وهذا كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس، وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء عامًّا؛ فبان لا صرف في ذلك، فهو أولى، واللّه الموفق.

وبعد، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: {لِمَنْ يَشَاءُ} والصغائر عندكم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - تعالى - أيضًا: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فمعلوم: أنه فيما يلزمه حتى يختم به، لا فيما يتوب عنه؛ أيد ذلك قوله: {إِن يَنتَهُوا يُغْفَر لَهُمْ. . .} الآية، وغير واحدة من الآيات التي جاءت في الكفرة لما آمنوا، واللّه أعلم؛ فصار كأنه قال: لا يغفر أن يشرك به إذا لم يتب عنه، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن لم يتب منه، فلو كان شيئًا مما دونه لا يحتمل في الحكمة المغفرة لضمه إلى الممتنع عن الاحتمال، لا أن ألحقه بالمحتمل له فيما كان معلومًا أن القصد فيه إلى بيان ما فيه الرجاء والإياس، وأيد ذلك

 قوله - تعالى -: {لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، فلو كان يلزم الإياس لما دونه ليجب الوصف له بالكفر؛ إذ الإياس لهم بالكفر وفي تحقيقه تحقيقُهُ، فأي الوجهين لزم تبعه الآخر في حق الإياس، لا في وجود فعله؛ إذ قد يوجد فعل الرجاء في الكفرة، ثبت أن ذلك في الحكم والتحقيق، لا في وجود الفعل، وباللّه التوفيق.

* * *

٤٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}

قيل: هم اليهود، جاءوا بأبنائهم أطفالا، فقالوا: يا مُحَمَّد، هل على أولادنا هَؤُلَاءِ من ذنب؟ قال: " لا "، قالوا: فوالذي يُحْلَفُ به ما نحن إلا كهيئهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كُفِّرَ عنا بالليل، وما عملنا بالليل إلا كُفِّرَ عنا بالنهار، فذلك التزكية منهم.

وقيل: تزكيتهم أنفسهم بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}، لا ذنوب لنا.

ويحتمل: أن تكون تزكيتهم أنفسهم ما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، وكان أكثر الأنبياء - عليهم السلام - إنما بعثوا من بني إسرائيل، وكانوا يزكون أنفسهم بذلك، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم كانوا مفضلين على غيرهم، لكن لما فضل غيرهم عليهم صار أُولَئِكَ المفضلون دونهم وذلك، قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلِ اللّه يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} يفضل من يشاء، أو يبرئ من يشاء من الذنوب.

ثم التزكية تذم؛ أن يزكي أحد نفسه؛ لأن التزكية هي التنزيه من العيوب كلها والذنوب، وذلك مما لا يسلم أحد منها، ولا يبرأ، ولا يستحق مخلوق، وذلك معنى النهي: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، إذ تخرج التزكية مخرج التكبر، وذلك لجهله بنفسه لما لا يرى غيره شكل نفسه ولا مثله فيتكبر عليه، ولو عرف أنه مثله وشكله ما تكبر على أحد قط، ولا زكي نفسه.

وقول الرجل: أنا مؤمن، ليس ذلك منه تزكية، إنما هو إخبار عن شيء أكرم به، والتزكية هي التي يرى ذلك من نفسه.

وقوله -أيضًا-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} ليس في إظهار الإيمان تزكية؛ لما لا يخلو من أن تظهر لمن أبى مشاركتك فيه، فعليك الإظهار بحق الدعوة إليه؛ لتدعوه إلى ما تدين به، أو هو يشاركك فيه، والتزكية -في الحقيقة- فيما يوجب تقديمك، وليس في هذا.

وأيضًا: إن القول بالإيمان ليس بمقدر عن معنى العبادة، أو سبب فيه علو من حيث ذلك، إنما هو خبر عن أمر هو في اللغة تصديق، والتصديق بأمر هو كذلك ليس بالذي يعد في الرتب، بل على كل ذلك، ولا أحد إلا وقد يؤمن بأشياء ويصدق، فليس في القول به منقبة، وكذلك ما من أحد إلا وعليه التكذيب بأمور، فلا بالتكذيب في الإطلاق لوم، ولا بالتصديق بالإطلاق مدح؛ إذ كل في ذلك، لكن الذم في تكذيب يكذب به، فيكون من حيث كذبك ذممت، ثم تتفاوت على تفاوت درجات الكذب.

ثم التصديق لو كان ثم مدح فهو بصدقه أيضًا، ولا أحد يخرج الصدق كله؛ فيصير المرء بوصفه نفسه صادقًا في شيء تزكية ومدحًا، ولا قوة إلا باللّه.

على أن للإيمان حدًّا، وكل عبادة ذات حد، فلا امتداح ممن قد أداها بالإخبار عن الأداء، وبخاصة الفرائض منها، نحو من يقول: قد صليت الظهر، أو أديت زكاة مالي،

 أو حججت، أو نحو ذلك، وفيما يقول: هو بر، أو تقى، أو حبيب اللّه - تعالى - أو نحو ذلك مما يرجع ذلك إلى ما لا يعرف حده من الخيرات، فهو بذلك يرتفع على الأمثال، ويفتخر عليهم، فيما لو كان صادقًا كان في ذلك منه إغفال عن حق ذلك، ولو كان كاذبًا كان ذلك جائزًا فيه، ممقوتًا بالكذب، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: الفتيل: ما فتلت بين أصبعيك.

والنقير: ما يكون وسط النواة.

وقيل: النقير والقطمير: قشر النواة.

وقيل: الفتيل -أيضًا-: ما يكون وسط النواة.

وقيل: النقير: الذي يكون في ظهر النواة، وهو على التمثيل.

وقيل في حرف حفصة: (ألم تر إلى الذين قالوا إنا نزكي أنفسنا بل اللّه يزكي من يشاء).

٥٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠) الآية ظاهرة.

٥١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ ... (٥١)

قيل: أعطوا حظًّا من الكتاب، وهم علماؤهم.

{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} اختلف فيه:

قيل: الجبت: الشيطان، والطاغوت: الكاهن.

وقيل: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: الجبت: الشيطان بكلام الحبشة،

 والطاغوت: كهان العرب.

وقيل: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان.

وقيل: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف.

يخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن سفههم بإيمانهم بهَؤُلَاءِ وحسدهم محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ويحذر المؤمنين من صنيعهم؛ لأن هَؤُلَاءِ كانوا علماءهم مؤمنين بالجبت أوالطاغوت، {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}.

قيل في القصة: إن هَؤُلَاءِ أتوا مكة؛ ليحالفوا قريشًا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أجله، ففعلوا، فدخل أبو سفيان البيت في مثل عدتهم، فكانوا بين أستار الكعبة، فتحالفوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى أصحابه - رضي اللّه عنهم -: لتكونن كلمتنا واحدة ولا يخذل بعضنا بعضا، ففعلوا، ثم قال أبو سفيان: ويحكم يا معشر اليهود، أينا أقرب إلى الهدى وإلى الحق، أنحن أم مُحَمَّد وأصحابه؟ فإنا نعمر هذا المسجد، ونحجب هذه الكعبة، ونسقي الحاج، ونفادي الأسير، أفنحن أفضل أم مُحَمَّد وأصحابه؟ قالت اليهود: لا، بل أنتم؛ فذلك قوله - تعالى -: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}.

وفي حرف حفصة: (ويقولون للذين أشركوا هَؤُلَاءِ أهدى من الذين آمنوا سبيلا).

٥٢

ثم قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَنْ يَلْعَنِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)

واللعن يكون على وجوه:

اللعن: هو العذاب.

وقيل: {لَعَنَهُمُ اللّه}: عذبهم اللّه.

 واللعين: هو الممنوع عن الإحسان والإفضال.

وقيل: هو الطريد، أي: طردوا من رحمة اللّه وإفضاله وإحسانه.

قال: الطاغوت: هو اسم اشتق من الطغيان: كالرحموت والرهبوت، من الرحمة والرهبة، ونحو ذلك، سمي به كل من انتهي في الطغيان غايته، حتى استحل أن يُعْبَدَ هو دون اللّه، فهو طاغوت، وعلى ذلك تأويل قوله - تعالى -: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه} أي: بعبادة كل من عبد دون اللّه.

وقيل: هم مردة أهل الكتاب.

وقيل: هو الشيطان.

وقيل: الصنم، وذلك كله يرجع إلى ما ذكرت.

وقيل في ذلك: كاهن، وقد سمي جبتًا.

وقيل في الجبت: السحر، فإن كان الجبت السحر فهو على ما قال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... } الآيات، وأي شيء مما ذكرت قد كانوا آمنوا بذلك، فعيرهم اللّه - تعالى - وسَفَّهَ أحلامهم بالإيمان بمن ذكرت، ومظاهرتهم على ما لهم من الأتباع [على رسول رب العزة - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد علمهم بموافقته - عليه السلام -] (١) رُسُلهُم وتصديقه بكتبهم؛ وعلمهم بعدول أُولَئِكَ عن هذه الرتبة؛ بغيا وحسدًا، وكان في إظهار ذلك عليهم بيان الرسالة، وإعلام أتباعهم تحريفهم كتب الرسل، وإبداء ما في قلوبهم من الحسد؛ لتزول الشبهة عن الأتباع، وتظهر المعاندة في المتبوعين، ولا قوة إلا باللّه.

٥٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) اختلف فيه:

قيل: لو كان لهم نصيب من الملك فإذن لا يؤتون الناس نقيرًا من بخلهم، وقلة خيرهم. (١) هكذا في الكتاب المطبوع [على رسول اللّه رب والعزة - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد علمهم بموافقته - عليه السلام -] ولابد من حذف لفظ الجلالة أو جملة (رب العزة). واللّه أعلم.

 وقيل: لهم نصيب من الملك من الشرف والأموال والرياسة فيما بينهم، لكن ألا يأتون الناس، نقيرًا، فكيف يتبعونهم؟!.

وقيل: قوله - سبحانه -: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ}

أي: ليس لهم نصيب من الملك فكيف يؤتون الناس شيئًا؟! إنما الملك للّه - عز وجل - هو الذي يؤتى الملك من يشاء؛ كقوله - تعالى -: {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ. . . .} الآية، إنما يستفاد ذلك باللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لا بأحد دونه، واللّه - تعالى - أعلم.

* * *

٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ}

يقول: بل يحسدون محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما آتاه اللّه من فضله من الكتاب والنبوة؛ يقول اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردا عليهم: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، فلم يحسدوه، فكيف يحسدون محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما آتاه اللّه - تعالى - من الكتاب والنبوة، وهو من أولاد إبراهيم، عليه السلام؟! فهذا - واللّه أعلم - معناه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}

قيل: أراد الملائكة والجنود.

وقيل: هو ملك سليمان بن داود، وداود كان من آل إبراهيم، عليه السلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} يعني: محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} يعني: من كثرة النساء، لكن ذلك ليس بحسد، إنما هو طعن طعنوه، وعيب عابوه؛ لأن الحسد هو أن يرى لآخر شيئًا ليس له؛ فيتمنى أن يكون ذلك له دونه، وقد كان لهم نساء، لكنه إن كان ذلك فهو طعن طعنوه، وعيب عابوه على كثرة النساء، ويقولون: لو كان نبيًّا لشغلته النبوة عن النساء، ويقولون: يحرم على الناس أكثر من أربع، ويتزوج تسعًا وعشرًا؛ فأنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - ردَّا عليهم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ. . .} وكان لداود تسع وتسعون امرأة، وما قيل -أيضًا- إن لسليمان - عليه السلام - ثلاثمائة سرية وسبعمائة حرائر.

إن ثبت ذلك: فكثرة النساء له لا تمنع ثبوت الرسالة والنبوة، وإنما تمنع كثرة النساء لأحد شيئين:

إما لخوف الجور، وإما للعجز عن القيام بإيفاء حقهن.

فالأنبياء - عليهم السلام - يؤمن ناحيتهم الجور، وكانوا يقومون بإيفاء حقهن مع ما كان قيام رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خاصة لتسع أو لعشر من النساء من آيات النبوة؛ لأنه كان معروفًا بالعبادة للّه ليلًا، وبالصيام له نهارًا، وتحمل الجوع وأنواع المشقة تباعًا، ومعلوم في الخلق أن من كان هذا سبيله لم يقدر على وفاء حق امرأة واحدة؛ فضلًا أن يقوم لإيفاء حق العشر وأكثر؛ فدل أنه باللّه قدر على ذلك، وعلى ذلك قيام داود - عليه السلام - لمائة من النساء، وقيام سليمان - عليه السلام - لألف منهن، فذلك من آيات النبوة؛ لما ذكرنا: أنه ليس في وسع أحد سواهم القيام بذلك.

وكذلك في قيام رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لإظهار هذا الدِّين من غير اتباع كان له، أو ملك، أو فضل سعة - دليل أنه كان بنصر اللّه أظهر، ويعوذه به جميع هذا الخلق على دينه.

وفي قوله -أيضًا-: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ. . .} الآية تحتمل وجهين:

أحدهما: المحاجة: أن كيف يحسدون محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأتباعه من آل إبراهيم وأولاده بما خصهم به من فضله، ولم يزل ذلك في آل إبراهيم، ولم يكونوا حسدوهم.

وعلى هذا قوله - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} أي: بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو بكتابه الذي أنزل عليه.

والثاني: أن يكون على التصبير على أذاهم الذي كان منهم بالحسد مما كان هذا فيمن تقدمه من آل إبراهيم، ومن فضله، ومن الحساد لهم في ذلك، والمؤذين لهم، فصبروا، ولم يكافئوهم؛ نحو قوله - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ}: أي: بإبراهيم - عليه السلام - أو بما أنزل إليه، أو آله، واللّه أعلم.

الأصل في اختلاف التأويل الآية واحدة فيما يجب في ذلك من الحق أنه على أقسام:

أحدها: أنه يتسع الكل.

ويحتمل: دخول الكل في المراد.

ويحتمل: إرادة البعض؛ فإن كان ذلك مما يجب العمل به يلزم طلب الدليل على الموقع للمراد، فإن وجد من طريق الإحاطة شهد عليه بالمراد، وإن لم يوجد عمل به على حسب الإذن في العمل به بالاجتهاد من غير الشهادة عليه أنه المقصود لا غير، واللّه أعلم.

وإن كان ذلك مما لا يجب العمل به وإنما حقه الشهادة، يشهد به على ما هو في الحكمة وجوب تلك الشهادة من غير أن يقضي على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره؛ نحو القول بأنه سميع عليم على إثر أمورهم من أدلة الخصوص، لو

كانت تحتمل الخصوص، وفي الحكمة أنه سامع كل صوت، وعليم بكل شيء، فبه يشهد، ولا يقال في ذلك: إنه أراد ذا من الخاص، نحو قوله - تعالى -: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، قال قوم: لا يقع الطلاق حتى يوقع؛ لأنه ذكر أنه سميع ولو أوقع الطلاق بغير قول، لم يكن لذكر السميع في هذا الموضع فائدة.

وقال قوم: {سَمِيعٌ} لإيلائه؛ إذ هو قسم ينطق به، {عَلِيمٌ} لعزمه، وقد ذكر {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}؛ فيجب توجيه كل حرف إلى وجه، ليفيد حقيقة ذلك في هذا الموضع، ولو كان لا يقع دون القول لكان كل أمره مسموعًا؛ ليلتقي القول بأنه سميع عن القول بأنه عليم.

وفي جملة العقد من طريق الحكمة أنه سميع بكل صوت، عليم بكل شيء، لكن في النوازل يتوجه وجهين لا يجب القطع عليه في الإرادة إلا أن يجيء ما يوجب الإحاطة، وقد عمل به الخلق على الاختلاف، واللّه أعلم.

ووجه آخر من التأويل: أنه يحتمل وجوهًا لا يسع للكل في حق العمل أو في حق الشهادة، لكنها لأحد الحقين، فإن كان ذلك في حق العمل يجب طلب دليله، ويكون الدليل على وجهين:

أحدهما: أن يوجب على حق العمل والشهادة جميعًا.

والآخر: أن يوجب على حق العمل خاصة، وقد بينا ذلك.

وإن كان في حق الشهادة فيجب الوقف في تحقيق المراد، والتسليم للّه حتى يظهر، وذلك في حق إضافة الاستواء إلى اللّه - تعالى - على العرش، والقول بالرؤية من حيث يثبت ما به يرى على الإشارة إليه، لا بالإحاطة، ونحو ذلك من الأمور، واللّه أعلم.

ووجه آخر: أن يكون احتمال وجوهها إنما يكون بمقدمات، فيختلف على اختلاف تلك المقدمات، فلا يجوز تأويل تلك إلا بمعرفة المقدمة، إذا لم يكن فيها غير معرفة الموقع من المقدمة؛ نحو قوله - تعالى -: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ}، لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا.

وقوله - تعالى -: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا}، لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده، ولا يظفر به إلا بالوحي، ولا قوة إلا باللّه.

والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة، فلازم الوقف فيه حتى يظهر، وما كان في حق العمل، فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيام به حتى يظهر دليل التوسيع، ودليل التوسيع على الوجهين اللذين ذكرت، وإن كان فيما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر واللّه أعلم.

ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}

أي: غير الجلود النضيجة؛ كقوله - تعالى -: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، أي: تجدد ما قد فني، وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديدًا في رأي العين من حيث صار الأول نضيجًا، لا أن كان هذا غير الأول، بل هو الأول غير نضيج؛ إذ ذلك نعت الأول، وتعذيب ما كان ارتكب المعصية؛ لأن التعذيب -في الحقيقة- على غير الذي أثم فيه.

وقال قائلون: الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصت ولا أطاعت، بل استعملت قهرًا وجبرًا، لا أنها عملت طوعًا، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد به يتلذذ ويتألم، فهو المعذب والمثاب بما صدر من الجسد؛ ألا ترى أن أجساد أهل الجنة تزداد الحسن والجمال، وجعل لأهلها حدا لا يزداد ولا ينتقص، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة؛ ليكون لهم في التقبيح عقوبة، وللأول بالتحسين ثواب، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال، فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت، لكنه يتألم ويتلذذ، فجعلت على ما بها تمام اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد، بل على التجديد، كما ذكره في القرآن، وكذلك المقطوع على بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليمًا، لا كذلك، ومثله في حال الإسلام لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك؛ فدل الذي ذكرت على حق تجدد الثاني على ما شاء اللّه والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان، واللّه أعلم.

وللمذهب الأول أن الجزاء هو لما يختم عليه؛ إذ لو كان إسلام لتمنى لنفسه أحسن الأحوال، وأسلم البنية ليستعملها بالخير، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات كانت بجوارح ذهبت أو بقيت، وكذلك من اختار الكفر فقد آثره، واختار أن يكون على ذلك،

وإن سلمت جوارحه وتمت فلزمه حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت منه وباق، وفي الأول استوجب جعل جميع ما تقدم منه بالفائت والباقي حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل؛ فيكون على حكم إعادة الأولى بحق التجديد في المعنى - واللّه أعلم - نحو قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}،

وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. . .} الآية.

وفي الإعادة كقوله - تعالى -: (من يُعِيدُنَا. . . .) الآية، وقوله - عز وجل -: {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .} الآية، وغير ذلك من آيات البعث، واللّه أعلم.

وقال قائلون: الواجب من العقوبة للكفر، وغيره بحكم التبع له، وكذلك الثواب الواجب منه للإيمان، ولغيره بحكم التبع، بل به قام، والأول به سقطت عنه مشيئة العفو، فصار الذي به الجزاء خاصًّا، وغيره بحكم التبع يزداد وينتقص؛ فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة، وكل ذلك للذي هو بحق التبع، والاتباع في الشاهد بتجدد أعين الأفعال، ولا يدوم، والاعتقاد في الأمرين يدوم، فعلى ذلك أمر الجزاء ولذلك، واللّه الموفق.

ولهذا الوجه ما يبطل الخلود لما سوى الكفر؛ إذ في ذلك إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال، فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل، واللّه يقول: {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}، واللّه الموفق.

ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده أو يبعث الروحاني منه، سمته بعض الفلاسفة نفسًا، وبعضهم جوهرًا روحانيًّا، وبعضهم بسيطًا، فإن كل جسد فيه روحاني في حياته ومنافعه؛ وجسده له كالمانع عن جميع ما يحتمل من الأمور؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف، ينفذ في الأشياء، ويتخلل إلا بالحابس، يبين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله - تعالى -: {اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}، أو هي مما يسكن الجوارح وينقطع عنها هم الجسدية يرجع إلى حصة جوهره فيرأها تطوف في البلاد النائية،

وفي الأمكنة العلوية، حتى لا تصفها أرض ولا سماء تأتي بالأخبار عنها كأنها شاهدة، أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إذا لم تحبس، أو هي بالجوهر تخرج فتعمل ذلك وهي تسمع وتبصر وتعقل في المنام كأنها بالجسد كذلك؛ فدل أن العمل في حال اليقظة وما له الجزاء لها، فعلى ذلك أمر الجزاء، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية والحياة ليست بأعين تلك الأشياء، ولكن بما جعل في سريتها من الروحاني، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن، فتقوى وتصح فيه بحياة روحه، وتزول عنه الآفات، وكذلك عن السمع والبصر والعقل حل شيء ثم تلقي فعله؛ فعلى ذلك أمر المعاد من الجزاء فهو على ذلك، وكذلك الثواب يكون من كل موعود مما يعرف في الشاهد بجسده ويرجع إلى السرية التي هي روح لذلك فيكون هو الثواب؛ لما هو بحكم روح في الجسد؛ ألا ترى أنه لا يبقى في الآخرة بالأكل الأجساد التي تلقى، وهي الأثقال التي تفضل في الجسد، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح، فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت، وهذا معنى قوله - عليه السلام -: " مَا لَا عَينٌ رَأَتْ، وَلَا أذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " لأن ذلك الجوهر لا تراه العين، ولا تسمعه الأذن في الشاهد، ولا يخطر على القلب، وتكون لذة ذلك روحانيًّا، لا هذه لذة الحياة بحياتها السمع والبصر، وكل باطن في الجواهر ولذة الأجساد إنما يكون باللّهاة في الطعم، وبالعين في اللون، وهذا النوع، فيذهب هذا، ويكون الأول، وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية، وتبقى الروحانية من الحمد، والثناء، والتعظيم، والهيبة، والمعرفة، ونحو ذلك يبقى أبدًا، بل يزداد؛ لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني، وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد، ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب، واللّه أعلم.

اختلف من ذكرت في أمر البعث:

فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحاني فناء، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها.

ومنهم من يقول: تفنى وتعاد على حالها، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل، وذكر الإعادة بلا فوته،

وقال: {مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} وجعل إنشاء الأولى دلالة للأخرى، وليس ثَمَّ أخرى، بل هي الأولى، والأولى هي -على ما يزعمون- غير معروفة عند المنكرين؛ فيحتج عليهم بها، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا، ثم يساعدوا على نفي البعث، ويلزموا الإظهار.

والدهرية ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون، وبالكون في الأصول بالقوة، ثم الظهور بالفعل، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول؟! واللّه أعلم.

وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء، مشتمل عليها آثار الفناء، ويحيط بها أعلام الهلاك، ومن آفات كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر، وعن إدرإك الروحانيين، وإلا فهي كما وصفهم إللّه - تعالى - أنه خلقهم في أحسن تقويم، وكرمهم بأقوم جوهر، وأكمل أسر، وأنقى خلقة، فإذا وقعت عليهم الآفات، وأعيدوا للبقاء؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأضياء وبواطنها، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد المجعولة أجزاء لهم، فيلحقون بجميع اللطائف جسدا بما فيها من الجوهر الروحاني وتصير هذه في اللطف كذلك الجوهر، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك، وأنور لهم كالأرواح؛

فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد، وعلى ذلك أجساد الجزاء، فإنها تخرج عن الآفات، وتمنع عن الفساد، وتصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها، فتكون هي بجسدها وسريتها واحدة، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى، وفي الآخرة لا تعرض الآفات التي يحتاج فيها إلى الأغذية، وإنَّمَا ينال عنها الشهوات واللذات، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار.

فأما حجج السمع: فإن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ. . .} الآية،

وقال: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا. . .} الآية وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) الآية، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث، والإشكال كان لهم في الأجساد، وفيها جرت المحاجاة؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة التي لا تمس ولا تحس في التجديد لم يكن بحيث احتمال الإنكار لوجودهم في كل حال؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود، وكذلك العلوم والسمع والبصر، ونحو ذلك، ثم الحسيات اللطائف: نحو الليل، والنهار، والنور، والظلمة، والظل، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق، واللّه أعلم.

والاعتبار أن اللّه - سبحانه وتعالى - أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون؛ ليكون ذلك علمًا للترغيب والترهيب بالموعود، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في

 الجسد يكون له سرور وحزن، لا يتألم ويتلذذ، وقد جرى الوعد بالمؤلم والملذ.

وكذلك حكمة خلق الجسد على ذلك بما يحقق العلم بالمرغب والمرهب من الموعود، على أن السرور والغموم ليسا بحيث يرغب فيهما أو يزهد إلا من حيث يألم الجسد ويتلذذ، بل كل يكون فيه الأمران؛ ليسر ويحزن؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق من طريق التقدير على ما جرى به حق السمع والعقل، واللّه أعلم بحقيقة ذلك، وبيده الملك، يكرم من شاء بما شاء؛ فضلًا منه، ويهين من شاء؛ بما شاء عدلًا منه، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ}

بما أنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من اليهود {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}

قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} يعني: بالكتاب الذي أعطى إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ}: عن الكتاب، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقيل: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} يعني: إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} يعني: عن إبراهيم، عليه السلام.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا}

كأن جهنم - واللّه أعلم - معظم النار وجميع دركاتها، والسعير هو التهابها ووقودها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤).

ويحتمل قوله: {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي: عذابًا، واللّه أعلم.

{وَكَفَى بِجَهَنَّمَ} أي: بالتهاب جهنم التهابًا؛ إذ السعير: الالتهاب، واللّه أعلم.

* * *

٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا}

يحتمل الآيات: أعلام الدِّين وآثاره.

ويحتمل الآيات: آيات الربوبية له.

ويحتمل الآيات: أعلام رسالة الرسول عفًيِلى؛ فيكون الكفر بها كفرًا باللّه.

وقوله - تعالى -: {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}

قيل: {نُصْلِيهِمْ}: ندخلهم، وقيل: {نُصْلِيهِمْ}: نشويهم؛ يقال: شاة مصلية، أي: مشوية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا}:

كلما احترقت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها، أي: جددنا لهم جلودًا غيرها؛ ليزدادوا التهابًا وإيقادًا من غير أن يسكن ألم العذاب، فهو من حيث التجديد غير؛ لأن الأولى قد احترقت ونضجت، ومن حيث العين نفسها هي الأولى، ألا ترى ما يقال: تبدل فلان، فإنما يقال من حيث تغيره من لون إلى لون، لا أن كانت تحولت نفسه وتبدل من حال إلى حال؛ فعلى ذلك قوله: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} هي من حيث العين أنها تلك بعينها واحد، وعلى ذلك البعث بعد الموت، والإنشاء هو من حيث التجديد غير، حيث تفانوا وذهبت آثارهم، ومن حيث الإعادة إلى الحالة الأولى هم بأنفسهم ليسوا بغير، وعلى ذلك قد سمي البعث خلقًا جديدًا، وإن كان بعث الأولى في المعنى.

ثم تكلموا في قوله - تعالى -: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} قالوا: كيف كان أن يعذب جلودًا لا مأثم فيها، وإنَّمَا المأثم في الجلود التي احترقت ونضجت، وقالوا: أيدنا فيمن قطع يده وهو كافر، ثم أسلم، فمات على الإسلام، ما حال اليد المقطوعة، تعذب في النار، أو تكون مع النفس في الجنة؟ وفيمن قطعت يده وهو مسلم، ثم كفر، فمات على كفره، تلحق النفس أو تكون في الجنة؟

فالجواب لهذا كله: أن الجوارح والأعضاء ليست تعمل ما تعمل بالاختيار والطوع، ولكنها كالمكرهات والمقهورات في العمل؛ ألا ترى أن الإكراه عليها يوجب تحويل الفعل منها إلى المكره، فيجعل كأن المكره هو الذي قد فعل ذلك في حق الضمان؛ فهذا يدل أن هذه الجوارح كالمكرهات والمقهورات لحقت النفس حيث كانت.

ثم معلوم: أن من أسلم في آخر عمره يتمنى سلامة جوارحه التي كانت ذهبت عنه؛

 ليعمل بها في طلب مرضاة ربه - تعالى - وكذلك من كفر بعد الإسلام يتمنى سلامة جوارحه؛ ليستعملها فيما اختار من الدِّين، فإذا كان كذلك لحقت النفس حيث كانت في طاعتها ومعصيتها.

وقالت فرقة من الملحدة: إن الثواب في الآخرة لا يكون لهذه النفس التي تأكل، وتشرب، وتعمل كل ما تعمل، ولكن إنما يكون للروحاني الذي جوهرها جوهر النور، لكن هذه النفس ممتحنة في الدنيا بالأكل والشرب، مشوبة بالآفات والعيوب، فإذا صفت عن الآفات، ونزهت عن العيوب التي بها امتحنت - صارت أهلًا للثواب العظيم، ومحلًا للجزاء الجزيل، وباللّه العصمة والنجاة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}

أما ذوق الطعام والشراب يكون بالفم؛ ليعرف طعمه ولذته، وأما ذوق العذاب فإنما يكون بكل جارحة منه؛ ليجد ألم ذلك في جميع الجوارح، واللّه أعلم.

والذوق في العرف جُعِلَ ليعرف الطعم، يلقب به كل شيء يعرف؛ يقال: لفلان ذوق في أمر كذا: أي بصر ومعرفة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}

قيل: العزيز: هو ما يتعزز وجوده في الشاهد.

وقيل: هو عزيز لا يعجز، فهو عزيز لما لا يوجد في الأفهام، ولا يدرك بالأوهام.

وقيل: العزيز: المنتقم، وقد ذكرناه في غير موضع.

٥٧

وقوله - عز وجل -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ (٥٧) من الآفات والعيوب، لسن كأزواج الدنيا ونسائها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا}

لا تنسخه الشمس، ولا أذى فيه؛ لأن الشمس فيها منافع للناس وأذى، وكذلك القمر فيه أذى، وإن كان فيه منافع، والظلمة كذلك فيها منافع وأذى، وأما الظل نفسه فليس فيه أذى على كل حال، فإن كان فهو للزمان، لا للظل بنفسه، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه يدخلهم الظل الذي ليس فيه أذى الشمس، ولا أذى الظلمة، ولا أذى الزمان، ليس كظل الدنيا

 مشوبًا بأذى غيره، واللّه أعلم.

وذلك تأويل الظليل أن يظله عن جميع المؤذيات، واللّه أعلم.

٥٨

,قوله تعالى: (إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّه نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّه كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

قيل: لما فتح اللّه مكة على يدي رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال العباس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: يا رسول اللّه، لو جعلت السقاية والحجابة فينا؛ فأخذ مفاتيح الكعبة من ولد شيبة فدفعها إلى العباس؛ فأنزل اللّه - تعالى - هذه الآية؛ فأخذ النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مفاتيح الكعبة فردها إلى ولد شيبة، ثم قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَم، إِن اللّه - تَعَالَى - أَحَبَّ أَنْ يرزأ ولا يرزأ شيئًا ".

وقيل: إنها نزلت في الأمراء في الفيء الذين استأمنهم على جمعها وقسمتها، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمتها.

والآية يجب أن تكون نازلة في كل أمانة اؤتمن المرء فيها، من نحو ما كان فيما كان بينه وبين ربه، وما كان فيها بين الخلق.

أما ما كان فيما بينه وبين ربه، من نحو العبادات التي أمر المرء بأدائها، ومن نحو تعليم العلم الذي رزقه اللّه - تعالى - كقوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .} الآية، وكقوله - تعالى -: {كُونُوا قَوَّامِينَ للّه شُهَدَاءَ بِالْقِسْ. . .} الآية، وكقوله - تعالى -: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} كل ذلك أمانة تدخل في قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وكذلك كل أمانة يؤتمن المرء عليها تدخل في ذلك.

ذكر أن نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَيهَا، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".

ومن قال: نزلت في الأمراء، استدل بقوله - تعالى -: {أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}؛ لأن الحكم إلى الأمراء.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: هي مبهمة، المؤمن والكافر سواء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}

من الحكومة بالعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها.

{إِنَّ اللّه كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}

يحتمل: مجيبًا لمن دعا له وسأل؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، يجيب لمن استجاب له، وأدى الأمانة.

ويحتمل: {سَمِيعًا بَصِيرًا} أي: لا يخفى عليه شيء.

واختلف أهل العلم في العارية إذا ضاعت:

قال أصحابنا - رحمهم اللّه -: لا شيء عليه.

وقال غيرهم: عليه الضمان.

ولأصحابنا - رحمهم اللّه - في ذلك عدة حجج:

أحدها: أن المستعير إن لبس القميص، أو ركب الدابة، أو حمل عليها ما أذن له في حمله عليها، وأصابها في ذلك نقصان في قيمتها -فلا شيء عليه، فإذا لم يكن عليه ضمان فيما وقع بها من الضرر والنقص بفعله، ولبسه، وركوبه- فلا يجب عليه ضمان ما هلك منها بغير فعله.

والثاني: ما روي عن ابن الحنفية، عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: العارية ليس بتبعة، ولا مضمونة، إنما هي معروف، إلا أن يخالف فيضمن.

وروي عن الحسن قال: إذا خالف صاحب العارية ضمن.

واحتج من خالف أصحابنا في ذلك بحديث النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتى تَرُدَّهُ " فالحديث يحتمل معنيين:

أحدهما: أن يقال: معناه على اليد أن ترد ما أخذت إذا كان قائمًا عليها رده؛ ألا ترى أن الوديعة لا تضمن إذا تلفت، وعليه أن يردها إذا كانت قائمة، فالعارية مثلها.

والثاني: أن يحتمل معنى ذلك في الغصب وأشباهه؛ فعلى الغاصب أن يرده قائما أو تالفًا، ولا يدخل في عموم الخبر العارية؛ ألا ترى أن الوديعة لم تدخل فيها، وإن كان فيه أخذ.

واحتجوا أيضًا - بحديث صفوان: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استعار من صفوان يوم حنين درعًا، فقال: أغصب يا مُحَمَّد؟ فقال: " بَل عَارِية مَضْمُونَة ".

وروي في خبر آخر: أن صفوان هرب من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد حنينًا، فقال: " يَا صَفْوَانُ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ سِلَاح؟ " قال: عارية أو غصبًا؟ قال: " بَلْ عَارِيةٌ " فأعاره، ولم يذكر فيه الضمان، فهو عندنا -إن ثبت خبر صفوان-: مضمونة الرد على المستعير، ورد العارية ليس كالوديعة؛ لأن الوديعة ما لم يطلب صاحبها لم ترد.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يؤيد قولنا، وهو قوله: " العَارِيةُ مُؤَداة ".

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، فمن ولي أمرًا أو حكمًا فيما بين الناس فقد ولي الأمانة، يجب أن يؤديها إلى أهلها، وعلى ذلك جاءت الآثار:

روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَكُونُ عَلَى شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ -قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ- فَلَا يَعْدِلُ فِيهِم إِلا أَكَبَّهُ اللّه - تَعَالَى - فِي النَّارِ ".

وفي خبر آخر: " أَيُّمَا امْرِئٍ وَليَ مِنْ أَمْرِ الناسِ شَيئًا ثُمَّ لَم يُحِطْهُم مِثْلَ مَا يَحُوطُ بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ لَم يُرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ".

وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِليَّ وَأَقْرَبِهِم مَجْلِسًا مِني يَوْمَ القِيَامَةِ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وإن أَبْغَضَ النَّاسِ إِليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَشَدَّهُم عَذَابًا: إِمَامٌ جَائرٌ ".

٥٩

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

فَإِنْ قِيلَ: كيف خص اللّه - تعالى - المؤمنين بالخطاب بالطاعة له وطاعة الرسول والأمر بها يعم المؤمن والكافر جميعًا؟.

قيل فيه بوجوه ثلاثة:

أحدها: أن من عادة الملوك أنهم إذا خاطبوا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمجد، ومن كان أسمع لخطابهم، وأعظم لقولهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا}، يخاطبون أبدًا أهل الشرف والمجد، ومن هو أقبل لقولهم، وأطوع لأمرطم؛ فعلى ذلك خاطب اللّه - تعالى - المؤمنين وأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله، وإن كان الخطاب بذلك يعمهم.

والثاني: يحتمل أن يكون الخطاب بذلك للمؤمنين خاصة؛ لأن الكافر إنما يخاطب باعتقاد الطاعة له أولا، فإن أجاب إلى ذلك فعند ذلك يخاطب بغيره، والمؤمن قد اعتقد طاعة ربه، وطاعة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لذلك خرج الخطاب منه للمؤمنين خاصة، واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يكون تخصيص الخطاب للمؤمنين؛ لما أمر بطاعه أولي الأمر؛ ليعلم أنه إنما أمر بطاعة أولي الأمر إذا كانوا مؤمنين، واللّه أعلم.

ثم فيه دلالة جواز الطاعة لغير اللّه؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه، هو الائتمار للآمر.

وأما العبادة فهي إخلاص الشيء بكليته للّه - عَزَّ وَجَلَّ - حقيقة؛ إذ الأشياء كلها للّه بكليتها حقيقة، ليست لأحد سواه؛ لذلك لم يجز أن يعبد غير اللّه - تعالى - وقد يجوز أن يطاع غيره؛ لما ذكرنا أن الطاعة هي الائتمار بالأمر، وليس العبادة؛ لذلك افترقا.

ثم طاعة الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تكون طاعة للّه؛ لأنه بأمره يطاع، وفي طاعتهم له طاعته.

ثم قيل: قوله - تعالى -: {أَطِيعُوا اللّه} في فرائضه، ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في سنته.

وقيل: {أَطِيعُوا اللّه} فيما أمركم ونهاكم في كتابه، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أمركم ونهاكم في سنته.

ثم اختلف في أولي الأمر:

قيل هم الأمراء على السرايا.

وقيل: هم العلماء والفقهاء.

وقيل: هم أهل الخير.

ويحتمل: أولي الأمر: الذين يُوَلَّوْنَ السرايا.

فكيفما ما كان ومن كان، ففيه الدلالة ألا يولى إلا من له العلم والبصر في ذلك، أمراء السرايا كانوا أو غيرهم؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر بطاعتهم، ولا يؤمر بطاعة أحد إلا بعلم وبصر يكون له في ذلك.

والآية التي تقدمت، وهو قوله - تعالى -: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} يدل على أن أولي الأمر الأمراء؛ لأنه - تعالى - أمر الحكام في الآية الأولى بالعدل، وأمر الرعية بالسمع لهم والطاعة فيما يحكمون ويأمرون، واللّه أعلم. ألا ترى أنه روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يا َأَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإنْ أُمِّرَ عَلَيكُم حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُم كِتَابَ اللّه ".

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَى الْمَرءِ الْمُسْلِمِ السمعُ وَالطاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعصِيةٍ، فَمَنْ أُمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلَا سَمعَ عَلَيهِ وَلَا طَاعَةَ ".

وبعد: هذه الآية والتي تليها تدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء، وهو قوله - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}، والتنازع يكون بين العلماء؛ فكأنه - واللّه أعلم - أمر في آية أولي الأمر بطاعتهم، وأمر أولي الفقه برد ما يختلفون فيه إلى كتاب اللّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والآية تحتمل المعنيين - واللّه أعلم -: أن على العامة طاعة أمرائهم في أحكامهم، وعليهم اتباع علمائهم في فتواهم؛ يبين ذلك قول اللّه - تعالى -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ. . .} الآية، فلو لم يجب على قومهم قبول قول علمائهم ما وجب عليهم إنذار قومهم.

وفي هذه الآية دليل على إبطال قول الرافضة في الإمامة؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فليس يخلو أولو الأمر من أحد ثلاثة أوجه:

إما أن يكون الأمراء، أو الفقهاء، أو الإمام الذي تدعيه الرافضة، فإن كان المعنى في أولي الأمر: الفقهاء أو الأمراء، ففيه إبطال قول الرافضة: إنه الإمام الذي يصفونه، ومحال أن يكون ذلك هو الإمام الذي يذكرونه؛ لأنه قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}، وذلك الإمام عندهم طاعته مفترضة، وهم بين أظهر المتنازعين عندهم، ومخالفته كفر في مذهبهم، فلو كان ذلك كذلك، لقال - واللّه أعلم -: " فردوه إلى الإمام؛ فإن من خالفه فقد كفر "، ولكنه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر برد المتنازع إلى كتاب اللّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فدل على أن قول أحد لا يقوم في الحجة مقام قول الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ} قيل: {إِلَى اللّه}، أي: إلى كتاب اللّه، أو إلى رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا كان حيًّا، فلما مات، فإلى سنته.

واستدل قوم بهذه الآية على إبطال الاجتهاد، وترك القول إلا بما يوجد في كتاب اللّه - تعالى - أو في سنة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، نصًّا، ويقولون: فَنَكِلُ أمره إلى اللّه - سبحانه وتعالى - ورسوله - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - وليس ذلك عندنا.

والآية تحتمل وجهين:

أحدهما: أن يحمل تأويلها على أن التنازع إذا كان في عهد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وجب أن يرد إليه - عليه الصلاة والسلام - ويُسأل عن ذلك، ولا يُستعمل في الحادثة الاجتهاد ولا النظر.

فأما ما كان من التنازع بعد وفاة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: فإن حكم الحادثة يطلب في كتاب اللّه، أو في سنة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو في إجماع المسلمين، فإن وجد الحكم في أحدهم بينا وإلا قيل بالاجتهاد.

والوجه الثاني: أن يكون المجتهد إذا ما اجتهد فيه إلى كتاب اللّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيقول: وجدت في الكتاب أو في السنة كذا وكذا، وهذه الحادثة تشبه هذا الحكم، فحكمها حكمه، ويكون رادًّا لحكم الحادثة إلى كتاب اللّه - تعالى - وسنة رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو شبهها بما وجده من الحكم فيهما.

وإذا كان ما وصفنا من تأويل الآية محتملًا؛ فلا حجة لهم علينا في ذلك، واللّه المستعان.

وفي الآية دلالة جعل الإجماع حجة، وهو قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ. . .} الآية، أنه إنما أمر بالرد إلى اللّه والرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند التنازع؛ لم يأمر عند الإجماع؛ دل أنه إذا كان ثَمَّ إجماع لا تنازع فيه، لم يجب الرد إلى ما أودع في الكتاب وفي السنة.

وفي الآية دلالة أنه يدرك بالطلب المودع فيه؛ لأنه لو لم يدرك، أو ليس ذلك فيه، لم

يكن للرد إلى ذلك معنى؛ ألا ترى أنه قال اللّه - سبحانه وتعالى -: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فإنما يستنبط ما فيه؛ فدل أن حكم الحوادث، مذكور في هذين: في الكتاب، والسنة؛ إذ لو لم يكن الفرج عند النظر والطلب، لكان لا يفيد الأمر بالرد إليهما معنى.

ثم لا توجد نصوص في كل ما يتلى، ثبت أنه مطلوب، وهو يدل على لزوم البحث في استخراج المودع من المنصوص، واللّه أعلم.

وفي قوله -أيضًا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. . .} الآية - تخصيص المؤمنين على اشتراك الجميع في اللزوم؛ يخرج على أوجه:

أحدها: على مخاطبة الأشراف والنجباء، وعلى ذلك أمر الملوك في الأمور، يريدون اشتراك الرعية وأهل المملكة في ذلك؛ كقوله - سبحانه -: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ}، وقال سليمان - عليه السلام -: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ}، وقال فرعون للملأ: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ. . .}، ونحو ذلك، فمثله الذي نحن فيه، واللّه أعلم.

والثاني: أنهم مما قد عرفوا الأمور والمناهي؛ فقيل لهم: {أَطِيعُوا اللّه} وما ذكر، واعلموا أنهم فيمن أمروا به ونهوا عنه، ولم يكن من الكفرة علم بالذي يوجهون الأمر إليهم؛ فلذلك خص من ذكر، واللّه أعلم.

والثالث: أن الكفرة قد أنكرت المعبود والرسول، فجرى الخطاب فيمن ثبتت لهم المعرفة بذلك، مع ما يحتمل: أن يكون هذا الخطاب في الشرائع، وهي غير لازمة للكفرة؛ فلذلك كان على ما ذكرت.

والرابع: ما أدخل في الخطاب أولي الأمر منا، ولا يلزمهم طاعتهم؛ لذلك خص المؤمنين، وكان المقصود بالآية بيان طاعة أولي الأمر منا، وإلا كانت طاعة اللّه - تعالى - وطاعة الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما كان إيمانهم قد ثبت، ولكن جمعت طاعة من ذكر؛ ليعلم أن قد يكون بطاعة أولي الأمر طاعة اللّه، واللّه الموفق.

ومما يبين الذي ذكرت أن كل من عرف الإله، عرف أن عليه طاعته بما عرف اسمه الذي سمت العرب كل معبود: إلهًا، فمن عرف منهم الإله عرف أنه معبود، ثم من عرف ما له عنده من الأيادي، وعليه من النعم علم أن عليه شكره وطاعته به.

ثم من عرف الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، عرف أن طاعته هي طاعة اللّه؛ لأنه إليه يدعو، وعن أمره ونهيه يأمر وينهى؛ إذ هو رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - منه إلى الخلق، وليس من عرف اللّه وعرف الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعرف أن عليه طاعة أولي الأمر بما لم يرو عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فبين اللّه - تعالى - ذلك في هذه الآية؛ ليعلموا أن طاعتهم هي طاعة اللّه وطاعة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك هو الدليل على جعل الإجماع حجة، وأن متبعهم هو مطيع للّه - تعالى - إذ صير اللّه - تعالى - طاعتهم طاعته، وهم في ذلك الإجماع.

وعلى ما ذكرت من شأن الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخرج قوله - تعالى -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه. . .}، وقوله - تعالى -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤمِنُونَ} الآية، صير الواجد حرجًا مما قضى واجدًا حرجًا من قضاء اللّه - تعالى - في نفي حكم الإيمان؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه، أي: ليكون عليهم طاعته بأمر اللّه - تعالى - إذ هي طاعة اللّه أولا؛ لتكون طاعته طاعة اللّه بإذنه وبأمره، واللّه الموفق.

ثم اختلف في أولي الأمر، ومعلوم أنهم هم الذين إليهم يرجع تدبير أمور الدِّين، وعن آرائهم يصْدرُ وهم الذين تضمنتهم آية أرجو أن يكون فيها الكفاية في تعريف المقصود بها، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فجعل أولي الأمر مَنْ عندهم علم الاستنباط، وشهد لهم بالعلم فيما رد إليهم؛ فثبت أنهم الفقهاء المعروفون بالاستنباط ورعاية أمور الدِّين، وفي هذا -أيضًا- دلالة على إصابتهم فيما أجمعوا عليه؛ إذ شهد لهم في الجملة بالعلم؛ وعلى ذلك قوله - تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا. . .} الآية.

ثم كانت الشهادات والأمر والنهي للعلماء بهما؛ ثبت أن الأمر في ذلك ينصرف إلى العلماء، وأنهم إذا اجتمعوا على شيء بالأمر أو بالنهي، يكون إجماعًا؛ لأن ذلك كذلك عند اللّه - تعالى - وتجوز شهادتهم على جميع العوام ومن تأخرهم، ومن ذلك في الأمور

التي تجري بها البلية والعمل بها في العامة، مما لا يحتمل خفاء مثله، على ما ذكرت من الخاص أن ذلك كان عند أُولَئِكَ الخاص على ذلك؛ إذا لم يغيروا ولا شهدوا في ذلك بغيره، وأمراء السرايا لو كانوا أهل البصر في الأمر مع العلم بالشرع والفتيا يلزم فيهم ذلك؛ لأنهم صيروا في الباب أهل الأمر.

وأيد الأول أنهم العلماء -: قوله - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ} ومعلوم أن على العوام لذي الإشكال والحاجة الرد إلى أولي الأمر بما ذكرت من الآية، فثبت أن هذا في تنازع العلماء، وهو يوضح إبطال قول الروافض في جعل أولي الأمر إمامهم، وإبطال قول من يجعل أولي الأمر كل أمير أو نحوه، وإنَّمَا هم العلماء في كل نوع، حتى يمكن فيهم التنازع، وإمامهم واحد لا معنى للتنازع فيهم، والتنازع إنما بكون عن تدبر وبحث ونظر، ولا معنى في ذلك للعوام الذين لا يعرفون الأصول والفروع، واللّه الموفق.

ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى -: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ}:

فقال قوم: كأنه قيل: كِلُوا الأمر فيه إلى اللّه - تعالى - والرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولا تجتهدوا فيه؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه}، تعالى، ولأن الاختلاف كان على تأويل الكتاب والسنة، فكيف يطلب من بعد فيهما، وبعد الطلب حدث التنازع؟!.

وقال قوم: الاختلاف يقع في التأويل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ} إلى ظاهر ذلك، ولا تتأولوا فتختلفوا؛ إذ الأول كان على التأويل.

وقال قوم: هذا كان في عهد رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يظهر في ذلك نص الحكم والحق في ذلك؛ فيكون الأمر الذي يتنازع فيه أولو الأمر لم يجز لأحد العمل إلا بالبيان، ولهم وجه الوصول إلى البيان في الحقيقة، فأمروا بذلك مع ما كان يجوز أن يكون التنازع في وقت لم يفرغ من بيان جميع ما بالخلق إليه حاجة بالكفاية؛ إذ كان ذلك الوقت وقت حدوث الشرائع، ووقت احتمال التناسخ وتبديل الأحكام، فإن وقع التنازع بين المجتهدين فلهم مع إشكال التنازع شبهة احتمال أن أصله لم ينزل، وأن الذي يتضمن حكمه من المنصوص لم يبلغهم في ذلك، فيجب في ذلك الرد إلى اللّه - سبحانه وتعالى - بالرد إلى

رسوله مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وأما بعده فقد فرغ من جميع أصول الحوادث التي يعلم اللّه - سبحانه وتعالى - أنها تقع بيان كفاية؛ إذ لو لم يبين ذلك القدر لبقي تنازع لا ارتفاع له، ولا يجوز الحكم، ولكان لا يعلم الحادث الذي له أصل يطلب أولاً، وفي ذلك تمكين المعنى الذي يخرج إلى الرسالة مع ما قد تكلم جميع الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - ومن بعدهم إلى اليوم في الحوادث من غير أن يظهر يهن أحد قول بأن هذا هو ما لم ينزل له الأصل، فصار ذلك إجماعًا في بيان أصول كل حادث؛ فيجب طلبه في الأصول، واللّه أعلم.

والأصل: أنه فيما يوكل إلى أحد يوكل إلى من يعلم الحكم ويملك إظهاره، فلو كان للتنازع يجب الرد إلى اللّه - تعالى - وترك الحكم في ذلك بالاجتهاد؛ فإذًا يبطل أن يكون في الرد إليه علم بحكمه إلا للوقت الذي لا يحتاج إلى الحكم؛ وهو يوم القيامة؛ على أنه معلوم لو كان يرده إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكان لا يدعهم على ما هم عليه من التنازع الذي هو أصل كل شين وفساد؛ فعلى ذلك فيما يرد إلى اللّه، سبحانه وتعالى.

وإذا علم - عَزَّ وَجَلَّ - بجميع النوازل وبجميع ما بالخلق إليه حاجة فصارت النوازل كلها مردودات إليه؛ فيجب أن يكون حكم فيها؛ إذ قال اللّه، - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَحُكمُهُ إلَى اللّه}، تعالى، وإذا لم يحكم فيها لم يصر الحكم إليه، بل لا حكم فيه إلى اللّه - تعالى - فلما وجب بالذي ذكرت أن يكون ذلك مما تضمنه البيان - لزم الاجتهاد.

ثم لو كان الحق عند التنازع الظاهر دون أن يطلب -على أصح التأويلات- دليل، لكان لا يجوز التنازع أن يقع؛ لأن الظاهر قد كان في أيديهم وهو حجة لا يحتمل أن يتركه أحد إلا بالدليل لو كان حجة، وكان قد قام الدليل على لزوم العدول عن الظاهر بتأويل جميع أولي الأمر في ذلك؛ فثبت أن دليل ذلك مطلوب يوجد، ويتفقون عليه إذا أنصفوا، وأنعموا النظر، وأعرضوا عن حسن الظن، ففريق من الأئمة على أن الذي يقوله هَؤُلَاءِ يقتضي أحكام الحوادث كلها بيقين؛ فثبت أن أحكامهم مودعات في المنصوص؛ فصرن متعلقات بالمعاني، لا بالظواهر.

ثم الأصل: أن العمل بالظواهر في محتمل المعاني ومختلف التأويلات مما فيه التنازع

في الأمة، وللتنازع أمر بالرد؛ فبعيد أن يرد إلى ما لم يثبت صحته، بل في الظاهر وجه في ظاهر الاسم باللسان، والظاهر من التفاهم في المعتاد؛ نحو القول بأن اغسلوا وجوهكم، أنه بأي شيء غسل يستحق اسم الغسل في اللغة، لكن لما يغسل به عادة في الاستعمال إلى ذلك ينصرف الخطاب، ويصير الظاهر في المعتاد به أولى من الظاهر في اللسان، ويكون في ذلك منع الذي ذكر حتى يوضحه دليل، أو يعلم أنه المعتاد؛ فيكون ذلك دليلًا، واللّه أعلم.

ثم لا يحتمل التنازع فيما فيه المعتاد من التفاهم والعدول عنه إلا بدليل؛ فيجب القول لمن عدل إن كان عنده دليل؛ فيكون بما يوجب العمل منع، واللّه أعلم.

ثم قيل في قوله - تعالى -: {أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بأوجه ثلاثة:

{أَطِيعُوا اللّه} - تعالى - فيما أمر، والرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغ، وأطيعوا اللّه فيما فرض، والرسول فيما سَنَّ، وأطيعوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فيما أنزل ونص، والرسول فيما بَيَّنَ.

والأصل في معهود اللسان: أن الطاعة تكون في الائتمار، فرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مطاع في جميع ما أمر، لازم طاعته في ذلك وأمره -إذا ثبت أنه أمره- هو أمر اللّه - تعالى - وطاعته - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - طاعة اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - وله يجب به ظهور الخصوص والعموم والتناسخ جميعًا، وبه تبين الفرض والأدب وكل نوع، وما يظهر، فباللّه - تعالى - ظهر على لسانه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: كتابًا كان، أو تنزيلا كان، أو تأويلاً، فالتقسيم بين الذي للّه - عَزَّ وَجَلَّ - والذي لرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يوجب الشبهة، وَتَوَهُّم الاختلاف، جل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يبعث رسولا يخالفه، وباللّه المعونة والتوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}

يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: ذلك الرد خير إلى ما ذكر.

ويحتمل: {ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: الائتلاف فيما أمكن فيه خير من الاختلاف وأحمد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: عاقبة.

 وقيل: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: خبرًا.

وفي حرف حفصة: " ذلك خير وأحسن ثوابًا ".

وعن ابن عَبَّاسٍ: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} قال: القرآن أحسن تأويلا.

* * *

٦٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ. . .} الآية.

ذكر في القصة: أن رجلين تنازعا:

أحدهما منافق، والآخر يهودي، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف، وقال اليهودي: اذهب بنا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فاختصما إلى نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقضى لليهودي على المنافق، فلما خرجا قال المنافق: انطلق بنا إلى عمر بن الخطاب نختصم إليه، فأقبل معه اليهودي إلى عمر - رضي اللّه عنه - فقال اليهودي: يا عمر، إنا اختصمنا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقضى لي عليه، فزعم أنه لا يرضى بقضائه، وهو يزعم أنه يرضى بقضائك، فاقض بيننا، فقال عمر - رضي اللّه عنه - للمنافق: كذلك؟ قال: نعم، فقال: رويدكما أخرج إليكما، فدخل عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج فضرب به عنق المنافق، فأنزل اللّه - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ}

والطاغوت، قيل: هو كعب بن الأشرف.

 وقيل: {الطَّاغُوتِ}: هو اسم الكاهن.

وقيل: {الطَّاغُوتِ}: الكافر.

والطاغوت: هو كل معبود دون اللّه - تعالى - وعلى هذا التأويل خرج قوله - سبحانه وتعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّه. . .} أي: جاء أهل النفاق يحلفون باللّه: أنه لم يرد بالتحاكم إلى ذلك إلا إحسانًا وتوفيقًا.

وفي الآية دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ وذلك أن قوله - سبحانه وتعالى -: {يُرِيدُونَ أن يَتَحَاكمُوَا} قصدوا أن يتحاكموا ولم يتحاكموا بعد، فأخبرهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بذلك؛ فعلموا أنه إنما علم ذلك باللّه، لكنهم لشدة تعنتهم وتمردهم لم يتبعوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} أي: أمروا أن يكفروا بالطاغوت؛ كقوله - تعالى -: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} أي: يزين لهم الشيطان ليضلوا ضلالاً بعيدًا؛ أي: لا يعودون إلى الهدى أبدًا، فيه إخبار أنهم يموتون على ذلك، فكذلك كان، وهو في موضع الإياس عن الهدى.

وقيل: بعيدا عن الحق.

وقيل: طويلا، وهو واحد.

٦١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللّه وَإِلَى الرَّسُولِ ... (٦١)

أي: إذا قيل لهم: تعالوا إلى حكم ما أنزل اللّه في كتابه، وإلى الرسول، وإلى أمر الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسنته - {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}

والصدود: هو الإعراض في اللغة، والصد: الصرف.

وقال الكسائي: يقرأ: " يَصِدُّونَ " بكسر الصاد، و " يَصُدُّونَ " بضم الصاد.

 وفي حرف حفصة: " وإذا دعوت الكافرين والمنافقين إلى ما أنزل اللّه رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا ".

٦٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢)

يحتمل هذا ما ذكر في القصة الأولى: أن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - لما قتل ذلك الرجل المنافق جاء المنافقون إلى الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يحلفون باللّه ما أراد ذلك الرجل إلا {إِحْسَانًا} أي: تخفيفا وتيسيرًا عليك؛ ليرفع عنك المؤنة، {وَتَوْفِيقًا} إلى الخير والصواب.

وقيل: نزلت في المنافقين في بناء مسجد ضرار؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى}.

 ويحتمل قوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّه إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} الآية) في كل مصيبة تصيبهم، وكل نكبة تلحقهم أن كانوا يأتون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيعتذرون كما {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبَارِكُمْ. . .} الآية؛ لأنهم كانوا يميلون إلى حيثما كانوا يطمعون من المنافع من الغنيمة وغيرها، إن رأوا النكبة والدبرة على المؤمنين مالوا إلى هَؤُلَاءِ، ويظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا منهم، ويقولون: إنا معكم، وإن كانت النكبة والدبرة على الكافرين يظهرون الموافقة لهم؛ كقوله - تعالى -: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللّه قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، هذا كان دأبهم وعادتهم أبدًا.

وقوله - تعالى -: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} قيل فيه بوجوه:

قيل: إلا تخفيفًا وتيسيرًا عليك.

وقيل: قالوا: تحاكمنا إليه على أنه إن وفق، وإلا رجعنا إليك.

وفيه دلالة بطلان تحكيم الكافر والتحاكم إليه، وذلك حجة لأصحابنا - رحمهم اللّه - واللّه أعلم.

٦٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِي قُلُوبِهِمْ ... (٦٣) من النفاق والخلاف غير ما حلفوا، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}، ولا تعاقبهم في هذه المرة، {وَقُلْ لَهُمْ}: إن فعلتم مثل هذا ثانية عاقبتكم.

ويحتمل: أن يكون على الوعيد، أي: لا تعاقبهم؛ فإن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - هو معاقبهم.

وقوله - تعالى -: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}

قيل: أي: تخفيفًا وتيسيرًا عليك، على أنه إن وفق للصواب وإلا رجعنا إليك؛ إحسانًا وتوفيقًا؛ لما لعل التحاكم إليهم يحملهم على الرجوع إلى دين الإسلام.

 وقيل: {إِحْسَانًا}: يحسنون إلينا ويبروننا بفضول أموالهم.

وقيل: {وَتَوْفِيقًا}: بفضول أموالهم.

وقيل: {وَتَوْفِيقًا}: أي: صوابًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}

قيل: أوعدهم وعيدًا؛ حتى إذا عادوا إلى مثله يعاقبون.

وقيل: ألزمهم الحجة في ذلك وأبلغها إليهم؛ حتى إذا عادوا عاقبتهم.

* * *

٦٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه. . .} الآية.

يحتمل قوله - تعالى -: {بِإِذْنِ اللّه} وجوهًا:

قيل: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه} أي: بمشيئة اللّه.

وقيل: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه} أي: بأمر اللّه.

وقيل: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه} أي: بعلم اللّه.

ومن قال: {بِإِذْنِ اللّه}، بمشيئة اللّه؛ أي: من أطاع الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما يطيعه بمشيئته، وكذلك من عصاه إنما يعصيه بمشيئته، من أطاعه أو عصاه فإنما ذلك كله بمشيئة اللّه.

ومن تأول: {إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه} العلم، يقول: إنه يعلم من يطيعه ومن يعصيه، أي: كل ذلك إنما يكون بعلمه، لا عن غفلة منه وسهو، كصنيع ملوك الأرض أن ما يستقبلهم من العصيان والخلاف إنما يستقبلهم الغفلة، منهم وسهو بالعواقب، فأما اللّه - سبحانه وتعالى - إذا بعث رسلا بعث على علم منه بالطاعة لهم وبالمعصية، لكنه

بعثهم لما لا ينفعه طاعة أحد؛ ولا يضره معصية أحد، فإنما ضر ذلك عليهم، ونفعه لهم.

ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ}: أخبر أنه ما أرسل الرسل إلا لتطاع، ومن الرسل من لم يطع؛ كيف لا تبينتم أن من الفعل ما قد أراد - عَزَّ وَجَلَّ - أن يفعل، وأن يكون، ولكن لم يكن على ما أخبر أنه ما أرسل من رسول إلا ليطاع.

ثم من قد كان من الرسل ولم يطع.

قيل: هو ما ذكر في آخره: {إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه} أي: بمشيئة اللّه، فمن شاء من الرسل أن يطاع فقد أطيع، ومن شاء ألا يطاع، فلم يطع، وكذلك من علم أنه يطاع فأرسله ليطاع فأطيع، ومن علم أنه لا يطاع فلم يطع، ومن أرسل أن يطاع بأمر ليكون عليه الأمر فذلك مستقيم، ومن أرسل ليطاع بالأمر فلا يجوز ألا يطاع.

وقوله -أيضًا-: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه}

قيل فيه: بأمر اللّه، وقد مرّ بيانه.

وقيل: ليطاع بمشيئة اللّه؛ فيطيعه كل من شاء اللّه.

وقيل: بعلم اللّه، فهو فيمن يعلم أنه يطيعه؛ إذ لا يجوز أن يعلم الطاعة ممن لا يكون.

والمعتزلة في هذا: أنه أخبر أنه أرسل ليطاع، ولم يطعه الكل ما يبعد أن يكون أراد ليطاع وإن كان لا يطيعه الكل.

فقلنا: إذا قال: {لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه}، والإذن يتوجه إلى ما ذكرت؛ فعلى ما ذكرت كان ليطاع ممن يطيعه لا غير؛ فحصل الأمر على الدعوى، وهو كقوله - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ومعلوم أن الصغار منهم لا يعبدون، فخرج الخبر إلى الخصوص بالوجود، لا أن كان في كل أمر؛ فعلى ذلك أمر الإرادة فيمن وجد، لا أنه في كل على أنه فيه بعلم، وهو يرجع إلى بعض دون الكل، فمثله الإذن على إرادة المشيئة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}

أي: علموا أن حاصل ظلمهم راجع إليهم؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير

 موضعه، وهم وضعوا أنفسهم في غير موضعها، فإذا لم يعرفوا أنفسهم لم يعرفوا خالقها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه}

أي: جاءوك مسلمين، تائبين عن التحاكم إلى غيرك، راضين بقضائك، نادمين على ما كان منهم، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} أي: تشفع لهم الرسول، {لَوَجَدُوا اللّه تَوَّابًا رَحِيمًا} أي: قابلا لتوبتهم.

٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ... (٦٥)

قيل: قوله: {فَلَا} صلة، وكذلك في كل قسم أقسم به؛ كقوله تعالى: {لَآ أُقسِمُ بِهَذَا البلَدِ}، {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، ونحوه، كله صلة، كأنه قال: أقسم وربك لا يؤمنون.

وقيل: قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ} ليس هو على الصلة، ولكن يقال ذلك على نفي ما تقدم من الكلام وإنكاره؛ كقول الرجل: لا واللّه، هو ابتداء الكلام، ولكن على نفي ما تقدم من الكلام، فعلى ذلك هذا.

وفيه دلالة تفضيل رسولنا، مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من البشر؛ لأن الإضافة إذا خرجت إلى واحد تخرج مخرج التعظيم لذلك الواحد، والتخصيص له، وإذا كانت إلى

جماعة تعظيمًا له؛ كقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه}،

وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ونحوه.

وقوله - تعالى -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} كان

رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حاكمًا وإن لم يحكموه، ليس معناه - واللّه أعلم -: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: حتى يرضوا بحكمك وقضائك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}

أي: اختلفوا بينهم وتنازعوا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ}

قيل ضيقًا.

وقيل: شكا مما قضيت بينهم أنه حق.

وقيل: إثمًا.

ثم في الآية دلالة أن الإيمان يكون بالقلب؛ لأنه قال - تعالى -: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في قلوبهم؛ ألا ترى أنه قال اللّه - تعالى - في آية أخرى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}، ذكر ضيق الصدر، وذكر ضيق الأنفس، وهو واحد؛ ألا ترى أنه قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -، في آية أخرى: {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}، فهذه الآيات ترد على الكرامية قولهم؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} وهم يقولون: بل يؤمنون، فيقال لهم: أنتم أعلم أم اللّه؟!.

ثم قيل: إن الآية نزلت في اليهودي والمنافق اللذين تنازعا، فتحاكما إلى الطاغوت.

وقيل: نزلت في شأن رجل من الأنصار والزبير بن العوام كان بينهما تشاجر في الماء، فارتفعا إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال للزبير: " اسْقِ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ "، فغضب ذلك الرجل؛ فنزلت الآية {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. . . .} الآية.

ولا ندري كيف كانت القصة؟ وفيم كانت؟.

ثم روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في بعض الأخبار أنه قال: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ، وَوَلَدِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ جَمِيعًا ".

وقيل في قوله - تعالى -: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: في قلوبهم {حَرَجًا} أي: شكًّا {مِمَّا قَضَيْتَ} أنه هو الحق {وَيُسَلِّمُوا} ولقضائك لهم وعليهم {تَسْلِيمًا}.

وفي قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ} قيل: تأويله: أنه ما أرسل رسولا في الأمم السالفة إلا ليطيعوه، فكيف تركتم أنتم طاعة الرسول الذي أرسل إليكم.

وقوله - تعالى -: {إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه} ما أرسل اللّه رسولا إلا وقد أمرهم أن يطيعوه، لكن منهم من قد أطاعه، ومنهم من لم يطع.

* * *

٦٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ. . .} الآية.

قال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: لو كانت علينا نزلت يا رسول اللّه، لبدأت بنفسي وأهل بيتي، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذَاكَ لفَضْلِ يَقِينِكَ عَلَى يَقِينِ النَّاسِ، وَإِيمَانِكَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ ".

وعن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رجل من الأنصار: واللّه، لو كانت علينا لقتلنا أنفسنا، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لَلْإِيمَانُ أَثْبَت فِي صُدُورِ الرجَالِ مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ الجِبَالِ الرَّوَاسِي ".

وقيل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ. . .} الآية: هم يهود [يعني والعرب] (١) كما أمر أصحاب موسى، عليه السلام.

وقيل: قال عمر - رضي اللّه عنه - ونفر معه: واللّه لو فعل ربنا لفعلنا، فالحمد للّه الذي لم يجعل بنا ذلك، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَلْإيمَانُ أَثْبَتُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الجِبَال الرَّوَاسِي ". (١) في المطبوع هكذا [تغنا العرب]. والتصويب من الدر المنثور كما أشار إليه محقق الكتاب. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

 ثم اختلف في قتل الأنفس:

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو أن يقتل كلٌّ نفسَهُ.

وقال آخرون: هو أن يأمر أن يقتل بعض بعضًا، وأما قتلُ كلٌّ نفسَهُ فإنه لا يحتمل لوجهين:

أحدهما: وذلك أنه عبادة شديدة مما لا يحتمل أحد؛ كقوله - تعالى -: {لَا يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، أخبر أنه لا يكلف ما لا طاقة له.

والثاني: أن فيه قطع النسل وحصول الخلق للإفناء خاصة، وذلك مما لا حكمة في خلق الخلق للإفناء خاصة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}، قيل: هو عبد اللّه بن مسعود، وعمار، وفلان، وفلان - رضي اللّه عنهم - ولا ندري أيصح أم لا؟ ولو كان قوله - تعالى -: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قتل بعض بعضا فذلك ما أمروا به بمجاهدة العدو، والإخراج من المنزل، والهجرة، ثم أخبر أنهم لا يفعلون ذلك إلا قليل منهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} يحتمل هذا وجهين: لو فعلوا ما يؤمرون به من الإسلام والطاعة لكان خيرًا لهم من ذلك.

ويحتمل: لو أنهم فعلوا ما يؤمرون به من القتل لو كتب عليهم، لكان خيرًا لهم في الآخرة، {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} قيل: حقيقة.

وقيل: تحقيقًا في الدنيا.

وقيل: ما يوعظون به من القرآن

{لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} في دينهم

{وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} يعني: تصديقًا بأمر اللّه.

٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) يحتمل وجهين:

 الأجر العظيم في الآخرة.

ويحتمل: في الدنيا؛ كقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}.

٦٨

وقوله: (وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨) فهو الهادي للعباد إلى الطريق المستقيم.

وقيل: تثبيتا لهم في الدنيا.

٦٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ... (٦٩)

قيل في بعض القصة: إن رجلاً جاء إلى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فبكى، ثم قال: والذي لا إله غيره لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي وولدي وأهلي، وإني لأذكرك، فلولا أني أجيء فأنظر إليك، لرأيت أني سأموت، وذكرت موتي وموتك، ومنزلتك في الجنة ترفع مع النبيين، فإني وإن أُدخلت الجنة كنت دون ذلك، وذكرت فراقي إياك عند الموت، فبكيت لذلك. فما أجاب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - شيئا؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. . .} الآية، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَبْشِر يَا أبَا فُلَانٍ، أَنْتَ مَعِي فِي الجَنَّةِ، إِنْ شَاءَ اللّه " وروي، أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج ذات يوم على بعض أصحابه، فرأى بوجوههم كآبة

وجزعًا، قال: فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا لَكُم؟ وَمَا غَيَّرَ وُجُوهَكُم وَلَوْنَكُمْ؟ " فقالوا: يا رسول اللّه، ما بنا من مرض ولا وجع، غير أنَّا إذا لم نرك ولم نلقك اشتقنا إليك، واستوحشنا وحشة شديدة حتى نلقاك، فهذا الذي ترى من أجل ذلك، ونذكر الآخرة فنخاف ألا نراك هناك؛ فأنزل اللّه - تعالى - {وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. . .} الآية.

ويحتمل: أن لم يكن في واحد من ذلك، ولكن في وجوه آخر.

أحدها: أن اليهود، وغيرهم من الكفرة، والذين آذوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأفرطوا في تعنتهم وتمردهم في ترك إجابتهم إياه، وطاعتهم له - ظنوا أنهم وإن أسلموا وأطاعوا الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يقبل ذلك منهم توبتهم، ولم ينزلوا منزلة من لم يؤذه، ولم يترك طاعته، فأخبر - عز وجل -: أنه إذا أطاع اللّه والرسول فيكون: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} كأن لم يترك طاعته أبدًا - واللّه أعلم - كما قال - تعالى -: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.

ويحتمل: أن يكون ذلك لما سمعوا أن لكل أحد في الجنة مثل الدنيا فظنوا ألا يكون لهم الاجتماع والالتقاء؛ لبعد بعضهم من بعض، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن يكون لهم الاجتماع؛ لأن ذلك لهم في الدنيا من أعظم النعم وأجلها.

ويحتمل: أن يكون على الابتداء: أن من أطاع اللّه - تعالى - والرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيكون {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}، في دار واحدة، لا يكونون في غيرها؛ فهذه الوجوه كأنها أشبه - واللّه أعلم - إذ هم بالطاعة أجابوا، واللّه أعلم.

ثم اختلف في {وَالصِّدِّيقِينَ}؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: أتباع الأنبياء - عليهم السلام -

 وخلفاؤهم في كل أمر من التعليم، والدعاء لهم إلى كل خير وطاعة.

وقيل: الصِّدِّيق: هو الذي يصدق الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أول دعوة دعاه إلى دين اللّه - تعالى - وفي أول ما عاينه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالشُّهَدَاءِ} قيل: الشهيد: الذي قتل في سبيل اللّه.

وقيل: الشهيد: هو القائم بدينه.

وقيل: الصديقون والشهداء والصالحون كله واحد.

٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّه وَكَفَى بِاللّه عَلِيمًا (٧٠) دلت الآية على أن الجزاء إفضال من اللّه - تعالى - إذ قد سبق من عنده الإنعام والإفضال عليهم؛ فيخرج طاعتهم له مخرج الشكر له، لا أن عليه ذلك وأن الجنة لا يدخل فيها إلا برحمته وفضله.

وقوله: -أيضًا- {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّه} أي: ذلك الإنعام الذي أنعم عليهم فضل من اللّه.

ويحتمل قوله: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّه} أي: ما أحسن من الرفقة بينهم؛ فذلك فضل منه.

والآية ترد على أصحاب الأصلح؛ لأن تلك الأفعال إنما صارت قربة للّه بإنعام من اللّه وإفضاله وتوفيقه، وبه استوجبوا الثواب.

وقوله - تعالى أيضًا -: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّه} بعد العلم بأن الفضل هو بذل ما لم يكن عليه، وبذل ما عليه هو الوفاء، لا الفضل في متعارف اللسان والمعتاد.

ثم لا يخلو من أن يرجع منه إلى الخيرات التي اكتسبوها؛ فيبطل به قول المعتزلة بما لا يخلو من أن كان منه ذلك الفضل أو مثله إلى الكافر أولى، فإن كان منه لم يكن للامتنان منه بالذي كان منه وجه يستحقه، وقد كان منه إلى غيره، فلم ينل تلك الدرجة، ولا بلغ تلك الرتبة؛ فبان أنه لا بذلك بلغ من بلغ، فيكون منه فيما لم يكن.

وأيضًا: إنه لو لم يكن معه ذلك عنهم لم يكن البذل فضلا لما ذكرت؛ ثبت أن ليس الحق عليه كل ما به الأصلح في الدِّين؛ لما يزيل معنى الفضل، وإن لم يكن إعطاء الكافر مثله فهو عندهم محاباة منه على المؤمن، وقد منع بعض ما عليه في الأصلح، وذلك عندهم بخل، جل اللّه عما وصفوه.

 وإن كان ذلك في الثواب دل أن له أن يثيب حتى يصير ما أثاب عليه فضلا، ولا يحتمل ألا يرضى بطاعة العبد واتباع رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فثبت أن الرضا ليس هو المراد، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَفَى بِاللّه عَلِيمًا} قيل: عليمًا بالآخرة وثوابها.

وقيل: {وَكَفَى بِاللّه عَلِيمًا} بما وعد من الخير في الآخرة لهَؤُلَاءِ الأصناف.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: الصديقون هم الذين أدركوا الرسل - عليهم السلام - وصدَّقوهم.

وعن أبي ذر - رضي اللّه عنه - قال: الصديقون هم المؤمنون.

وقيل الصديقون: السابقون، الذين سبقوا إلى تصديق النبيين، أنعم اللّه عليهم بالتصديق، والشهداء: هم الذين أنعم اللّه عليهم بالشهادة.

والصالحون: هم المؤمنون أهل الجنة.

* * *

٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}

قيل: خذوا عدتكم من السلاح.

وقيل: قوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} من جميع ما يحترز به العدو؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .} الآية، وكقوله -

تعالى -: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}، أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالاستعداد للعدو، والإعداد له، وألا يوكل الأمر في ذلك إلى اللّه دون الإعداد للعدو.

وقيل: لقاؤه، وإن كان يقدر على نصر أوليائه وقهر عدوه من غير الأمر بالقتال معهم؛ إذ في ذلك محنة امتحنهم بها؛ فعلى ذلك أمرهم بالإعداد للعدو، وأخذ الحذر لهم، وذلك أسباب تعد قبل لقائهم إياه.

وفيه دلالة تعلم آداب الحرب قبل لقاء العدو؛ ليحترس منه.

وفيه دلالة إباحة الكسب؛ لأنه فرض عليهم الجهاد، وأمر بالإعداد له؛ ليحترس من العدو، ولا يوصل إلى ذلك إلا بالكسب، واللّه أعلم.

وفي قوله -أيضًا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} أي: ما تحذرون به عدوكم، وما تحذرونه وجوه: منها: الأسلحة، ومنها: البنيان، ومنها: النّكْر عند الالتقاء، والثبات، وذكر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - كما قال: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا}، وفي هذا الأمر بالإعداد للعدو قبل اللقاء، وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}، وكذلك قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، فيكون الأمر بالإعداد قبل وقت الحاجة دليل جواز الكسب لحاجات تجددت، وأن الاستعداد للحاجات ليس برغبة في الدنيا؛ إذ لم يكن الإعداد فشل ولا ترك التوكل، على أن الجوع وحاجات النفس تعين وتلقي العدو، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} قيل: الثبات: هو السرايا {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} يعني: عسكرًا.

وقيل: {ثُبَاتٍ} يعني: فرقًا، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}: مجموعًا.

وقيل: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} أي: عصبًا، {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: زحفًا.

وقيل الثبات: الأثبات، والثبة في كلام العرب الجمع الكثير، ومعناه: انفروا كثيرًا أو قليلا، وفي ذلك دلالة الأمر بالخروج إلى العدو فرادى وجماعة، وفرقًا وجماعة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ} أي: إذا استنفرتم فانفروا ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} ومعلوم أن عليهم الدفع، فيحتمل أن يكون قوله - تعالى -: {انْفِرُوا} إذا أَزُّوا؛ أي: على ما استنفرتم من جميع أو بعض؛ فيكون في ذلك دلالة قيام البعض عن الكل على غير الإشارة إلى ذلك، وقد يجب فرض في مجهول على كل القيام حتى يعلم الكفاية بمن خرج، وهو كفرائض تعرف لا تعرف بعينها، أو حرمات تظهر لا يعرف المحرم بعينه، فعلى من حرم عليه الإيفاء والقيام بجميع الفرائض؛ ليخرج عما عليه، ثم إذا غلب عليهم في التدبير الكفاية بمن خرج سقط عن الباقين، ولو لم يكن يسقط لم يكن للإمام استنفار البعض؛ يدل على ذلك قوله - تعالى -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}، وأصله أنه فرض لعله لا يجوز بقاؤه، وقد زالت العلة، على أن خروج الجميع من جهة إبداء للعورة من

 جهات؛ فلذلك لم يحتمل تكليفه بخروج الجميع من جهة استنفر منها، واللّه أعلم.

٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ... (٧٢) قوله: {مِنْكُمْ} يحتمل وجوهًا:

يحتمل: في الظاهر منكم.

ويحتمل: في الحكم منكم.

ويحتمل: في الدعوى؛ لأنهم كانوا يدعون أنهم منا، ويظهرون الموافقة للمؤمنين، وإن كانوا -في الحقيقة- لم يكونوا.

وقوله - تعالى - {لَيُبَطِّئَنَّ} قيل: إن المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد ويتخلفون؛ كقوله - تعالى -: {قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}، كانوا يسرون ذلك ويضمرونه، فأطلع اللّه - عز وجل - نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ذلك؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللّه تعالى.

وفيه دلالة إثبات رسالة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ. . .) على التقديم والتأخير يسر ويفرح، إذا أصابتكم مصيبة كأن لم يكن بينكم وبينه مودة؛ لأن كل من كان بينه وبين آخر مودة إذا أصابته نكبة يحزن عليه ويتألم، فأخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن هَؤُلَاءِ المنافقين إذا أصابت المؤمنين نكبة يسرون بذلك ولا يحزنون، كأن لم يكن بينهم مودة ولا صحبة.

٧٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه ... (٧٣) يعني: الغنيمة والفتح،

يقولون: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي: يأخذ من الغنيمة نصيبًا وافرًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} هذا قول المكذب الشامت: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّه. . .} الآية، هو قول الحاسد؛ وهو قول قتادة.

وقوله - تعالى -: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} يعني: ليتخلفن عن النفير: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يعني: شدة وبلاء من العيش والعدو، {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} فيصيبني ما أصابهم: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} دل أن فرض الجهاد فرض كفاية

يسقط بقيام البعض عن الباقين؛ لأنه قال: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} أمر بنفير

 الثبات، فلو كان لا يسقط بقيامهم عن الباقين لم يكن للأمر به معنى، وتأويله - واللّه أعلم -: إذا قيل لكم، انفروا، فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا.

* * *

٧٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} كأنه - واللّه أعلم - نهى المنافقين بالخروج إلى الغزو كقوله - تعالى -: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللّه إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا}، وأمر المؤمنين أن يخرجوا لذلك؛ لأنه قال اللّه - تعالى -: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} والمؤمنون هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي سَبِيلِ اللّه} قيل: في إظهار دين اللّه.

وقيل: في طاعة اللّه - تعالى - ونصر أوليائه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} في الآية دلالة أن من بذل نفسه وماله للّه - تعالى - غاية ما يجب أن يبذل استوجب العوض قبله، وإن لم يتلف نفسه فيه ولا أحدث؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ}، جعل لمن يتلف نفسه فيه الثواب والعوض الذي تلفت نفسه فيه؛ لأنه اذا غلب لم تتلفت نفسه فيه، وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}، جعل لمن قتل ولم يقتل فيه العوض؛ فهذا يدل على مسائل لنا:

من ذلك أن المرأة إذا سلمت نفسها إلى زوجها في الوقت الذي كان عليها التسليم استوجب كمال الصداق وإن لم يقبض الزوج منها.

 ومن ذلك: البائع -أيضًا- إذا سلم المبيع إلى المشترى كان مُسَلِّمًا وإن لم يقبض المشترى.

وكذلك من صلى صلاة الظهر في منزله، ثم خرج إلى الجمعة يصير رافضًا للظهر؛ لأن عليه الخروج إليها؛ فيصير بالخروج إليها كالمباشر لها، وإن لم يباشر؛ على سبيل ما جعل الباذل لنفسه للّه - عَزَّ وَجَلَّ - والمسلم إليه، وإنها أخذت منه في استيجاب العوض الذي وعد له؛ فعلى ذلك يجب أن يجعل تسليم ما ذكرنا إلى المحق كأخذ المحق منه، وإن لم يأخذ، وليس كالقيام إلى الخامسة، ولا كالمتوجه إلى عرفات قبل فراغه من العمرة؛ لأن على هَؤُلَاءِ الفراغ مما كانوا فيه، ثم التوجه إلى عرفات والقيام إلى الخامسة؛ فلم يصح ذلك.

وأما المرأة والبائع ومؤدى الظهر في منزله عليهم التسليم والبذل؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وفي الآية أن اللّه - تعالى - عامل عباده معاملة أهل الفضل والإحسان كان لا حق له، لا معاملة ذي الحق، وإن كانت الأنفس والأموال كلها له في الحقيقة؛ حيث فرض عليهم الجهاد، وجعل لهم بذلك عوضا؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}، من المؤمنين كثيرًا من لا حق له فيها، وهي له في الحقيقة، ووعد لهم على ذلك عوضًا وأجرًا عظيمًا.

٧٥

وقوله - تعالى -: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ... (٧٥)

وقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه. . .} الآية، مثل هذا لا يقال إلا لتفريط سبق منهم، ثم لم يزل اسم الإيمان منهم بذلك، وكان الجهاد فرضا عليهم؛ فهذا ينقض على من يخرج مرتكب الكبيرة من الإيمان.

وقوله - تعالى -: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه وفي المستضعفين؟!.

وكذلك رُويَ عن الكسائي.

وفيه دلالة: أن على المسلمين أن يستنقذوا أسراهم من أيدي الكفرة إذا أسروا بأي وجه ما قدروا عليه: بالأموال، والقتال، وغير ذلك، وذلك فرض عليهم، وحق ألا يتركوهم في أيديهم؛ لأنه قال اللّه - تعالى -: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. . .} الآية.

وفي الآية دلالة أن إسلام الصغار إسلام، وكفرهم كفر إذا عقلوا؛ لأنه قال اللّه - تعالى -: {وَالْوِلْدَانِ} الكبار من الرجال والنساء لا يسمون: ولدانا، إنما يسمون الصغار منهم؛ لأنه عاتبهم بتركهم في أيدي الكفرة، فلو كانوا على حكم أولاد الكفرة لم يكن للتعيير والعتاب وجه بتركهم في أيديهم؛ إذ لم يعاتبوا بترك ولدان الكفرة في أيديهم؛ فدل أنه إنما لحقهم العتاب لإسلامهم، وكذلك قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. . .} الآية، ثم استثنى المستضعفين، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، فلو لم يكن إسلام الولدان إسلامًا، ولا كفرهم كفرًا، لم يكن لاستثنائهم من أُولَئِكَ وإخراجهم من الوعيد الذي ذكر - معنى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. . .} سألوا اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يخرجهم من القرية، وهم علموا أنه لا يتولى نحوه السماء، ولكن على أيدي قوم يعينهم على ذلك، وهم علموا أن للّه - تعالى - في ذلك صنعًا، والمعتزلة لم يعلموا،

 وذلك ينقض قولهم، وباللّه التوفيق.

وقوله: {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} قيل: المشرك أهلها: كل ظالم منعهم عن الخروج إلى دار الإسلام والهجرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} في ديننا، ونصيرًا يمنعنا عن المشركين، ويقال: مانعًا يمنع عنا المشركين، وقد ذكرنا الولي والنصير في غير موضع، واللّه أعلم.

٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه ... (٧٦) وسبيل اللّه: ذكرنا الذي يأمر خلقه بالسلوك فيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} قال ابن عَبَّاسٍ: الطاغوت: هو الشيطان في هذا الموضع؛ لأنه هو الذي يدعو ويأمر بالسلوك في سبيله.

وفي الآية دلالة ألا يؤمر الكفار بالجهاد، ولا بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا بغيرها من العبادات؛ لأنه أخبر أنهم لو قاتلوا إنما يقاتلون في سبيل الشيطان، وكذلك إذا صلوا، صلوا له، وكذلك سائر العبادات، ولكن يؤمرون أولا بإتيان ما لو فعلوا من العبادات كانت في سبيل اللّه، وهو الإيمان، وهذا ينقض قول من يقول: إن الكافر مأمور مكلف بالصلاة، والزكاة، وغيرها من العبادات، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} هذا يدل على أن الطاغوت هو الشيطان هاهنا، وكل ما عبد دون اللّه فهو طاغوت.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} يحتمل قوله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ}: أي: كيد أولياء الشيطان {كَانَ ضَعِيفًا} إذا كان اللّه ناصركم؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّه فَلَا غَالِبَ لَكُمْ}.

ويحتمل أن كيد الشيطان كان ضعيفًا؛ لأنه لا يعمل سوى الدعاء والأمر يدعوهم إلى سبيله؛ فذلك لضعفه لا يباشر القتال ولا الضرب، إنما هو إشارة منه ودعاء؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ}.

 * * *

٧٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ ... (٧٧)

اختلف فيه؛ قيل: نزلت الآية في بني إسرائيل، وهي الآية التي ذكرها اللّه - تعالى - في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى. . .} إلى قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}.

وقيل: إنها نزلت في المؤمنين من أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استأذنوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في قتال كفار مكة سرا؛ لكثرة ما يلقون من الأذى منهم؛ فنزل قوله - تعالى -: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي: لم أؤمر بالقتال، فنهاهم عن ذلك، فلما كتب عليهم القتال وأمروا به كرهوا ذلك؛ فدل قوله - تعالى -: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه. . .} الآية.

وقيل: إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا يقاتلون مع النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه} أي: يخشون الناس - يعني المنافقين كخشية المؤمنين اللّه أو أشد خشية؛ كقوله - سبحانه وتعالى -: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّه وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه}.

وإن كانت في المؤمنين؛ فتأويله: يخشون الناس في القتال كخشية اللّه في الموت أو أشد خشية؛ لأنه أهيب وأسرع نفاذًا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. . .} الآية.

تكلموا في ذلك:

فمنهم من جعله خبرًا عن أمر بني إسرائيل الذين قالوا لنبي لهم: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا. . .} الآية، أنهم إذا أمروا بالكف عن مقاتلته تمنوا الإذن في ذلك، وسألوا نبيهم - عليه السلام - عن ذلك، ثم فيهم من أعرض عن الطاعة، وقد كان أهل الإيمان يتمنون الإذن في ذلك؛ كقوله - تعالى -: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}، فوعظوا بمن ذكرت؛ ليقبلوا العافية، ولا يتمنوا محنة فيها شدة؛ فيبعثهم على ما بعث

أُولَئِكَ.

وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لَا تَتَمَنوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا رَبَّكُم العَافِيَةَ، وَإذَا لَقِيتُمُوهُم فَثُورُوا فِي وُجُوهِهِم " (١)

أو كان في علم اللّه - سبحانه وتعالى - أن يأمرهم، فَأُخْبِرُوا بالذين قتلوا وحل بهم؛ لئلا يفعلوا مثل فعلهم، واللّه أعلم.

وخشيتهم كخشية اللّه؛ كقوله - تعالى -: {لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ. . .} إلى تمام القصة.

وقد قيل: الآية نزلت فيما سألوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأجيبوا في ذلك، ثم خاطبهم الذي ذكر.

لكن اختلف في ذلك:

فمنهم من يقول: كان ذلك في المصدقين؛ لكن اشتد عليهم الأمر، وذلك نحو ما كان منهم يوم حنين وأحد ونحو ذلك، حتى أغاثهم اللّه - تعالى - وفرج عنهم بِمنِّه، وعلى ذلك قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}، أي: ما فيه الموت من الجهاد، وعلى ذلك: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، فلما عاينوا السبب الذي فيه هلاكهم، وتبلغ عند ذلك الخشية غايتها؛ نحو قرب الموت وشدة المرض؛ يكون المرء يخشى منه الموت ما لا يخشى لولا تلك الحال؛ لأنه يرى الموت من المرض، وإن كان الذي يظهر عليه من خشية الموت في تلك الحال أشد، فهو -في الحقيقة- خشية من اللّه - تعالى - أن يكون جعل ذلك سبب الموت، وأنه حضره وقرب منه؛ فيكون في ظاهر الأمر كمن يخشى من تلك الأحوال، وقد جعل لما جبل عليه الخلق في مثله معروف مثله؛ أعني: أن المريض عند الموت لما يغلب عليه الإياس من حياته، وإن كان الذي يصيبه يستوي عليه أحواله، فعلى ذلك أمر الأول.

وعلى ذلك فيما طبع عليه الخلق من طمأنينة القلب عند ملك أسباب الرزق والقدرة (١) أخرجه البخاري (١٥/ ١٤١) كتاب التمني: باب كراهية تمني لقاء العدو (٧٢٣٧)، ومسلم (٣/ ١٣٦٢) كتاب الجهاد والسير: باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء (١٧٤٢)، عن عبد اللّه بن أبي أوفي بلفظ " يا أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "، واللفظ لمسلم.

عليه ما لم يكن في غيرها، وإن كان من حيث قدرة اللّه - تعالى - واحد؛ فتكون تلك الخشية جبلية طبيعية، لا اختيارية، أو سخط بحكم الرب، وهو كالذي جاء من قوله - تعالى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. . .} الآية.

وقوله - على ذلك -: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ. . .} الآية، يحتمل وجهين:

أحدهما: الخبر عما في طباعهم، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. . .} الآية، وقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ " وإنما ذلك على الطبع فذلك الطبع كالسائل عن ذلك، وربما يضيفون القول والسؤال على اعتبار الأحوال إلى ما لا يطيق له، فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يكون قولا منهم عن وجه الحكمة لهم بالأمر فيما علم أنهم يبلغون بالقتل والجبن إلى حال لا يقومون للعدو، ولا يملكون أنفسهم في ذلك الوقت؛ فأخبر اللّه - عز وجل - أن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التمتع بالدنيا، ولو صوروا متاع الآخرة في قلوبهم لذهب عنهم ذلك، ويثبتون للعدو، ولا يبالون للعدو بما يحل بهم، ولا يخشون لذلك، وكأنه وعد لهم أن متاع الآخرة لكم على هذا الفعل لو صبرتم خير لكم، وما وعد لكم عليه خير من متاع الدنيا.

وأيضا: أن يقال: إن هذا وإن عظم هوله على الطبع، فإنه إذا كان للّه بحق العبادة لهو أيسر وأهون من الموت على صاحبه إذا حضر؛ إذ يريهم اللّه متاع الآخرة أو بعض ما فيه الكرامة؛ فيصير ذلك متاع الآخرة لهم وقت الموت فهو خير من تمتعهم في الدنيا ثم الموت، ولا ذلك منه، كما قيل في تأويل قوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللّه أَحَبَّ اللّه لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللّه كَرِهَ اللّه لقَاءَهُ " إن المؤمن يرى ما له من الكرامة؛ فيحب الموت أن يعجل به؛ ليصل إلى ذلك، والكافر يرى سخطه فيكرهه، وعلى هذا تأويل القول في الدنيا أنها:، " سِجْنُ الْمُؤْمِن وَجَنَّة الْكَافِرِ " أن تكون كذلك في ذلك الوقت، واللّه أعلم.

وتأويل آخر: أن تكون الآية في المنافقين: أنه يظهر عليهم النفاق وقت المحنة بالجهاد دون غيره من العبادات، قال اللّه - تعالى -: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ. . .} الآية، بين ما نزل بالمنافقين، وكذلك قوله - تعالى -: {قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ. . .} الآيات، - واللّه أعلم - فيمن نزلت الآية، لكنها معلوم أن فيها ترغيبًا فيما عند اللّه، وتزهيدًا في الدنيا، ودعاء إلى الرضا بحكم اللّه - تعالى - فيما خف وثقل، واللّه المستعان.

وعلى التأويل الآخر: جميع ما ذكر ظاهر في المنافقين، مذكور ذلك في الآيات التي ذكرتها، وفيهم قال اللّه - تعالى -: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ. . .} الآية، وغير ذلك مما دل على إنكارهم، وفضل خوفهم في ذلك، واللّه أعلم.

فإن قال قائل: كيف قال اللّه - تعالى -: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} وقد هلك به أكثر البشر؟

قيل: قد يخرج على وجوه - واللّه أعلم -:

أحدها: أنه يضعف كيده على من تعوذ باللّه - تعالى - كقوله - تعالى -: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ. . .} الآية، وإنما يقوى على من جنح له، ومال إلى ما دعاه إليه؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ. . .} الآية إلى قوله - تعالى -: {ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}.

والثاني: أن يكون ضعيفا على المقبل على ربه، والذاكر له في أحواله، والمفوض أمره إلى ربه، فأما من تولاه وأقبل على إشارته فهو الذي جعل له السلطان على نفسه بما آثره في شهواته، ومال به هواه، وهو كقوله - تعالى -: {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا. . .} الآية، وقد سماه اللّه - تعالى -: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}، بما يخنس بذكر اللّه - تعالى - ويوسوس عند الغفلة عن اللّه، فكان سلطانه به، واللّه الموفق.

والثالث: أنه لا يملك الجبر والقهر ولا اكتساب الضرر في الأبدان والأموال، فهو ضعيف، واللّه أعلم.

والرابع - واللّه أعلم -: أن يكون كان ضعيفا، أي: صار ضعيفا عند نصر اللّه ومعونته، واللّه أعلم.

ويحتمل: كان ضعيفا لو ظهر، حتى يعلم أنه شيطان، لكن قوى بما لا يعلم المغرور أنه كيده وتغريره، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}

قيل: في حرف حفصة: " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، قالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، فلما كتب عليهم القتال إذا هم يخشون الناس كخشية اللّه " كأن في الآية إضمارًا، يبين ذلك حرف حفصة، وإلا لم يكن في ظاهر الآية خبر حتى يكون قوله - تعالى -: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ. . .} الآية - جوابًا له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ. . .} فإن كانت الآية في المنافقين، فهو على الإنكار قالوا ذلك، وإن كانت في المؤمنين فهو يخرج على طلب الحكمة في فرض القتال عليهم، طلبوا أي حكمة في فرض القتال علينا؟ وقد تطلب الحكمة في الأشياء، ولا عيب يدخل في ذلك، وأصله: أن كل آمر - في الظاهر - من هو فوقه فذلك سؤال له في الحقيقة لا أمر؛ فيخرج سؤاله مخرج الخضوع والتضرع له، ومن أمر من دونه فهو في الحقيقة ليس بسؤال، فهو يخرج على الأمر والنهي، وهو الأمر الظاهر في الناس.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ}

معناه - واللّه أعلم -: إنا لم نخلقكم للدنيا وللمتاع فيها، إنما خلقناكم للآخرة وللمقام فيها، فلو خلقتكم للدنيا ثم كتبت عليكم القتال - لكان ذلك عبثًا خارجًا عن الحكمة، ولكن خلقناكم للآخرة وللمقام فيها.

ويحتمل قوله - تعالى -: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وقوله - تعالى -: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ. . .} إلى آخره، أن لم يقولوا ذلك قولا، ولكن كان ذلك خطرًا في قلوبهم، فأخبرهم نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما أضمروا؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللّه - تعالى - ليدلهم على نبوته ورسالته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} فنموت حتف أنفنا ولا نقتل، قتلا؛ فَيُسَرُّ بذلك الأعداء؛ كقوله: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، وفي القتل فتنة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} يحتمل وجهين:

أحدهما: ما ذكرنا: أنهم لم يخلقوا لمتاع الدنيا، ولكن إنما خلقوا لمتاع الآخرة.

والثاني: أن متاع الدنيا قليل من متاع الآخرة، كقوله - سبحانه وتعالى -: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}، وكقوله - تعالى -: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧).

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} لأن متاع الآخرة دائم غير منقطع، ومتاع الدنيا زائل منقطع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} قد ذكرناه.

* * *

٧٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}

قيل: لما استشهد من استشهد يوم أحد، قال المنافقون: لو كان إخواننا عندنا ما ماتوا وما قتلوا؛ قال اللّه - تبارك وتعالى -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.

ويحتمل: أن يكون جوابًا لما سبق من القول قولهم: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} يقول: من كتب عليه الموت ينزل به لا محالة، قاتل أو لم يقاتل؛ كقوله - تعالى -: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ. . .}.

ويحتمل: أن يكون قوله - تعالى -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ}: إذا كان الموت نازلا بكم لا محالة فالقتل أنفع لكم؛ إذ تستوجبون بالقتل الثواب الجزيل، ولا يكون ذلك لكم إذا متم حتف أنفكم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}.

قال الفراء: الْمُشَيَّد والمَشِيد واحد، غير أن الْمُشَيَّد -بالتشديد- فيما يكثر الفعل، والمَشِيد فيما لا يكثر الفعل.

وقيل: الْمُشَيَّد: هو المجصَّص، والشيد: هو الجِصّ.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} أي: حصينة.

وقيل: قصور محصنة طوال.

وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} معلوم أنهم لم يريدوا بالحسنة والسيئة حسنة في الدِّين وسيئة في دينهم، ولكن إنما أرادوا بالحسنة والسيئة في الدنيا من المنافع والبلايا والشدائد؛ وذلك أنهم ما كانوا يحزنون لما يصيبهم من السيئة في الدِّين، ولا كانوا يفرحون بالحسنة والخير في الدِّين، ولكن فرحهم بما كانوا يصيبون في الدنيا من الخصب والسعة، وحزنهم بما يصيبهم من الضيق والشدة، وكانوا يتطيرون برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهكذا كان دأب الكفرة من قبل، كانوا يتطيرون بالأنبياء والرسل - عليهم السلام - كقوله - عَزَّ وَجَلَّ - إخبارًا عن قوم موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، وكقوله - تعالى -: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّه بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، وقال اللّه - عز وجل -: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللّه وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}؛ فعلى ذلك قولهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}؛ تطيرًا منهم برسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال - تعالى -: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّه}

أي: بتقديره كان وقضائه، فضلا؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه}، وجزاءً؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنيعهم برسل اللّه صلى اللّه عليهم وسلم وتكذيبهم إياهم؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي: لا يفقهون ما لهم وما عليهم.

٧٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ... (٧٩) وروي

في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: " وأنا قدرتها عليك "

يحتمل: أن يكون قوله - تعالى -: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه} يرجع إلى ما ذكرت من السعة والعافية ونحوها {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} من البلاء، والشدة {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: من جناية نفسك؛ جزاء.

وفي الأول قال: {فَمِنَ اللّه} في ذلك بعينه بحق الجزاء، وفي الثاني: {فَمِنْ نَفْسِكَ} بحق الجناية على الآية التي ذكرت من قوله - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

ويحتمل: أن تكون الآية الأولى في أمر الدنيا، والأخرى في أمر الدِّين؛ إذ اختلفت الإضافة في هذه واتفقت في الأولى؛ إذ الأولى على ما عليه أمر المحنة من قوله - تعالى -: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}، وقوله - تعالى -: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}، جعل اللّه - تعالى - بمختلف أحوال للعباد لا منفع لهم في ذلك، وكذلك قوله - تعالى -: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّه بِضُرٍّ. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ. . .} الآية.

والثانية: في حق الأفعال، فيضاف إلى اللّه ما صلح منها؛ شكرًا وحمدًا بما أنعم اللّه عليه، وذلك قوله - تعالى -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}،

وقوله:

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}،

وقوله: {بَلِ اللّه يَمُنُّ عَلَيْكُمْ. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}،

وقوله: {وَلَكِنَّ اللّه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ. . .} الآية، وغير ذلك؛ فيضاف إليه بما منه في ذلك من الفضل والنعمة؛ شكرًا، والثاني في زله وضلاله لا تجوز الإضافة إليه لما شبه الاعتذار، ولا عذر لأحد في ذلك، ويقبح في الإضافة، وذلك نحو القول بأنه: رب السماوات والأرض، ولا يقال: هو رب الخنازير والأقذار، ونحو ذلك؛ لما يقبح في السمع، وإن كان من حيث الخلق والتقدير واحدًا، فمثله أمر الأفعال، واللّه الموفق.

ونفي الإضافة عنه لا يدل على نفي أن يكون خلقه؛ لما بينا من الأشياء؛ الإضافة إليه كالتخصيحص، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير، ويا إله الأقذار والخبائث، ويا رب الشرور والمصائب، وإن كان كل ذلك داخلا في أسماء الجملة، ومحقق منه تقديرها وخلقها، وكذلك الفواحش والكبائر، واللّه أعلم.

والثاني: الخيرات والأعمال الزاكية قد تضاف إليه، لا من وجه التخليق عند الجميع، بل عندنا: من جهة الإفضال بالتوفيق والإنشاء، وعند المعتزلة: من جهة الأمر والترغيب؛ فعلى ذلك نفي الإضافة فيما لم يضف إليه لهذا، وأيدَتْ هذا قراءة عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " وأنا قدرتها عليك ".

فإن قال قائل: ذلك لا يقع على الأفعال؛ لقوله: {مَا أَصَابَكَ}، ولو كان عليها كان يقول: ما أصبت، ثم كان له جوابان:

أحدهما: أن الإجابة اسم مشترك، ما يصيبه هو يصيب ذلك، فسواء لو أضيف إليه أو أضيف هو إليه، واللّه أعلم.

والثاني: أن ذلك يخرج مخرج الجزاء أيضًا إذا كان على ما يقوله؛ فيكون على ما يصيبه من جزاء حسنة أو سيئة، وإذ لم يجعل للّه في حسنه فضلا لم يحتمل الإضافة إليه مع ما قد بينا من إضافات أعمال الخير إليه، ودفع الشر لما ليس في فعله من اللّه إفضال عليه به

إنعام، وكان في فعل الخير ذلك، لا بالأمر والنهي؛ إذ هما يستويان في كل واحد، واللّه أعلم.

ثم أوضح ذلك خبر عبد اللّه، فطعنه قوم لمخالفة المصحف المعروف، قلنا: ليس بذي خلاف، إنما هو بيان المطلق، وقد يقبل خبر الآحاد في مثله، واللّه أعلم.

وقيل: خبر عبد اللّه من خبر الآحاد، ولعله ليس قبل مصحفه كلمة ترُوى عنه العامة لا تحتمل التبديل، وأما خبره عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ إذ لا يجوز اختراع القراءة مرفوع، وخبر الفرد فيه يقبل، فيما لا خلاف فيه، وإن كان فيه تأويل الظاهر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}.

قيل في حرف حفصة: " وأرسلناك إلى الناس رسولا "،

{وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا}

قيل: {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} أي: بأنك رسول اللّه.

وقيل: {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} على ما يضمرون في قلوبهم.

وقيل: فلا شاهد أفضل من اللّه بأنك رسوله

وفي قوله -أيضًا-: {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} وجوه:

أحدها: إن جحدوا تبليغك في الدنيا، أو يقولوا: لم تعلم رسالتك.

والثاني: أن يكون بالآيات التي جعلها اللّه - تعالى - لرسالتك تحقق، وشهادة اللّه لك بالرسالة شهيدًا، لك، أو مبينا، أو حجة.

والثالث: أن يكون جعل علم الأنبياء والرسل - عليهم السلام - وتبليغهم الخبر إليهم شهادته وكفي به شهيدا على ما أضاف بيعة الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إليه، ونصر أوليائه إليه، قال اللّه - تعالى -: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

ويحتمل: شهيدًا مبينًا، أو حكمًا مبينًا، فمعناه: فيبين لهم بالمعاينة ما كان بينه بالدلالة والآيات، وحكمًا فاصلا بين المحق والمبطل؛ فيخرج الوجهان جميعًا مخرج الإعراض عن المحاجة بما ظهر من العناد والمكابرة، وتفويض الأمر إلى اللّه وإخبار عن الفراغ مما كان عليه فيهم من حق البلاغ، ولا قوة إلا باللّه.

* * *

٨٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه ... (٨٠)

لأن اللّه - تعالى - أمر بطاعة الرسول، فإذا أطاع رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقد أطاع اللّه - تعالى - لأنه اتبع أمره؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، وحتى جعل طاعة الرسول من شرط الإيمان بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.

والثاني: أن الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إنما يأمر بطاعة اللّه، فإن أطاع رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وائتمر بأمره فقد أطاع اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأنه هو الآمر بطاعة اللّه، وباللّه التوفيق.

وقيل: لأن الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يأمر بأمر اللّه - تعالى - لذلك كانت طاعته طاعة اللّه، وذكر في بعض الأخبار أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال في المدينة: " مَنْ أَحَبَّني فَقَدْ أَحَبَّ اللّه - تعالى - وَمَنْ أَطَاعَني فَقَدْ أَطَاعَ اللّه " فعيره المنافقون في ذلك فأنزل اللّه - تعالى - تصديقًا لقول النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}.

وروي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مَنْ أَطَاعَ اللّه فَقَدْ ذَكَرَ وَإِنْ قَلَّتْ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتلَاوَتُهُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ نَسِيَ اللّه - تَعَالَى - وإنْ كَثُرَ صِيَامُهُ وَصَلَاتُهُ وَتِلَاوَتُهُ القُرْآنَ "، فطاعة اللّه - تعالى - إنما تكون في اتباع أمره، وانتهاء مناهيه، وكذلك حبه إنما يكون في اتباع أمره ونواهيه؛ كقوله - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه}.

وقوله -أيضًا- {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه} ظاهر مكشوف، حقيقته أنه يطيعه لطاعة اللّه؛ إذ الأمر يطيعه على أنه يدعوه إلى طاعته، وطاعته إجابته له بما يطيع اللّه به، وحكمته أنه لم يجعل مسلك الطاعة عبادة وإن كانت هي للّه عبادة، ولا تجوز عبادة الرسول؛ فصير اللّه - تعالى - طاعته عبادة للّه - تعالى - فأعلم: أن الطاعة قد تكون غير مستحقة لاسم العبادة؛ إذ قد يسمى لا من ذلك الوجه، ولذلك جاز القول بمطاع في الخلق، ولا يجوز بمعبود، واللّه أعلم.

وأيضا: فيه شهادة له بالعصمة في كل ما دعا إليه وأمر به، وإلزام للخلق بالشهادة له بالصدق في ذلك والقيام به، أكد بقوله - تعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ. . .}، وبقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. . .} الآيتين جميعًا، وذلك الإباء على لزوم طاعته أخوف مخالفة العذاب الأليم، وأزال عن الواجد في نفسه من قضائه الحرج الإيمان، ثم ليست طاعته في فعله خاصة، أو قول ما يقوله، ولكنها بوجهين:

أحدهما: اعتقاد كل فعل وقول على ما عليه عنده من خصوص، أو عموم، أو إلزام، أو آداب، أو إباحة، أو ترغيب. والثاني: في الوفاء بالذي منه المراد فيه من أن يفعل كفعله أو يتقي ذلك، أو يستعمله في حق الإباحة، أو ما أراد من محله فيه، يعرف موقع كل من ذلك بالأدلة، ولا قوة إلا باللّه.

وقول من يقول: لا يلزم طاعته في فعله أو يلزم، كلام بهذا الإطلاق لا معنى له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}

في أعمالهم وأفعالهم، فإنما عليهم ما عملوا وعليكم ما عملتم، ما تسأل أنت عن أعمالهم، ولا يسألون عما فعلتم، واللّه أعلم.

ويحتمل قوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} يطلع على سرائرهم، إنما عليك أن تعاملهم على الظاهر، واللّه أعلم.

٨١

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ... (٨١)

وقيل: إن المنافقين قد أظهروا التصديق للّه - تعالى - ولرسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإذا دخلوا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قالوا: يا رسول اللّه، أمرك طاعة، فمُرْنا بما شئت نفعله، فإذا أمرهم بأمر ونهاهم عنه خالفوا أمره، وغيروا ما أمرهم أبهأ ونهاهم عنه؛ فأنزل اللّه - تعالى - على رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} إلى قوله - تعالى -: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ}

قوله: {بَيَّتَ}

قيل: غير ما أمرهم به.

وقيل: {بَيَّتَ} ألف.

وقيل: {بَيَّتَ} أي: قدروا بالليل القول وألفوا، وكل كلام وقول مقدر بالليل مؤلف فيه، يقال: بَيَّتَ، ومعناه - واللّه أعلم -: أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -[ ... ] فهذا - واللّه أعلم - معنى قوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} وإلا ظاهر هذا ليس على ما قاله أهل التفسير، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}

أي: اللّه - تعالى - يأمر بإثبات ما يبيتون من القول الكذب والمغير من القول؛ ليلزمهم الحجة؛ لأنهم كانوا يسرون ذلك ويضمرونه لا يظهرون إظهارًا ليجزيهم جزاء ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}

يحتمل: أعرض عنهم ولا تكافئهم على هذا.

ويحتمل: أعرض عنهم، ولا تتكلف إظهار سرهم، ولا تطلع عليه، إنما ذلك إلَيَّ؛ لأطلعكم على ما يسرون؛ ليعلموا أنك إنما عرفت ذلك باللّه ففيه دلالة إثبات الرسالة،

 فتوكل على اللّه، وثق به، ولا تخافهم، فإن اللّه - تعالى - يدفع عنك شرهم وكيدهم.

ويحتمل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه} في جزائه؛ فإن اللّه هو يتولى جزاء تكذيبهم إياك، واللّه أعلم.

{وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا} فيما ذكرنا.

أي: كفى به مانعًا، فلا أحد أمنع منه.

وقيل: {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا}، مما يبيتون وحافظًا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يكون التبييت إلا بالليل، يؤلفون الشيء ويقدرونه بالليل.

٨٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)

لو كان الحكم لظاهر المخرج على ما يقوله قوم - لكان القرآن خرج مختلفًا متناقضًا؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ - في الآية: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .} الآية، ويقول في آية أخرى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، لو كان على ظاهر المخرج فهو مختلف، وكذلك قوله - تعالى -: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، وقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} في إحداهما حظر وفي الأخرى إباحة، فلو كان على ظاهر المخرج والعموم - لكان مختلفًا متناقضًا، ويجد أهل الإلحاد أوضح طعن فيه وأيسر سبيل إلى القول بأنه غير منزل من عند الرحمن؛ إذ به وصفه أنه لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا.

وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ. . .} الآية، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، ثم وجد أكثر ما فيه الحكم متفرقًا إلى غير المخرج، ومحصلا على غير مجرى اللفظ من العموم والخصوص؛ فدل به أن الحكم لا كذلك، ولكن المعنى المودع فيه والمدرج، لا يوصل إلى ذلك إلا بالتدبر والتفكر فيه، وإلى هذا ندب اللّه عباده؛ ليتدبروا فيه؛ ليفهموا

مضمونه، وليعملوا به.

ثم يحتمل بعد هذا وجهان:

أحدهما: قوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} أي: لو كان هذا القرآن من عند غير اللّه، لكان لا يُوَافَقُ بما يخبرهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولكن يخبرهم مخالفا لذلك؛ لأن الكهنة، الذين كانوا يدعون الخبر عن غيب، لا يخرج خبرهم موافقا، بل كان بعضه مخالف لبعض مناقض له، فلما خرج هذا ما يخبر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من سرائرهم موافقًا له، دل أنه خبر عن اللّه تعالى.

والثاني: أنهم كانوا يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}، {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، ونحوه، فأخبر اللّه - تعالى - أنه لو كان من عند غير اللّه لكان لا يوافق لما عندهم من الكتب، بل كان مختلفا متناقضا، فلما خرج هذا القرآن مستويا، موافقًا لسائر الكتب؛ كقوله - تعالى -: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}، {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}، دل أنه من عند اللّه نزل.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أن هذا القرآن نزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أوقات متفرقة متباعدة على نوازل مختلفة، فلو كان من عند غير اللّه نزل - لخرج مختلفًا، مناقضًا بعضه بعضًا؛ لأن حكيمًا من البشر لو تكلم بكلمات في أوقات متباعدة - لخرج كلامه متناقضًا مختلفًا، إلا أن يستعين بكلام رب العالمين، ويعرضه عليه؛ فعند ذلك لا تناقض، فلما خرج هذا - مع تباعد الأوقات - غير مختلف ولا متناقض، دل أنه من عند اللّه - تعالى - نزل، وباللّه التوفيق.

وفيه الاحتجاج على الْمُلْحِدَة؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. . .} إلى قوله: {اخْتِلَافًا كَثِيرًا} فلو وجدوا لأظهروا ذلك، وقوله - تعالى -: {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ولو قدروا على ذلك لأتوا به؛ دل ترك إتيانهم ذلك: أنهم لم يقدروا على إتيان مثله، ولو وجدوه مختلفًا لأظهروه، ولو كان من كلام البشر -على ما قالوا- لأتوا به؛ لأنهم من البشر؛ فظهر أنه منزل من عند اللّه، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}

وقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، دلالة بينة على وجهين:

أحدهما: أن المقصود منه يدرك بالتأمل والتدبر؛ إذ به جرى الأمر والترغيب قبل وقت العمل، بل ألزم القيام بما يعقل بالتدبر.

ثم فيه وجهان:

أحدهما: أن الأمر ليس على مخرج الكلام عند أهل اللسان، ولا على حق الأيسر في اللغة؛ إذ حق مثله أن يرغب في معرفة الموقع عند أهل اللسان من المخرج، ويوجه إليه لا يدَّبَّر فيه، واللّه أعلم.

ومعلوم -أيضًا- أن التدبر فيه حظ الحكماء وأهل البصر، لا حظ العوام، وما يعرف من حيث اللسان فهو حظ الفريقين، ثبت أن على العوام اتباع الخواص فيما فهموا هم والاقتداء بهم، واللّه أعلم.

والثاني: أنه جعل وجه معرفة الاختلاف والاتفاق بالتدبر فيه لا يقرع الكلام السمع، وإذا ثبت ذلك لم يلزم العمل بشيء من الظاهر حتى يعرف الموقع أنه على ذلك بالتدبر؛ لئلا يلحق المتمسك به النقيض بالتدبر، واللّه أعلم.

والوجه الثاني: بما تضمنت الاختلاف أن ارتفاع الاختلاف جعله حجة على أنه عن اللّه؛ إذ علم اللّه -مما جبل عليه الخلق- أنه لا أحد يملك بحق الاختراع لا عن علم السماع ينتهي إليه عن اللّه بخبر الصادقين، يملك تأليف الكلام ونظم مثله غير متناقض، ولا مختلف ينفي بنفي الاختلاف ما قرن به من الكهنة؛ إذ كذلك كلام الكهنة يخرج مختلفًا، وما قرن من تعليم البشر وأساطير الأولين، والسحر، ونحو ذلك؛ إذ كل ذلك يخرج على الاختلاف، وفي ذلك بيان حظر جعل المخرج بحق اللسان من الاسم حجة ودليلا؛ لما يوجد من ذلك الوجه اختلافا كثيرا، ولو كان من ذلك الوجه الاحتجاج - لوجد الاختلاف، ومن رام أن يجعل القرآن - لولا بيان الخبر - موقعه على جهة قد يقع فيه الاختلاف دونه - فهو وصف القرآن مع اجتماع الخبر بنفي الاختلاف، وأما ما هو في نفسه مختلف، فمثله لكل كاهن وبشر أريد تثبيت التناقض فيه أمكن لمن يذب عنه إن كان عنه مترجم معبر يجب ضم تأويله إليه، فيبطل أن يكون على أحد، ووجود اختلاف في

 مكان، ويكون احتجاج العدين عبثا، جل عن ذلك.

ثم ما ذكر يحتمل الأحكام والحدود، والأوامر والنواهي، وذلك يوجب أن التناسخ والخصوص والعموم لا يكون مختلفًا.

ويحتمل: الإخبار، والوعد والوعيد، ونحو ذلك، وأعني بالإخبار: عن الغيب، وعما كان أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن شرك المنافقين، وعما إليه مرجع الأمور، وعما كان عنهم، ونحو ذلك مما خرج كذلك، واللّه أعلم.

* * *

٨٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " وإذا جاءهم نبأ من خوف أو أمن أذاعوه " وكذلك في حرف حفصة.

قال الكسائي: هما لغتان، أذعت به وأذعته: إذا أفشيته.

وقيل: سمعوا به وأفشوه.

وقيل: أفشوه وأشاعوه.

ثم اختلف فيمن نزلت: قال الحسن: نزلت في المؤمنين؛ وذلك أنهم إذا سمعوا خبرًا من أخبار السرايا والعساكر - مما يسرون ويفرحون - أفشوه في الناس؛ فرحًا منهم، وإذا

سمعوا ما يحزنهم ويهمهم أظهروه في الناس؛ حزنا وغما، ثم استثنى إلا قليلا منهم لا يذيعون ولا يفشون بالخبر، فلو سكتوا وردوا الخبر إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى يخبر النبي ما كان من الأمر، أو ردوه إلى أولي الأمر حتى يكونوا هم الذين يخبرون به - كان أولى، وهو على التقديم والتأخير.

وقال أبو بكر الكسائي: نزلت الآية في المنافقين؛ وذلك أن المنافقين إذا سمعوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يخبر عن نصر المسلمين أذاعوا إلى الأعداء بذلك ليستعدوا على ذلك، وإذا سمعوا أن الأعداء قد اجتمعوا وأعدوا للحرب أخبروا بذلك ضعفة أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ليمتنعوا عن الخروج إليهم؛ فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} حتى كان هو مخبرهم عن ذلك، أو ردوا إلى أولي الأمر منهم؛ ليخبروا بذلك، واللّه أعلم.

ثم اختلف في {إِلَى أُولِي الْأَمْرِ}:

قيل: هم أمراء السرايا.

وقيل: هم العلماء الفقهاء

{الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.

الذين يطلبون علمه بقوله.

وقيل: {أُولِي الْأَمْرِ} - هاهنا - مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي اللّه عنهم.

{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه من كتاب اللّه تعالى.

وقيل: {أُولِي الْأَمْرِ} ولاة الأمر الذين يستنبطونه، والذين أذاعوا به: قوم إما منافقون وإما مؤمنون، على ما ذكرنا، إنما هو: أذاعوا به إلا قليلا منهم {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. . .} الآية على قول بعض.

وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا}

واختلف فيه: قيل: فَضْلُ اللّه: رسولنا، مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ورحمته: القرآن؛ تأويله: لولا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والقرآن لاتبعوا الشيطان إلا قليلا منهم لم يتبعوه، ولكن آمنوا بالعقل.

وقيل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} في الأمر والنهي عن الإذاعة والإفشاء، وإلا لأذاعوه واتبعوا الشيطان في إذاعتهم به {إِلَّا قَلِيلًا} منهم فإنهم لا يذيعون به.

وعن الضحاك قال: هم أصحاب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان إلا طائفة منهم لم يحدثوا بها أنفسهم.

وقال آخرون: هم المنافقون، كانوا إذا بلغهم أن اللّه - تعالى - أظهر المسلمين على المشركين وفتح عليهم - صغروه وحقروه، وإذا بلغهم أن المسلمين نُكِبُوا نكبة - شنعوه وعظموه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: {إِلَّا قَلِيلًا} يقول: لعلموا الأمر الذي يريدون، والخبر كله، {إِلَّا قَلِيلًا} يقول: لم يخف عليهم إلا قليلا من ذلك الأمر؛ {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ. . .} الآية.

وعن الحسن قال: هم الذين استثنى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - حين قال إبليس - لعنه اللّه -

 {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}، وحيث قال: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

وقال غيرهم ما ذكرنا على التقديم والتأخير: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا منهم، واللّه أعلم بذلك.

٨٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ... (٨٤)

قوله: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} يحتمل وجهين:

أي: ليس عليك حسابهم ولا جزاء تخلفهم، إنما حساب ذلك عليهم؛ كقوله - عز وجل -: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}.

والثاني: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}

أي: تكلف أنت بالقتال والجهاد، وإن تخلف هَؤُلَاءِ عن الخروج معك؛ يؤيد ذلك ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: هذا حين استنفر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أصحابه - رضي اللّه عنهم - بوعد أبي سفيان بدرا الصغرى، فخذله الناس؛ فأنزل اللّه - تعالى - هذه الآية؛ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَأخْرُجَن إِلَى بَدْرٍ وَإِنْ لَم يتبِعْنِي أَحَدٌ مِنْكُم "، فاتبعه أقل الصحابة - رضي اللّه عنهم - وقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل.

وفيه دليل وعد النصر له والفتح، والنكبة على الأعداء؛ لأنه تكلف الخروج وحده؛ فلو لم يكن وعد النصر له - لم يؤمر بالخروج؛ ألا ترى أنه قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَسَى اللّه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، و " عسى " من اللّه - تعالى - واجب.

وفي قوله - تعالى -: {عَسَى اللّه} وعد نصره وإن خرج وحده؛ إذ الـ " عسى " هو من اللّه واجب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: و {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} يحتمل وجوهًا:

يحتمل: حرض المؤمنين بالثواب لهم وكريم المآب على ذلك.

ويحتمل قوله - تعالى -: و {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}؛ لما في القتال معهم إظهار دين اللّه - الإسلام - وفي ترك المجاهدة والقتال معهم نصر العدو عليهم، وإظهار دينهم، أمر - عز وجل - رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليرغبهم في مجاهدة أعدائهم.

 والثالث: وحرض المؤمنين على المجاهدة والقتال معهم؛ وعدًا بالنصر لهم، والفتح، والغنيمة، واللّه أعلم.

وقوله - عز وجل -: {عَسَى اللّه أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

والـ " عسى " من اللّه واجب؛ وعد اللّه نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن يكف عنهم بأس الذين كفروا.

وتجوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}.

قيل:

وقوله: {أَشَدُّ بَأْسًا}؛ لما يدفع بأس المشركين عنكم، ولا يقدرون هم دفع بأس اللّه عن أنفسهم؛ فبأس اللّه أشد.

وقوله - سبحانه -: {وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}، قيل: التنكيل: هو العذاب الذي يكون للآخر فيه زجر ومنع.

وقيل: حين قال له: {لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}؛ ولو لم يتبعك أحد من الناس - لكف اللّه عنك بأس المشركين.

وقيل: البأس: هو عذاب الدنيا، والتنكيل والنكال: هو عذاب الآخرة؛ كأنه يخوفهم ببأسه؛ لتخلفهم عن العدو ومخافة بأسهم وعذابهم؛ فأخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -، أن بأس اللّه وعذابه أشد من بأس الأعداء، واللّه أعلم.

٨٥

قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ... (٨٥)

قوله تعالى: وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}

لم يذكر ما تلك الشفاعة التي يشفع؛ فيحتمل الشفاعة الحسنة: هي الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وهو لذلك مستوجب؛ فيكون له بذلك نصيب. والشفاعة السيئة: هي الدعاء عليه باللعن والمقت، وهو لذلك غير مستوجب؛ فيكون له بذلك نصيب.

وقيل: هو كقول العرب: " الدالّ على الخير كفاعله "، من دل آخر على الخير؛ فله في ذلك نصيب، وكذلك من دل آخر على الشر.

ويحتمل: الشفاعة الحسنة: في مظلمة، يسعى في دفع مظلمة عن أخيه المسلم، وهي

شفاعة حسنة؛ فله في ذلك نصيب.

ويحتمل: الشفاعة السيئة: هي أن يسعى في فساد أمر يلحقه من ذلك نقمة ومظلمة؛ فله في ذلك إثم.

وقيل: الشفاعة الحسنة: هي التي ينتفع بها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان، والشفاعة السيئة، هي التي تضر به، هما فيها شريكان.

ويحتمل: أن تكون الشفاعة الحسنة: كل صانع معروف، وكل آمر به، والشفاعة السيئة: كل صانع منكر، وآمر به؛ فهما شريكان في ذلك: الآمر والفاعل جميعًا.

ويحتمل ما روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُل مَعْروفٍ صَدَقَة، وَالدَّال عَلَى الْخَيرِ كَفَاعِلِهِ، وَاللّه يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللّهفَانِ ".

وعن الحسن - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا صَدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ اللسَانِ قيل: وما صدقة اللسان يا رسول اللّه؟ قال: " الشفَاعَةُ تُجْرِيهَا إِلَى أَخِيكَ، وترفع عنه ثقل الكريهة وتحقن بها الدم ".

والكفل والنصيب واحد.

وقيل: الكفل: الجزاء، وهو واحد.

وقيل: الكفل: الإثم، ولكن ليس إثمه خاصة؛ ألا ترى أنه قال: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}.

والشفاعة من أعظم ما احتيج إليها؛ إذ قد جاء القرآن بها، والآثار ممن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والشفاعة في المعهود من الأمر تكون عند زلات يُستَوجَبُ بها المقت والعقوبة؛ فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضا بهم، ثم كانت الصغائر منا لا يجوز التعذيب عليها عند القائلين بالخلود بالكبائر، والكبائر مما يعفى عنها بالشفاعة؛ فإذن يبطل عظيم ما جاء من القرآن والآثار في الامتنان، ويسقط ما جبل عليه أهل العلم باللّه وبرحمته، ويبطل رجاء المسلمين بشفاعة الرسل - عليهم السلام - ولا قوة إلا باللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الشفاعة تخرج على وجهين:

الأول: على ذكر محاسن أحد عند آخر؛ ليقرر له عنده المنزلة والرتبة.

والثاني: أن يدعو له؛ فالأول هو الذي يحتمل توجيه الشفاعة إليه، والثاني قد بين بقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ. . .} إلى قوله: {العَظِيمُ}، وقوله - تعالى -: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، والخوف يدل على وجهين: الشفاعة؛ لأن المرتضى هو ذو منزلة وقدْر، وهو ممن تضمنته آية شفاعة الملائكة؛ فيقال: الوجه الأول في الآخرة لا معنى له؛ لوجهين:

أحدهما: أنه في تقرير الأمر عند من يجهله، واللّه - جل ثناؤه - هو العليم بحقيقة ذلك، بل غيره مما يجوز عليهم خفاء الحقائق؛ كقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا. . .} الآية، وقال عيسى - عليه السلام -: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ. . .} الآية؛ وكان في ذلك أن الحقائق في ذلك عند اللّه، وهم تبرءوا عن العلم بذلك، وأقروا بأن اللّه هو المنفرد بعلم ذلك، وباللّه التوفيق.

والثاني: أن ثمة كتبًا يقرأ فيها أعمال بني آدم وما سبق منهم من صغير وكبير؛ فهي الكافية في التقدير إن كان في حق الاحتجاج، وإن كان في حق الإعلام - فعلم اللّه بهم مغنٍ عن ذلك، ولا قوة إلا باللّه.

وأما الدعاء: فكذلك نقول بالدعاء لمن له ذلك الوصف، ويشفع له فيما كان في ذلك منه من المآثم والذنوب، لا أنه إذا كان كل أفعالهم ذلك، فيشفع لهم؛ لأنه لا يجوز في الحكمة تعذيبهم، على ما ذكر من الأفعال، بل لهم عليها أعظم الثواب، وأرفع المأوى.

وطلب الشفاعة والمغفرة لمثله يصح من وجوه:

أحدها: أن ذلك لا يجوز في الحكمة؛ فكأنهم طلبوا منه ألا يجور ولا يسفه، وذلك لأفسق الخلق يخرج مخرج السفيه، فضلا عن أن يتضرع إلى اللّه به، جل الكريم الحليم عن هذا الوصف.

والثاني: أن يخلق في مثله؛ إذ هو مثاب غير معاقب، يلقى ذلك منه بالشكر والحمد، وفي الدعاء كتمان ذلك وكفرانه، ومحال الإذن في مثله، وباللّه التوفيق.

والثالث: أن ذلك في الموعود له بالجنة والمبشر بها؛ فطلب مثله يوجب الجهالة بذلك، لا أن يكون الوقت لم يبين، يكون ذلك في الاستعجال، وهو قولنا في أصحاب الكبائر: إنهم لو عُذبوا بقدر الذنوب - لكان ذلك في الحكمة عدلا؛ فيشفع لسائلهم بالفضل والإحسان دون العدل والاستيفاء، ولا قوة إلا باللّه.

والأصل: أنها مقادير للعقوبات، وإنما يعرف من يعرف مقادير الأجرام، وليس مِنَ الخلائق مَنْ يحتمل تركيبه احتمال العلم بمقاديرها؛ إذ لا أحد يبلغ في معرفة تعظيم اللّه كُنْه عظمته؛ ليعرفوا قدر الخلاف لأمره - جل وعلا - وما كان هذا سبيله - فحق القول الاتباع أن اللّه لا يجزي بالسيئة إلا مثلها.

ثم معلوم أن لا سيئة أعظم من الكفر، وجعل مثلها من الجزاء: الخلود في النار، ممن ألزم ذلك لما دونه وصف اللّه - تعالى - أنه يجزي بالسيئة أكثر من مثلها، واللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبرنا أنه لا يجزي ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً. . .} يكون فيما بين المرء والرب: يشفع إليه بالمغفرة لأحد والتجاوز عن المذنب؛ ليكون له نصيب منها.

ويحتمل: أن يكون اللّه - تعالى - برحمته يرحمه على أخيه بالشفاعة إليه - بالتجاوز عنه والمغفرة.

ويحتمل: أن يكون اللّه - تعالى - إذا غفر له يجعل له في شفيعه شفاعة؛ يهبه له كما وهب الأول له، وفي السيئة فيما يلعنه، أو يدعو اللّه عليه بالهلاك عن غير استحقاق، أو عليه في بقائه ضرر يكون له نصيب منها يلعن لآخر، أو أحدًا يلعنه ويدعو عليه به أن يعاقبه

بإساءته إلى أخيه في طلب الهلاك له بلا معنى له.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: {مَنْ يَشْفَعْ. . .} الآية، يحتمل فيما بينه وبين ربه يشفع له: بخير إليه من عفو وتجاوز، أو يسوء إليه من لعنه أو هلاكه، والنصيب منها بوجهين:

أحدهما: المغفرة في الأول هي برحمته أخاه وإشفاقه عليه، أو يعطي المشفوع له الشفاعة؛ فيكون ذلك له نصيبا منها، وفي الثاني: يجزيه بإساءته إلى من لعنه ودعا عليه بالهلاك بلا استحقاق نفس الأول، أو واحدًا بمثله فيه، واللّه أعلم.

ويحتمل: فيما بينه وبين الناس، ثم يكون ذلك بوجوه:

أحدها: بما يشفع إلى من بين أخاه وآخر سواء في دفع ذلك وحلت التحية أو الألفة، أو إلى ضد ذلك يشفع في إقالة عثرة، أو ينم بينهما؛ لإلقاء عداوة، أو يشفع إليه بالدلالة على ملهوف في إغاثة، أو مظلوم في نكبة، أو يصنع معروفا أو نكبة، يبعث ذلك على خير أو شر، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا}.

قيل: هو الحافظ، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.

وقيل: {مُقِيتًا}: حسيبًا، وقيل: شهيدًا، وقيل: {مُقِيتًا} أي: مقتدرًا، مجازيًا بالحسنة والسيئة.

وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَنِ اسْتَأْكَلَ بِمُسْلِمٍ أكلَةً - أَطْعَمَهُ اللّه مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِياءٍ - أَقَامَهُ اللّه - تَعَالَى - مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ - تَتَبَّعَ اللّه عَورَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللّه عَوْرَتَهُ - يَفْضَحْهُ فِي بَيتِهِ ".

وعن الفَرَّاء والكسائي قالا: الْمُقِيت: المقتدر؛ من " أَقاتَ، يُقِيت إِقاتة ".

 وقيل: الْمُقِيت مشتقة من الْقُوتِ؛ يقول: رِزْق كل دابة على اللّه تعالى - حتى تستوفي أكلها ورزقها.

وقيل: مُقِيتًا: راحما يكلؤهم ويرزقهم.

وقال أبو بكر الكسائي: وهو مأخوذ من الكتب السابقة، ليس هو بلساننا؛ فنحن لا نتأوله؛ فلعله على خلاف ما نتأوله، واللّه أعلم.

* * *

٨٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

ذكر التحية، ولم يذكر ما تلك التحية، واسم التحية يقع على أشياء: من نحو ما جعل الصلاة لتحية المسجد، والطواف تحية البيت، وغير ذلك مما يكثر عددها، لكن أهل التأويل أجمعوا على صرف هذه التحية إلى السلام دون غيرها من التحية التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ رُدُّوهَا}؟! ولو كان غيرها أراد - لم يقل: {أَوْ رُدُّوهَا}؛ لأن غيرها من التحية لا يرد؛ إذ في الرد ترك القبول، ولم يؤمر بذلك؛ دل أنه أراد بالتحية: السلام، ويدل على ذلك آيات من كتاب اللّه - تعالى -: قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّه}؛ فجعل تحية الملائكة للمؤمنين السلام؛ كقوله - تعالى -: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ}، وجعل تحية أهل الجنة السلام؛ كقوله - تعالى -: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، وكقوله - تعالى -: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}، وتحية الملائكة بعضهم على بعض: بالسلام؛ ألا ترى أنه قال اللّه - تعالى -:، {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّه. . .} الآية

فعلى ذلك يمكن أن يكون المراد من قوله - تعالى -: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ}: السلام، وجعل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - السلام علمًا وشعارًا فيما بين المسلمين، وأمانًا يؤمن بعضهم بعضًا من شره؛ ألا ترى أن أهل الريبة لا يسلِّمون ولا يردون السلام، وإن كانوا لا يعرفون تفسيره ولا معناه؟! ولكن على الطبع جعل ذلك لهم.

والسلام: قيل: هو اسم من أسماء اللّه - تعالى - فهو يحتمل وجوهًا:

يحتمل: سلام مسَلَّم طاهر عن الأشباه والأشكال، وسلام عدل منزه عن العيوب كلها، والجور والظلم.

وقوله: " رحمت اللّه "، أي: برحمته ينجو مَنْ نجا، وسعد من سعد: " وبركاته ": به ينال كل خير، وهو اسم كل خير؛ ألا ترى أنه جعل التحليل من الصلاة بالسلام بقوله: " السلام عليكم ورحمة اللّه "؛ على ما جعل تحريمها باسم اللّه؛ فعلى ذلك جعل الافتتاح بما به جعل الختم.

ثم اختلف في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}:

فقيل: حيوا بأحسن منها للمسلمين، أو ردوها على أهل الكتاب.

وعن أنس - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: نهينا أن نزيد على أهل الكتاب على: عليك، وعليكم.

وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: السلام: اسم من أسماء اللّه وصفاته في الأرض، فأفشوه بينكم؛ فإن الرجل إذا سلَّم كتبت له عشر حسنات، فإن هم ردوها عليه كتب لهم مثله.

وقيل: قوله - تعالى -: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} بالزيادة، {أَوْ رُدُّوهَا}: بمثلها.

وروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللّه "، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم، يا رسول اللّه ورحمة اللّه، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَيكُم وَرَحْمَةُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ "، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، فقال: " عَلَيكُم "؛ فقيل له: إنك زدت في الأول والثاني؟ فقال: " إِنَّ الْأَولَ وَالثانِي قَدْ أَبْقَيَا لي زِيادَةً، وَهَذَا لَم يُبقِ لي زيادةً ".

وقيل: إنه روي أنه سلَّم عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " عَشرٌ " يعني: عشر حسنات، وسلَّم عليه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة اللّه؛ فقال: عِشرُونَ "، وقال آخر: السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته؛ فقال: " ثَلاثُونَ ". ومنتهى السلام قوله: " وبركاته "، لا يزاد عليه؛ كقوله: {رَحْمَتُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}.

فَإِنْ قِيلَ: يسلم في الصلاة على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، ولا يقول في التحليل من الصلاة: وبركاته؟ قيل: لوجهين:

أحدهما: تفضيلا لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

والثاني: إبقاء لهم في الرد زيادة.

ويسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على القائم، والقائم على القاعد:

روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " يُسَلِّمُ الراكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالماشي عَلَى القَائِمِ، وَالْقَائِمُ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالصغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْقَليلُ عَلَى الكَثِيرِ ".

وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " إِذَا انْتَهَى أَحَدُكم إِلَى المَجْلِسِ فَلْيُسَلم، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِس، وَإِنْ قَامَ وَالْقَوْمُ جُلُوسٌ فَلْيُسَلم؛ فَلَيسَتِ الْأُولَى بِأحَق مِنَ الْأُخْرَى ".

وعن جابر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيرِنَا فَلَيسَ مِنَّا

وقال: " لَا تُسَلمُوا تَسليمَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ فَإِنَّ تَسليمَ النَّصَارَى بِالْأَكُفِّ، وَتَسليمَ الْيَهُودِ بِالإشارَةِ ".

ويكره أن يبتدئ أهل الكتاب بالتسليم، ولكن إذا بدءوا هم - يردّ؛ وعلى ذلك جاءت الآثار:

روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَبدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالتَّسليمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُم فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُم إِلَى أَضْيَقِهَا ".

وعن أبي نضرة الغفاري - رضي اللّه عنه - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال لهم يومًا: " إِنى رَاكِبٌ إِلَى يَهُودَ؛ فَإِنْ سَلَمُوا عَلَيكُم فَقُولوُا: وَعَلَيكُم ".

ثم قيل في تفسير: " السلام عليكم " بوجوه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: اللّه شهيد عليكم.

وقيل: اللّه قائم عليكم، وهو كقول اللّه - تعالى -: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} برًّا وفاجرًا، يرزقهم، ويحفظهم، ويستجيب لهم.

 وقيل: هو الدعاء لهم بالمغفرة والسلامة، وهو ما ذكرنا بدءًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}.

قيل: شهيدا.

وقيل: حفيطا.

وقيل: كافيًا مقتدرًا؛ يقال: أَحْسَبَني هذا، أي: كفاني.

وقال الكسائي: مشتقة من الحساب؛ كقوله - تعالى -: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي: حاسبًا؛ كالأمير والآمر، والقدير والقادر، واللّه أعلم.

٨٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثًا (٨٧)

هذا - واللّه أعلم - لما ألزم اللّه، وأجرى على ألسنتهم أنه اللّه، وأنه خالق السماوات والأرض، وأنه خالقهم؛ كقوله - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه}: أخبر أن الذي سميتموه " اللّه " وقلتم: إنه خالق السماوات والأرض - هو واحد، لا إله غيره، ولا رب سواه، هو واحد، لا شريك معه ولا نِد، وأن الأصنام التي تعبدونها دون اللّه قد تعلمون أنها لا تنفعكم إن عبدتموها، ولا تضركم إن تركتم عبادتها، وباللّه التوفيق.

وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} قيل فيه بوجهين:

قيل: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}؛ كقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ}

وقيل: ليجمعنكم في القبور إلى يوم القيامة ثم يبعثكم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثًا}

معناه - واللّه أعلم -: أنكم تقبلون الحديث بعضكم من بعض، وإن حديثكم يكون صدقًا ويكون كذبا؛ فكيف لا تقبلون حديث اللّه وخبره في البعث وما أخبر في القرآن، وحديثه لا يحتمل الكذب؟! هذا - واللّه أعلم - تأويله.

* * *

قوله تعالى: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّه وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩)

٨٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}

اختلف في قصة الآية: قيل: إن ناسًا من أهل مكة قدموا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - المدينةَ، فأسلموا، وأقاموا بها ما شاء اللّه أن يقيموا، ثم ندموا على الهجرة والإقامة فيها، وأرادوا الرجعة إلى مكة واجتووا المدنية؛ فخرجوا يتحولون مَنْقَلَةً مَنْقَلَةً، حتى تباعدوا من المدينة، فلحقوا بمكة، فكتبوا كتابًا، ثم بعثوا به مع رسول من قبلهم إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقدم به الرسول عليه بالمدينة، فإذا فيه: " إنا على الذي فارقناك عليه من التصديق باللّه وبرسوله، اشتقنا إلى أرضنا، واجتوينا المدينة ". ثم إنهم خرجوا من مكة متوجهين إلى الشام للتجارة، فبلغ ذلك المسلمين وهم عند رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فقَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: فما يمنعنا أن نخرج إلى هَؤُلَاءِ الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، فنقتلهم ونأخذ ما معهم؟! فقال فريق منهم: كيف تقتلون قومًا على دينكم؟! ورسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ساكت لا ينهى واحدًا من الفريقين؛ حتى نزل قوله - تعالى -: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}: يبين اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - لرسوله أمرهم وما صاروا إليه.

وقيل: تخلَّف رجال عن أُحُدٍ، فكان أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيهم فئتين: فرقة تقول: اعف عنهم، وفرقة تقول: نقتلهم؛ فنزلت الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.

وقيل: إن قومًا كانوا يتحدثون، فاختصموا في أهل مكة: فقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم كفار، وقال آخرون: إنهم قد أكلوا ذبائحكم، وصلوا صلاتكم، وأجابوا دعوتكم؛ فهم معكم، وقال غيرهم: تركوا النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتخلفوا عنه. فأكثروا في ذلك؛ فنزل قوله - تعالى -: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ. . .) الآية، فلا ندري كيف كانت القصة، ولكن فيه النهي عن الاختلاف والتنازع بينهم؛ كأنه قال - واللّه أعلم -: كيف تختلفون في قوم ظهر نفاقهم؟

وكيف لا تسألون رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن حالهم وهو بين أظهركم؟! كقوله - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه وَالرَّسُولِ. . .} الآية، وظهور نفاقهم يحتمل الخبر منه نصًّا أنهم منافقون.

ويحتمل الظهور بالاستدلال على أفعالهم، وقد يوقف على حال المرء بفعله أنه كافر أو مؤمن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاللّه أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}

قال الكسائي: فيه لغتان؛ يقال: أركسته في أمر كذا وكذا وركسته، وارتكس الرجل: إذا وقع فيه ورجع إليه.

وقيل في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وحفصة - رضي اللّه عنها -: " واللّه ركسهم بما كسبوا ".

ثم قيل: أركسهم: أي ردهم.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} قال: أوقعهم.

ثم يحتمل قوله - تعالى -: {أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} وجهين:

ما أظهروا بما كان في قلوبهم من النفاق والخلاف لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ كقوله - تعالى -: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.

ويحتمل: ابتداء كسب كسبوا بعد ما أسلموا، أي: كفروا وارتدوا عن الإسلام بعد ما صح إسلامهم.

وفي إضافة ارتكاسهم إلى اللّه دلالة خلق فعلهم وحرمان أمر يملكه، واللّه أعلم بما كسبوا من إحداث شرك، أو بكسبهم بالقلوب وقت إظهارهم الإيمان في أن ظهر عليهم بلحوقهم إخوانهم من الكفرة، أو لما جعل اللّه من أعلام النفاق التي ظهرت بغرض الجهاد والعبادات، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللّه}.

تأويله - واللّه أعلم -: أتريدون أن تهدوا وقد أراد اللّه أن يضلُّوا؛ لما علم اللّه منهم أنهم لا يهتدون؛ باختيارهم الكفر.

 ويحتمل: إنكم لا تقدرون على هداهم إذا لم يهدهم اللّه؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}،

وفي قوله -أيضًا-: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا} قيل: أن يُسَمَّوْا مهتدين، وقد أظهر اللّه - تعالى - ضلالهم؛ صلة لقوله - تعالى -: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} وحذرهم عن الاختلاف في التسمية بعد البيان.

وقيل: أن تجعلوهم مهتدين، وقد جعلهم ضالين على نحو قوله - تعالى -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية، أَيَّدَنَا تَمَامُ الآية، وأوضح الأول قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} يقول: من أضله اللّه عن الهدى فلن تجد له سبيلا يهتدي به، وقيل: دينا، وقيل: مخرجا، وهو واحد، واللّه أعلم.

٨٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ... (٨٩)

قيل: ود الذين تركوا، الهجرة، فرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم، الذين لهم قال اللّه: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} - أن تكفروا كما كفروا، أي: تتركون الهجرة وترجعون كما رجعوا منهم؛ فتكونون أنتم وهم سواء؛ شرعًا في الكفر، فسماهم اللّه كفارًا، وأمرهم بالبراءة منهم؛ فقال:

{فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ}

بالهجرة الأولى؛ كقوله - تعالى -: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، وقال اللّه - تعالى -: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وكقوله - تعالى -: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ}، نهاهم أن يتخذوا أولياء حتى يهاجروا هجرة ثانية إلى المدينة، ويثبتون على ذلك.

هذا على قول من قال: إنهم كانوا هاجروا ثم لحقوا بمكة.

وأما في قول من قال: إنهم كانوا في أهلهم تكلموا بالإسلام فيها ولم يهاجروا - فمعنى هذا: لا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا كما هاجر غيرهم.

وقيل: المهاجرون على طبقات:

منهم: من هاجر، وأقام، وسمع، وأطاع، وثبت على ذلك.

ومنهم: من هاجر، ثم خرج من غير إذن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلحق بأهله وأبطل هجرته التي هاجر، وإيمانَهُ الذي آمن.

ومنهم: من تكلم بالإسلام، وأقام بأهله، ولم يهاجر، وبه قوة على الهجرة؛ كان كذلك.

ومنهم: من تكلم بالإسلام ولم يكن له قوة على الهجرة؛ كانوا مستضعفين، وهو - واللّه أعلم - ما قال اللّه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} الآية. وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: " كنت أنا وأمي من المستضعفين ".

والذين آمنوا ولم يهاجروا ولهم قوة الهجرة ما قال اللّه - تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

وفي قوله - تعالى -: {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا} - يحتمل: من أظهر الموافقة من المنافقين للكفرة، ولحق بهم.

ويحتمل: من قد آمن ولم يهاجر؛ فيكون الأول على ولاية الدِّين، والثاني: على ولاية الميراث؛ كقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}.

ومن يتأول الآية على إظهار الكفر دون الخروج من المدينة - فمهاجرته تخرج على وجهين:

أحدهما: أن يكون قد انضم فيها إلى معاني الكفرة فيما يترك صحبتهم.

والثاني: أن يهاجر الأعلام المجعولة لأهل النفاق، مما يظهر ذلك فيما امتحنوا به من الأفعال؛ فيظهر خلاف ذلك؛ كقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}.

وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}

 وأبوا الهجرة.

{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}

لأنهم صاروا حربًا لنا؛ حيث تركوا الهجرة وأبطلوا إيمانهم الذي تكلموا به {وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}

لما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) يخرج على وجهين:

أحدهما: في لحوق قوم من مظهري الإيمان أنهم لو لحقوا بمن لا ميثاق بينكم وبينهم ولا عهد؛ فاقتلوهم حتى يتوبوا ويهاجروا، ولو لحقوا بأهل الميثاق - لا تدعوا الولاية التي كانت بينكم وبينهم.

والثاني: أن تكون الآية في قوم من الأعداء وأهل الحرب: لو انضموا إلى أهل الميثاق وأهل العهد فلا تقاتلوهم؛ فيكون الأمر عقيب موادعة تجري بين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين قوم في دورهم، على أن لا تمانع بينهم لأهل الاتصال في الزيادة والاجتماع إلى المدة المجعولة للعهد، ممن إذا خيف منهم: ينبذ إليهم العهد، ويوفي إليهم المدة إذا وفوا - واللّه أعلم - كقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ. . .}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ}.

* * *

٩٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: استثنى الذين خرجوا من دار الهجرة مرتدين إلى قومهم، وكان بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق،

وقال: وفيهم نزل قوله - تعالى -: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، كأنه قال - واللّه أعلم -: إن وصل هَؤُلَاءِ إلى أُولَئِكَ الذين بينكم وبينهم عهد وميثاق - فلا تقاتلوهم.

وقيل: كان هذا في حي من العرب بينهم وبين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أمان وعهد، وكانت الموادعة على أن من أتاهم من المسلمين فهو آمن، ومن جاء منهم إلى المؤمنين فهو آمن، يقول - واللّه أعلم -: إن وصل هَؤُلَاءِ أو غيرهم إلى أهل عهدهم - أو قال: عهدكم - فإن لهم مثل الذي لأُولَئِكَ من العهد وترك القتال.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: لما صد مشركو مكة نبي اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن البيت - جاء رجل - يقال كذا من بعض القبائل - لينظر ما أمر مُحَمَّد وقريش؛ فرآهم قد حالوا بين رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين البيت، فقال: يا معشر قريش، هلكتم؛ أتردون قومًا عمار ضفروا رءوسهم عن البيت، واللّه لا نشرككم في هذا؛ فصالح رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ووادعه ألا يكونوا مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يكونوا عليه، ومن لجأ إليه فهو آمن.

فلا ندري كيف كانت القصة في ذلك، غير أن فيه دليلا أن من اتصل بأهل العهد وكان على رأيهم - فهو بمنزلتهم، لا نقاتلهم.

ومن قولنا: إن الإمام إذا وادع أهل بلدة من بلدان أهل الحرب، فمن دخل فيها أو اتصل بهم فهم آمنون مثلهم؛ لا يحل قتالهم، ولا أسرهم، حتى ينبذ إليهم عهدهم، وإذا أمَّن قومًا منهم في دار الإسلام ووادعهم، ثم انضم إليهم آخرون، فدخلوا معهم دار الإسلام - له قتالهم وأسوهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ}

قيل: أي: ضيقة صدورهم، وهكذا قال الكسائي: كل من ضاق صدره عن فعل أو كلام؛ فقد حصر، فهذا - واللّه أعلم - ما ذكرنا: أن الموادعة ألا يعين بعضهم بعضًا في القتال، ولا يعينوا عليهم عدوهم، فنهاهم اللّه عن قتالهم؛ لما أخبر أن قلوبهم تضيق على أن يقاتلوكم مع قومهم أو أن يقاتلوا قومهم معكم.

وفي قوله - تعالى - أيضًا: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} يحتمل: أن يكون حكم هذا الحرف ما ضَمَّنه الحرف الأول؛ فيكون ذلك الشيء عمن ذكرت إذا كان هذا صفته -

 أن يضيق صدره عن مقاتلة المؤمنين والكافرين جميعًا: إما بالطبع، أو بوفاء العهد، أو بالنظر في الأمر؛ ليتبين له الحق، وهو متردد في الأمر؛ بما يجد المعروفين بالكتب التي احتج بها الرسول - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مختلفين فيه على ما عقولهم مرتقب بهم، أو تخلف عن الإحاطة بحق الحق إلا بعد طول النظر، واللّه أعلم؛ فيكون معنى قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ} بمعنى: وجاءوكم.

ويحتمل: في قوم سوى ما ذكرت من الذين يصلون، لكن في أُولَئِكَ المعاهدين نفسه الذين أبت أنفسهم نقض العهد بينهم وبين المؤمنين، وعزموا على الوفاء به، وأبت أنفسهم -أيضًا- معونة المؤمنين على قومهم بالموافقة بالمذهب والدِّين، وعلى ذلك وصف جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد، وذلك في حق الآيات التي ذكرنا، ثم بين الذين يناقضون العهد، أو المنافقين الذين متى سئلوا عن الكون على رسول اللّه والعون لأعدائه - الأمر فيهم؛ وذلك كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ}.

إلى قوله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا}، وتكون هذه الآية فيهم؛ كقوله - تعالى -: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ. . .} الآية؛ فيكون في هذه الآية الإذن، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ شَاءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ}

أي: نزع من قلوبهم الرعب والخوف؛ فقاتلوكم، ولم يطلبوا منكم الصلح والموادعة.

{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ}

يعني: طلبوا الصلح، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه.

وقيل: قالوا: إنا على دينكم، وأظهروا الإسلام.

{فَمَا جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا}.

أي: حجة وسلطان القتال، أمر اللّه رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالكف عن هَؤُلَاءِ.

٩١

ثم قال: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ... (٩١)

قيل: كان رجال تكلموا بالإسلام متعوذين؛ ليأمنوا في المسلمين إذا لقوهم، ويأمنوا

في قومهم بكفرهم؛ فأمر اللّه بقتالهم، إلا أن يعتزلوا عن قتالهم.

وقيل: قوله - تعالى -: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} غيرهم ممن لا يفي لكم ما كان بينكم وبينهم من العهد

{يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ} يقول: يريدون أن يأمنوا فيكم؛ فلا تتعرضوا لهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فلا يتعرضوا لهم.

ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن صنيعهم وحالهم، فقال:

{كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ}

يعني: الشرك.

{أُرْكِسُوا فِيهَا}

أي: كلما دُعوا إلى الشرك فرجعوا فيها، فهَؤُلَاءِ أمر اللّه رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بقتالهم، وعرفه صفتهم، إن لم يعتزلوا ولم يكفوا أيديهم عن قتالكم.

{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}

أي: جعلنا لكم عليهم سلطان القتل وحجته.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ويكفوا أيديكم عن أن يقاتلوكم "

وفي حرفه: " ركسوا فيها ".

وفي حرف حفصة: " ركسوا فيها "

وفي حرفها: " أن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم ".

ثم يحتمل نسخ هذه الآية بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}.

وقوله - تعالى -: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}؛ لأن الفرض في القتال أول ما كان فرض أنه يقاتل من قاتلنا وبدأنا، ثم إن اللّه - تعالى - قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ}.

٩٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} اختلف فيه: عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}: أي: لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا بغير حق عمدا، إلا خطئًا فيما لا يملكه.

وقيل: {إِلَّا} بموضع الواو، كأنه قال: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا متعمدًا ولا خطأ، وذلك. جائز في اللغة.

وقيل: وما كان ينبغي لمؤمن أن يترك قتله إذا قتل آخر عمدا إلا خطأ، فإنه يترك قتله ولا يقتل به؛ وهو قول أبي بكر الكسائي.

وقيل: وما كان ينبغي لمؤمن أن يترك حكم قتله إلا خطأ.

قال أبو بكر الكسائي: حكم القتل ما ذكرنا من القصاص والقود، أو كلام نحو هذا.

ويحتمل قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} قط بعد ما سبق من اللّه بيانه في غير آي من القرآن، نحو قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وقوله - تعالى -: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، وقوله - تعالى -: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}، وغيرها من الآيات.

{إِلَّا خَطَأً} فإنه لم يسبق منه الحكم فيه إلا في هذه الآية.

وقيل: وليس لمؤمن أن يقتل مؤمنًا على كل حال إلا أن يقتله مخطئًا؛ فعليه ما في القرآن. وهو قريب مما ذكرنا.

ثم الخطأ - عندنا - على وجهين: خطأ قصد، وخطأ دين.

فخطأ القصد: هو أن يقصد أحدًا فيصيب غيره.

وخطأ الدِّين: هو أن يعرفه مشركًا كافرًا من قبل حلال الدم؛ فيقتله على ما عرفه من قبل، وهو للحال مسلم.

فَإِنْ قِيلَ: كيف لزمه في قتل الخطأ ما لزمه من الكفارة؛ وقد أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لا يؤاخذه له، وأن لا حرج عليه في ذلك؛ بقوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، وقال في آية أخرى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، وغيرها من الآيات.

قيل: إن الفعل فعل مأثم، وإن كان لم يوجد منه القصد فيه، فما أُوجِبَ إنما أُوجِبَ؛ لما الفعل فعل مأثم.

والثاني: يجوز أن يكون اللّه يكلفنا بترك القتل والفعل في حال السهو والغفلة، ألا قرى أف قال: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، والخطأ نقيض الصواب؛ فلا يجوز أن يؤمر بطلب الصواب ولا ينهى عن إتيان ضده؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. . .} الآية.

ثم اختلف في المعنى الذي أوجب عليه رقبة مؤمنة.

قيل: لأنه أتلف نفسًا خلقها اللّه - تعالى - لعبادته؛ فأوجب مكانها نفسًا مؤمنة؛ لتعبد اللّه على ما عبدت تلك.

لكن التأويل لو كان هذا لكان يجب في العمد ما وجب في الخطأ؛ لأنه وجد ذلك المعنى، لكن أوجب لا لذلك المعنى - واللّه أعلم - ولكن تغليظًا وتشديدًا عليه لما أتلف نفسًا محظورًا لم يؤذن له في ذلك؛ لئلا يقدم على مثله، وللّه أن يوجب على من شاء بما شاء لما شاء، من غير أن يقال: لم؟ وكيف؟ وأين؟

والثاني: أوجب عليه رقبة مؤمنة؛ لأنه أبقى له نفسًا مؤمنة؛ فعلى ما أبقى له نفسًا مؤمنة أوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة.

وفي قوله - تعالى أيضًا -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} واختلف في تأويل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ}؛ فمنهم من يقول بإضمار: وما كان بمتروك لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ.

ويخرج معنى " بمتروك " على وجهين:

أحدهما: ما قاله " أبو بكر الملقب بالأصم: أي بمتروك له في القصاص إلا أن يقتله خطأ. ولكن هذا يوجب منع العفو لما به الترك، ومعلوم أنه أمر رغب فيه؛ حتى دعا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولي القتيل إلى العفو، ثم إلى أخذ الدية، ثم لما أبت نفسه عن ذلك أذن له في القصاص؛ ويدل على ذلك قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ. . .} الآية،

وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا. . .}، إلى قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. . .} الآية، إلا أن يرجع في قوله: " بمتروك له " إلى الوجوب، أي: لا يدفع عنه إيجاب القصاص إلا من قتل مؤمنًا خطأ؛ فإنه ليس عليه القصاص.

والثاني: أنه ما كان بمتروك له من التأنيب والتوبيخ والتعيير بسوء صنيعه بأخيه وتعديه حد اللّه وبمعونة ولي القتيل؛ إذ قال: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}، فحق ذلك على الناس أن يظهروا له النكير عليه، ويقوموا بالنصر لوليه - واللّه أعلم - إلا أن يكون خطأ؛ فلا يتلقونه بشيء مما ذكرت، بل يقومون بالشفاعة له، والمعونة في احتمال ما لزمه؛ ولذلك جعل - واللّه أعلم - أمر العقل على ما به من إبقاء الألفة، ودفع الضغينة، واجتماع التالم في المصيبة.

ومنهم من يقول في تأويل الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي: حرام عليه ذلك الفعل بما حرم اللّه، وبما بينهما من الأخوة في الدِّين، وبما هو شقيقه وجنسه، يتألم بما يتألم به الآخر، ويتأذى بما يتأذى الآخر، والنفس عن مثله تنتهي، والطبع ينفر، فما كان له بعد هذا أن يقتل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا خَطَأً} قيل فيه بوجوه:

أحدها: أن يقع ذلك منه على الخطأ؛ فيكون على ما لا يلحقه اللائمة التي ذكرنا، ولا وصف التعدي الذي وصفنا.

والثاني: أن يكون الأمر في موضع الابتداء؛ لما بين له من الحكم بمعنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنَا ألبتَّة، لكن من قتل مؤمنَا خطأ فتحرير رقبة؛ كقوله: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا}، بمعنى: لا يسمعون فيها لغوَا ألبتَّة، لكن الذي يسمعون: يسمعون سلامًا.

وقيل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً}: إلا ألا يعلمه أنه مؤمن، وكان عرفه كافرًا، له قتله بما روي من الإذن في البيات وقتل عيون الكفرة بما سبق من ظهور كفرهم، وإن احتمل إيمانهم فيما بين الوقتين؛ فيكون بمعنى: حرام عليهم إلا مَنْ هذا وصفُهُ.

ويجوز: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} أي: أليس، لمؤمن ذلك قط إلا أن يقتل خطأ؛ فإنه ليس فيمن يقال كان له أو لا؛ لما يقع به إلا أن يفعله هو في التحقيق؛ إذ حقيقة الفعل أن يقع بإرادة ويخرج عليها، وهذا لا يقع بها، ولا يخرج عليها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}

فلم يذكر في القاتل أنه مؤمن عند ذكر قتله، لكنه رجع إليه بوجهين:

أحدهما: أن الآية في بيان قتل يكون من المؤمن، وعليها جرى تفسير الحكم عند الوقوع.

والثاني: قوله: {تَوْبَةً مِنَ اللّه} والتوبة بالتحرير تكون للمؤمن لا غيره، واللّه أعلم.

على أنه حق الشرع من العبادات؛ فلا يحتمل قصد الكافر به، وأيد ذلك المذكور من الصيام، وهو لا يقوم إلا بالإيمان، ثم جعل الإيمان شرطا من حيث الذكر، وتأكده بأوجه ثلاثة:

أحدها: بالتأكيد، يذكر كل قتيل على اختلاف أهل القتيل، وفي ذلك دليل أن ذلك جعل عليه لمكان أمر يدخل على دينه مما عليه من الحق أن يحفظ حرمته، وبحرمته يتقي قتل من ذكر؛ إذ حرم دينه عليه؛ فيصير في قتله مُضَيعًا، فالزم ما ذكرت في كل أنواع القتيل لرجوع أمر ذلك كله إلى تضييع من حق دينه؛ ولذلك قيل: {تَوْبَةً مِنَ اللّه} وذلك يخرج على وجهين:

أحدهما: أن تحقيق معنى التوبة في فعل اللّه، وذلك يخرج على وجهين:

أحدهما: على ما تجاوز منه؛ إذ لم يأخذه بالخطأ؛ فيكون بحق جعل ذلك شكرا من العبد بما لم يؤاخذه بالخطأ؛ فيكون معنى التوبة منه أنه لم يؤاخذه بالخطأ، لا إن في الإعتاق ذلك، والإعتاق للشكر له فيما لم يكن أخذه، وقد يجوز أن يؤاخذه لما بالجهد في التحفظ قد يؤمن ذلك، فلما لم يكلفه وتجاوز عما كان على الخطأ؛ يأمر بالشكر لذلك.

والثاني: قبولا منه ذلك في حق التوبة عن غير القتل من الزلات؛ فيكون فيه قيام بما أمر توخيه في حكمة العفو عن مثله، بجعل ذلك من العبد مقبولا بحق التوبة من الزلات.

أو نُسب إلى التوبة منه إذا كان على التوفيق لفعله، وذلك تسمية اللّه " توابًا " على التوفيق والتجاوز، واللّه أعلم.

والثاني: يرجع إلى فعل العبد؛ فتكون توبة من اللّه على عبده القاتل بأن يتوب بإعتاق

رقبة مؤمنة، وذلك يخرج على وجهين:

أحدهما: أن يكون الفعل فعل مأثم، وللّه - تعالى - مؤاخذته عليه؛ لأنه بالجهد يمكن اتقاء ذلك؛ ولذلك تعبد بقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وإذا كان كذلك؛ فيكون ذلك منه توبة إلى اللّه؛ ليحفظ عن مثله في أمر الدِّين.

والثاني: أن يكون عليه حفظ دينه عما يقع فيه من التضييع الذي يبلى بإنساء الشيطان، أو بفرط غفلة، أو نحو ذلك؛ فيلزم جبر ذلك بما ذكر وإن لم يعلم؛ إذ قد يجوز وقوع النقصان في ذي الحرمات من وجه لا إثم يلحقه نحو المذكور في المتأذي، وفي أمر السهو في ذلك: فيؤمر به؛ لينجبر ذلك، وذلك نحو ما قد يفسد بأمور من وجه لا يعلم به، فكذلك أمر النقصان؛ فيؤمر بالتوبة إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن ذلك بما يمتحن اللّه به من الأمور - واللّه أعلم - مع ما قد يتصل بالقتل ما له حكم الخطأ يأثم المرء عليه ويحرج؛ فجائز أن يرجع حرف التوبة من اللّه إلى ذلك، وهو سمى خطأ العمد.

والثاني: مما يدل على جعل الإيمان شرطًا: أنه جعل لما وقع في حق الدِّين من التضييع إذا تعلقت الحرمة بالدِّين من الوجه الذي بينا، ولا فرق بين عبادة يشار إليها يقع فيها تضييع في حد منها يبرئ تلك بكفارة وبين جملة من العبادات يعتقدها الإنسان وضمن الوفاء بما يقع في حد منها تضييع أن مقدار حدها من الفرض لا يعلمه إلا من يعلم حد التضييع من الأصل، ولا يعلم حده غير الذي جعل الحدود؛ فيكون في ذلك بيان المبرئ، وبدونه لعله لا ينجبر؛ فألزم بالاحتياط ذلك، وعلى ذلك أمر الحدود للإجرام.

والثالث: متفق القول على موقع الشرط أنه بحق اللزوم، وعلى ذلك شرط في التتابع في الصيام له هذا المعنى والأول جميعًا، وعلى هذا الاتفاق جعل قوم أمر هذا أصلا لغيره من الكفارات، ونحن لا نجعلها؛ لوجهين:

أَحَدُهما: لما لم يجعل ذكر التتابع في هذا أصلا لكل ما لم يذكر فيه التتابع.

والثاني: لما بينا من محل كل من أصل ذلك أنه إنما يعلم من علم ما حد ذا من الأصل؟ ومعلوم الاختلاف في الكل؛ لذلك لم يجب هذا، لكن يطلق المطلق ويقيد المقيد بالذكر، وأيد ذلك أن اللّه - تعالى - قد ذكر في كل قتل، ولو كان بالذي يحتمل درك الحد بالتدبير لكان ترك الذكر في هذا لإفهام الحكم في نوع المذكور أقرب منه في غير نوعه، فبين - واللّه أعلم - لوجهين:

أحدهما: للتنبيه على لزوم الرجوع في هذا إلى الذكر.

والثاني: للتنبيه أنه لم يجعل لمكان القتيل، لكن لما وقع في الدِّين من التضييع.

وجائز أن يكون شرط الإيمان بما سبق منه تضييع حد من الحدود الذي اقتضى إيجابه عليه الإيمان، فأمر بإعتاق من يسلم له الرقبة؛ لحفظ ما ألزمه حق الإيمان من الشغل عنه بحق الرق فيه لغيره.

ويجوز أن يكون إنما أبقيت به نفسه وهي مؤمنة للّه تعالى، فأمر أن يشكر للّه - تعالى - بإبقاء نفس مؤمنة؛ إذ بالعتق إحياء.

وعلى ما ذكر من اختلاف الحدود وما له حدود في حق الشرع لم يقس الطعام على الصيام عند العجز عنه، على ما قضى به في حق الظهار والفطر، مع ما في الظهار حق لها لم يكن له التأخير إلى القدرة عليه أو ملك الرقبة، وليس هاهنا، وأمر الفطر هو في بعض صيام قد جعل لأصله من الطعام عوضًا عرف حده بقوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ. . .} الآية، فعلى ذلك أمر عوض التعدي فيه، وليس في أمر القتل ذلك.

ودلت الآية بذكر الإيمان على أن له حدا يعرف موقعه، ثم الذي يبين فيها آية التصديق خاصة ما جمع بين المؤمن الذي يحتمل أن يكون منه سائر الشرائع، والذي لا يحتمل سوى نفس الإيمان: وهو المؤمن الذي من قوم عدو لنا؛ إذ قد يؤمن في دار الحرب بما في العقل دليله، ولا يعلم به غيره من العبادات التي لها حق الشرائع.

وقد يجوز أن يكون في الإبلاع في وصف ما يكفر به إبلاع في التحذير عن الغفلة التي لديها خوف وقوع ما ذكر، وعلى ما ذكرت من تضييع حق ألزمه دينه لزم التعوذ كل

واحد منهم الكفارة على التمام؛ لما انفرد كل بما لزمه من الحق بدينه في التضييع؛ وعلى هذا قولهم في المحرمين يقتلون الصيد: إن كل واحد منهم جنى على إحرامه الذي لم يتصل إحرامه بإحرام غيره، على أن النفس إذ هي لا تحتمل التجزئة؛ لم يتجزأ المجعول لها، وعلى ذلك أمر القصاص، والدية، لم تجب في الحقيقة للنفس؛ إذ هي قد تجب لما دونها فيما يحتمل التجزئة أكثر مما يجب للنفس، وإذا بلغت النفس فسقط بعض ما له منها حكم الوجوب، ولما هي ترجع إلى غير الجاني.

ومحال أخذ الكل ممن يرجع إليه بالكل بما يكون في طلب التخفيف الإجحاف وإهلاك الخلق، ولما كان حق النفس من حيث القتل في المال يختلف، ومن حيث القصاص والكفارة لا تثبت أن المرجع في هذين إلى أحوال في نفس القاتلين من دين يضيع حقه أو امتناع عن احتمال التجزئة أو إحياء أريد بالموضوع، ولو لم يجعل في الجماعة لذهب فائدة الإحياء؛ إذ الوجود بالآحاد غير فيبطل الإحياء في أبلغ أحوال الحاجة إليه، ثم إذا رجع أمر الكفارة إلى من تولى قتله وقد سبق عليه أمر الدية، كقوله - تعالى -: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} بمعنى: عليه تحرير ما ذكر، وقد أوجب عليه، وعلى ذلك جميع ما في القرآن من الأمر على إثر الأسباب.

ثم نسق على ذلك بقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} فحقها أن تكون عليه والخبر الوارد عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أمر العقل الذي توارثته الأمة إلى يومنا هذا، بل الأمم، حتى كان قد ظهر عن أمر الرسل السالفة بحق التواتر في المؤمنين بهم والمنكرين لهم؛ فكان ذلك بحق التعاون؛ ولذلك قال أصحابنا - رحمهم اللّه - في الذين لا عاقلة لهم: تجب الدية في أموالهم. وعلى ذلك فيما يظهر بأقاويلهم دون البينات وهو الحق؛ إذ فيما يجب فيه القصاص أنفسهم تتلف، فعلى ذلك الدية.

والأصل في ذلك: أن معنى القصاص معقول أيد الذي ذكره اللّه - تعالى - في القرآن من قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، فلا معنى لصرف ذلك إلى غير المتولي؛ لما يذهب الحياة.

وجائز شرع ذلك بحق العقل؛ لينزجر الناس به، ولتسلم لهم الحياة التي هي ألذ الأشياء؛ إذ بها تعرف اللذات كلها، وذلك المعنى ليس نفس القتيل أحق من غيره من أن

يجعل القصاص لحقه، بل الأولى أن يجعل لا محالة للردع والزجر؛ مع ما كان معلومًا أن نفس القتيل لا تنتفع بالقصاص، بل إنما نفعها في أن يبقى؛ لخوف القصاص ممن يروم قتله؛ إشفاقًا على نفسه، وليس ذلك المعنى في أمر الدية بشيء، وإنما تُوجَبُ بعد الوفاة، ولم تجب من وجه يتولد منه الغضاضة والعداوة التي لديها سفك الدماء على حق تخصيص الدماء لما هي تجب بالخطأ من وجه يعلم عذر من منه ذلك، لكن اللّه - تعالى - بفضله بما جعل للمتصلين معونة في حياته، وشرفا في كثرة الأقوام، ونباهة في الدنيا، مع ما يقع بها التناصر والتدافع الذي بمثله الدوام والقوام؛ فيعظم في مثله مصيبة العقل وبخاصة من وجه لعله تسبق إليهم الأفعال في التلبيس على أهله بالخطأ، وأن ذلك ليس بحق؛ فيخاف وقوع الشر بينهم والعداوة التي تولد الفساد؛ فجعل اللّه - بمنهِ وفضله - لهم ما تطيب بمثله أنفسهم، ويسكن المعنى الذي يخاف من حدوث الشر بينهم، مع ما له جعل ما للخلق له ابتداء المحنة بما ذكر بلا سبب يسبق، فهو بالسبب أحق، وإذا جعل بهذا من الوجه الذي له حق الابتداء، فله وضع ذلك في أموالهم، مَنَّ بإبقاء نفس القاتل لهم ما ذكرت من المنافع على ما جعل في ذلك، وإن لم يرجع منفعة الواجب في ذلك إلى القتيل بما لا يعلم أنه يقتل؛ ليجعل ذلك لوجه يتزود به لمعاده، وإن حرم ذلك في دنياه؛ فيصير المجعول في ذلك فيمن لهم وعليهم بالذي ذكرت من دفع الفساد، والقيام بحق الإحسان.

ثم الأصل في إتلاف الأموال: أن منافعها عند القيام ومضارها عند الإتلاف ترجع إلى أربابها خاصة، والأنفس يرجع ما لها في ذلك إلى العشائر والمتصلين؛ فعلى ذلك المجعول فيها مع ما كانت الأموال تملك؛ فيصير من ضمنه كأنه اشتراه، وكل مشترى بالتسليم إليه الخروج منه؛ فلا يحتمل أن يضمن من لم يكن منه الجناية لما يسقط لو ضمن بعقد التسليم، ولا على ذلك أمر جنابات الأنفس؛ فجائز في حق الشرع الموضوع

على غير من يتولى الخروج؛ إذ على غير التسليم إلى أحد يستوجب بدله.

ثم وقوع الخطأ يكون من وجهين:

أحدهما: من جهة دينه: نحو أن ظنه القاتل كافرًا بما كان عرفه كذلك، أو بما عليه سيماء الكفرة.

ومن جهة نفسه في أن يرمي غيره فيصيبه.

والحكم في وجهي الخطأ واحد.

والخطأ الثالث، وهو الذي لم يقتضه حق هذه الآية، وهو عند الضرب قد يقع ذلك فيما أخطأ الدِّين وفيما تعمد أو النفس جميعًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} لم يبين من أهله؛ وقال في موضع آخر: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}، ولم يبين من وليه؟ فكأن الأهل والولي هم ورثته، على ما جاء في الخبر: أنه ورَّث امرأة أَشْيَم من دية زوجها، وإن كانت الدية لأهل العصبة منهم من قتل، ولأن هذه الدية إنما وجبت لمكان ما لهم من المنافع من القتيل في حال حياته، دون غيرهم فإذا قتل فذهب منافعه

عنهم، أوجب ذلك لهم؛ لأنهم هم المنتفعون في حياته دون غيرهم.

وقيل: إن القتل يوجب الضغائن فيما بين أولياء القتيل وأولياء القاتل؛ فيحمل ذلك على الفساد والإهلاك، فإذًا وجبت هذه الدية لتطيب أنفسهم بذلك، ولا يحمل ذلك على الضغائن والحقد.

وقيل: أوجبت هذه الدية؛ لئلا يدعي الخطأ؛ فيسقط القصاص عن نفسه بدعوى الخطأ؛ فأوجب الدية لما إذا ادعى الخطأ - أخذ بالدية، وقد ذكرنا أن الخطأ على وجهين:

وهو أن يقصد شيئًا، فيصيب إنسانًا، فهو خطأ؛ لأنه أصاب غير الذي قصده بالضربة.

والثاني: خطأ الدين، وهو إن عرفه كافرًا، فقتله على ذلك، قاصدا له، فهو خطأ.

وللخطأ وجه آخر: وهو أن يضرب الرجلُ الرجل قاصدًا لذلك؛ بغير حديدة، فإن كان الذي ضربه به حجرًا صغيرًا، أو عصًا صغيرة، فحكمه حكم الخطأ، وإن كان حجرًا كبيرًا مثله يَقْتُل، أو عصًا عظيمة - فإن أصحابنا - رحمهم اللّه - اختلفوا في ذلك.

قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: لا قود في ذلك، وعلى عاقلته الدية مغلظة.

وقال مُحَمَّد - رحمه اللّه -: يقتل به إذا كان مِنْ مِثْلِهِ لَا يُنْجَى.

وقد رُوي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما يبين أن العمد ما كان بحديد؛ فهو حجة لأبي حنيفة - رحمه اللّه - في الحجر العظيم؛ ودليل على أن القصد بالضرب قد يكون خطأ.

وروي عن النعمان بن بشير، عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كُلُّ شَيءٍ خَطَأٌ إِلا الحَديدَ والسيفَ " وسنذكر هذه المسألة في باب شبه العمد، إن شاء اللّه تعالى.

ثم أجمع أهل العلم على أن الرقبة على القاتل، لا على العاقلة، وأما الدية فلم يذكر

على من تجب؟ فقال أكثر السلف: الدية تجب على العاقلة، وعلى ذلك تواترت الآثار عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقال بعض الناس: الدية -أيضًا- على القاتل كالرقبة؛ فيقال له: إن الصيام بدل عن الدية، أو عن العتق؛ فإن قال: لا، بل بدل عن العتق؛ قيل له: فذلك يدل على أن الذي يجب على القاتل هو العتق؛ الذي إن لم يجده صام مكانه، ويدل على أن الدية ليست عليه.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل الدية على العاقلة: عن مقسم عن ابن عَبَّاسٍ قال: كتب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كتابًا بين المهاجرين والأنصار: أن يعقلوا معاقلهم، ويفدوا غائبهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين.

وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى في الجنين: عبدًا أو أمة على العاقلة. والتي ضربت ضرتها بعمود فسطاط فقتلتها، فقضى النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بديتها على عصبة القاتلة، وفيما في بطنها غرة، فقال أعرابي: يا نبي اللّه، أتغرمني من لا طعم، ولا شرب، ولا صاح ولا استهل، فمثل ذلك يطلّ. فقال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرابِ؟! اغْرَمْ؛ فَإِنَّ الديَةَ عَلَى العَاقِلَةِ، والميراثَ لِأهْلِ الفَرائِضِ " وعمود الفسطاط مما يقتل مثله،

ولم يوجب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على التي ضربت ضرتها به فقتلتها القصاصَ؛ فذلك حجة لأبي حنيفة - رضي اللّه عنه - في قوله: إن الخشبة العظيمة والصغيرة سواء، ولا قصاص فيه، والأخبار فيه كثيرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضا -: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ذكر - واللّه أعلم - مسلمة إلى أهله؛ على الحث والترغيب في التسليم، والنهي عن التعاسر الذي عنه توهم حدوث الشر والفساد الذي يوقع مثله جعل العوض في قتل الخطأ، وعلى ذلك قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، وقد بينا من يسلم، ثم بين التسليم إلى أهل القتيل، ولم يبين مَنْ أهله؟ وقد أجمع السلفُ على أن أهله: ورثته، والأصل في ذلك: أن الدية جُعلت بدلا لنفس القتيل؛ فتصير متروكة عنه، وعلى ذلك لو كانت منه الوصايا أو عليه دين ينفذ منها، فصارت فيما قال اللّه - تعالى -: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ. . .}، الآيات التي فيها بيان من يرث من بعد الوصية والدَّين، فذلك لهم؛ فيصير أهله بعد وفاته من ينتفع بتركته؛ إذ كذلك وصف الأهل في الحياة أنه يرجع إلى المتصلين به، وبمنافعه مع ما كان اسم الأهل في الزوجة غير ممتنع استعماله على كل حال؛ فيجب دخولها في ذلك، وغيرها من الورثة أحق، وقد روي في مثل ذلك مرفوعًا في توريث امرأة أَشْيَم الضَّبَّابي، وعمل به عمر بحضرة الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - والذين لهم سائر الولايات سوى ولاية الميراث مع ولاية الميراث أحق، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} فالثنيا من الدية؛ لأنه لا حق لأحد في العتق حتى يحتمل التصدق، وهو كقوله - تعالى - في القصاص: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}، وذكر التصدق على ما عليه الترغيب في الديون من قوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.

ثم الأصل: أن التصدق من المعروف إلى ذوي الحاجات، والعقل إنما وضع أصله على الأغنياء، لكن يخرج على وجهين:

أحدهما: أن الآية جاءت بذكر القاتل، ووجود الدية المسلمة كلها لكل قاتل عسير؛ فكان الترغيب على ذلك.

والثاني: أنه معروف في الديون، وكذلك حكم الصدقات؛ إذ لا يقع له الثواب في الدنيا ربما يقع لغير المعروفين؛ فيكون فعلهم - في الحقيقة - للّه، لا لابتغاء الجزاء، فسمي صدقة؛ إذ هو اسم لما يقع من المعروف للّه مع ما يتمكن في ذلك أن العقل ليس شرطه الغناء الذي له يجب الزكوات، وغير ذلك النوع من الغناء لا يخرج أهله عن احتمال الصدقة، بل جعل على أهل الديوان، وهم الذين أموالهم هي التي تخرج بحق العطايا يؤخذ لوقت الخروج، لا بعد الوقوع بالملك، وتمام شرط الغناء له، وفي هذا صرف الثنيا إلى الذي يلي من الكلام دون الذي تقدم، وحمله على بعض الكلام دون الكلام؛ ليعلم أن موقع الفهم عن الحكم على ما يقتضيه حق الحكمة دون الذي ينتهي إليه حق اللسان، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: يكون الرجل مؤمنًا وأهله كفار في دار الحرب، فيقتله مسلم، فلا دية عليه، ولكن عليه عتق رقبة مؤمنة.

وعنه -أيضًا- قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومَهُ فيقيم فيهم، ثم يمر بهم الجيش من المسلمين؛ فيصاب فيمن يصاب؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: كيف يكون للمؤمن المقيم في دار الحرب دية؛ وأولياؤه حرب لنا؟

فهل يجوز أن تعطى لهم الدية ونحن نغتنم أموالهم؟ فَإِنْ قِيلَ: تكون الدية لبيت المال، قيل له: إنما يجوز أن تكون لبيت المال من لو كان حيًّا - كان له في بيت المال حق، فأما المسلم المقيم في دار الحرب فلا حق له في بيت المال؛ لأن حكمنا لا يجري على داره، فكيف يستحق بيت المال ديته؟!

وبعد: فإن المسلم في دارهم لم يصر بالإسلام محرزا نفسه وماله؛ لأن دار الحرب ليست بدار يحرز بها الدماء والأموال، فإذا كان كذلك فلم يكن للأنفس والأموال هنالك بدل؛ لذلك لم تجب الدية، ألا ترى أنَّ من أتلف مال ذلك المسلم لم يغرم

بَدَلَهُ؟ فعلى ذلك لم يغرم بدل نفسه؛ لأن حرمتهما سواء في دار الإسلام.

ثم اختلف في تأويل قوله -أيضًا-: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. . .} الآية، على الاتفاق أن لا دية فيه لكن الاختلاف في أنه: من يخرج على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن ذلك فيما يقتل على الإغارة، نحو أن يغار على أهل الحرب وفيهم مسلم: فإنه لا دية فيه؛ لما أبيحت الإغارة؛ فيجب على هذا أمران:

أحدهما: أن يكون دفع الكفارة في ذلك أحق من دفع الدية، ومن حيث كانت الكفارة حق اللّه بمعنى العبادة أو القربة، فإذا وقعت الإباحة من عنده فهي في السقوط أحق من الدية التي هي حق العباد، ولم يرد ممن هي له الإباحة، فلما أوجبت هي فالدية أحق أن ثجب، فإذ لم تجب بأن أنه ليس على ما قدروا.

والثاني: أن يكون لو كان كذلك، فيجيء أن يكون ذلك فيمن كان من قوم عدو لنا أو لا سواء جُعل من حيث الإغارة، بل إذا صارت الإغارة مباحة، وإن كان فيهم مسلم ذهب حق النفس من الأمرين جميعًا: من الدية، والكفارة، وكذلك الجواب في قوم تترسوا بالمؤمنين أنه إذا أبيح الرمي فيستوي الأمران جميعًا من الدية والكفارة.

وعلى ذلك اختلف فيمن له القصاص فيما دون النفس؛ فمات من الاقتصاص: أن لا كفارة في ذلك، وقد اختلف في الدية، وعلى ذلك من يقتله ممن لا يحتمل العلم، وما أوجب من العقل في الوجود بلا دية يوجب أن تكون الدية أحق في الإيجاب من الكفارة؛ فإذ لم تجب بأن أن ليس دفع الدية لما ظنوا.

والقول الثاني: ذهبوا إلى القتيل الذي قومه أهل الحرب أنه لا تجب فيه الدية؛ يقوله: {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. ويؤيد ذلك قوله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وأهله عدو لا يحتمل التسليم إليهم بما لنا أخذ أموالهم؛ فيصير بذلك لنا، وأما الكفارة فهي بين العبد وبين اللّه، فتلزمه؛ إذ هي في حق التوبة والكفارة؛ لما في ذلك من معنى الإثم؛ فيدخل على ذلك -أيضًا- أمران:

أحدهما: إبطال الدية عن كل نفس لا وارث لها إذا قتل من أهل دار الإسلام في دار الإسلام؛ إذ لا أهل لها، وعدم الأهل أكثر من كون الأهل وهم أعداء له، بل يغرم الذي قتله وقومه لبيت المال، فعلى ذلك الأول لو كان يجب، ولكن لم يجب لا لهذا؛ إذ قد

رأينا الوجوب مع ما هو أعظم في العدة من هَؤُلَاءِ، وأيد ذلك الإيجاب في المؤمن الذي قومه من أهل الميثاق، أو الكافر الذي هو من أهل الميثاق، والعداوة لم تكن انقطعت بالميثاق.

والوجه الثاني: أنه لا توارث يجري بين المسلم وأهل الكفر ليبطل حق الدية بوجوبها لهم، بل يتحول الميراث بالإسلام إلى أهل الإسلام، وإن لم يكن له خصوص أهل، وعلى ذلك جميع تركته؛ فبان أنه لا لهذا لم يوجب.

والقول الثالث: أن الآية فيمن أسلم في دار الحرب ولم يخرج إلينا حتى يقتله مؤمن خطأ أن عليه تحرير رقبة، ولا دية فيه؛ فيكون المعنى {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}: هو من قوم في الظاهر عند القاتل لم يخرجوا بعد عن إظهار المعاداة، ثم يكون قتله الخطأ من وجهين:

 أحدهما: بما كان عرف كفره، ولم يظهر انتقاله عما كان عليه في الظاهر، لا بخروجه إلى دار الإسلام ولا سيما يظهر، وذلك ظاهر الوجود، وفي مثله نزل قوله - تعالى -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا. . .} الآية، وقد أخبر أنهم كانوا كذلك يكتمون دينهم حتى مَن اللّه عليهم بالإظهار؛ فيكون هذا بين أظهرهم على الأمر الأول، ولا على ذلك شأن المسلمين الذين دخلوا تلك الدار بالأمان، ولا يحتمل أن يلحقه هذا النوع من قتل الخطأ؛ فلزم في نفسه البدل على كل حال.

والثاني: أن يرمي غيره فيصيبه على ما يكون خطأ أهل هذه الدار، ولم تجب له الدية؛ لما يقع فيه الخطأ من الوجه الذي على الآمر يفعل على ما بينت؛ فلا يحتمل أن يجعل لنفسه بدل.

والأصل في ذلك: أن دإر الحرب هي دار الحرب، وفي الحرب سفك الدماء وإتلاف الأموال؛ فلا يقع بها إحراز الدماء والأموال؛ فلذلك لم يجب فيها البدل، وليس كدار

الإسلام؛ لأنها دار سلم وأمن حتى جعلت تحرز بها الدماء والأموال على ما كان أنفس الأعداء إذا دخلت بالميثاق إلينا استوجبت حق الأعراض ولزوم البدل، وإن كانوا من قوم عدو لنا؛ إذ هي الدار دار سلم وإحراز، ولا يشبه الذي أسلم، ولم يخرج، الذي خرج من هذه الدار مسلمًا لما كان يخرج بأمان، وفي الأمان لزوم حفظ الأمر الأول، وليس في الأول ذلك على أن أحد الأمرين في ابتداء الإيجاب، والآخر في البقاء على ما وجب، ومعلوم تفاضل هذين في الأصول، واختلاف الأمر بينهما، وقد كان في إبقاء بعض ما يستوجب بالدِّين لترك الهجرة؛ كقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، وقد نسخت تلك الهجرة، ولم تنسخ الهجرة إلى دار الإسلام، وإن نسخت إلى المدينة، فلم يكن لنا من ولايتهم من شيء، وإنما حق بذل الأنفس لمن يبقى عنه من الأولياء والأهل، وقد بقي ذلك؛ فلذلك لم يجب.

وعلى هذا يخرج قولنا فيه: لو قتل عمدًا ألَّا يجب القصاص ولا الدية؛ لأن اللّه تعالى - قال: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}، وقد بقي فيما نحن فيه الولاية؛ لذلك بطل السلطان، وفي بطلانه بطلان البدل، ويجوز معه بقاء الحق الذي بينه وبين اللّه؛ لثبات تلك الحرمة.

ووجه آخر في تأويل: قوله: {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي: في قوم مظهري العداوة؛ دليل ذلك: أنه وإن خرج إلى هذه الدار فهم قومه، لكنه ليس يرجع إلى مؤمن آمن وهو يعد فيهم أن لا شيء، فإذا خرج إن عاد وإلا فله حكم نازله لم يقتضه حق الآية؛ فيجب فيه الذي يجب على حسب الدليل الموجب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: ذلك القتيل معاهد؛ من قوم بيننا وبينهم ميثاق؛ فاحتج

بعض أصحابنا - رحمهم اللّه - بهذه الآية الكريمة، في إيجاب الدية في قتل المعاهد: دية مسلمة، وهي مثل دية المسلم؛ لأن اللّه - تعالى - قال فيهما جميعًا: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ}. . .) فهما سواء. وقد روي ذلك عن ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه.

والآية تحتمل غير هذا؛ لأن اللّه - تعالى - قال في أول الآية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً. . .} إلى قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ. . .} فيحتمل: أن يكون معناه: وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فاكتفى بذكر الإيمان في القتيلين الأولين عن إعادة ذكر الإيمان في القتيل الثالث، ولم يكتف بذكر الإيمان في القتيل الأول عن إعادته في الثاني؛ لأنه لو قال اللّه - تعالى -:، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، ولم يزد على هذا - كنا نوجب الدية في قتل كل مؤمن؛ فذكر الإيمان في الثاني للتفريق بينهما.

وأما ذكر الإيمان في الثاني أغنى عن ذكره في الثالث؛ لأنه لا تفرقة بينهما؛ لذلك كان ما ذكرنا.

وعن الحسن: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} قال: مؤمن.

واستدل من ذهب إلى أن المقتول مسلم بأن اللّه - تعالى - قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ولا تجب الكفارة على قاتل المعاهد إذا لم تكن ذمة، ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فدى قتيلي عمرو بن أمية، وكان لهما عهد، ولم يبلغنا أنه أمر بالكفارة، فيقال: إن الكفارة واجبة على قاتل المعاهد المستأمن بظاهر الآية بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}.

وقال أيضا: ومما يدل أن المقتول معاهد: أنه لو كان مسلمًا لم يجب لأهله من

المعاهدين الدية؛ لأنهم لا يرثونه، وإنما يرثونه إذا كان معاهدًا، وهذا يؤيد قول أصحابنا - رحمهم اللّه - في وجوب كمال دية المسلم على قاتل المعاهد.

وقد روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه ودى ذميًّا دية مسلم، وحديث عمرو بن أمية: أنه كان ببعض الطريق، فأقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا في ظل هو فيه، وكان معهما عهد من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لم يعلم به عمرو، وقد علم أنهما من بني عامر، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه أصاب منهما ثأره من بني عامر، فلما قدم عمرو على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. فوداهما رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

ومعلوم أن الدية كانت تامة وإن لم تسم؛ لأن العرب كانت لا ترضى أن تنتقص دياتها عن ديات المسلمين.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعل دية العامِرِيَّينِ دية الْحُرَّيْنِ المسلمين.

وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلم.

فَإِنْ قِيلَ: روي عن عمر - رضي اللّه عنه - قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. عن عثمان - رضي اللّه عنه - مثله.

قيل: يحتمل هذا ما روي عن عمر: أنه قوَّم الإبل فبلغت قيمتها أربعة آلاف درهم، ثم قومها ثانيًا فبلغت ستة آلاف، إلى أن بلغت عشرة آلاف، أو ما ذكر، فيحتمل أنه لما قوَّمها فبلغت أربعة آلاف كان ذلك في دية يهودي أو نصراني؛ فظن الراوي أنه إنما أوجب أربعة آلاف؛ لأنه دية النصراني أو اليهودي، فروي على ذلك مع ما رُوي عن عمر وعثمان

- رضوان اللّه عليهم أجمعين - بعشرة آلاف.

وروي أن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي اللّه عنهم - قالوا: دية المعاهد دية الحر المسلم، فهذا يوهن قولهما الأول.

أو يحتمل أن يكون على الاصطلاح:

فَإِنْ قِيلَ: روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " دِيَةُ الكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ " قيل: إن كلا الفريقين تركوا العمل بهذا الخبر؛ لأن من يقول بأربعة آلاف لم يأخذ به؛ لأن أربعة آلاف ثلث دية المسلم، على قوله؛ لأن دية المسلم الحر اثنا عشر ألفا عنده.

ومن يقول بعشرة آلاف لم يأخذ به؛ فقد أجمعوا على ترك العمل به؛ وذلك لما لم يثبت عندهم - واللّه أعلم - مع ما وصفنا في باب: قتل المسلم بالكافر ما يدل على أن ذلك واجب، فإذن وجب قتل المسلم بالذي وجب أن تكون ديتهما سواء، ألا ترى أن الكفارة على قاتلهما سواء.

وقوله -أيضًا-: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}. . . اختلف في تأويل هذا الحرف من وجهين:

أحدهما: أن الآية في المؤمنين خاصة، لكنهم على أقسام ثلاثة:

أحدها: على النشوء على الإيمان.

والآخر: على إحداث الإيمان في دار الحرب من أهل الحرب.

والثالث: على إحداث الإيمان من أهل الميثاق في دار العهد.

والآخر من وجهي الآية: بيان جميع ما يجب في نفسه حق إذا قتل خطأ من مؤمن قد أحرز دمه بالإيمان، أو بالإيمان والدار، أو بالعهد، وفي ذلك إنما قطع الحق عن كثير ممن ينهى عن قتلهم إذا لم تتضمنهم هذه الآية، من نحو نساء أهل الحرب والذراري، فلم

تجب الدية بما لم تحرز دماؤهم بدار الحرب، ولم تجب الكفارة بارتفاع الميثاق، وإن كنا لا نقتلهم.

فإن كان تأويل الآية هذا - فكان في الآية -أيضًا- على تخصيص القتيل المؤمن من أهل الحرب أن لا دية فيه، وعنها كان فَهْمُ الإجماع أن اللّه لو أراد الجمع بين القتيل لكان يخرج الأمر على الإبلاغ على ما في الكفارة وما فيها من صفة الإيمان، أو على الإيجاز والتدريج فيها بالمعنى، فالذكر في قتيل واحد كان، فلما ذكر في قتيلين ولم يذكر في الواحد - دل أنه على التفريق، وأيد ذلك أمر الصيام أنه ذكر مرة، والحكم به يأتي على الكل، أوعلى ذلك، حق الدية مع ما بين الذي هو وصفه.

وإن كان تأويل الآية الأولى فأوجب في المعاهد بالمروي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أنه قضى في عامريَّينِ دخلا بأمانٍ فَقُتِلَا - بدية حُرَّينِ مسلمَين، وفي ذلك بيان أن الدية لم تكن وجبت بالنهي عن القتل؛ إذ هو في الذراري والنساء قائم، ولم تجب، لكن بالعهد، فإذا كان على الاتفاق في الدِّين والنهي فرق بينهما بالعهد؛ فعلى ذلك أمر المسلمين على الاتفاق في الدِّين والنهي يفرق بينهما بمكان العهد والإحراز.

وأيد التأويل الثاني شرط الإيمان في قوله - تعالى -: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فلولا أن الذكر يقتضي القتيل من العدو، لم يكن ليحتاج إلى ذكر المؤمن، وقد سبق بيان المقصود في ابتداء الآية في النهي والثنيا جميعًا، فإذا لم يذكر في أهل الميثاق فصار متروكًا على ما يقتضيه، وأيد ذلك الذي هو وصفه أن ذكر النوعين يدل على التفريق إذ ليس على حق الاقتضاء بالمعنى، ولا على حق الإبلاغ في البيان، وجميع الكل يخرج على ذانك النوعين في حق الحكمة؛ لذلك صار إلى حق التفريق.

ثم الظاهر قد يضمن الخطاب بأمرين:

أحدهما: في حق هتك الحرمة.

والآخر: في حق العوض من غير تفريق في وزن الملفوظ، وجاء البيان للواجد،

وهي دية المؤمن؛ فيصير كأن البيان في الآية، ومعلوم أنه لو كان - لكان يأخذ الكل، إلا أن يجيء التفريق على ما ذكر من أمر الصيام وحق التوبة، وأن ذكر الآحاد في حق بيان التضمين كذلك في الكل الدية على حد واحد مع ما استوى أمر الكفارة فيما له حق البيان التام أو بيان الكفاية، فعلى ذلك الأول، وأيد ذلك وجهان:

أحدهما: أن الدية بمبلغها كانت في الجاهلية فأقرت على ذلك في الإسلام، وكذلك حق القسامة، وكانت كذلك في أهل الكفر عند الأمان، فعلى ذلك اليوم، أو يلزم الذي عرف حتى يظهر؛ ولذلك - واللّه أعلم - لم يجز في الأمر البيان؛ لأنه كان على معروف، وأيد ذلك جميع الأمور المنقسمة، من نحو الحدود بين العبيد والأحرار في التفريق، والديات بين الذكور والإناث؛ أنه يجب ذلك الانقسام في أهل الكفر، فعلى ذلك حد الجملة والنصف.

والثاني: خبر ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - في العامريَّين، وعلى ذلك جاء عن عمر، وعلى - رضي اللّه عنهما - وما روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فهو في الوقت الذي بلغت قيمة الإبل أربعة آلاف، وسنذكر ذلك.

ثم الأصل: أن البدل حق المتلف، والإسلام والكفر أمران يرجعان إلى الدِّين والمذاهب، والناس لا يملكون الزيادة والنقصان من الأبدال لأنفسهم؛ لأنه لا بهم جعلت الدية، لكن بالشرع؛ فبه يُعرف التفريق والجمع، فما لم يثبت التفريق والمعنى في كل نفس من المنافع وإليها ما في غيرها لزم الجمع حتى يجيء علم التفريق.

والأصل: أن البدل أمر يرجع إلى منافع تقع للمجني عليه مكان ما ذهب منه، أو لغيره فيما يدخل عليهم من النقصان بفوت نفسه، ثم كل أمر مجعول للمنافع فالنظر فيها إلى قدر المنافع عند أهلها، وأهل الذمة أحق بالزيادة؛ لتعجيل المنفعة لهم في الدنيا؛ إذ لا حظ لهم في الآخرة.

وقد زعم الشافعي أن العبد لو بيع على أنه كافر فوجده مسلمًا أنه عيب يرد منه؛ فيصير الإسلام عيبًا في قيمته؛ فلا يجيء أن يكون الحر منهم أقل قيمة من الحر منا، ومحل الدِّين ما ذكرت، فهذا - وإن كان القول به منه شنيعًا - لا يجوز أن يحتج به، فهو في موضع التنبيه، وقوله يلزمه، كقوله - سبحانه وتعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، فحاجهم بالذي عند أئمتهم، فعلى ذلك يحاجُّ بالذي عنده، ولا قوة

إلا باللّه.

وقد حاج بنفي الإلهية بما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر، وإن كان وجود ما انتفي لا يوجب القول به.

ثم القتل على أقسام ثلاثة:

عمد، وهو ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: أن يتعمد نفس القتيل.

والثاني: أن يتعمد دينه فيقتل لأجل دينه.

وخطأ، وهو -أيضًا- على قسمين:

أحدهما: أن يقع بأحد الجناية عن غير قصده.

والثاني: أن يقع له على قصده، لكن على ظن لزومه الدِّين الذي استوجب القتل به.

وبين الخطأ والعمد قتل آخر سمي:

خطأ العمد، أو شبه العمد: مما لم يبين حكمه في منصوص القرآن، ولا هو مما يحتمل معرفة حقيقته بالعيان؛ لأنه ليس في العين جناية تقع من حيث الوقوع إلا عن عمد أو خطأ؛ فصار ذلك معروفا حكمه بالشرع، وللّه أن يشرع في حقيقة الخطأ والعمد شرعا واحدا؛ على ما عليه أمر شرعه في جميع الأمور، وقد جاء الخبر فيه، واتفاق الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - على إيجاب الدية في ذلك، وليس في ذلك ذكر الكفارة، فلما ثبت إلحاقه بالذي هو خطأ في الحكم قيس عليه أمر الكفارة؛ مع ما كان لذلك أوجه تقدر:

أحدها: أن في العمد ما هو لنفسه كفارة وهو القصاص، وقد دفع ذلك في شبه العمد، والدية تلزم العاقلة، فلا بد من وضع كفارة في ذلك؛ كالذي ذكر في الخطأ فيه.

والثاني: أنه ذكر في الكفارة توبة من اللّه، والتوبة من اللّه تخرج على أوجه ثلاثة: على التوفيق لفعله.

أو على التجاوز لما كان من الزلة.

أو على جعل ذلك الفعل منه توبة عن زلته.

وأي هذه الوجوه الثلاثة كان ففي ذلك معنى يحق وصف التوبة؛ فيكون في ذلك مما قد يتوجه إلى عمد يلحق وصف الزلة، أو أمر تجوز الكلفة به؛ فيقع العدول عنه؛ إذ قال: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}، فإن جعل في ذا توبة فهو في وجه فيه جناح؛ فيدخل في ذلك قتل فيه جناح، ويكون له حكم الخطأ يبينه الخبر.

والثالث: اتفاق أهل الفتوى على القول به، وأيضًا أن الذي يقع الخطأ فيه لدينه فقد تعمد قتله، وأوجبت عليه الكفارة، فقد وجدت كفارة مع تعمد فيما لا بدل لنفسه، فإذا كان شبه العمد يجب فيه البدل فهو لوجوب الكفارة أحق.

وأما العمد الذي فيه القصاص ففيه أوجه ثلاثة:

أحدها: أن اللّه - تعالى - بين ما فيه من الحق على نحو ما بين في الخطأ، وإنما يجب طلب العلم بالحكم فيما لم يُبَيَّن منصوصًا من النوازل التي يعلم أن للّه - تعالى - فيها حكمًا؛ إذ لم ينص عليه، فقد جعله مبينا بالتضمن لا بالتصريح، فإذا بين سقطت الحاجة وبطل الاجتهاد والتعرف به، وعلى مثل ذلك يجاب لقتل الصيد عمدا أن الحكم فيه لم يبين بالتصريح، فهو متروك للتضمين.

والثاني: أن الكفارة في حق الزجر عنه، والتكفير لفعله، وفي السيف ذلك والزيادة فيه؛ فلذلك لم يضم إليه غيره.

ثم معلوم أن الكفارة إنما جُعلت بما معه الإبقاء حتى يصوم شهرين، وفيما فيه القصاص لا مهلة له يستوجب به بقاء النفس؛ لتقوم بالكفارة؛ فلذلك لم تجب.

والثالث: الاتفاق أن الذي يقتص لا يلزمه الكفارة، فمن وجب له حكم العمد لم تجب عليه الكفارة، ولو أوجبنا الكفارة على القاتل جعلناها حقا للّه من حيث النفس لا من حيث معنى في الجناية له تجب، وذلك المعنى في نفس القاتل والقتيل سواء؛ فيكون ولي القتيل آخذًا الذي له وقع القصاص والذي ليس له القصاص، لكن له الكفارة فتلزمه، فإذ لم تجب، بأن أنها تجب بحال في النفس والجناية، فلم تجب فيما عدمت تلك الحالة.

والأصل: أنها لم تجعل للحظر ولا لنفس الحرمة؛ إذ قد يوجد قتل نفس محظورة ولم تجعل فيها الكفارة، نحو الذراري والنساء من أهل الشرك، بل لو كان كذلك كان الخطأ من أبعد ما يجعل له الكفارة؛ فثبت أنها لم تجعل لذلك، ومن يقس - يقس بذلك؛ فبطل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: لا يجزئ إلا من صام وصلى.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: الرقبة المؤمنة: كل مولود ولد في الإسلام، صغيرًا كان أو كبيرًا.

والأشبه أن يجزئ الصغير من المسلمين، ألا ترى أنهم أجمعوا أن على قاتل الصغير من المؤمنين مثل ما كان على قاتل الكبير منهم؟! فيجب أن يجزئ الصغير من المؤمنين على ما يجزئ عنه الكبير منهم؛ إذ كان حكم الصغير من المؤمنين حكم الكبير منهم.

ومما يدل على ذلك -أيضًا- أن حكم الصغير من المؤمنين، وميراثه، وتزويجه، وطلاق الرجل الزوجة الصغيرة - حكم الكبير، فهم مؤمنون في الحكم وإن كانوا صغارًا، ولكن لسنا نذكر عن أصحابنا رواية منصوصة في جوازه، والقياس ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}

وصف اللّه - تعالى - الشهرين بالتتابع، ووصف الرقبة بالإيمان، فهو - واللّه أعلم - يحتمل أن يكون على التغليظ والتشديد؛ لما يجوز أن يجاوز جرم حكم الخطأ جرم غيره من الأشياء، نحو أن يقتله بعصًا، أو بسوط، ونحوه، قاصدًا له، ولا شك أن جرمه أعظم من جرم غيره من الأفعال التي توجب الكفارة من الأيمان والظهار وغيره؛ فغلظ فيه ما لم

يغلظ في غيره بالإيمان في الرقبة والتتابع في الصيام، وهذا كما يقولون: إن ضرب التعزير أشد من ضرب حد الزنا وحد شرب الخمر وغيره؛ لأن جرم فعل التعزير ربما يبلغ جرم الزنا أو يجاوز، وهو أن يخنق آخر مرة أو مرتين، لا شك أن حرمته أعظم من حرمة من قذف آخر، أو شرب قطرة من خمر؛ فغلظ فيه وشدد؛ لما ذكرنا، فعلى ذلك شرط الإيمان في العتاق في كفارة القتل، والتتابع في الصوم؛ تغليظًا وتشديدًا للمعنى الذي ذكرنا، وهو أن يقتله قتل شبه العمد؛ أي: عمد القصد، خطأ الحكم، ألا ترى أنه غلظ في الدية في شبه العمد ولم يغلظ في غيره.

وروي أعن ابن عمر - رضي اللّه عنه -، أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " قتيلُ السَّوطِ والعَصَا فيه الديةُ مُغلَّظة ".

وعن النعمان بن بشير - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ شَيء خَطَأٌ إِلا السيفَ وَالْحَدِيدَ، وَلِكُل خَطَأ أَرْشٌ ".

ذكر اللّه - تعالى - قتل الخطأ والعمد، فبين حكمهما، ولم يذكر غيرهما في كتابه، لكنا عرفنا قبلُ شبه العمد والحكم فيه بما روينا من خبر ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وحديث النعمان عنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث قال: " أَلَا إِنَّ قَتيلَ خَطَإ الْعَمدِ قَتِيلُ السوْطِ والعَصَا، ففيه الدية مُغَلَّظة: ثَلاثُونَ جَذَعةً، وثَلاثُونَ حِقَّةً، وَأَرْبَعُونَ ما بَينَ ثَنيَّةٍ إِلَىْ بَازِل عَامِهَا، كلُّها خَلِفَة ".

واختلف الصحابة: - رضوان اللّه عليهم أجمعين -:

روي عن عمر - رضي اللّه عنه - ما ذكرنا من الخبر المرفوع أثلاثًا.

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قريبًا منه أثلاثا.

وعن أبي موسى الأشعري والمغيرة ما روينا من الخبر المرفوع أثلاثًا.

وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - في شبه العمد أرباعًا: خمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين بنات لبون، وخمسة وعشرين بنات مخاض.

ثم لا يحتمل أن يكون الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - قالوا ذلك رأيًا من أنفسهم؛ لأن هذا باب ما لا يوقف إلا بالسمع والخبر من اللّه - تعالى - فيجعل كأنهم جميعًا سمعوا ذلك من رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في وقت واحد؛ فدل أنه في وقتين مختلفين، فهو على التناسخ، فلم يظهر الأول منهما من الآخر؛ فأوجب الأخف باليقين، ولم يوجب الأغلظ بالشك، وهذا قول أبي حنيفة - رحمه اللّه - حيث قال في شبه العمد بالأرباع، وأما مُحَمَّد - رحمه اللّه - فإنه ذهب إلى ظاهر الخبر المرفوع بالأثلاث.

ثم اختلف أصحابنا - رحمهم اللّه - فيمن رمى آخر في بحر فغرق فمات:

قال أبو حنيفة - رحمه اللّه -: لا يُقتل به.

وقال فيمن أحرق آخر بالنار: قُتل به، وكان يفرق بينهما بوجهين:

أحدهما: أن يكون الرامي في الماء حسب أنه يحسن أن يسبح، وذلك موجود في كثير من الناس؛ فصار ذلك شبهة يزول بها القصاص عن الرامي، وأما الذي رمى صاحبه في النار ليس له أن يدعى مثل تلك الشبهة؛ لذلك لم يزل عنه القصاص.

والثاني: أن النار جارحة؛ ألا ترى أنها تستعمل في موضع السلاح، ويحارب بها؟! وهي من أشد السلاح، ولا كذلك الماء؛ لذلك افترقا.

ثم القول في مبلغ الدية من الإبل ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه ودى رجلا بمائة من الإبل ورُوي أن الكتاب الذي كتبه رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم في العقول في النفس مائة من الإبل.

وما روينا من خبر ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: خطب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " ألا إنَّ قَتيلَ خَطَإ العَمْد فيه الديةُ مُغَلَّطظةَ مِائة مِنَ الإبِلِ ".

ثم القول في أسنان الإبل في الدية ما رُويَ عن عبد اللّه عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " دِيةُ الخَطَإ أخْماسٌ، وكذلك رُوي عن عبد اللّه بالأخماس، وعن عمر - رضي اللّه عنه - كذلك.

وعلي بن أبي طالب في الخطأ أرباع.

وكان أبو حنيفة يذهب إلى ما روي عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وإلى ما روي عن عمر وعبد اللّه - رضي اللّه عنهما - ويجعل دية الخطأ أخماسًا من الإبل، وفي شبه العمد أرباعا؛ لما ذكرنا، ومُحَمَّد - رحمه اللّه - يذهب إلى ما رُويَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بالأرباع في الخطأ، وفي شبه العمد بالأثلاث؛ بالخبر المرفوع، والوجه فيه ما ذكرنا.

ثم المسألة في مبلغ الدية من الورق، رُوي في بعض الأخبار عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى بالدية اثني عشر ألفًا.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية اثني عشر ألفًا.

وروي عن عبيدة السلماني قال: وضع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - الديات: فوضع على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورِق عشرة آلاف درهم، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشياة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة.

ثم رُويَ عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: قَوِّموا الإبل؛ فقوَّموها أوقية، ثم غلت

الإبل؛ فقال: قوِّموا؛ فقُوِّمت أوقية ونصفًا، ثم غلت؛ حتى قُوِّمت عشرة آلاف درهم.

فلو علم عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدراهم، لم يحتج إلى أن يقوِّموا الإبل، ومحال أن يخفى على عمر وغيره من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - سنةُ النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حتى يضطروا إلى تقويم الإبل؛ فدل أن الخبر في اثني عشر غير ثابت.

ثم الاختلاف أن الدية من الدنانير ألف دينار؛ فوجب أن تكون الدية من الورِق عشرة آلاف؛ لأنه رُوي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه جعل قيمة كل دينار عشرة.

ورُوي أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن تؤخذ الجزية من أهل الورق أربعين درهمًا، ومن أهل الذهب أربعة دنانير.

وعن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم.

دل ما ذكرنا من قول الصحابة أن قيمة كل دينار عشرة دراهم؛ فلما أجمعوا في أن الدية من الذهب ألف دينار - وجب أن تكون من الورق عشرة آلاف؛ ألا ترى أنه يؤخذ في الزكاة من مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين دينارًا: نصف دينار؟! دل على أن الدية عشرة آلاف.

ثم يحتمل الخبر -إن ثبت- أن الدية اثنا عشر ألفًا، وزن ستة؛ لأن الدية كان أصلها الإبل، فقومت الإبل دراهم؛ فبلغت اثني عشر ألفًا من وزن ستة، ثم رُدَّت الأوزان إلى وزن سبعة؛ فكانت اثني عشر ألفا، وكسر وزن سبعة، ألقوا الكسر؛ لأن القيم لا تُعرف منصوصًا؛ وإنما تُعرف بالاجتهاد، وقد تزداد وتنقص، ويكون بين القيمتين الشيء اليسير؛

فتركوا ذلك الكسر؛ لما وصفنا، ولأنه لم يكن في الدية في أصلها كسر، وهذا وجه محتمل؛ فأخذ أصحابنا - رحمهم اللّه - بآخر التقديرين؛ لأن الأوزان استقرت على وزن سبعة، وبطل وزن ستة، ولا شك أن وزن سبعة هي الآخرة؛ لاستقرارها في الناس على ذلك، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} قد ذكرنا معنى التتابع في ذلك. وفي قوله - تعالى -: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} عند الجميع من جميع من ذكر من القائلين في هذه الآية، ثم قوله - تعالى -: {تَوْبَةً مِنَ اللّه}.

قال بعض أهل العلم: ندامة من اللّه - تعالى - وقد يندم الرجل على أفعل يفعله، خطأ.

لكن عندنا على حقيقة التوبة؛ لأن الفعل فعلُ مأثم وإن كان خطأ، ولأنه يجوز أن يكلف الإنسان وينهى في حال الخطأ؛ لما لا يتأمل في ذلك ولا ينظر؛ لئلا يترك التأمل في ذلك والنظر؛ فتكون التوبة على الحقيقة؛ لما ذكرنا.

وفي قوله أيضًا: {تَوْبَةً مِنَ اللّه} قد بينا الوجه في ذلك.

وقال بعض أهل التأويل: التوبة - في الحقيقة: هي الندامة على الأمر، وكل من يتولد من فعله قتل أحد؛ فهو يندم على ذلك الفعل الذي حدث منه الذي ذكر، ويحزن عليه؛ فيكون - على هذا التقدير - معنى التوبة من اللّه: إلقاء ذلك الحزن في قلبه، أو رجوعه بالتأسف إلى اللّه بالإعتاق والصيام، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا}

لمن قتله خطأ ولم يقصد، ومن قصده، أو {عَلِيما} بما حكم عليكم من الدية والكفارة، أو {عَلِيما} بآجالكم، (حَكيما) في قضائه وحكمه؛ حيث وضع كل شيء موضعه، واللّه أعلم به.

وقوله - تعالى -: {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا} يخرج ذلك عند ذكر هذه الآية، وهو كذلك بذاته على أوجه:

أحدها: أنه عليم بالذي عليه خرج حقيقة فعل ذلك القاتل من القصد وغير القصد، وهو حكيم بما حكم علينا الذي ذكر بظاهر أحوال القتيل، وإن لم يُعْرف حقيقة الأمر في ذلك؛

 إذ الذي له حكم العمد والخطأ لا يظهر لغيره.

والثاني: وكان اللّه لم يزل عليمًا بالذي يكون من عباده، وبالذي به المصالح بينهم؛ فحكم بما فيه المصالح، فيما علم من وقوع الجنايات.

والثالث: يبين أنه لا عن جهل يقع الخلاف لأمره ولما لم يرض به من خلقه، ولا عن خطأ في التدبير، أي: عليم بالذي يكون من الخلق، لا عن جهل بهم خرج أمرهم، وحكيم في التدبير، أي: لا يلحقه الخطأ في تدبير الخلائق، على ما يكون منهم من الفساد والشر؛ إذ بمثله من غيره يعلم الخطأ والجهل؛ لما في ذلك ضرر يقع به، واللّه يتعالى عن هذا.

٩٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ... (٩٣) قيل في بعض القصة: إن رجلا قتل آخر عمدا؛ فلما علم أنه يُقتل به ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب؛ فنزل الوعيد.

وهذا - واللّه أعلم - كقوله تعالى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} كانوا يمنعون الزكاة لما كان عندهم أن الزكاة تنقص المال؛ فجحدوا بها رأسًا، وكقوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦). فتركوا الزكاة والصلاة؛ لما يلحقهم بذلك مؤن وأشغال، يشغلهم ذلك كله عما تهوى أنفسهم؛ فانكروا رأسًا؛ لأنهم إن صلوا وأدوا الزكاة لا يكون ذلك صلاة وزكاة؛ إذ كانوا يكذبون بيوم الدِّين؛ فعلى ذلك قاتل المسلم عمدًا إذا علم أنه مقتول به ترك دينه؛ فصار من أهل النار خالدًا مخلدًا فيها.

ويحتمل قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} لدينه يقتله عمدا، غير غالط فيه ولا جاهل، عالما بذلك، وإلى قتله لدينه قاصدًا، ومن كان هذه صفته فقد كفر، ووجب له هذا الوعيد الذي ذكره في كتابه الكريم، إلا أن يجدد إيمانا؛ فإن اللّه - تعالى - يقبل إيمانه وتوبته.

والرابع: أن يكون الوعيد الذي ذكره في كتابه ذلك جزاء، وللّه الإفضال عليه بالعفو والمجاوزة؛ إذ ذلك جزاؤه إن لم يكن له حسنات يقابل به، فإما إذا كانت له

حسنات يقابل به، يبدل اللّه بفضله - سيئاته حسنات، كقوله - تعالى -: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}.

ثم الدليل أن الآية فيمن قتل مسلمًا لدينه، قاصدا لنفسه دون دينه - قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وإنما يكتب عليهم إذا كان القتل قتل عمد، وأبقى لهم بعد القتل اسم الإيمان، ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}؛ فأبقى لهم اسم الإخوة، ثم قال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أطمعه في رحمته - عَزَّ وَجَلَّ - وبعيد أن يكون له مع هذا خلود في النار؛ فدلت الآية على بقاء اسم الإيمان، وعلى رجاء الرحمة، وهما معنيان ينقضان قول المعتزلة؛ حيث خلدوا صاحب الكبيرة في النار، ولأنه - تعالى - قال: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ولم يقل: يجزيه، وله أن يتفضل بالعفو عنه، على ما وصفنا، وباللّه التوفيق والنجاة.

وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - في تأويل الآية ما يؤيد ما قلنا: روي عنه أنه قال في قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، قال: هي جزاؤه، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " كَانَ فِيمَنْ قَبلَكُم رَجُل قَتلَ تسعًا وَتِسعِينَ نَفْسا، فسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ؛ فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِني قَتَلْتُ تِسعَة وَتِسعِينَ نَفْسًا بِغَيرِ حَق؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ، ثُمَّ سَألَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَ عَلَى رَجُلٍ، فَأتاهُ فَقَالَ: إِني قَتَلْتُ مِائةَ نَفْسٍ بِغَيرِ حَق؛ فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؛ قَالَ: نَعَم، وَمَنْ يَحُولُ بَينَكَ وَبَيّنَ التوبَةِ؟! انْطَلِقْ إِلَى أَرضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ فِيهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللّه فَاعْبُدْهُ مَعَهُم؛ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ نِصْفَ الطرِيقِ أَتَاهُ الْمَوتُ، فَاخْتَصَمَ مَلَائِكَةُ الرحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الَعَذابِ، فَأتاهُم مَلَكٌ، فَجَعَلُوهُ حَكَمًا بَينَهُم، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَينَ الْأَرضينِ، أَيهُمَا كَانَ أَدْنَى وَأَقْرَبَ فَهُوَ لَهُ؛ فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى لِلْأَرْضِ التِي أَرَادَ؛ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرحْمَةِ ".

 أفلا ترى أنه لما كان كافرًا، فقتل مائة نفس، فقبلت توبته، ولو كان مسلمًا كانت مظالم المقتولين في عنقه باقية؛ فهذا الحديث يدل - واللّه أعلم - على أن التأويل ما ذكرنا، وباللّه التوفيق.

٩٤

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيَّنُوا. . .} الآية.

قيل: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية إلى دار الحرب، فسمعوا سرية لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تريدهم؛ فهربوا، وأقام رجل؛ لإسلامه؛ فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من العدو من حرب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فألجأ غنمه إلى كهف، ثم قام دونها، فسمع التكبير؛ فهبط إليهم وهو يقول: لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه، فأتاه رجل من هَؤُلَاءِ، فقتله واستاق غنمه وما معه، ثم رجعوا إلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه الخبر؛ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَقتَلْتُمُوهُ؛ إِرَادَةَ مَا مَعَهُ، وهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلا اللّه؟! " فقالوا: إنه قال ذلك، متعوذا؛ فقال: " هَلَّا شَقَقْتُم عَنْ قَلْبِهِ؟! ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية، فلقيهم رجل، فسلم عليهم وحياهم بتحية الإسلام، فحمل عليه رجل من السرية فقتله؛ فلامه أصحابه وقالوا: أقتلت رجلا حيانا بتحية الإسلام؟! فلما قدموا على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أخبره بالذي صنع؛ فقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: إِني مُسلِم؟! " فقال: يا رسول اللّه، إنما قالها متعوذًا؛ قال: " فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه فَتَعْلَمَ ذلك؟! "؛ فنزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}.

فلا ندري كيفما كانت القصة؟ ولكن فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة، والنهي عن الإقدام عندها، وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن اللّه - تعالى - أمر بالتثبت في الأفعال بقوله: {فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، وقال في الخبر: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة، كما أمر في الأفعال لنبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.

وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأنه نهاهم أن يقولوا لمن قال: إني مسلم: لست مؤمنا، وهم يقولون: صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وهو يقول ألف مرة على المثل: إني مسلم، فإذا نهى أن يقولوا: ليس بمؤمن؛ أمرهم أن يقولوا: هو مؤمن؛ فيقال لهم: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه}، على ما قيل لأُولَئِكَ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

قيل: الغنيمة: {فَعِنْدَ اللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} هذا يحتمل وجهين:

يحتمل قوله: {فَعِنْدَ اللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي: أجر عظيم وجزاء كثير.

ويحتمل: {فَعِنْدَ اللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعطيها لكم في غير هذا، كقوله - تعالى - {وَعَدَكُمُ اللّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ. . .} الآية.

اختلف فيه:

قيل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ضلالا كفارا؛ {فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ} بالإسلام والهجرة، وهداكم به.

وقيل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تخفون إيمانكم من المشركين وتكتمونه؛ {فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ} بإظهار الإسلام وإبدائه.

وقيل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تأمنون في قومكم من المؤمنين بـ " لا إله إلا اللّه "، ولا تخيفوا من قالها؛ {فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ} بالهجرة.

وعن ابن عَبَّاسٍ قال: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} كفارًا تقاتلون على الدنيا

 وعرضها.

وقوله - تعا لي -: {فَتَبَيَّنُوا}

عاد إلى الأول، وأمر بالتثبت عند الشبهة؛ ألا تري أنه روي في الخبر أنه قال: " الْمُؤْمِنُ وَقَّافٌ وَزَّانٌ): وَقَّافٌ يقف عن الشبهة، ووَزَّانٌ يزن الأعمال فيختار أفضلها.

* * *

٩٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}

قال الحسن: كان هذا في الوقت الذي كان الجهاد تطوعًا؛ لأنه لو كان فرضا لكان لا معنى لقوله: لا يستوي كذا من كذا، وهما غير مستويين: أحدهما فرض عليه، والآخر لا.

قيل له: هذا الذي ذكرت لا يدل على أن الجهاد ليس بفرض في ذلك الوقت؛ ألا ترى أنه قال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}،

وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} جمع بين متضادين، ثم قال: {لَا يَسْتَوُونَ}؛ فعلى ذلك هذا، وهو أولى.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}: استثنى أهل الضرر مجملا في هذه الآية، وبين أمرهم وما زال عنهم من فرض الجهاد في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}، وقوله عز

وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى. . .} الآية، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، وأزالوا الحرج عمن كان في مثل حال هَؤُلَاءِ الذين وصفهم اللّه - تعالى - وعَذَرَهم في تخلفهم عن الجهاد.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: لما ذكر اللّه - تعالى - فضيلة المجاهدين على القاعدين رغبهم في الجهاد بقوله: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. . .} الآية - أتاه عبد اللّه بن أم مكتوم الأعمى، فقال: يا رسول اللّه، ذكر اللّه فضيلة المجاهدين على القاعدين، وحالنا ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد؛ فنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فجعل لهم من الأجر ما للمجاهدين؛ لزمانتهم. وعلى ذلك أكثر أهل التفسير.

وقال الكسائي: {الضَّرَر} مصدر الضرير والمضرور، والضرير: الأعمى، يقال: ضُرَّ بَصَرُهُ، فهو ضرير ومضرور: إذا عمي.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلًّا وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى}

القاعد والمجاهد

{وَفَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}

قيل: هذا الفضل للمجاهد على القاعد الذي قعد لا لعذر، جعل له الأجر العظيم.

وقوله: {فَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}

على القاعد الذي قعد لعذر؛ لأنه جعل فضيلته عليه بدرجة، وفي الثاني جعل

 فضيلته عليه بدرجات.

لكن قوله: " درجة "، و " درجات " عندنا: واحد؛ ألا ترى أنه - تعالى - قال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، ليس هو شيئًا واحدًا؛ ولكنه أشياء، والذي قعد لعذر يستوي في الأجر مع الذي خرج؛ إذا كان يتمنى أن يخرج إن قدر؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان لا معنى للاستثناء.

وفي الآية دلالة أن فرض الجهاد - فرضُ كفاية: يسقط عن الباقين بقيام بعضهم، وإن كان الخطاب يعمهم في ذلك، وهو قوله - تعالى -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}، وفرض الخروج لطلب العلم فرضُ كفاية: إذا خرج بعضهم لطلبه يسقط عن الباقين ذلك؛ فعلى ذلك فرض الجهاد، وإن كان ذلك خلاف ما عاتب اللّه - تعالى - عليه الثلاثة الذين خلفوا في سورة " براءة "؛ لأن أُولَئِكَ تخلفوا عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وقد قال اللّه - تعالى - {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} فإنما عاتب أُولَئِكَ لتخلفهم عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

٩٧

وقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... (٩٧)

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين خرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما التقى المسلمون والمشركون، أبصروا قلة المسلمين - وهم مع المشركين على المؤمنين، فقالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}. وأظهروا النفاق، فقتلوا، عامتهم؛ ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، فقالت لهم الملائكة: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}.

وقيل: إنها نزلت في نفر أسلموا بمكة مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ثم أقاموا عن الهجرة، وخرجوا مع المشركين إلى القتال، فلما رأوا قلة المؤمنين شكوا في النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: {غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ}، فقتلوا، فقالت الملائكة: فيم كنتم؟ قالوا: كذا.

وقيل: نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، وكانت الهجرة يومئذ مفترضة؛

 فكفروا بترك الهجرة، وهو كقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}، فلا ندري كيف كانت القصة، وليس لنا إلى معرفة القصة؟ حاجة بعد أن يُعرف ما أصابهم بماذا أصابهم؟.

وقوله: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}

هذا يتوجه وجوهًا:

إحدها: مع من كنتم: مع مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كنتم وأصحابه أو مع أعدائهم؟

والثاني: {فِيمَ كُنْتُمْ} أي: في دين مَنْ كنتم: في دين مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أو في دين أعدائه؟

والثالث: " قالوا " بمعنى: " يقولون " أي: يقولون لهم في الآخرة: {فِيمَ كُنْتُمْ}؟

{قَالوُا}: كنا كذا.

وقولهم: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}: هذا ليس جوابًا لقوله: {فِيمَ كُنْتُمْ}؟ جوابه أن يقال: كنا في كذا، ولكنه كأنه على الإضمار، قالوا لهم: ما الذي منعكم عن الخروج والهجرة إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ قالوا عند ذلك: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ}: اعتذروا؛ أن كانوا مستضعفين في الأرض.

وظاهر هذا: أنْ مُنِعْنا عن الخروج إلى الهجرة، وحالَ المشركون بيننا وبين إظهار الإسلام. فقالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}

يعني: المدينة واسعة، آمنة لكم من العدو، فتخرجوا إليها، فتقلبوا بين أظهرهم، فهذا - واللّه أعلم - كأنهم اعتذروا في التخلف عن ذلك؛ لما كانوا يتقلبون بين أظهر الكفرة ويتعيشون فيهم، فقالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قطعوا عليهم.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم إن منعوكم عن الإسلام ظاهرًا وحالوا بينكم وبين إظهاره؛ ألستم تقدرون على ادِّيَان الإسلام سرا، لا يعلمون هم بذلك؟!

{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.

أخبر أنْ لا عذر لهم في ذلك.

وفي قوله - تعالى -: {فِيمَ كُنْتُمْ} دلالة إحياء الموتى في القبر والسؤال فيه عما عملوا في الدنيا واللّه أعلم.

٩٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ... (٩٨)

 بين اللّه - تعالى - أهل العذر في ذلك؛ حيث قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}.

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: كنت أنا وأمي من المستضعفين.

٩٩

(فَأُولَئِكَ عَسَى اللّه أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ... (٩٩)

و (عسى) من اللّه واجب؛ كأنه يقول: فأُولَئِكَ يعفو اللّه عنهم.

١٠٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}

قيل: المراغم: المذهب والملجأ، وسعة في الرزق، أي: يجد في الأرض، وفي غير الأرض التي هم فيها - ما ذكر.

وقيل: المراغم: المتزحزح، أي: يجد متزحزحًا عما يكره وبراحًا.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: المراغم: التحول من أرض إلى أرض، والسعة في الرزق.

وقيل: من الضلالة إلى الهدى، ومن العيلة إلى الغنى.

وقيل: المراغم: المهرب.

وقيل: لما نزلت هذه الآية سمعها رجل وهو شيخ كبير -وقيل: إنه مريض- فقال: واللّه ما أنا ممن استثنى اللّه؛ وإني لأجد حيلة، واللّه لا أبيت الليلة بمكة؛ فخرجوا به يحملونه حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها؛ فصفق يمينه على شماله، ثم قال: اللّهمَّ

 هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعت عليه رسولك. ومات؛ فنزل فيه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّه} أي: وجب أجره.

وقيل: إنه لما سمع الرجل أن الملائكة ضربت وجوه أُولَئِكَ وأدبارهم، وقد أدنف للموت؛ فقال: أخرجوني؛ فاحتمل بينه وبين النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما انتهي إلى عقبة، فتوفي بها؛ فأنزل اللّه هذه الآية، واللّه أعلم بذلك.

وفي قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} - دلالة أن إسلام الولدان إذا عقلوا إسلامهم - إسلام، وكفرهم كفر؛ لأنه تعالى استثناهم وعذرهم في ترك الهجرة؛ فلو لم يكن إسلامهم إسلامًا، ولا كفرهم كفرًا - لكان مقامهم هنالك وخروجهم منها سواءً، ولا معنى للاستثناء في ذلك؛ إذا لم يكن عليهم خروج، واللّه أعلم.

١٠١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ. . .} الآية.

أباح اللّه - تعالى - القصر من الصلاة؛ إذا ضرب في الأرض إذا خاف أن يفتنه الكفار، ولم يبين القصر في ماذا؟ فيحتمل: القصر قصرًا من الركعات؛ على ما قال أصحابنا - رحمهم اللّه تعالى - ويحتمل: القصر من الركوع والسجود والقيام بالإيماء؛ كقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، رخص للخائف الصلاة بالإيماء.

ويحتمل: القصر قصر الاقتداء، وذلك -أيضًا- مباح عند الخوف.

ثم تأول قوم أن الصلاة كانت ركعتين، فزيدت في صلاة الحضر، وأقرت في صلاة السفر، ورخص في القصر من ركعتي السفر في حال الخوف، وقالوا: صلاة الخوف ركعة.

ورُويَ عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: فرض اللّه - تعالى - صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة، على لسان نبيكم.

وكذلك رُويَ عن جابر بن عبد اللّه - رضي اللّه عنه - قال: صلاة الخوف ركعة، ركعة.

وقال آخرون: إنما رخص اللّه - تعالى - في قصر الصلاة من أربع إذا كان الخوف، فردها إلى ركعتين رخصة.

وقالوا ثَمَّ: إن رسول اللّه أعلمنا أن اللّه - تعالى - تصدق علينا أن نقصر في حال الأمن؛ فثبت بالسنة أن القصر في غير الخوف جائز؛ كما أجازه اللّه في حال الخوف.

والقصر -في قول هَؤُلَاءِ- أن تُرَدَّ الأربع إلى ركعتين، والقصر في قول الأولين أن يرد الركعتان في حال الخوف إلى ركعة.

وقال غيرهم: القصر إنما كان في حال الخوف كما قال اللّه تعالى. فأما الآن: فإن المسافر إذا صلى ركعتين، فليس ذلك بقصر؛ ولكنه إتمام بقول عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حيث قال: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم.

وروي أن رجلا سأل عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن قوله - تعالى -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: وقد أمن الناس اليوم؟!. فقال عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: عجبتُ مما عجبتَ منه؛ فسألت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " صَدَقة تَصَدَّقَ اللّه تَعَالَى بِهَا، عَلَيكُم فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ "؛ فيحتمل أن يكون قوله: " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر " - يريد به أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما قال: " صَدَقَة تَصَدَّقَ اللّه بِهَا عَلَيكُم "؛ صار الفرض ركعتين وارتفع القصر، وصارت الركعتان تمامًا غير قصر؛ إذ كانتا هما

الفرض بعد الصدقة التي تصدق اللّه بها علينا؛ فكل واحد من الخبرين موافق لصاحبه؛ أعني خبر عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - مع ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - قال: كان رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، يسافر من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا اللّه، يصلي ركعتين. وهذا يؤيد حديث عمر - رضي اللّه عنه -: " صَدَقَة تَصَدَّقَ اللّه بِهَا عَلَيكُم "؛ لأن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان لا يصلي وهو آمن ركعتين مع شرط اللّه الخوف؛ إلا وقد رفع اللّه شرط الخوف عن المسافر.

وقال قوم: إن التقصير في السفر، والحضر هو الإتمام. واحتجوا بقول اللّه - تعالى -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} قال: فرفع الحرج عن المقصر، ولو كان التقصير حتمًا لكان قال: وعليكم جناح ألا تقصروا من الصلاة إن خفتم ولكن الأمر ليس كما توهموا؛ وذلك أنا قد ذكرنا أن النص في القصر إنما جاء في حال الخوف، وأما حال الأمن فلا نص فيما يوجب القصر؛ وإنما جاز القصر من الصلاة في حال الأمن؛ لقول رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " صَدَقَة تَصَدَّقَ اللّه بِهَا عَلَيكُم "، وتقصيره في حال الأمن، ومحال أن يتصدق اللّه بالركعتين علينا.

ويقول قائل: فرضها قائم؛ فأين موضع الصدقة؟! إذ لو كان الأمر على ما ذكرنا فما معنى قول عمر - رضي اللّه عنه -: " إن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر؛ على لسان نبيكم "؛ لأنه - واللّه أعلم - جعل الصدقة من اللّه بذلك مزيلة للفرض في الركعتين بعد الركعتين؛ فبقيت الركعتان تمامًا، إذا كانتا فرض المسافر؟ مع ما روي أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سافر أسفارًا كثيرة، فلم يرو عنه أحد أنه أتم الصلاة في شيء من الأحوال في سفره، وكلٌّ روي أنه - عليه السلام - كان يصلي ركعتين ركعتين؛ فلو كانت الفريضة أربعًا، والقصر رخصة - لأتم في وقت؛ وقصر في وقت، ألا ترى أن الإفطار في السفر لما كان رخصة غير حتم - أفطر النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في أوقات وصام في أوقات؛ فدل ذلك أن فرض المسافر ركعتان غير قصر.

وروي عن ابن عمر - رضي اللّه عنه - قال: صليت مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر الصديق - رضي اللّه عنه - ركعتين، ومع عمر - رضي اللّه عنه - ركعتين،

ومع عثمان - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - صدرًا من خلافته، ثم صلى أربعًا، وما صلى أربعًا؛ يحتمل أن يكون عزم على الإقامة.

وكذلك روي عن الزهري قال: بلغني أنه إنما صلى أربعًا؛ لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج.

وعن عمران بن حصين قال: " سافرنا مع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فكان يصلي ركعتين، ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وأقام بمكة ثماني عشرة يومًا، لا يصلي إلا ركعتين، وقال لأهل مكة: " صَلُّوا أَرْبَعًا؛ فَإِنَّا قَومٌ سَفْرٌ ".

وخالف بعض أهل العلم هذا الحديث؛ لأنهم يقولون: إذا أقام ببلد في غير حرب أربعا يتم بعد ذلك، وإن لم يكن عزم على المقام بذلك البلد.

وروي عن عمر بن الخطاب عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ حَتى يئول إِلَى أهْلِهِ أَوْ يَمُوت ".

ورُوي عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل عن الصلاة في السفر، قال: ركعتان ركعتان؛ من خالف السنة كفر.

واستدل قوم بقوله - تعالى -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} أن القصر رخصة، وأن الأفضل إتمام الصلاة؛ إذ " لا جناح " تستعمل في موضع التخفيف، لا في موضع الأمر؛ على نحو الصيام بقوله: {يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وهذا حرف لا يستعمل في موضع الأمر والإيجاب، واللّه أعلم.

وسلَّم قوم لهم هذا المعنى في الآية، وردوا القصر إلى أقصر للخوف، يلحق عند الضرب في الأرض، وإذن كان على وجهين:

أحدهما: في بيان المراد في قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، أنه:

ليس على تمام المعروف من الصلاة؛ لكن على القصر على الحد الذي ينتهي إليه الخوف من أمر القبلة، أو ترك القيام والركوع والسجود، وإلى الإيماء والقعود، واللّه أعلم.

والثاني: ما في قوله: {وَإذَا كُنتَ فِيهِم. . .} الآية، وإنما يذكر ذلك في أحوال لهم الانفراد وهو أحوال السفر، ومعلوم أن ذلك في حق قصر الاقتداء فكأنه قال: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} في الاقتداء به، وإن قصرتم في الاقتداء عن تمام حقه من الجماعة، وكذلك إصابة الكل أفضل؛ فبين أن ارتفاع ذلك لا يمنعكم الاقتداء، ولا يلزمكم نصب إمام آخر؛ لثؤدوا جميع الصلاة في الجماعة، وأيد الوجهين قوله - تعالى -: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. . . إلى قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ}؛ فالقصر في السفر على ما عليه، ليس للخوف؛ وأيد ذلك ما التبس على عمر - رضي اللّه عنه - حتى سأل عن ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " صَدَقَة تَصَدقَ اللّه بِهَا عَلَيكُم فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ "، بمعنى: حكم حَكَمَ اللّه عليكم في أن لم يفرض عليكم في السفر غير ركعتين، هو من جميع المذكور عن اللّه من العفو؛ فهو في الإسقاط، وأيد ذلك ما كان يقول عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بعد ذلك: " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ". فعلم أن ذلك ليس في حق الآية؛ لكن في ابتداء الشرع، وعلى ذلك المروي بأن الصلاة كانت في الأصل ركعتين، فزيدت في الحضر وأقرت في السفر، وإلى هذين التأويلين يتوجه قول أصحابنا، رحمهم اللّه.

وقد تحتمل الآية قصر الصلاة.

 ثم قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} يرجع إلى وجهين:

أحدهما: إلى ترك الركعتين، وإن لم يتم السفر بعد الخروج له، وليس كسائر الأعذار، نحو الحيض، إذا لم يتم أنه يلزم إعادة المتروك، والإغماء، ونحو ذلك، وأمر الصوم في السفر بعد الخروج له ليس كسائر الأعذار؛ فلا يعاد.

والثاني: ليس عليكم جناح في السفر، وإن كان ذلك اختيارا منكم لترك صلاة الحضر، أو ليس عليكم ما على المقيم من الجناح إن لم يتم، فإذا رجع الجناح إلى ذلك بقي الأمر بالقصر، وإن خرج بحد الخبر؛ إذ قد يكون خبرًا في المخرج أمرا في الحقيقة نحو قوله - تعالى -: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ. . .} الآيات، ونحو ذلك كقوله - تعالى -: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أنه لما صار: " لا جناح " راجعا إلى ما كان ثَمَّ من الأصنام أو الفعل؛ بقي حق الأمر بالطواف، وإن كان في مخرج الخبر، وصار من اللوازم، دليل ذلك الأمر الوارد في الآية والظاهر من فعل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في الأسفار.

ولا يحتمل أن يكون [. . .] يضيع من الجميع، واللّه أعلم.

١٠٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ. . .} الآية.

اختلف أهل العلم في صلاة الخوف:

قال بعض أهل العلم: يجعل الإمام القوم طائفتين، يصلي بالطائفة الأولى،

ركعة، ويصف الطائفة الأخرى مصاف العدو، فإذا صلى بهم ركعة؛ فيقومون ويصلون الركعة الثانية وحدانًا.

ثم ينصرفون ويقومون مقامهم بإزاء العدو، وترجع الطائفة التي كانت مصاف العدو فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم بهم الإمام، فيقومون ويقضون الركعة الأولى وحدانًا. ويقولون: لأنه ليس في الآية إتيان الطائفة الأولى وعودها إلى الإمام؛ لذلك لا يفعل.

وقالوا -أيضًا- بأن القيام بعد الفراغ من الصلاة مصاف العدو أطمع وأرجى من القيام قبل الفراغ منها.

وقيل: بل القيام مصاف العدو، وهم في الصلاة أطمع وأرجى من القيام في غير الصلاة.

وأما أصحابنا - رحمهم اللّه - فإنهم ذهبوا إلى ما روي في الأخبار.

روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: صلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلاةَ الخوف: فصلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهو العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أُولَئِكَ، فصلى بهم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ركعة ثم سلم النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم قضى هَؤُلَاءِ ركعة، وهَؤُلَاءِ ركعة.

وعن عبد اللّه قال: صلى بنا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فقاموا صفين: فقام صف خلف النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصفٌّ مستقبل العدو، وصلى رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالصف الذي يلونه ركعة، ثم قاموا فذهبوا وقاموا مقام أُولَئِكَ، واستقبل هَؤُلَاءِ العدو، وجاء أُولَئِكَ فقاموا مقام هَؤُلَاءِ، فصلى بهم رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ركعة، ثم سلم، فقاموا يصلون لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، فذهبوا فقاموا مقام أُولَئِكَ مستقبلين العدو، وجاء أُولَئِكَ إلى مقامهم، فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا.

وروى ابن عَبَّاسٍ وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان - رضي اللّه عنهم - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحو ذلك، فاتفق على هذه الرواية عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هَؤُلَاءِ الجماعة من الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين -: ابن مسعود، وابن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وزيد بن ثابت، وحذيفة؛ كلهم يقولون: إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهو العدو، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة، وإن واحدًا منهم لم يقض بقية صلاته حتى فرغ النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من صلاته كلها، فصلى المؤتمون ما بقي عليهم من صلاتهم؛ وهذا نظرًا لما عليه المسلمون جميعًا فيما سبقهم الإمام: لا يقضونه حتى يفرغ الإمام من صلاته، ثم يقضون ما فاتهم، والأخبار التي جاءت بخلاف ذلك يحتمل أن تكون في الوقت الذي كانوا يقضون الفائتة قبل فراغ الإمام من صلاته، ثم نسخ ذلك بما توارث الأمة القضاء بعد الفراغ، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} اختلف فيه.

قيل: هم الطائفة التي بإزاء العدو، يأخذون السلاح؛ ليكون أهيب للحرب والقتال.

وقيل: هم الطائفة الذي يصلون، يأخذون السلاح حتى إذا استقبلهم العدو والحرب يقدرون على ذلك.

وقيل: إذا وقع بينهم الحرب فلهم تأخير الصلاة إلى وقت انقطاع الحرب بينهم.

وقال الحسن: يصلي الإمام بكل طائفة تمام الصلاة؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان يصلي بكل طائفة سجدة، والسجدة هي اسم التمام، وهذا جائز في اللغة.

لكن عندنا ما ذكرنا من الأخبار عن الصحابة: عن عمر، وابن عَبَّاسٍ، وغيرهما - رضوان اللّه عليهم أجمعين - حيث قالوا: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر والأضحى

ركعتان، وصلاة الخوف ركعة تمام غير قصر، وما روينا أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - سجد بالصف الأول، ولم يسجد معه الصف الثاني، فلما رفع رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأسه من السجدتين سجدهما أهل الصف الثاني؛ فهذا يدل على أن الأمر ما وصفنا. وإذا كان العدو مواجَهةَ القبلة فالإمام بالخيار: إن شاء جعل القوم صفين: صفا أمامه بإزاء العدو، وصفًّا معه يصلي بهم؛ هكذا روي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك بالمسلمين:

وروى جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم والعدو في القبلة، فصلى بطائفة ركعة، وجاءت الأخرى فصلى بها أخرى. وإن شاء جعل القوم كلهم خلفه صفين فيصلي بهم، فإذا انتهوا إلى السجود، سجد الصف الأول، والصف الثاني يحرس العدو، فلما فرغ هَؤُلَاءِ من السجود سجد الآخرون، ثم كذلك يفعل بهم في الثانية، وهذا -أيضًا- روي أنه فعل؛ فيختار أيهما شاء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}

أي: ليكونوا مصاف العدو يحرسونهم من العدو.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}

يحتمل قوله - تعالى -: {حِذْرَهُمْ}، أي: يأخذون ما يستترون به ويحرسون العدو، من نحو الترس، والدرع، ونحوه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَسْلِحَتَهُمْ}: ما يقاتل به من السلاح ويحارب.

ويحتمل ما يتحصن به من الحصن، من نحو الجبال وغيرها.

وفيه الأمر بتعلم آداب الحرب والقتال، وأخذ الأهبة والإعداد للعدو دون أن يَكِلُوا الأمر إلى ذلك؛ ولكن يكلوا الأمر إلى ما وعد اللّه لهم من النصر بقوله - تعالى -: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللّه}، وبقوله: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} وقوله - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}،

وقوله: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}، وغيره من الآيات، فيها الدلالة على تعلم آداب الحرب وأخذ الأهبة فيه؛ حيث أمرهم - عَزَّ وَجَلَّ - بمجاهدة العدو في غير آي من القرآن.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ. . .} الآية.

هذا يعلم بالطبع أن كل أحد يطلب الفرصة على عدوه والغفلة منه، هذا معروف في طباع الخلق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ}: ما يحارب به ويقاتل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَمْتِعَتِكُمْ} - يحتمل: أمتعتكم: ما يحرس به العدو ويستتر به منه، أي: يطلبون الغفلة عن الأسلحة والأمتعة.

ويحتمل: الأمتعة أن يريد بها غيرها، من: الثياب وغيرها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}

في الآية دلالة أن اللّه - تعالى - لم يرد بقوله: {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .}، - بَذْلَها للقتل؛ حيث رخص لهم وضع الأسلحة وأخذ الحذر عندما بُلُوا بالمطر والمرض؛ لأنه لو كان المراد بشراء الأنفس منهم بذلها للقتل - لكان لا يرفع ذلك عندما يخافون على أنفسهم من الهلاك؛ إذ الحرض وخوف الهلاك لا يرفع ذلك في الأحوال كلها إذا كان الأمر بذلك أمرًا بالقتل والهلاك؛ ألا ترى أن من وجب عليه الرجم لم يرفع عنه بالمرضِ الرجم؛ لأن في الرجم هلاكه، فلما رفع عنهم القتال في حال المرض، أو في الحال الذي يخاف الهلاك - دل أنه لم يرد بشراء الأنفس بذلها للقتل؛ ولكن أراد - واللّه أعلم - إظهار دين اللّه، ونصر أهل دينه؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، جعل الثواب والأجر عند الغلبة على عدوه مثل ما جعل عند القتل، ولو كان الأمر بذلك أمرًا بالقتل خاصة - لا يستوجب الأجر والثواب بغيره؛ دل أنه ما ذكرنا؛ ألا ترى أنه قال: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا}: جعل الوعد للقاتل ما جعل

 للمقتول.

هذا كله يدل أن الأمر بذلك ليس على القتل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}

قد ذكرنا أن الأمر بأخذ الحذر يحتمل وجهين:

أحدهما: فيه الأمر بتعلم آداب الحرب وأسباب القتال، وألا يكلوا الأمر إلى ذلك خاصة؛ لكن إلى ما وعد لهم من النصر والظفر على عدوهم بعد أخذ الأهبة؛ ألا ترى أنه قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. . .} الآية، وقال - تعالى -: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ. . .} الآية.

والثاني: يحتمل أن يأمرهم بأخذ ما يدفعون به سلاح العدو عن أنفسهم ويتقون به، نحو الترس، أو الدرع، أو البنيان، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}

أي: أعد لهم من العذاب ما يهانون به، نصروا أو غلبوا، وأعد لكم من الثواب ما تشرفون وتفوزون به، نصرتم أو غلبتم؛ فما لكم لا تقاتلون؟!.

١٠٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ... (١٠٣)

قيل: يحتمل وجهين:

يحتمل: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ}، أي: إذا فرغتم منها، فاذكروا اللّه على كل حال، تستعينون به بالنصر على عدوكم، كقوله - تعالى - {فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا} أمر بالثبات عند لقاء العدو؛ وذكر اللّه؛ استعانة منه على عدوهم؛ فعلى ذلك الأول.

ويحتمل: أن يكون معناه: إذا أردتم أن تقضوا الصلاة فاذكروا اللّه كثيرًا في أي حال كنتم: في حال القيام، والركوع، والسجود؛ كقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ. . .} معناه - واللّه أعلم -: إذا كنت فيهم فأردت أن تقيم لهم الصلاة فافعل كذا؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}

وهذا - واللّه أعلم - مقابل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ. . .} الآية، وقد ذكرنا أن القصر يحتمل وجوهًا:

يحتمل: القصر للضرب في الأرض، وهو القصر في عدد الركعات.

ويحتمل القصر للمرض والخوف، فهو قصر الإيماء، فنحن نأخذ بذلك كله على اختلاف الأحوال؛ فعلى ذلك قوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} يحتمل الوجوه التي ذكرنا، أي: اذا اطماننتم صرتم أصحاء؛ فصلوا كذا صلاة الأصحاء.

ويحتمل: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ}: أمنتم من الخوف؛ فصلوا كذا.

ويحتمل -أيضًا-: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} إذا رجعتم وأقمتم، فصلوا صلاة المقيمين أربعًا؛ فهذا - واللّه أعلم - على ما ذكرنا مقابل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: مفروضا، وهو قول ابن عَبَّاسٍ.

وقيل: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: لها وقت كوقت الحج، وهو قول ابن مسعود، رضي اللّه عنه.

وقيل: {كِتَابًا مَوْقُوتًا}: محدودا، فنحن نقول بهذا كله، نقول: إنها مفروضة، موقوتة، محدودة؛ على ما قيل، واللّه أعلم.

والآية ترد على من يقول بأن على الكافر الصلاة؛ لأنه أخبر أنها كانت على المؤمنين كتابًا موقوتا، وهم يقولون: على الكافرين والمؤمنين، لكنها كتبت على المؤمنين فعلا، وعلى الكافرين قولا؛ هذا - واللّه أعلم - معنى قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، أي: فعلها على المؤمنين كتابا موقوتا.

ثم يحتمل قوله: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: لم تزل هي كانت كتابًا موقوتًا على الأمم السالفة، لا أن هذه الأمة خصت بها؛ كقول إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، وكقول عيسى - عليه السلام -: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. . .}، وكقول موسى - عليه السلام -: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}.

ويحتمل قوله - تعالى -: {كانَتْ}، أي: الصلوات صارت {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} بعد أن لم تكن. وكل ذلك محتمل، ولكن لا نشهد على اللّه أنه أراد كذا، وكذلك في قوله - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.

وقوله - تعالى -: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} نتأول فيه ونعمل فيه بالوجوه كلها على اختلاف الأحوال؛ لاحتماله الوجوه التي ذكرنا؛ فلا نقطع القول فيه، ولا نشهد على اللّه أنه أراد كذا، وهكذا السبيل في جميع المجتهدات أن نعمل بها، ولا نشهد على اللّه أنه أراد ذا أو أمر بذا، وباللّه التوفيق.

ذكر اللّه - تعالى - ما بَيَّنَ فرض الصلاة ووجوبها في غير موضع من كتابه، منها الآية التي ذكرناها، ومنها قوله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وقوله - تعالى -: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، ولم تدل هذه الآيات على كيفية الصلاة وعددها؛ إنما دلت على وجوبها ولزوم فرضها، ودلت آيات أخر على عددها وجمل أوقاتها؛ قال اللّه - سبحانه وتعالى -: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}، فهذه ثلاثة أوقات ذكر اللّه - تعالى - فيهن ثلاث صلوات، روي عن مجاهد، عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: سالته عن قول اللّه - تعالى - {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. . .}؛ قال: إذا زالت الشمس عن بطن السماء، لصلاة: الظهر {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}

وقال: بذا صلاة المغرب.

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قال: دلوكها: زيغها بعد نصف النهار، وهو وقت الظهر.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: دلوكها: زوالها.

وعن عبد اللّه قال: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قال: زوالها

وقد روي عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ قالا: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}: غروبها.

فأيَّ التأويلين كان دلوك الشمس فقد أوجب فيه صلاة، وصلاة عند غسق الليل، وصلاة عند الفجر؛ فهذه ثلاث صلوات.

قال اللّه - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}؛ فأحد طرفي النهار يجب فيه صلاة الفجر، وقد ذكر في هذه الآية، والطرف الآخر قبل غروب الشمس؛ فهذه أربعة، وهي العصر.

وروي عن الحسن - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن الصلوات الخمس مجموعة في هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ. . .}، قال: صلاة الفجر، والطرف الآخر: الظهر والعصر: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ. . .}، المغرب والعشاء.

فأي التأويلين كان فإن صلاة العصر مذكورة في هذه الآية.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة: {فَسُبْحَانَ اللّه حِينَ تُمْسُونَ}، المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}: الفجر، {وَعَشِيًّا} العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ}: الظهر.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - أيضًا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}؛ قال: الصلاة المكتوبة.

دلت هذه الآيات - واللّه أعلم - أن اللّه - تعالى - فرض على عباده في كل يوم وليلة

خمس صلوات، وبيِّن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كيف فرضت الصلاة؟ ومتى فرضت؟.

وروي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول: " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كتبهَا اللّه - تعالى - عَلَى العِبَادِ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ لَم يُضَيعْ مِنْ حَقهِنَّ شَيئا اسْتِخْفَافًا بِحَقهِنَّ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللّه عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَم يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيسَ لَهُ عِنْدَ اللّه عَهْدٌ: إِنْ شَاءَ عَذبَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ".

وعن أبي معبد، عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين بعث مُعاذًا إلى اليمن قال: " إِنَكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ الكِتَابِ، فَادْعُهُم إِلَى شَهادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللّه وَأَني رَسُولُ اللّه، فَإِنْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأعْلِمْهُم أَن اللّه - سُبحَانَهُ وَتَعَالَى - فَرَضَ عَلَيهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُل يَوْمٍ وَلَيلَةٍ ". وعلى ذلك اتفاق الأمة لا اختلاف بينهم، إلا أن قومًا زعموا أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أوجب بعد ذلك الوتر؛ بقوله: " إِنَّ اللّه زَادَكُمْ صَلَاةً، ألَا وَهِيَ الوَتْرُ ".

وليس في الكتاب ذكر ولا دليل وجوبه؛ فتركنا الكلام فيها، لكن أبا حنيفة - رضي اللّه عنه - سلك فيها مسلك المكتوبة؛ احتياطا.

* * *

١٠٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه مَا لَا يَرْجُونَ ... (١٠٤)

في الآية دلالة فرضية الجهاد؛ لأنه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنهم يألمون ويتوجعون بما يصيبهم من الجراحات كما تألمون أنتم وتتوجعون بها؛ فلو كان نفلا لكان يرفع عنهم الجهاد عند الألم والتوجع؛ على ما يرفع سائر النوافل عند الألم والتوجع؛ فدل أنه فرض، لكنه فرض كفاية، وفرض الكفاية يسقط بقيام البعض عن الباقين. وقد ذكرنا فيما تقدم الوجه فيه.

وقوله - تعالى -: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ}، فمعناه - واللّه أعلم - أي: لا عذر لكم في تألمكم أن تهنوا في ابتغائهم؛ {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} ولا أيضعفون في ذلك، و {وَتَرْجُونَ} أنتم العاقبة من الثواب الجزيل {مَا لَا يَرْجُونَ}، ثم هم لا يضعفون؛ فكيف تضعفون أنتم في ذلك؟! وكل أمر لا عاقبة له فهو عبث، وليس لأمرهم عاقبة؛ فهو عبث، ولأمركم عاقبة محمودة؛ فأنتم أولى في ذلك.

ودل قوله: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} - على تأكد فرضية الجهاد؛ إذ لم ياذن لهم في التخلف عن ذلك، على ما فيه من التالم، وخوف هلاك النفس في ذلك، ثم بين ما يخفف لمثله بحمل المكروه على الطبع له، وقد يختار له مباشرة الأتعاب في النفس من عواقب تنقطع وتزول؛ فكيف فيما ألا انقطاع، له من رجاء الثواب بذلك التألم؟! واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا}.

بتألمكم، أي: عن علم بالتألم أمركم بذلك، لا عن جهل. وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.

١٠٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... (١٠٥)

قوله: {بِالْحَقِّ} يتوجه وجوهًا:

بحق اللّه عليكم، أنزل إليك الكتاب.

ويحتمل: بحق بعض على بعض أنزل إليك الكتاب؛ لتحكم بين الناس.

ويحتمل قوله: {بِالْحَقِّ}، أي: بالمحنة يمتحنهم بها؛ إذ في عقل كل أحد ذلك،

وإهمال كل ذي لبٍّ لا يؤمر ولا ينهى - خروج عن الحكمة.

أو أن يقال: {بِالْحَقِّ}، أي: بالعواقب؛ لتكون لهم العاقبة.

وقوله - تعالى -: {بِالْحَقِّ} أي: بالحق الذي للّه، أو لبعض على بعض، أو لأمر كانت، وهو البعث؛ لِيُعَدَّ له، ويتزودوا بالذي يحمد عليه فاعله؛ إذ الحق صفة لكل ما يحمد عليه فاعله، والباطل لما يذم.

وقد يحتمل بالعدل والصدق على الأمر من التغيير والتبديل، واللّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه}.

قيل: إن في الآية دلالة جواز الاجتهاد؛ لأنه قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّه} دل قوله {بِمَا أَرَاكَ اللّه} أن ثمة معنى يدرك بالنظر والتأمل؛ لأنه لو كان يحكم بالكل بالكتاب، لكان لا معنى لقوله: {بِمَا أَرَاكَ اللّه}.

ولكن يقول له: لتحكم بين الناس بالكتاب؛ دل أنه يحكم بما يريه اللّه بالتدبر فيه والتأمل، لكن اجتهاده كالنص؛ لأنه لا يخطئه؛ لأنه أخبر أنه يريه ذلك؛ فلا يحتمل أن يريه غير الصواب، وأما غيره من المجتهدين فيجوز أن يكون صوابًا، ويجوز أن يكون خطأ؛ لأنه لا ينكر أن يكون الشيطان هو الذي أراه ذلك فيكون خطأ؛ فلا يجوز أن يشهد عليه بالصواب ما لم يظهر، وأما اجتهاده - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فهو كله يكون صوابًا؛ لأن اللّه - تعالى - هو الذي أراه ذلك؛ فنشهد أنه صواب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} قال أكثر أهل التفسير: إنه هَمَّ أن يُقَوِّي سارقًا - يقال له: طُعْمَة - ويصدقه في قوله؛ فنزل قوله: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}؛ فلو لم يقولوا ذلك كان أوفق وأحسن، فإن كان ما قالوا، فذلك لم يظهر منه الخيانة عنده؛ إذ ذكر في القصة أنه وجد السرقة في دار غيره. فلئن كان ذلك إنما كان لما ذكرنا.

وأما النهي عن أن يكون للخاثنين خصيما: نهي وإن كان يعلم أنه لا يكون لما عصمه اللّه؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْركِينَ}، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، إن كان عصمه من أن يكون منهم، والعصمة إنما تنفع إذا كان

 ثمة أمر ونهي، فأما إذا لم يكن ثمة لا أمر ولا نهي فلا معنى للعصمة والتوفيق.

١٠٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاسْتَغْفِرِ اللّه إِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)

وقوله - تعالى -: {وَاسْتَغْفِرِ اللّه}، ليس هو قول الناس: نستغفر اللّه، ولكن كأنه قال: كونوا على الحال التي تكون أعمالكم مكفرة للذنوب؛ ألا ترى إلى قول هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. . .} الآية. وقال نوح - عليه السلام - لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. . .} الآية، لم يريدوا أن يقولوا: نستغفر اللّه قولا حسب؛ ولكن أرادوا أن يكونوا على الحال التي تكون أعمالهم مكفرة لذنوبهم؛ لأنهم لو قالوا بلسانهم ألف مرة: نستغفر اللّه، لكان لا ينفعهم ذلك؛ فعلى ذلك قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللّه إِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}

وحقيقة الاستغفار وجهان:

أحدهما: الانتهاء عما أوجب العقوبة؛ لقوله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وعلى ذلك معنى قول من ذكر.

والثاني: طلب الستر بالعفو والتجاوز.

١٠٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... (١٠٧) هو ما ذكرنا أن العصمة لا تنفع؛ إذا لم يكن أمر ونهي.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ}: لا أحد يقصد قصد خيانة نفسه، ولكن لما رجع في العاقبة ضرر الخيانة إلى أنفسهم، صاروا كأنهم اختانوا أنفسهم كقوله: {وَمَا يَخْدَعُون إِلا أنفُسَهُم}، لا أحد يقصد قصد خداع نفسه؛ لكن لما رجع في العاقبة حاصل الخداع إليهم - صاروا كأنهم خدعوا أنفسهم؛ فعلى ذلك الأول، واللّه أعلم.

قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩)

١٠٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ}

يحتمل وجهين:

يحتمل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ}، أي: يحتشمون من الناس أن يعلموا بصنيعهم، ولا يحتشمون من اللّه، على علم منهم أنه لا يخفى عليه شيء.

ويحتمل: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ}، أي: يسترون سرهم من الناس.

وكذلك رُويَ في حرف حفصة: ولا يستترون من اللّه، ولكن اللّه يطلع الناس على ما يسرون.

{وَهُوَ مَعَهُم}، أي: لايخفي عليه شيء.

وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ} - على وجهين:

أحدهما: على نفي القدرة وإثباتها: أن لهم ذلك في الإخفاء من الناس، وليس لهم في الإخفاء عن اللّه.

والثاني: على قلة المبالاة: يعلم باطلاع اللّه - تعالى - عليهم، وتركهم مراقبة اللّه في الأمور، واجتهادهم في ذلك عن الخلق، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} يقول: من العمل والفرية على اليهودي، بالسرقة.

وقيل: يبيتون: أي يؤلفون القول فيما بينهم، فيقولون: يأتي به النبي، فيقول له كذا وكذا؛ ليدفعوا عن صاحبهم الخيانة والتهمة، وهو طُعْمَة؛ على ما قيل في القصة: إنه سرق درع رجل فرماها في دار يهودي.

وقيل: إنه خبأها في دار يهودي، فلما طلب منه حلف باللّه أنه ما سرق.

وقيل: التبييت: هو التقدير بالليل، وقد ذكرناه في قوله: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا}

هو على الوعيد؛ أي: عن علم منه يفعلون هذا، لا عن غفلة؛ كقوله - تعالى -: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ}، لكنه يؤخره إلى يوم على علم منه ذلك، وعلى الإعلام أن اللّه لم يزل عالمًا بما يكون منهم، وعلى ذلك امتحنهم، وباللّه التوفيق.

١٠٩

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (١٠٩)

قيل: يعني: أصحاب طعمة؛ أي: لو خاصمتم عنهم يا هَؤُلَاءِ في الدنيا {فَمَنْ يُجَادِلُ اللّه عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَ}

أي: لا أحد يخاصم عنهم يوم القيامة.

{أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} يخاصم عنهم يوم القيامة.

وقيل: كفيلا، أي: في الدفع عنهم؛ كقوله - تعالى -: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّه}، أي: في دفعها وإرادة أن يدحضوا بالباطل.

وقيل: رقيبا.

وقيل: كفيلا.

والوكيل: هو القائم بحفظ الأمور، والقاضي للحوائج، والمزيح للعلل.

١١٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}

هما سواء، أي: من عمل سوءًا فقد ظلم نفسه، ومن ظلم نفسه فقد عمل سوءا.

ويحتمل ما قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: من يعمل سوءًا إلى الناس، أو يظلم نفسه فيما بينه وبين اللّه.

ثم روي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: أرجى آية في القرآن هذه قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. . .} الآية.

وروي عنه -أيضًا- قال: أربع آيات من كتاب اللّه - تعالى - أحب إليَّ من حمر النعم وسُودِها -: قوله: {إِنَّ اللّه لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}، إِلَى آخره،

وقوله: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}،

 وقوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ. . .} الآية.

وعن علقمة والأسود قالا: قال عبد اللّه: إن في كتاب اللّه لآيتين، ما أصاب عبد ذنبها فقرأهما، ثم استغفر اللّه إلا غفر له: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ. . .} إلى آخر الآية،

وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه}، وقوله - تعالى -أيضًا-: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} يحتمل كل واحد منهما أنه الآخر؛ كرر على التأكيد فيما جرى له الذكر.

ويحتمل التفريق: أن يكون سوءًا إلى الناس وخطيئة إليهم، أو يظلم نفسه: بما يأثم بما بينه وبين اللّه.

١١١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ... (١١١) لأن حاصله يرجع إليه؛ فكأنه كسب على نفسه.

١١٢

وقوله: (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ... (١١٢)

يحتمل: أن يكون قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} واحدًا: الخطيئة هي الإثم، والإثم هو الخطيئة.

وقيل: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} سرقته الدرع {أَوْ إِثْمًا}: يقول بيمينه الكاذبة: أنه لم يسرقها، وإنما سرقها فلان اليهودي.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا}

قيل: لما طلب في داره رماها في دار اليهودي، ثم حلف باطلا وزورًا: أنه لم يسرقها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.

يقول: كذبا على آخر بما لم يفعل.

والبهتان: هو أن يبهت الرجل الرجل كذبًا بما لم يفعل، {وَإِثْمًا مُبِينًا}: بيمينه الكاذبة، واللّه أعلم.

١١٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ... (١١٣)

قال أكثر أهل التأويل: نزلت هذه الآية في شأن طعمة الذي سرق درع جار له

بالذي سبق ذكره، وقالوا: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ}، أي: يخطئوك، وليس هو الإضلال في الدِّين، ولكن إن كان كما قالوا فهو تخطئة الحكم.

ويحتمل قوله: {أَنْ يُضِلُّوكَ}، أي: يجهلوك في حكم السرقة.

ويجوز أن يكون جاهلا في سرقته؛ لمَّا لم يدر أنه سرق، وكان يصدقه في الحكم أنه لم يسرق؛ لأنه إنما كان يعلم الأشياء بالوحي، ثم أعلم أنه قد سرق.

ويحتمل: أن تكون الآية في الكفار كلهم؛ لأن الكفرة والمنافقين لم يزل كانوا يريدون أن يضلوا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن الهدى، ويصرفوه عنه؛ كقوله - تعالى -: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، وكقوله - تعالى -: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}.

ثم يحتمل قوله - تعالى -: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ}؛ حيث عصمك بالنبوة؛ وإلا لأضلوك عن سبيل اللّه: الهدى، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} أي: بالعصمة، {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}.

والثاني: ولولا فضل اللّه عليك ورحمته؛ حيث أعلمك بالحكم في ذلك، وبصّرك به بالوحي، وصرفك عن تصديق ذلك الخائن، إن ثبت ما قالوا؛ وإلا لهموا أن يخطئوك ويجهلوك فيه.

ثم في الآية نقض قول المعتزلة؛ لأنه مَنَّ على رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه عصمه، وهم يقولون: كان عليه أن يعصمه، وهو كان يستحق ذلك قبله. فلو كان عليه ذلك لم يكن للامتنان عليه بذلك معنى؛ إذ فعلَ ما كان عليه أن يفعل؛ على زعمهم، ومن فعل فعلا عليه ذلك - لم يقل إنه تفضَّلَ؛ دل أنه ليس كما قالوا، وباللّه التوفيق والعصمة.

وقوله -أيضًا-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} يخرج على وجهين:

أحدهما: يكفهم عما هموا.

والثاني: يعصمه عما راموا فيه أن يظفروا منه بعد أن أظهروا ما طلبوا.

وقوله: {يُضِلُّوكَ}: يجهلوك الحكم بالتلبيس وأنواع التمويه يرجع ذلك إلى نازلة.

 والثاني: أن يكون بالإضلال عن السبيل والحيل في الصرف عن الحق، وهذا هو الذي لم يزل أعداء اللّه يقصدون برسول اللّه وبجميع أهل الخير؛ فكفهم بوجهين، يتوجه كل وجه إلى وجهين:

أحدهما: ظواهر الأسباب من الوحي والآيات، وكذا في كفهم مرة بالقتال والأسباب الظاهرة، ومرة باللطف والعصمة، وسمى ذلك فضلا ورحمة؛ ليعرف أن ذلك فضله لا حقًّا قبله؛ إذ ليس بذل الحقوق يُعَد في الفضائل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لا أحد يقصد قصد إضلال نفسه؛ لكن لما رجع حاصل ذلك الإضلال إلى أنفسهم كأنهم أضلوا أنفسهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ}.

أمَّن رسوله عن ضرر أُولَئِكَ؛ كقوله - تعالى -: {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}

قد ذكرناه في غير موضع.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}

من الحلال والحرام والأحكام كلها، وغير ذلك؛ كقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}، فهو كذلك كان.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيمًا}

فيما علمك من الأحكام، وعصمك بالنبوة والرسالة، وصرف عنك ضرر الأعداء واللّه أعلم.

١١٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ}.

اختلف في النجوى:

 قيل: النجوى: القوم؛ كقوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}، أي: رجال.

وقيل: النجوى: هي الإسرار؛ كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ. . .} الآية.

ثم استثنى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ. . .} الآية.

فإن كان التأويل من النجوى هو فعل النجوى خاصة، فكأنه قال: لا خير في كثير من نجواهم إلا الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس. وإن كان تأويل النجوى هو القوم، فكأنه قال: واللّه أعلم: " لاخير في كثير منهم إلى من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس؛ وكان هذا أقرب.

ومعنى الثنيا من الكثير فيما يرجع إلى القوم؛ فكأنه قال: لا خير في كثير منهم إلا من يرجع أمره إلى ما ذكر؛ فيصير إلى خير.

وقد يحتمل: أن قومًا منهم يرجع نجواهم إلى خير، وهم أقلهم، ومن الفعل، على أن الفعل ربما يكون فعل خير، وإن كانوا أهل النفاق والكفر، لكن بين أنه غير مقبول إلا أن يبتغي به مرضاة اللّه، وذلك لا يكون إلا أن يؤمنوا، واللّه أعلم.

١١٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ... (١١٥)

قيل: لما تبين خيانته لرسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - استحيا أن يقيم بالمدينة؛ فارتد، ولحق بمكة كافرًا؛ فنزل قوله - تعالى -: {وَمَن يشَاقِقِ الرَّسُولَ} يقول: يخالف الرسول {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}، يقول: من بعد ما كان كافرًا تبين له الإسلام وأسلم.

وقال: لما أبان أمر طُعْمَة، وعلم أنه سرق الدرع - أنزل اللّه - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}؛ قيل له: يا طعمة، إن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قاطِعُك؛ فخرج هاربًا إلى مكة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: غير دين المؤمنين.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ويسلك غير سبيل المؤمنين ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}

أي: نتركه وما تولى من ولاية الشيطان.

وقيل: ندعه وما اختار من الدِّين غير دين المؤمنين.

{وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}، أي: ندخله جهنم في الآخرة.

وقيل: قوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى}، أي: نوله في الآخرة ما تولى في الدنيا.

{وَسَاءَتْ مَصِيرًا}

يقول: بئس المصير صار إليه.

وقوله - تعالى -: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أنه تولى الشيطان؛ فجعله اللّه وليًّا؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا}، وغير ذلك، ويكون نخذله فيما اختاره، ونكون نجزه جزاء توليه، ويكون بخلق توليه منه جورًا باطلا، مهلكًا له، واللّه أعلم.

* * *

١١٦

وقوله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. . .} الآية.

في الآية دليل ألا يصير بكل ذنب مشركًا؛ على ما قاله الخوارج لما قسم الكتاب، ولا

يحتمل إضمار التوبة؛ لأن الشرك مما: يُغفر بالتوبة؛ فبطل قولهم.

وفيه بطلان قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة؛ لأن اللّه - تعالى - جعل لنفسه مشيئة المغفرة، وذلك فيما في الحكمة دفعه سفه؛ فلزم الذي ذكرنا الفريقين جميعًا.

ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الصغائر - ما بلى بها الأنبياء والأولياء؛ وما يكفر صاحبه - يُسقط النبوة والولاية، ومن كان وصف إيمانه بالأنبياء - عليهم السلام - هذا؛ فهو كافر بهم.

وعلى المعتزلة في ذلك أن اللّه وصف الأنبياء - عليهم السلام - بالدعاء له تضرعًا وخيفة، وخوفًا وطمعًا، وبكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه؛ حتى أجيبوا في دعائهم، ولو لم يكن ذنوبهم بحيث يحتمل التعذيب عليها في الحكمة، لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجور والتعوذ به، وذلك أعظم من الزلات.

فهذا ينقض قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر، وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة، وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها، ولا عصمة إلا باللّه.

ثم قوله: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} - يحتمل: الشرك في الاعتقاد، وهو أن يشرك غيره في ربوبيته وألوهيته، وبين أن يشرك غيره في عبادته؛ ألا ترى أنه قال: - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، ثم قال اللّه - تعالى - في آخره: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}: جعل الإشراك في الألوهية والربوبية، والإشراكَ في العبادة واحدًا؛ كله شرك باللّه، وباللّه التوفيق.

ثم قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} لا يحتمل ما قالت المعتزلة: إنه وعد المغفرة فيما يشاء، ثم بين ذلك في الصغائر بقوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، وقد ثبت الوعيد في الكبائر؛ بقي الوعد بحقه لم يزل بالذي ذكر لاحتماله.

وقيل: قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} كناية عن الأنفس المغفورات، لا عن الآثام والأجرام التي تغفر، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس؛ لأنه لم يقل: ما شاء، ولكن قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِمَنْ يَشَاءُ}؛ فذلك كناية عن الأنفس.

وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم، وفيما جاء على ما قيل: لا صرف في

 ذلك؛ فهو أولى.

وبعد: فإنه قال: {لِمَنْ يَشَاءُ}، والصغائر عندهم مغفورة بالحكمة لا بالوعد، والآية في التعريف، واللّه أعلم.

١١٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا ... (١١٧)

عن الحسن قال: الإناث: الأموات التي لا روح فيها وكذلك روي عن ابن عباس، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقيل قوله - تعالى -: {إِلَّا إِنَاثًا}: هم الملائكة؛ لأنهم يقولون: الملائكة بنات اللّه في السماء؛ فعبدوها؛ فإنهم إنما عبدوا الإناث عندهم وفي زعمهم.

وقيل: إناثًا من الوثن؛ وكذلك روي في حرف عائشة - رضي اللّه عنها - أنها كانت تقرأ: " إن يدعون من دونه إلا أوثانا "، وهو الصنم؛ سمي إناثًا لما صوروها بصور الإناث، وحلَّوْها، وقلدوها قلائد، وزينوها بزيهم، ثم يعبدونها لم يعبدوها على ما كان في الأصل؛ فسمي بذلك.

وقيل، سمي إناثًا؛ لأنهم كانوا يسمون ما يعبدون من الأصنام والأوثان: اللات، والعزى، ومناة؛ فأسماؤهن أسماء إناث، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا}:

أخبر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم وإن كانوا يفرون من الشيطان ويأنفونه - فإنهم بعبادتهم

 الأصنام؛ والأوثان يعبدون الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام؛ فكأنهم عبدوه؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قال: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}: جعل عبادة الصنم عبادة للشيطان؛ حيث قال له: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}؛ فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان، وباللّه العصمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَرِيدًا}، قال ابن عَبَّاسٍ: المريد: هو العاتي.

١١٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَعَنَهُ اللّه ... (١١٨)

اللعنة: هي الإبعاد من رحمة اللّه، فسمي: ملعونًا؛ لأنه مبعد من رحمة اللّه، مطرود منها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}.

إنه - لعنه اللّه - وإن قطع القول فيه: لأتخذن من كذا، قطعا - فهو ظن في الحقيقة؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - في آية أخرى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ}؛ دل أن ما قاله، قاله ظنًّا، لكنه خرج مقطوعًا محققًا، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا}، أي: مبينا معلومًا، والنصيب المفروض هو ما ذكر: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ. . . إلى آخر ما ذكر {مَفْرُوضًا}، أي: مبينًا: من يطيعه ومن لا يطيعه.

١١٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ... (١١٩)

قيل: هذا إخبار عن اللّه - تعالى - عبادَهُ عن صنيع اللعين؛ ليكونوا على حذر منه.

ثم قوله: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} - ليس على حقيقة الإضلال؛ لأنه لا يقدر أن يضل أحدًا، لكنه يدعو إلى الضلال ويزين عليهم طريقه، ويلبس عليهم طريق الهدى؛ فذلك معنى إضافة الإضلال إليه؛ وإلا لم يملك إضلال أحد في الحقيقة؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ. . .} الآية. ثم إذا ضلوا بدعائه إلى ذلك وتزيينه عليهم سبيله - يمنيهم عند ذلك؛ حتى يتمنوا أشياء؛ كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ. . .} الآية، وكقوله - تعالى -

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}، ونحو ذلك من الأماني، وذلك مما يمنيهم الشيطان، لعنة اللّه عليه.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}، يعني: عن الدِّين، {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} أن يصيبوا خيرًا لا محالة؛ ليأمنوا.

وفي حرف ابن مسعود: " ولأعدنهم ولأمنينهم ولأحرمنَّ عليهم الأنعام ولآمرنهم فليبدلن خلقك ولآمرنهم فليبتكن ".

وقوله: {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ}

فجعلوها نحرًا للأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه}

يحتمل هذا وجهين، سوى ما قال أهل التأويل:

أحدهما: أن اللّه - تعالى - خلق هذا الخلق؛ ليأمرهم بالتوحيد، وليجعلوا عبادتهم له، لا يعبدون دون اللّه غيره؛ كقوله - تعالى -: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ. . .) الآية؛ فهو دعاهم أن يجعلوا عبادتهم لغير اللّه، وهو ما قيل في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، قيل: لدين اللّه؛ فعلى ذلك يحتمل قوله: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه}، أي: عن الذي كان خَفقُهُ إياهم لذلك، واللّه أعلم.

والثاني: أنه - عَزَّ وَجَلَّ - خلق الأنعام والبهائم لمنافعهم، وسخرها لهم، فهم حرَّموها على أنفسهم، وجعلوها للأوثان والأصنام: كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام؛ منعوا منافعها التي خلقها لهم عن أنفسهم، وذلك تغيير ما خلق اللّه لهم، واللّه - تعالى - أعلم.

وأما أهل التأويل فإنهم قالوا غير الذي ذكرنا:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه}: الإخصاء، وهو قول ابن عَبَّاسٍ، رضي اللّه عنه.

وقال آخرون: هو دين اللّه.

 وروي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال -أيضًا-: دين اللّه.

وقيل: هو ما جاء من النهي عن الواشرة، والنامصة، والمتفلجة، والواصلة، والواشمة.

ولا يحتمل أن يكون خطر بباله يومئذ أنه أراد بتغيير خلق اللّه ما قالوا من الإخصاء، أو المثلة، والواشرة، والنامصة؛ لأنه إنما قال ذلك يوم طلب من ربه النظِرة إلى يوم البعث، ولا يحتمل أن يكون له علم ألا يحل هذا أو النهي عن مثله؛ إذ قد يجوز أن ترد الشريعة في مثله؛ لذلك بعد هذا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللّه}.

أي: يطيعه ويجيبه إلى ما دعاه، ويعبده دون اللّه.

{فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينً}.

في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فذهاب المنافع عنهم التي جعلوها للأصنام والأوثان، وفي الآخرة العقوبة.

١٢٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعِدُهُمْ ... (١٢٠)

إما فقرًا وإما سعة

 {وَيُمَنِّيهِمْ}

هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا

{وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}

والغرور: هو أن يرى شيئًا يظهر خلافه.

١٢١

(أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١)

الآية ظاهرة، قيل: مفرَّا، وقيل: ملجأ.

١٢٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... (١٢٢)

قد ذكرنا هذا فيما تقدم: أن الإيمان هو التصديق، والأعمال الصالحات غير التصديق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعْدَ اللّه حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه قِيلًا}

تأويل هذا - واللّه أعلم - أن يقال: إنكم ممن تقبلون الأخبار والقول من الناس، ثم لا أحد أصدق قولاً من اللّه - تعالى - ولا أنجز وعدا منه؛ كيف لا تقبلون قوله وخبره أنه بَعْثٌ، وجنة، ونار، وتكذبون قول إبليس أن لا جنة، ولا نار، ولا بعث؟!.

* * *

١٢٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الأمر ليس بالأماني؛ ولكن إلى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - فهو - واللّه أعلم - يحتمل أن يكون في المنزلة والقدر عند اللّه؛ لأنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ}، وقالوا: {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، وغير ذلك من الأماني.

وأهل التأويل يذهبون إلى غير هذا، وقالوا: إن كل فريق منهم كانوا يقولون: إن ديننا خير من دينكم، ونحن أفضل من هَؤُلَاءِ؛ فنزل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}. وذلك بعيد.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}

اختلف فيه؛

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، يعني: [شِرْكًا] يجز به؛ يدل على ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}، وذلك وصف الكافر ألا يكون له ولى يتولى حفظه، ولا نصير ينصره؛ ألا ترى أنه قال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}؛ ذكر الذين يعملون الصالحات - وهم مؤمنون - أن يدخلوا الجنة؛ فهذا -أيضًا- يدل أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} أراد به الشرك.

وقال آخرون: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، أي: كل سوء يدخل فيه المسلم والكافر؛ ألا ترى أنه رُوي عن أبي بكر الصديق - رضي اللّه عنه - لما نزلت هذه الآية، قال: يا رسول اللّه، كيف الفلاح بعد هذا وكل شيء عملناه جزينا به؟! قال: " غَفَرَ اللّه لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَستَ تَحْزَنُ؟ أَلَستَ تَنْصَبُ؟ ألَستَ تَمْرَضُ؟ أَلَستَ يُصَيبُكَ الْأَذَى؟ فَهَذَا مَا تُجْزَوْنَ بِهِ، يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدنْيَا، وَالكَافِرُ فِي الْآخِرَةِ "، فإن كان التأويل هذا؛ فقوله: {وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}: هو في الكافر؛ أي: لا يجد له وليا ولا نصيرا إذا لم يرجع عن كفره ومات عليه، وأما إذا رجع عن ذلك، وتاب، ومات على الإيمان؛ فإنه يجد له وليا ونصيرا: ينصره اللّه - تعالى - وباللّه التوفيق.

١٢٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... (١٢٤)

في الآية دليل أن الأعمال الصالحات غير الإيمان؛ لأنه قال - تعالى -: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ. . . وَهُوَ مُؤْمِنٌ}، ولو كان إيمانًا؛ فيصير كأنه قال: ومن يعمل الإيمان وهو مؤمن؛ فدل - بما ذكرنا - أنها غير الإيمان، وفيه دلالة -أيضًا- أن الأعمال الصالحة إنما تنفع إذا كان ثمة إيمان؛ لأنه شرط فيه الإيمان بقوله - تعالى -: {وَهُوَُ مُؤْمِنٌ}؛ دل أن الأعمال الصالحة لا تنفع إذا لم يكن ثمة إيمان، ولا قوة إلا باللّه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}

قد ذكرناه.

١٢٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ ... (١٢٥)

يحتمل وجهين:

يحتمل من أحسن دينا من المسلمين ممن يعمل جميع عمله موافقا لدينه - ممن لم يعمل؟! بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه - أحسن دينا من الذي لم يعملِ شيئا، وهو كما روي في الخبر عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه، قال: " لَوْ وُزنَ إِيمَانُ أبِي بَكْرٍ الصديقِ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بِإيمان جميع أمتي، لرجح إيمانه " وقال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " قويٌّ في دينه، ضعيفٌ في بدنه "؛ ألا ترى أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده؟! وذلك لقوته في الدِّين وصلابته فيه، لا لزيادة الإيمان، ولا لنقصان إيمان في غيره، واللّه أعلم.

والثاني: مقابلة سائر الأديان، أي: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه للّه - ممن لم يسلم وجهه للّه. . . إلى آخر ما ذكر، واللّه أعلم.

ثم قوله - تعالى -: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه}، عن الحسن قال: أسلم جميع جهة أمره إلى اللّه، أي: جميع ما يعمل إنما يعمل للّه، لا يعمل لغير [اللّه].

وقيل: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه}، أي: أخلص نفسه للّه، ولا يجعل لأحد فيها شركا؛ كقوله - تعالى -: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ}، الآية، أي: يسلم نفسه له، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} - يحتمل وجهين:

يحتمل: قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: يحسن ما يعمل، أي: جميع ما يعمل؛ لعلمٍ له فيه.

ويحتمل قوله: {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: من الإحسان، وهو أن يزيد العمل على المفروض عليه: يؤدي المفروض عليه، ويزيد على ذلك أيضًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}

الملة: قيل: هي الدِّين.

وقيل: الملة: السنة، وكأن السنة أقرب؛ لأن دين الأنبياء - صلى اللّه عليهم وسلم - كلهم واحد، لا يختلف دين إبراهيم - عليه السلام - ودين غيره من الأنبياء، عليهم السلام.

وأما السنن والشرائع فيجوز أن تختلف؛ ألا تري أنه رُويَ في الخبر: " ملة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وفي بعضها: " سنة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: جعل السنة تفسير الملة؛ فالملة بالسنة أشبه.

ثم خص ملة إبراهيم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأن سننه كانت توافق سنن نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واللّه أعلم. وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {حَنِيفًا} قيل: مخلصًا.

وقيل: سمي حنيفًا، أي: مائلا إلى الحق؛ ولذلك سمي الأحنف: أحنفًا؛ لميل أحد قدميه إلى الأخرى، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}

ذكر في بعض الأخبار أن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أوحى إلى إبراهيم - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: أن لي خليلا في الأرض؛ فقال: يا رب، من هو؟ قال: فأوحى اللّه - تعالى - إليه: لِمَ؟ أي: لم تسألني عنه؟ قال: حتى أحبه وأتخذه خليلا كما اتخذته خليلا، أو كلام نحو هذا؛ فقال: أنت يا إبراهيم.

وأصل الخلة: المنزلة، والرفعة، والكرامة، يقول: {وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، أي: جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها لأحد من الخلائق؛ لما ابتلاه اللّه ببلايا، وامتحنه بمحن لم يبتل أحدًا بمثلها، فصبر عليها، من ذلك: ما أُلقي في النار، فصبر، ولم يستعن بأحد سواه، وما ابتلي بذبح ولده، فأضجعه، وما أمر أن يترك أهله وولده الطفل في جبال مكة: لا ماء هنالك، ولا زرع، ولا نبات؛ ففعل، ومن ذلك أمر المهاجرة. . . مما يكثر ذلك؛ فجائز تخصيصه بالخلة لذلك، واللّه أعلم.

وجائز أن يكون ذلك كرامة أكرمه اللّه بها؛ لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه، ويدَّعون أنهم على دينه، وعلى ذلك يخرج قوله: " اللّهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. قيل: خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة.

وقيل: إنه اتخذه خليلا؛ لأنه كان يعطي ولا يأخذ، وكان يحب الضيف، وكان لا يأكل وحده وإن بقي طويلا، واللّه أعلم بذلك.

وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة؛ لأن من يحب آخر يبره ويكرمه، ومن لا يحبه يعادهِ، ويظهر له الجفاء، ولا قوة إلا باللّه.

واختلف في المعنى الذي وصف إبراهيم - عليه السلام - بالخلة أنه خليل اللّه:

فقد قيل: بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا للّه، وله تَبَوِّء في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل، وكان لا يأكل وحده، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ له عند نزول الأضياف عليه، والابتداء بذلك قبل كل أمر، والقيام للأضياف مع عظم منزلته؛ أيد ذلك أمر الملائكة الذين جاءوه بالبشارة، واللّه أعلم.

وقيل: إنما امتحنه اللّه بأمور فصبر عليها؛ نحو النار أُلقى فيها للّه، وذبح الولد، والهجرة مرتين، وبذل الأهل والولد للّه، حيث لا ضرع، ولا زرع، ولا ماء، وغير ذلك مما أكرمه اللّه - تعالى - بالثناء عليه: بوفاء ما امتحن، وإتمام ما ابتلي من قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى}، وفي قوله - تعالى -: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}.

ويحاج فرعونه وجميع قومه، ويجادلهم فيمن يعبدونهم، فغلبهم، وألزمهم حجة اللّه، وغير ذلك من وجوه المحن.

وقيل: بما به كان بدء البيت الذي جعله اللّه قيامًا للناس، ومأمنًا للخلق، ومثابًا لهم ومنسكًا؛ فعظم شأنه فيما بالخلق إليه حاجته في أمر الدِّين؛ وعلى ذلك أكرمه اللّه - تعالى - بميل القلوب إليه، وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان، واللّه

أعلم.

وقيل: إنما هو: للّه خصائص في أهل الخيرة من الرسل وأولي العزم منهم: اختصهم بأسماء عرفن في الفضائل والكرامات، نحو القول بكليم اللّه، وروح اللّه، وذبيح اللّه، وحبيب اللّه؛ فعلى ذلك كان لإبراهيم - عليه السلام - خصوصية في الاسم؛ فسماه اللّه خليلا؛ فنحن نقول - وباللّه التوفيق -: ونحن نعلم بأن اللّه - تعالى - لا يسميه بالذي ذكر عبثًا باطلا؛ ولكنه سماه به تعظيمًا لقدره، وإظهارًا لكرامته، وبيانًا لمنزلته عنده لما شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها من الخلق، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي؛ فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه اللّه واصطفاه، دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك، مع ما لا وجه ولا معنى صار حقيق ذلك وأكرم به، إلا بمعنى أكرمه اللّه وأكرمه بفضل اللّه ورحمته؛ فللّه أن يبتدئه بالخلة ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي هي آثار الخلة، وأن يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامات الخلة ويصلح، وللّه المنُّ في ذلك والفضل، وعلينا الحمد للّه والشكر؛ بما أكرمنا من معرفة كرام خلقه، وجعل قلوبنا عامرة بمودتهم حتى صاروا - بفضل اللّه ورحمته - أحب إلينا من أمسِّ الخلق بنا، بل من أنفسنا، ولا قوة إلا باللّه.

ثم ليس للنصارى ادعاء البنوة للّه من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة؛ لأن اللّه - سبحانه وتعالى - عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك، ولا كذلك أمر الخلة، ولأن أمر الأولاد حقه المجانسة، والخلة حقه الموافقة.

ثم أصل الأولاد: الشهوة والحاجة، والخلة: الطاعة والتعظيم، مما يرجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع.

ثم الأصل: أن المعنى الذي تقتضيه الخلة قد يجوز أن يظفر كلٌّ بالطاعة، وإن كان الاسم له في حق النهاية؛ نحو قوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ. . .} الآية وقوله - تعالى -: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّه}، والمحبة قريبة من الخلة، ومحال أن يحق معنى الأولاد والبنوة بشيء من الطاعة؛ لذلك اختلف الأمران، واللّه أعلم.

١٢٦

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (١٢٦)

تأويل هذه الآية - واللّه أعلم - أنه وإن أكرمهم وأعظم منزلتهم عنده وأعلاها - فإنهم لم يأنفوا عن عبادته، ولم يخرجوا أنفسهم من أن يكونوا عبيدًا؛ بل كلما ازداد لهم عند اللّه - واللّه أعلم - منزلة وقدر - كانوا أخضع له وأطوع؛ كقوله - تعالى -: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)، وفي موضع آخر: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. . .} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا}

أي: أحاط بكل شيء علمه، وهو يخرج على الوعيد، أي: عن علم منه خلقهم لا عن جهل بصنيعهم كملوك الأرض، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - أيضًا: {وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} وبصيرًا، وعليما، ونحو ذلك، يخرج على التوعيد والتخويف؛ ليكونوا مراقبين له، حذرين؛ كمن يعلم في الأمور أن عليه رقيبًا، واللّه أعلم.

ويخرج على الابتلاء: أنه أمر من يكتب الأعمال لا للخفاء عليه، لكن بما إذ لا يمتحن لحاجة به؛ ولكن لمصلحة عباده، فيمتحن بما شاء، فامتحن أُولَئِكَ الكتبة بما يكونون أبدًا متيقنين ناظرين، لا يغفلون عن ذلك؛ طاعة منهم للّه.

والثاني: أن يكون العلم بمن يكتب عليه كل أمره -فيما جُبل عليه البشر- أذكر له وأشد في التنبيه؛ فجرى حكم اللّه في ذلك؛ إذ أمر المحنة موضوع على المصلحة، وذلك أبلغ في الوجود، واللّه أعلم.

ويخرج على أن اللّه - تعالى - كان بذلك محيطًا؛ ليعلموا أنهم لا يتركون سُدى، بل يحصى عليهم للجزاء، واللّه أعلم.

وجملة ذلك: أن اللّه - تعالى - قال كان كذا؛ ليعلم أنه لا عن جهل خلق الخلق وبعث الرسل، وأنشأ الآيات، مما عليه أمر الخلق أنهم كيف يعاملون من ذكرت، وذلك خارج على حد الحكمة، وإن كان لا يعرفون في بعث الرسل إلى من يكذبهم، ولا تقوية الأعداء على ما به قهر الأولياء، ولا الأمر والنهي لمن يعلم أنه لا يأتمر ولا ينتهي - كبيرَ حكمة، وبما كان ذلك من اللّه فهو خارج على حد الحكمة؛ إذ ذلك كله من الخلق يقع لحاجة أو

 لمنفعة ترجع إليهم؛ فإذا ناقض .. خرج الفعل من الحكمة. فأما اللّه - سبحانه وتعالى - يمتحن عباده، ويبعث الرسل - عليهم السلام - لحاجة بالمبعوث إليهم وبالممتحنين، ولمنافع ترجع إليهم؛ فيكون ذلك منه كهدايا؛ فمن لا يقبلها فنفسه يضر ولحقها يبخس، لا أن يرجع إليه ذلك؛ فزال ذلك المعنى الذي له خرج الفعل من الخلق عن حد الحكمة؛ فلزم القول بموافقة الحكمة والمصلحة، ولا قوة إلا باللّه.

* * *

١٢٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ. . .} الآية.

ذكر الاستفتاء في النساء، وليس فيه بيان عما وقع به السؤال؛ إذ قد يجوز أن يكون في الجواب بيان المراد في السؤال، وإن لم يكن في السؤال بيان؛ نحو قوله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}؛ دل الأمر باعتزال النساء في المحيض - على أن السؤال عن المحيض إنما كان عن الاعتزال، وإن لم يكن في السؤال بيان المراد؛ وكذلك قوله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ. . .} الآية؛ دل قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} وعلى أن - السؤال إنما كان عن مخالطة اليتامى، وكقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}؛ دل قوله: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وعلى أن السؤال عن الخمر والميسر - ما ذكر في الجواب من الإثم، وإن لم يكن في السؤال بيان ذلك.

ثم قوله - تعالى -: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ليس في السؤال ولا في الجواب بيان ما وقع به السؤال؛ فيحتمل أن يكون السؤال في أمورهن جميعًا: في الميراث وغير ذلك من الحقوق، ثم ذكر واحدًا فواحدًا؛ كقوله - تعالى -: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ}، كقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} الآية، هذا في الميراث. وأما في الحقوق فقال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ويحتمل غيرها من الحقوق سوى حقوق النكاح، فترك البيان في الجواب؛ لما ذكر واحدًا فواحدًا في غيرها من الآي؛ إذ الجواب خرج مخرج العدة أنه يفعل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُفتِيكُمْ}، وقد فعل هذا، واللّه أعلم.

ويحتمل غير هذا: وهو أن يترك البيان في السؤال والجواب؛ لنوازل يعرفها أهلها، لم يحتج إلى بيان ما وقع به السؤال؛ لمعرفة أهلها به.

ويحتمل ما قاله أهل التأويل: وهو أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد؛ وإنما كانوا يورثون المقاتلة من الرجال والذين يحرزون الغنائم، فلما بين اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - للنساء وللصغار نصيبًا في الأموال، وفرض لهم حقًّا، سألوا عند ذلك رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك؛ فأنزل اللّه - تعالى -: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - وذكر القصة هكذا، واللّه أعلم.

ويحتمل: أن يكون السؤال وقع عن يتامى النساء؛ ألا ترى أنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} الآية.

قيل: كانت اليتيمة في حجر الرجل ذات مال؛ يرغب عن أن يتزوجها لدمامتهما، ويمنعها عن الأزواج؛ رغبة في مالها، وهكذا روي عن عائشة، رضي اللّه عنها.

وعلى ذلك يخرج قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية.

وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ}

هذا - واللّه أعلم - كأنه معطوف، على قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ}، والمستضعضون من الولدان، على ما ذكرنا من الميراث والحقوق.

{وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}

في إبقاء حقوقهم وأداء ما لهم عليكم

 {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِهِ عَلِيمًا}

فيجزيكم به، أو كان به عليما: من يفعل الخير ومن لا يفعل الخير، واللّه أعلم.

وعن الحسن في قوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}، أي: ترغبون عن نكاحهن.

وعن ابن سيرين: لا يرغب في نكاحها؛ لدمامتها، ولا يزوجها غيره؛ رغبة في مالها.

وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ. . .} الآية، وقوله - تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى. . .} الآية.

وني قوله - تعالى -: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} دلالة أن للولي أن يزوج اليتيمة الصغيرة؛ لأنه لو لم يكن له ذلك - لم يكن للعتاب على ترك تزويجهن من غيرهم معنى.

فَإِنْ قِيلَ: اسم اليتيم يقع على الصغيرة والكبيرة جميعًا؛ فلعل المراد من اليتيمة: الكبيرة هاهنا، قيل: هو كذلك، غير أن الغالب يقع على الصغائر منهن، واللّه أعلم.

وفيه دلالة؛ أن الكاح قد يقوم بالواحد؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}؛ فلو لم يكن له أن يتزوجها - لم يكن لهذا العتاب معنى؛ دل أن له أن ينكح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ... }

قيل: خافت، أي: علمت من بعلها نشوزا.

وقيل: الخوف - هاهنا - خوف لا غير، فمن قال بالخوف فهو حمل على أن يظهر لها منه جفاء؛ يجفوها لدمامتها أو لكبرها، ويسيء صحبتها؛ لترضى بالفراق عنه؛ ليتزوج غيرها، وهو الخوف حقيقة.

وهكذا روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: [إنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ خشيت أن يطلقها النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فجعلت يومها لعائشة - رضي اللّه عنها - فأنزل اللّه - تعالى] (١): (وَإنِ (١) الثابث في البخاري وغيره أنها وهبت ليلتها لعائشة - رضي اللّه عنهما - لا أنها خشيت أن يطلقها رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وهذا نص الحديث في البخاري - رحمه اللّه -:

٥٢١٢ - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ «وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ»

وكيف يصح ذلك والنبي - صلى اللّه عليه وسلم - لم يكن ملزمًا بالعدل في القسمة بين أزواجه لقوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا. . .) الآية. ثم قال: فهذا الصلح الذي أمر اللّه.

فجعل الخوف - هاهنا - خشية.

وعن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت: هي المرأة تكون عند الرجل دميمة، ولا يحبها زوجها؛ فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من شأني.

وقيل: {خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} أي: علمت، والعلم هو أن يكون للرجل امرأتان: إحداهما كبيرة أو دميمة، والأخرى شابة، يميل قلبه إلى الشابة منهما، ويكره صحبة الكبيرة منهما، ويستثقل المقام معها، وأراد فراقها؛ فتقول: لا تفارقني، واجعل أيامي لضرتي، أو يصالحها على أن يكون عند الشابة أكثر من عند الكبيرة، وهو ما روي عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت: هي المرأة تكون عند الرجل دميمة، ولا يحبها أزوجها؛ فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلٍّ من شأني.

فالخوف هو ما يظهر لها من نشوزه قبل تزوج أخرى - بأعلام، والعلم هو ما يظهر من ترك مضاجعته إياها، وسوء صحبته معها.

وعلى هذين الوجهين رُوي عن الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - عن بعضهم: يكون عند الرجل امرأتان: إحداهما كبيرة، والأخرى شابة؛ فيؤثر الشابة على الكبيرة؛ فيجري بينهما صلح على أن يمسكها ولا يفارقها على الرضا منها بإبطال حقها أو بدونه، وهو ما روينا من خبر ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن سودة - رضي اللّه عنها - جعلت أيامها لعائشة - رضي اللّه عنها - خشية أن يفارقها. وكذلك رُوي عن عمر، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وروي عن علي - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه أتاه رجل يستفتيه في امرأة خافت من بعلها نشوزًا؛

قال: هي المرأة تكون عند الرجل؛ فتنبو عيناه من دمامتها أو كبرها، أو فقرها، أو سوء خلقها؛ فيكون فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئًا حل له، وإن جعلت من أيامها شيئًا لغيرها فلا حرج.

دلت هذه الأحاديث التي ذكرنا على أن الرجل إذا كان له نسوة أن يسوي بينهن، فيقيم عند كل واحدة يومًا، إلا أن يصطلحا على غير ذلك، والصلح خير، كما قال اللّه، عز وجل.

وبين قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ... }

أن على الرجل -وإن عدل بين نسائه في قسمة الأيام- ألا يخلي إحداهن من الوطء، واللّه أعلم. ولا يكون وطؤه كله لغيرها، وتكون الأخرى كالمعلقة التي ليست بأيم ولا ذات زوج، لكنها إذا رضيت بإبطال حقها أو بدون حقها فإنه لا حرج على الزوج في ذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا}

يحتمل: أن يكون رفع الحرج عن الزوج خاصة، وإن كان الفعل مضافًا إليهما؛ إذ ليس للمرأة لْي ترك حقها حرج، وكذلك قوله - تعالى -: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ليس على المرأة جناح في الافتداء؛ لأنها تفتدي بمالها، ولها أن تُمَلِّكَ على مالها من شاءت؛ فكأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: فلا جناح عليه في أخذ ما افتدت، أو في إبطال حقها إذا رضيت.

ويحتمل: أن يكون على ما ذكر، وهو أن لا حرج على المرأة المقام معه وإن استثقل الزوج ذلك ويكره صحبتها، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: شحت المرأة بنصيبها من زوجها أن تدعه للأخرى، وشح الرجل بنصيبه من الأخرى.

وقيل: الشح: الحرص، وهو أن يحرص كل على حقه. وكان الشح والحرص واحد، وإن كان أحدهما في المنع، والآخر في الطلب؛ لأن البخل يحمله على الحرص، والحرص يحمله على المنع، وكل واحد منهما يكون سببًا للآخر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا}

في أن تعطوهن أكثر من حقهن، وتتقوا في ألا تبخسوا من حقهن شيئًا.

 ويحتمل: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} في إبقاء حقهن، والتسوية بينهن، وتتقوا الجور والميل، وتفضيل بعض على بعض.

ويحتمل: {وَإِنْ تُحْسِنُوا} في اتباع ما أمركم اللّه من طاعته، وتتقوا عما نهاكم اللّه من معاصيه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}

على الترغيب والوعيد، وقد ذكرنا معناه في غير موضع.

١٢٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ... (١٢٩)

عن ابن عَبَّاسٍ في قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} في إيفاء الحق أن يستوي في قلوبكم الحب {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على العدل؛ لا تقدرون عليه في ذلك.

{فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}.

إلى التي تحب في النفقة والقسم؛ فتأتي الشابة التي تعجبك، وتدع الأخرى بغير قسم ولا نفقة.

روي عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه كان يقول: اللّهمَّ أما قلبي فلا أملك، ولكن أرجو أن أعدل فيما سوى ذلك.

والعدل - هاهنا - التسوية؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ليس هو ضد الجور؛ ولكن التسوية: يسوون بين ربهم وبين الأصنام في العبادة.

وعن عبيدة قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} في الحب.

وروي عن أبي قلابة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يعدل بين نسائه في القسمة ويقول: " اللّهمَّ هذه قِسمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلَا أَمْلِكُ.

 وأصل ذلك: أن في كل ما كان المرء مدفوعا مضطرًّا - فإنه غير مكلف في ذلك، وفي كل ما كان باختيار منه وإيثار غير عليه - فإنه مكلف في ذلك، والحب مما يدفع المرء فيه ويضطر، ولا صنع له فيه، لم يكلف التسوية فيما يكون مدفوعًا فيه مضطرا؛ لأنه لا يملك التسوية، وعلى هذا يخرج قولنا: إن الكافر مكلف بالإيمان في حال الكفر؛ لشغله به، واختاره فعل الكفر، ليس كالمضطر، وقد ذكرنا - فيما تقدم -: أن الاستطاعة تكون على ضربين: استطاعة أحوال وأسباب، واستطاعة أفعال، والاستطاعة التي هي استطاعة الأحوال والأسباب من نحو الصحة والسلامة وغيرهما يجوز فبل ومع وبعد، وأما استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل، وباللّه التوفيق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}: في النفقة والقسمة، معناه: لا يحملنكم شدة الحب والميل بالقلب أن تتركوا الإنفاق عليها وإيفاء الحق، أعني: حق القسم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}

ليست بأيم ولا ذات بعل، ليست هي بأيم تتكلف هي مؤنتها كما تتكلف الأيم، ولا ذات بعل يتحمل البعل مؤنتها.

وفي حرف أبي بن كعب: " فتذروها كالمسجونة "، وهو ما ذكرنا: لا ينفق هو عليها، ولا يطلقها؛ لتتزوج زوجًا آخر، فهي كالمحبوسة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا}

هو ما ذكرنا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}

هذا ينقض قول من يقول: إنه لم يكن رحيمًا ثم صار رحيمًا؛ لأنه أخبر أنه كان رحيمًا، وهو يقول: صار رحيما، وباللّه العصمة.

ثم المسألة: بأن المرأة إذا جعلت أيامها لضرتها، كان لها أن ترجع وتفسخ ذلك؛ لأنها جعلت لها ما لم يجب بعدُ ولم يلزم؛ فكان كمن أبرأ آخر عن حق لم يجب بعد، فإن إبراءه - باطل، له أن يعود إليه، فيأخذه به إذا وجب؛ فعلى ذلك هذا، واللّه أعلم.

١٣٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ... (١٣٠)

أي: الزوجان إن تفرقا؛ لما لم يقدر الزوج على التسوية بينهن {يُغْنِ اللّه كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ}: المرأة تتزوج آخر، والرجل بامرأة أخرى.

ويحتمل: {كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} أن كل واحد منهما -وإن كان غنيا بالآخر في حال النكاح- فاللّه قادر على أن يغني كل واحد منهما بعد الافتراق، كما كان يرزق قبل الفراق.

وفيه دليل قطع طمع الارتزاق من غير اللّه، وإن جاز أن يجعل غيره سببًا في ذلك؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه}؛ ليعلم كلٌّ أن غناه لم يكن بالآخر؛ حيث وعد لهما الغناء، وكذلك في قوله - تعالى -: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ. . .} إلى قوله - تعالى -: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ} - دليل قطع طمع الارتزاق بعضهم من بعض في النكاح؛ لما وعد لهم الغناء إذا كانوا فقراء.

وفيه دليل وقوع الفرقة بينهما بالمرأة، بالمكنى من الكلام؛ لمشاركتهما فيه، وإن كان الزوج هو المنفرد بالفراق؛ لما أضاف الفعل إليهما بقوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّه} وكذلك قوله - تعالى -: {فَارقُوهُنَّ}، و {سَرِّحُوهُنَّ}، واللّه أعلم.

وفيه دليل لزوم النفقة في العدة؛ لأنه ذكر الافتراق، والفراق إنما يكون بانقضاء العدة، ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن غناء كل واحد منهما بالآخر قبل الفراق؛ دل أن للمرأة غناء بالزوج ما دامت بالعدة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه وَاسِعًا حَكِيمًا}

قيل: واسعًا: جودًا.

وقيل: واسعًا: يوسع على كل منهما رزقه، {حَكِيمًا} حكم على الزوج: إمساكًا بمعروف أو تسريحًا بإحسان.

وقيل: حكيمًا؛ حيث حكم فرقتهما.

وأصل الحكيم: أن يضع كل شيء موضعه.

١٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّه ... (١٣١)

وصى الخلق كلهم: {أَنِ اتَّقُوا اللّه}، ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّه. . .}.

قيل: وصينا: أمرنا.

وقيل: وصينا: فرضنا على الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم: {أَنِ اتَّقُوا اللّه}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنِ اتَّقُوا اللّه}، قيل: أي أمرناهم أن يوحدوا اللّه ويتقوا الشرك.

وقال مقاتل: {أَنِ اتَّقُوا اللّه}، أي: وحدوا اللّه.

وقيل: قوله - تعالى -: {أَنِ اتَّقُوا اللّه}، أي: أطيعوه فيما أمركم ونهاكم عنه.

ويحتمل: {أَنِ اتَّقُوا اللّه}، أي: اتقوا عذاب اللّه ونقمته، ولا تعبدوا غيره دونه {وَإن تَكْفُرُوا}.

ولم تتقوا فيما أمركم اللّه ونهاكم.

{فَإِنَّ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

ذكر هذا على أثر قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللّه}؛ ليعلموا أنه لم يأمرهم بذلك لحاجة له في عبادتهم، ولم يأمر لمنفعة نفسه؛ إذ من له ملك ما في السماوات وما في الأرض لا يحتاج إلى آخر ينتفع به؛ ولكن ليعلموا أنه - تعالى - إنما أمرهم بذلك لحاجتهم في ذلك، ولمنفعة أنفسهم؛ ألا ترى أنه قال - عز وجل -: {وَكَانَ اللّه غَنِيًّا حَمِيدًا} غنيًّا عن عبادتكم له وطاعتكم إياه، وحميدًا في سلطانه، ويكون غنيًّا عن خلقه في الأزل، حميدًا في فعله، وذلك الحميد في الفعل يخرج على إتقان الفعل وإحكامه، أو على إحسانه إلى خلقه، وإنعامه عليهم.

١٣٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَللّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا (١٣٢)

هو ما ذكرنا من غنائه عن عبادة خلقه وطاعتهم له.

١٣٣

 (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ... (١٣٣) تأويله واللّه أعلم -: أي من له ما في السماوات وما في الأرض يقدر أن يذهبكم، أي: يهلككم، ويأتي بآخرين أخير منكم، وأخوف وأطوع للّه منكم، لكنه لا يفعل؛ لأنه غني عن عبادتكم وطاعتكم، لم يخلقكم في الابتداء لحاجته في عبادتكم أو لمنفعة له؛ ولكن لحاجة أنفسكم ومنافعكم، واللّه أعلم.

ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ}: في قوم خاص، كما كان في الأمم الخالية من الإهلاك عند المعاندة والمكابرة.

ويحتمل في الكل {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ}، أي: يهلككم: الكل، ويأت بآخرين، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا}

أي: كان اللّه على الإهلاك والإبدال قديرًا، ولا قوة إلا باللّه.

١٣٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... (١٣٤)

قال بعض أهل التأويل: من كان يريد بعمله الذي يعمله عرَض الدنيا، ولا يريد به اللّه - آتاه اللّه ما أحب من عرض الدنيا، أو دفع عنه ما أحب في الدنيا؛ فليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير اللّه، وهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، ومن أراد بعمله الذي يعمله في الدنيا، ثواب الآخرة - آتاه اللّه - تعالى - من عرض الدنيا ما أحب، ودفع عنه، وجزاه في الآخرة الجنة؛ بعمله في الدنيا، واللّه أعلم.

وتحتمل الآية -غير هذا- وجوهًا كأنها أشبه من هذا:

أحدها: أنهم كانوا يتخذون من دون اللّه آلهة يعبدونها؛ طلبًا للرياسة والعز والشرف؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}، فأخبر أن العز والشرف ليس في ذلك؛ ولكن عند اللّه عز الدنيا والآخرة.

والثاني: أنهم كانوا يعبدون الأوثان والأصنام، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى} ويقولون:، {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّه}؛ فأخبر أن ليس في عبادتكم هذه الأوثان دون اللّه - لكم زلفى، ولا ثواب، ولكن اعبد اللّه؛ فعنده الدنيا والآخرة.

 والثالث: يحتمل: أن يكونوا عبدوا هذه الأصنام؛ لمنافع يتأملون بذلك في الدنيا والسعة في الدنيا؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللّه الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ. . .} الآية؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} لا عند من تطلبون.

ويحتمل أن تكون الآية في أهل المراءاة والنفاق، الذين يراءون بأعمالهم الصالحة في الدنيا؛ يريدون ثواب الدنيا لا غير، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه سَمِيعًا}.

لمقالتكم

{بَصِيرًا}.

بما تريدون وتعملون، وهو وعيد.

١٣٥

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥)

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. . .} الآية.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت: من قريب أو بعيد، ولو على نفسه فأقر بها، وكذلك قال عامة أهل التأويل قوله: {قَوَّامِينَ}: قوالين للّه، ولكن يكون في كل عمل وكل قول يلزم أن يقوم للّه، ويجعل الشهادة له؛ فإذا فعل هكذا - لا يمنعه عن القيام بها قربُ أحد ولا بعده، ولا ما يحصل على نفسه أو والديه، وكذلك قال اللّه - تعالى - في آية أخرى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للّه} فإذا جعلها للّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يجعلها للمخلوق، أمكن له القيام بها،

وإن كان على نفسه أو من ذكرتم ما يمنع القيام بها فهو مختلف: أما على نفسه؛ لنفع يطمع أو لدفع ضرر يدفع بذلك، وأما على الوالدين بالاحتشام يحتشم منهما؛ فيمتنع عن أداء ما عليه، وأما القرابة: بطلب الغناء لهم ودفع الفقر عنهم؛ فأخبر أنه أولى بهم؛ فلا يمنعك غناء أحد منهم ولا فقره - القيامَ بها، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - في تأويل هذه الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}

قيل فيه بوجهين:

قيل: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} وتعملوا لغير اللّه.

وقيل: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى}؛ كراهة أن تعدلوا.

ويحتمل: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}: عن الحق من الصرف بالعدول.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}

فيه لغتان:

" تلُوا " بواو واحدة، من الولاية؛ يقول: كونوا عاملين للّه، وقائلين له، مؤدين الشهادة له، وإن كنتم وليتم ذلك.

وقيل: " تَلْوُوا " بواوين، من التحريف؛ يقول: لا تتبعوا الهوى، ولا تحرفوا الشهادة، ولا تعرضوا عنها وتكتموها.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " إن يكونوا غنيا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما ".

وعن قتادة - رضي اللّه عنه -: فاللّه أولى بهما، يقول: اللّه أولى بغنيكم وفقيركم؛ فلا يمنعكم غناء غنى أن تشهد عليه لحق علمته، ولا أمر ثبت لفقير أن تشهد عليه بحق علمته.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}، وهو من الولاية التي ذكرنا.

 وقيل: وإن تلووا: من التحريف وطلب الإبطال.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا بين الناس "، وهو من العدل؛ على ما ذكرنا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من الصرف والعدول عن الحق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}

خرج على الوعيد، على كل ما ذكر: من منع الشهادة، والقيام للّه بها، وتحريف ما لزمهم، وباللّه العصمة.

وبمثل ذلك رُوي عن رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَومِ الآخرِ فَلْيُقِم شَهَادَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَومِ الْآخِرِ فَلَا يَجْحَدْ حَقًّا هُوَ عَلَيهِ، وَلْيؤُده عفوًا، وَلَا يُلْجئْهُ إِلَى سُلْطَانٍ، وَلَا إِلَى خُصُومَةٍ لِيَقْطَعَ بِهَا حَقَّهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ خَاصَمَ إِلَيَّ فَقَضَيتُ لَهُ عَلَى أَخِيهِ بِحَق لَيسَ هُوَ لَهُ عَلَيهِ - فَلَا يَأْخُذنَّهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعةً مِنْ جَهَنَّمَ ".

وروي في خبر آخر: " يَا ابْنَ آدَمَ، أَقِمِ الشهَادَةَ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ، أَوْ عَلَى قَرَابَتِكَ، أَوْ شَرَفِ قَوْمِكَ؛ فَإِنَّمَا الشَهَادَةُ للّه وَلَيسَتْ للنَّاسِ، إِنَّ اللّه رَضِي بِالْعَدْل والإقْسَاطِ لِنَفْسِهِ، وَالْعَدْلُ مِيزَانُ اللّه فِي الأَرْضِ: يَرُدُّ عَلَى الْمَظْلُومِ مِنَ الظَالِمِ، وَعَلَى الضَّعِيفِ مِنَ الشَدِيدِ، وَعَلَى الْمُحِقِّ مِنَ الْمُبطِلِ، وَبِالْحَق يُصَدقُ اللّه الصادِقَ، وَيُكَذبُ اللّه الكَاذِبَ، وًيرُدُّ المُعْتَدِي وُيوَبِّخُهُ، وَبِالْعَدْلِ أَصْلَحَ اللّه النَّاسَ ".

١٣٦

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ}.

يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} - وجوهًا:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا}، فيما مضى من الوقت، آمِنوا في حادث الوقت.

ويحتمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا آمِنُوا}، أي: اثبتوا عليه.

ويحتمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا} بألسنتكم، {آمِنُوا} بقلوبكم؛ كقوله - تعالى -: {آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}.

ويحتمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} عند رؤية البأس والعذاب، {آمِنُوا} في الحقيقة؛ كقوله - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ}.

ويحتمل وجهًا آخر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ببعض الرسل، {آمِنُوا} بالرسل كلهم كما آمن المؤمنون؛ كقوله - تعالى -: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}، وهم كانوا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}.

ويحتمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمدٍ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يبعث، {آمِنُوا} به إذا بعث؛ لأنهم كانوا يؤمنون به قبل أن يبعث، فلما بعث تركوا الإيمان به؛ كقوله - تعالى -: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.

{آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ} يعني: محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

{وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}.

أي: آمنوا بالكتاب الذي نزل على رسوله، وهو مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

{وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.

أي: آمنوا -أيضًا- بالكتب السماوية التي أنزلها اللّه، تعالى.

ثم الإيمان باللّه حقيقة - إيمانٌ بجميع الرسل والكتب؛ لأن كل نبي كان يدعو إلى الإيمان بجميع ذلك، وكذلك في كل كتاب من الكتب السماوية دعاء إلى الإيمان بجملتهم؛ ألا ترى أن الكفر بواحد منهم - كفرٌ باللّه وبجميع الرسل والكتب وما ذكر، وباللّه العصمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .} والآية.

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: ومن يكفر بجميع ما ذكر؛ {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}، وهو على التأكيد.

ويحتمل: ومن يكفر باللّه أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر؛ فقد كان ما ذكر؛ لأن الكفر بواحد من ذلك كفْرٌ بالكل، حتى لو أنكر آية من آيات اللّه - تعالى - كفر باللّه، وبالكتب وبالرسل كلها، واللّه الموفق.

١٣٧

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧)

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: نزلت الآية في الذين قال اللّه - تعالى - في سورة آل عمران: {كَيْفَ يَهْدِي اللّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}.

وقيل: إنها نزلت في الذين آمنوا بموسى - عليه السلام - ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعُزَير، ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعيسى - عليه السلام - وبالإنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفرًا بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالقرآن الكريم. وهو الأولى.

وقيل غير هذا، لكن ليس بنا إلى أنها فيهم نزلت حاجة، ولكن فيه دليل أنها في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا ولا يتوبون؛ لأنه قال: {لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} أخبر أنه لا يغفر لهم، وهو كقوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؛ لما علم اللّه أنهم لا يتوبون؛ وإلا لو آمنوا وتابوا قبلت توبتهم؛ فعلى ذلك الأول؛ لما علم اللّه أنهم لا يتوبون، ويموتون على ذلك - أخبر أنه لا يغفر لهم.

وفيه دليل أنه تقبل توبة المرتد إذا تاب، ليس -كما قال بعض الناس- أنه لا تقبل توبة المرتد؛ لأنه أثبت لهم الإيمان بعد الكفر والارتداد بقوله: {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا} ثم كذا؛ فدل أنه إذا تاب يقبل منه.

وقال أصحابنا: يستتاب المرتد ثلاثًا؛ فإن أسلم وإلا قتل.

روي عن علي بن أبي طالب - رضي اللّه عنه - قال: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم تلا هذه الآية.

وعن ابن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - كذلك.

وعن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قدم عليه رجل من الجيش، فقال: هل حدث لكم حدث؟ فقال: إن رجلا من المسلمين ارتد ولحق بالمشركين فأخذناه. فقال: ما صنعتم به؟ قالوا: قتلناه. قال: هلا أدخلتموه بيتًا، وأغلقتم عليه بابا، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، واستتبتموه ثلاثًا؛ فإن تاب وإلا قتلتموه. ثم قال: اللّهم إني لم أشهد، ولم آمر، ولم أرضَ حين بلغني.

وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: إذا ارتد ثلاثًا، ثم تاب في كل مرة - فإنه يحبس في الثالثة إذا تاب؛ حتى يظهر منه خشوع التوبة، وذلك أثر الثبات على توبته؛ فإن ظهر ذلك، فحينئذ يخلى سبيله؛ لما يحتمل أن تكون توبته فرارًا من القتل؛ فيحبس حتى تظهر حقيقة توبته؛ لأنه أظهر الفسق، والفاسق يحبس حتى يظهر خشوع التوبة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}

لا يحتمل أن يكون أراد بقوله: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} - البيان؛ على ما قاله قوم؛ لأنه قد تولى لهم البيان، لكنهم تعاندوا ولم يهتدوا؛ فدل أن ثم معنى منه سوى البيان لم

 يعطهم؛ لما علم أنهم لا يهتدون أبدًا، وهو التوفيق، فهذا يرد على من لا يجعل الهدى إلا بيانًا؛ إذ قد بين لهم ذلك.

* * *

١٣٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} بكذا.

البشارة المطلقة المرسلة لا تكون إلا بالخير خاصة، وأما إذا كانت مقيدة مفسرة فإنها تجوز في الشر؛ كقوله - تعالى -: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ} كذا، وكذلك قوله - تعالى -: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وفي القرآن كثير، ما ذكرها في الشر إلا مفسرة مقيدة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} - يدل هذا على أن الآية الأولى في أهل النفاق والمراءاة، علي ما ذكرنا من التأويل؛ لأنه لم يسبق فيما تقدم ذكر لهم سوى قوله - تعالى -: {آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولَهِ}. ويحتمل على الابتداء والانتناف على غير ذكر تقدم، وذلك جائز في القرآن كثير.

ثم فسر المنافقين فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}

ثم يحتمل قوله - تعالى -: {يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} قولا وفعلا:

أما القول: كقولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}، وغيره من الآيات.

وأما الفعل: فكانوا يمنعون المؤمنين أن يغزوهم؛ كقوله - تعالى -: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}، وكقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، وكقوله - تعالى -: {فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}، كانوا يمنعون أصحاب رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمسلمين عن أن يغزوهم ويقاتلوهم؛ فهم - وإن كانوا يُرُون

 من أنفسهم الموافقةَ للمؤمنين في الظاهر -فإنهم كانوا في الحقيقة- معهم؛ فهذا - واللّه أعلم - تأويل قوله: {يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ}.

قيل: قوله - تعالى -: {أَيَبْتَغُونَ} على طرح الألف وأنها زائدة، أي: يبتغون بذلك من عندهم العزة.

ثم يحتمل قوله - تعالى -: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} وجهين:

يحتمل: العزة: المنعة والنصرة، وكانوا يطلبون بذلك النصرة والقدرة عند الكافرين.

ويحتمل: ليتعززوا بذلك.

والأصل: أن حرف الاستفهام كله من اللّه - له حق الإيجاب، على ما يقتضي جوابه من حقيقة الاستفهام؛ إذ اللّه عالم لا يخفى عليه شيء يستفهم، جل عن ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا}

أي: والنصرة والقدرة، كله للّه، من عنده يكون، وبه يتعزز في الدنيا والآخرة، ليس من عند أُولَئِكَ الذين يطلبون منهم.

١٤٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّه يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا ... (١٤٠)

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} - هو ما ذكر في سورة الأنعام، وهو قوله - تعالى -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}، ثم قال: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}؛ لأنه نهاهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن القعود معهم إذا خاضوا في طعن القرآن وآيات اللّه؛ فأخبر أن ليس لهم من حسابهم من شيء إذا قعدوا.

ثم قال في هذه الآية: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}: نهاهم - عَزَّ وَجَلَّ - عن القعود معهم، وأخبر أنهم إذا فعلوا ذلك يكونوا مثلهم؛ فهو - واللّه أعلم - على النسخ: نسخ هذا الأول.

ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}

 في المشركين، لم يلحقهم من العقوبة والمآثم؛ لأنهم لا يقدرون على منع المشركين عن الاستهزاء بآيات اللّه والطعن فيها، ويقدرون على منع المنافقين عن ذلك؛ فشاركوهم في العقوبة فيما يقدرون على منعهم فلم يمنعوا، ورفع عنهم ذلك فيما لا يقدرون على دفعه.

وفيه دلالة أن من بلي بمنكر له قدرة التغيير على أهله، فلم يغير - أن يشاركهم في ذلك، أو إذا لم يكن له قدرة التغيير عليهم فلم يفارقهم، لكن أقام معهم - شاركهم أيضا في العقوبة؛ الواجب على كل من بُلي بذلك، وله قدرة التغيير عليهم - فعل، أي: أنكر عليهم وغيَّره، وإلا فارقهم؛ وإلا يُخاف أن يشاركهم في العقوبة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ اللّه جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} الآية.

لأنهم كانوا معهم في السر والحقيقة، وإن كانوا يظهرون للمؤمنين الموافقة باللسان؛ فهذا يدل على أن الحقائق في العواقب هو ما يسر المرء ويضمر، ليس ما يظهر؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الظاهر في جميع الأحكام: في الأنكحة، والعقود كلها، وإظهار الإيمان لهم باللسان، لكنهم إذا أضمروا خلاف ما أظهروا - لم ينفعهم ذلك؛ دل أن الحقائق في العواقب ما يسر ويضمر، واللّه أعلم.

١٤١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... (١٤١)

يحتمل وجهين:

يحتمل: يتربصون الغنيمة والنصر، فإن كان الفتح للمؤمنين قالوا: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الإيمان والأحكام كلها؛ يطلبون الغنيمة والاشتراك فيها؛ كقوله - تعالى -: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} الآية، وإذا كانت الدبرة والبوار على المؤمنين للكافرين يقولون: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بقولهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}، وكقوله - تعالى -: {قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} الآية: كانوا بين المسلمين كعيون لهم؛ يخبرونهم عن عوراتهم، ويطلعونهم على مقصود المؤمنين؛ فذلك مَنْعُهم من المؤمنين واستحواذهم عليهم، واللّه أعلم.

ويحتمل: {يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ}، يعني: أمر مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه عندهم بألا يدوم ذلك،

بل ينقطع عن قريب، واللّه أعلم.

ويحتمل: {يَتَرَبَّصُونَ} ما ذكر من قوله - تعالى -: {وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ}، ثم خرج تأويله في قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}، ثم خص ذلك بقوله - تعالى -: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} الآية؛ فبين أنهم يتربصون بهم انقلاب الأمر ورجوعه إلى أعداء اللّه؛ فمتى ظهرت لهم العواقب - أظهروا الذي له كان دينهم في الحقيقة - أنه كان لسعة الدنيا ونعيمها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. . .}، وقوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ} الآية.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} الآية.

يحتمل هذا -أيضًا- وجهين:

يحتمل: لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجج في الدنيا، أي: ليس للكافرين الحجة على المؤمنين في الدنيا من شيء، إلا أن يموه عليه، ويفتعل به ويعجز المؤمن في إقامة الحجة عليه، ودفع تمويهاته؛ وإلا ليس للكافر حجة يقيمها على المؤمن في الدنيا.

ويحتمل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} في الآخرة، على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم؛ لأن أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يشهدون عليهم؛ كقوله - تعالى -: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، ثم لا سبيل لهم على دفع شهادتهم التي شهدوا عليهم، وردها، واللّه أعلم.

وأيضًا: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}: في الحجة، أو في الشهادة، أو عند اللّه في الخصومة، وإنما دعوا إلى كتبهم إذا أجابوا اللّه فيما دعاهم إلى الإيمان بالكتب والرسل - عليهم السلام - أو في النصر؛ فيرجع أمره إلى العواقب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ}

الاستحواذ: الغلبة. وقيل: الاستيلاء.

 

وقَالَ بَعْضُهُمْ: ألم نخبركم بعورة مُحَمَّد وأصحابه ونطلعكم على سرهم، ونكتب به إليكم؟!.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: ألم نحط من وراءكم؟!.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ألم نستحوذ عليكم ومنعناكم من المؤمنين؟! ".

قال الكسائي: هذا في كلام العرب كثير ظاهر، ومعنى {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ} - إنا استحوذنا ومنعناكم، وهو ظريف.

وأصل الاستحواذ الغلبة والقهر، وهو ما ذكرنا أنهم يُجبنونَ أصحاب النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقولون: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

وحكم اللّه بينهم - واللّه أعلم - هو أن يُنزل المؤمنين الجنة، والمنافقين النار.

{وَلَنْ يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} في الحجة؛ على ما ذكرنا، وكذلك روي عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: قال: حجة. وقيل: ظهورًا عليهم، لكن الأول أشبه.

ويحتمل ما ذكرنا من الشهادة - أنه جعل يوم القيامة للمؤمنين الشهادة عليهم، ولم يجعل لهم إلى دفعها وردها على أنفسهم سبيلا، واللّه أعلم.

* * *

١٤٢

وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ}.

يحتمل قوله - تعالى -: {يُخَادِعُونَ اللّه}، أي: يخادعون أولياء اللّه أو دينه، فأضيف إليه؛ فهو جائز، وفي القرآن كثير؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللّه يَنْصُرْكُمْ}، أي: إن تنصروا دين اللّه أو أوليائه ينصركم، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ}، أي: يجزيهم جزاء خداعهم المؤمنين؛ فسمي: خداعًا - وإن لم يكن في الحقيقة خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، وهو كما سمى جزاء السيئة:

سيئة، وإن لم تكن الثانية -في الحقيقة- سيئة، وكذلك سمى جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء؛ فعلى ذلك سمى هذا: خداعًا؛ لأنه جزاء الخداع، واللغة غير ممتنعة عن تسمية الشيء باسم سببه؛ على ما ذكرنا، واللّه أعلم.

ثم اختلف في جهة الخداع؛ عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: يعطى المنافقين على الصراط نورًا كما يعطى المؤمنين؛ فإذا مضوا به على الصراط طفِئ نورهم، ويبقى نور المؤمنين يمضون بنورهم؛ فينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، فنجوز به؛ فتناديهم الملائكة: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}، وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع؛ فذلك قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وكذلك قال الحسن، ثم قال: فتلك خديعة اللّه إياهم.

وقال آخرون: يفتح لهم باب من أبواب الجنة؛ فإذا رأوا ذلك قصدوا ذلك الباب، فلما دنوا منه أغلق دونهم، فذلك الخداع، واللّه أعلم.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم شاركوا المؤمنين في هذه الدنيا ومنافعها، والتمتع والتقلب فيها؛ فظنوا أنهم يشاركونهم في منافع الآخرة والتمتع بها؛ فيحرمون ذلك، فذلك الخديعة، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ. . .} الآية.

جعل اللّه - تعالى - للمنافق أعلاما في قوله وفعله يعلم بها المنافق:

أما في القول: ما قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}،

وقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ}، وقوله - تعالى -: {قَدْ يَعْلَمُ اللّه الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا. . .} الآية.

وأما في الفعل فهو قوله - تعالى -: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللّه إِلَّا قَلِيلًا}،

وقوله: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا}، أي القتال، وقوله - تعالى -: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. . .} الآية، ومثله كثير في القرآن، مما جعل ذلك علامة لهم، وهو كقوله - تعالى -: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ. . .} الآية، وكقوله - تعالى -: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. . .} الآية، يراءون في جميع أفعالهم - الناس.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " يراءون الناس واللّه يعلم ما في قلوبهم ولا يذكرون اللّه إلا قليلا ".

عن الحسن في قوله - تعالى -: {وَلَا يَذْكُرُونَ اللّه إِلَّا قَلِيلًا} - فقال: أما واللّه لو كان ذلك القليل منهم للّه لقبله، ولكن ذلك القليل رياء.

وقيل: لو كان ذلك القليل للّه يريدون به وجهه، فقبله - لكان كثيرًا، ولكن لا يقبله؛ فهو لا شيء. وقد يتكلم بالقليل واليسير على إرادة النفي من الأصل، واللّه أعلم.

وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم -: " مَنْ أحْسَنَ الصلَاةَ حَيثُ يَرَاهُ النَّاسُ، وَأَسَاءَهَا حَيثُ يَخْلُو - فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ ".

وروي في علامة المنافق أخبار:

روى أبو هريرة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " إِن للمُنَافِقِ عَلَامَاتٍ، يُعرَفُونَ بِهَا: تَحِيتُهُم لَعْنَة، وَطَعَامُهُم نُهْبة، وَغَنيمَتُهُم غُلُوا، لَا يَقْرَبُونَ المَسَاجِدَ إِلا هَجْرًا، وَلَا يَأتُونَ الصلَاةَ إِلأ دُبُرًا ".

وعن عبد اللّه بن عمرو - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أَرْبعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ "، وروي: ثلاث.

ورُوي عن عبد اللّه قال: اعتبروا المنافق بثلاث: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وِإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذا عاهد غدر. ثم قرأ الآيات: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ. . .} الآية.

وعن وهب قال: من خصال المنافق: أن يحب الحمد، ويكره الذم.

١٤٣

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ... (١٤٣)

قال أكثر أهل التأويل: ليسوا بمسلمين مخلصين ولا مشركين مصرحين. وهو -أيضًا- قول قتادة.

وقال مقاتل: ليسوا مع اليهود فيظهرون ولايتهم لهم، وليسوا مع المؤمنين في التصديق مع الولاية.

ويحتمل غير هذا: وهو أنه لم يظهر لكل واحد من الفريقين منهم الموافقة لهم والكون معهم؛ بل ظهر منهم الخلاف عند كل فريق؛ لأنهم كانوا أصحاب طمع، عُبَّادَ أنفسهم، يكونون حيث رأوا السعة معهم؛ فلا إلى هَؤُلَاءِ في حقيقة الدِّين عند أنفسهم، ولا إلى هَؤُلَاءِ، فذلك - واللّه أعلم - تأويله.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}

قيل: حجة؛ على ما قيل في الأول.

وقيل: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}، يعني: هدى وطريقًا مستقيمًا، واللّه أعلم.

وعن الحسن: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}؛ ما دام كافرًا؛ فإذا تاب ورجع عن ذلك فله السبيل.

١٤٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... (١٤٤)

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: نزلت في المنافقين الذين اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ سماهم اللّه - تعالى - مؤمنين بإقرارهم بالإيمان علانية، وتوليهم الكافرين سرا، أو أن يقال: سموا مؤمنين؛ لما كانوا ينتسبون إلى المؤمنين؛ فسموا بذلك.

وقيل: نزلت في المؤمنين، نهاهم أن يتخذوا المنافقين أولياء بإظهارهم الإيمان علانية، وأمرهم أن يتخذوا المؤمنين أولياء.

ثم وجه النهي في الولاية واتخاذهم أولياء يكون من وجوه:

يحتمل: النهي عن ولايتهم ولاية الدِّين، أي: لا تثقوا بهم، ولا تصدقوهم، ولا تأمنوهم في الدِّين؛ فإنهم يريدون أن يصرفوكم عن دينكم؛ كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الآية.

ويحتمل: النهي عن اتخاذهم أولياء في أمر الدنيا؛ كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا. . .} الآية. نهي - عز وجل - المؤمنين أن يجعلوا المنافقين موضع سرهم في أمر من أمور الحرب وغيره.

والثالث: في كل أمر، أي: لا تصادقوهم، ولا تجالسوهم، ولا تأمنوهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للّه عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا}

أي: تجعلون للّه عليكم سلطانًا مبينًا.

قيل: عذرًا مبينًا.

وقيل: حجة بينة يحتج بها عليكم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للّه عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} فهو - واللّه أعلم - الإرادة، وهي صفة كل فاعل في الحقيقة، وحرف الاستفهام من اللّه إيجاب؛ فكأنه قال: قد جعلتم للّه في تعذيبكم حجة بينة يعقلها الكل؛ إذ ذلك يكون - وهو اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين - حجة ظاهرة في لزوم المقت.

وجائز أن تكون الإضافة إلى اللّه ترجع إلى أولياء اللّه؛ نحو الأمر بنصر اللّه، والقول بمخادعة اللّه، وكان ذلك منهم حجة بينة عليهم لأولياء اللّه: أنهم لا يتخذون الشيطان وليا، وأولياء: عبادة غير اللّه اتخذوه، ولا قوة إلا باللّه.

١٤٥

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... (١٤٥)

الدرك: بالجزم والفتح - لغتان، وهما واحد؛ يقال: للجنة درجات وغرفات، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.

وقيل: كلما كان أسفل - كان العذاب فيها أشد؛ ألا ترى أنه أخبر عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ}، فلو لم يكن من أسفل منهم في الدركات أشد عذابًا - لم يكن لقولهم: {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ}، معنى؛ فدل أن كل ما كان أسفل من الدركات - كان في العذاب أشد، واللّه أعلم.

وذكر أن النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ذكر [عبد المطلب وهشام بن المغيرة] (١) فقال: " هُما مِنْ أَدْنَى أَهْلِ النًارِ عَذَابًا، وَهُمَا فِي ضَحْضاع مِنَ النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا، وَأَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: فِي رِجْلَيهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلي بِهِمَا دِمَاغُهُ ".

وعن ابن مسعود - رضي اللّه عنه -: قال: الأدراك: توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار.

وقيل: إن العذاب في النار واحد في الظاهر، وهو مختلف في الحقيقة؛ وأيد ذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}، لكن بعضهم لا يشعر بعذاب غيرهم؛ كقوله: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ}، سألوا ربهم أن يجعل لهم ضعفًا من العذاب؛ جزاء ما أضلوا، فأخبر أن لكل ضعفًا من الأئمة.

ثم لتخصيص المنافقين في الدرك الأسفل من النار دون سائر الكفرة وجوه ثلاثة:

أحدها: أنهم كانوا يسعون في إفساد ضعفة المسلمين، ويشككونهم في دينهم، ويتكلفون في إخراجهم من الإيمان، وكان ذلك دأبهم وعادتهم؛ فاستوجبوا بذلك - (١) المشهور أنه أبو طالب لا عبد المطلب، ولعله تصحيف. واللّه أعلم.

وهذا نص الحديث في مسلم:

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللّه صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ». اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).

 ذلك العذاب؛ جزاء لإفسادهم، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون ذلك لهم؛ لأنهم كانوا عيونًا للكفرة، وطلائع لهم، يخبرون بذلك عن أخبارهم وسرائرهم، ويطلعون على عوراتهم، فذلك سعى في أمر دينهم ودنياهم بالفساد؛ كقوله: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} الآية.

ويحتمل وجهًا آخر: وهو أنهم لم يكونوا في الأحوال كلها أهل دين يقيمون عليه في حال الرخاء والضيق؛ ولكن كانوا مع السعة والرخاء حيث كان، ولا كذلك سائر الكفرة، بل كانوا في حال الرخاء والشدة على دين واحد: يعبدون الأصنام، وأُولَئِكَ مع المؤمنين في حال إذا كانت السعة معهم، ومع الكافرين في حال إذا كانت السعة معهم، لا يقرون على شيء واحد، مترددون بين ذلك؛ كما قال اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ}: الآية، والكفرة عبدوا من عبدوا؛ على رجاء التقريب إلى اللّه، وأمر اللّه - تعالى - لهم بذلك؛ ليكونوا لهم شفعاء عند اللّه، وأهل النفاق لم يكونوا يعبدون غير بطونهم ومن معه شهواتهم؛ فلذلك ازداد عذابهم على عذاب غيرهم، ولما جَمَعُوا إلى الكفر باللّه - المخادعة والتغرير وإغراء الأعداء واستعلاءهم، ولما قد أشركوا الفرق كلهم في اللذات وفي طلب الشهوات؛ فعاد إليهم ما استحق كل منهم من العقوبة، وبما بذلك شاركوا في كل المعاصي، أو سبيلها إعطاء الأنفس الشهوات مع ما فيهم تغرير ضعفة المؤمنين، والتلبيس عليهم، ولا قوة إلا باللّه.

١٤٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ... (١٤٦)

عن ابن عَبَّاسٍ قال: {تَابُوا} من النفاق، و {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم، و {وَاعْتَصَمُوا بِاللّه}، ويقول: وثقوا باللّه.

وقيل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللّه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للّه فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}.

يقول: من المؤمنين، أي: صاروا كسائر المؤمنين.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وأُبَي: " إلا الذين تابوا، ثم آمنوا باللّه والرسول والكتاب الذي أنزل إليه من ربه وما أنزل إلى النبيين من قبل، ثم أخلصوا دينهم

 للّه واعتصموا به، أُولَئِكَ مع المؤمنين، وسوف يؤتى اللّه المؤمنين أجرًا عظيمًا ".

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للّه} قال: لم يراءوا، وكانت سريرتهم كعلانيتهم أو أفضل.

١٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ... (١٤٧)

تأويله - واللّه أعلم - أن ليس للّه - عَزَّ وَجَلَّ - حاجة في تعذيبه إياكم إن صدقتم وآمنتم، ولكن الحكمة توجب تعذيب من كفر به؛ وإلا ليس له حاجة في تعذيبكم، واللّه أعلم.

ويحتمل أن يكون هذا في قوم أفرطوا في التكذيب ومعاندة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فظنوا أنهم إن آمنوا به وصدقوه - لم يغفر لهم ما كان منهم من الإفراط في التكذيب، والتمرد وفي المعاندة؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لا يعذبهم إن آمنوا به - بما كان منهم من الكذب والعناد؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، واللّه أعلم.

ثم الشكر فيما بين الخلق - يكون على الجزاء والمكافأة؛ كقوله: " من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه ".

وأما فيما بينهم بين ربهم: فهو على غير الجزاء والمكافأة؛ إذ ليس في وسعهم القيام بأداء شكر أصغر نعمة أنعمها عليهم عُمْرَهم؛ فدل أنه ليس يخرج الأمر على ما به أمر المكافأة؛ ولكنه يخرج على وجوه:

الأول: على معرفة النعم أنها منه.

والثاني: على معرفة التقصير والاعتراف بالعجز - عن أداء شكرها.

والثالث: ألا يستعملها إلا في طاعة ربه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه شَاكِرًا عَلِيمًا}

يقبل الإيمان بعد الجحود والتكذيب؛ إذا تاب.

وقيل: {شَاكِرًا} أي: يقبل القليل من العمل إذا كان خالصًا، ليس كملوك الأرض لا يقبلون اليسير من الأشياء.

 وقيل: {شَاكِرًا}: يقبل اليسير من العمل، ويعطي الجزيل من الثواب، وذلك هو الوصف في الغاية من الكرم، واللّه أعلم.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " ما يعبأ اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان اللّه شاكرًا لأعمالكم الحسنة عليمًا بها " وهو ما ذكرنا، واللّه أعلم.

* * *

١٤٨

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}.

اختلف في تأويله وتلاوته:

قَالَ بَعْضُهُمْ: {لَا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} من الدعاء إلا من ظلم؛ فإنه لا بأس أن يدعوا إذا كان مظلومًا.

وقال آخرون: {لَا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ} هو الشتم؛ أخبر أنه لا يحب ذلك لأحد من الناس، ثم استثنى (إلا مَنْ ظُلِمَ) واعْتُدِيَ عليه؛ فإن رد عليه مثل ذلك، فلا حرج عليه.

وكذلك قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {لَا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} أن يشتم الرجل المسلم في وجهه، إلا أن يشتمه فيرد كما قال، وذلك قول اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، وإن يعفو فهو أفضل.

وقرأ بعضهم: " إِلَّا مَنْ ظَلَمَ " (١) بالنصب، فهو يحتمل: إلا من ظلم؛ فإن له الجهر (١) قال السمين:

وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عباس وابن عمر وابن جبير والحسن: «ظَلَمَ» مبنياً للفاعل، وهو استثناء منقطع، فهو في محل نصب على أصل الاستثناء المنقطع. اهـ (الدر المصون. ٤/ ١٣٥).

بالسوء من القول، وإن لم يكن له ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}؛ فإنهم -وإن لم يكن لهم حجة عليكم- فإنهم يحتجون عليكم؛ فعلى ذلك الظالم، وإن لم يكن له الجهر بالسوء من القول فإنه يفعل ذلك، واللّه أعلم.

ومن قرأ: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}: بالرفع -فتأويله ما ذكرنا- واللّه أعلم -: أنه لا يبيح لأحد الجهر بالسوء من القول إلا المظلوم؛ فإنه يباح له أن يدعو على ظالمه، وينتصر منه.

والثاني: ما قيل: من سبَّ آخر، فإنه لايباح له ولا يؤذن أن يرد عليه مثله وينتصر منه.

وقيل: نزلت الآية في أبي بكر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - شتمه رجل بمكة، فسكت عنه ما شاء اللّه، ثم انتصر؛ فقام النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتركه.

وعن الحسن قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا؛ فَهُوَ عَلى البَادِئ حَتَّى يَعْتديَ المَظْلومُ ".

وقال: " ألا لا تَسْتَبُّوا، فَإِنْ كُنْتُم فَاعِلينَ لَا مَحَالَةَ، فَعَلِمَ الرَّجُلُ مِنْ صَاحِبِهِ - فَلْيَقُلْ: إِنَكَ لَجَبَّارْ، وَإِنَكَ لَبَخِيلٌ ".

وأصل هذا الاستثناء أن الأول - وإن لم يكن من نوع ما استثنى - فهو جزاؤه، وجزاء الشيء يسمى باسمه؛ كما سمى اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جزاء السيئة: سيئة؛ بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}، وسمي جزاء الاعتداء: اعتداء، وإن لم يكن الثاني اعتداء ولا سيئة؛ فعلى ذلك استثنى {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، وإن لم يكن من نوعه؛ لأنه جزاء الظلم والاعتداء، واللّه أعلم.

وقيل: إن الآية نزلت في الضيف ينزل بالرجل فلا يضيفه، ولا يحسن إليه؛ فجعل له أن يأخذه بلسانه، وإلى هذا يذهب أكثر المتأولين، لكنه بعيد.

 وفي قوله: {لَا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} دليل على أنه ليس في إباحة الشيء في حال - يوجب حظره في حال أخرى؛ لأنه نهي عن الجهر بالسوء من القول، ثم لم يدل ذلك على أنه لا ينهى عن ذلك في غير حال الجهر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه سَمِيعًا عَلِيمًا}.

بجهر السوء، (عَلِيمَا به.

١٤٩

ثم قال: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ... (١٤٩)

يحتمل - واللّه أعلم - أن العفو والتجاوز خير عند اللّه من الانتصار؛ فيحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أن يكون على الترغيب: رغبهم - عَزَّ وَجَلَّ - بالعفو عن السوء والمظلمة، فكما أنه يعفو عن خلقه، ويتجاوز عنهم مع قدرته على الانتقام - فاعفوا أنتم عن ظالمكم أيضًا، وإن أنتم قدرتم على الانتصار والانتقام منهم، فيكون لكم بذلك عند اللّه الثواب.

ويحتمل: أن يأمرهم بالعفو عن مظالمهم؛ ليعفو - عَزَّ وَجَلَّ - عن مظالمهم التي فيما بينهم وبين ربهم؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {فَإِنَّ اللّه كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} - واللّه أعلم - فإن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو صاحبكم المسيء إليكم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: اللّه أجدر وأحرى أن يعفو عنك إذا عفوت عن أخيك في الدنيا، وهو على ذلك أقدر.

* * *

١٥٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّه وَرُسُلِهِ} يحتمل وجهين:

يحتمل قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ. . .} أي: يريدون، أن يفرقوا بين اللّه ورسله؛ فيكون قوله: {يَكْفُرُونَ بِاللّه}: في الدهرية؛ لأنهم

 يكفرون باللّه، ولا يؤمنون به، ويقولون بقدم العالم، فذلك فيهم،

وقوله: {وَرُسُلِهِ} يكون في الذين يؤمنون بِاللّه ويكفرون بالرسل كلهم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّه وَرُسُلِهِ}:

في الذين كفروا ببعض الرسل وآمنوا ببعض الرسل، ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض.

ثم أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عنهم جميعًا -مع اختلاف مذاهبهم- أنهم كفار، وحقق الكفر

١٥١

فيهم بقوله - تعالى -: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ... (١٥١)

ويحتمل أن يكون فيمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعض الرسل؛ فيكون الكفر ببعض الرسل كفرًا باللّه، وبجميع رسله، وبجميع كتبه؛ لأن كل واحد من الرسل يدعو الخلق كلهم إلى الإيمان باللّه، والإيمان بجميع الرسل والكتب، وإذا كفر بواحد منهم - كفر بِاللّه وبالرسل جميعًا، واللّه أعلم.

وقوله - تعالى -: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا}

أي: ويتخذون غير ذلك سبيلا؛ على طرح إرادة " أن "، أي: يتخذون بين ذلك، أي: بين إيمان ببعض الرسل، وكفر ببعض الرسل - دينًا؛ فذلك لا ينفعهم إذا كفروا ببعض الرسل.

وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.

يحتمل وجهين:

يحتمل: أُولَئِكَ هو الكافرون الذين حق عليهم الكفر باللّه.

والثاني: يكفرون ببعض الرسل؛ أنهم - وإن كفروا ببعض الرسل - فقد حق عليهم الكفر باللّه تعالى؛ لأن الكفر بواحد من الرسل كفر باللّه وبالرسل جميعًا.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا}. قوله: {مُهِينًا}: يهانون فيه. ثم نعت المؤمنين

١٥٢

فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ... (١٥٢)

يعني: من الرسل، وقالوا: {آمَنَّا بِاللّه وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ}

 إلى آخر ما ذكر.

وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة؛ لأنهم لا يسمون صاحب الكبيرة مؤمنًا، وهو قد آمن باللّه ورسله ولم يفرق بين أحد من رسله؛ فدخل في قوله - تعالى -: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} وهم يقولون: لا يؤتيهم أجورهم.

{وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَحِيمًا}.

أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه لم يزل غفورًا رحيمًا، وهم يقولون: لم يكن غفورا رحيما ولكن صار غفورا رحيمًا، وباللّه العصمة.

* * *

١٥٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ}.

قيل في أحد التأويلين: كان يريد كل أحد منهم أن يأتي إلى كل رجل منهم بكتاب: أن محمدًا رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وهو كقوله - سبحانه وتعالى -: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}، وكقوله - تعالى -: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ}.

وقيل: سألوا أن يأتيهم بكتاب جملة مثل التوراة؛ مثل قولهم: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}، كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؛ لأنهم يقولون: إن هذا القرآن من اختراع مُحَمَّد واختلاقه؛ لأنه لو كان من عند اللّه نزل، لنزل جملة كما نزلت التوراة جملة غير متفرقة؛ فأخبر أنهم: {سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّه جَهْرَةً}، وقد سألوا محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مثل سؤال أُولَئِكَ موسى، وهو قوله: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، يعزي - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويصبره على أذاهم، يقول - واللّه أعلم -: إنهم سألوا آيات على رسالته، فأتى بها، فلم يؤمنوا به، يخبر

 أن سؤالهم سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد؛ لأن سؤالهم لو كان سؤال استرشاد - لكان إذا أُتُوا بها قبلوها؛ ولذلك أخذهم العذاب بقوله - تعالى -: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}؛ لأنهم كانوا يسألون سؤال تعنت، لا سؤال رشد.

وفي الآية دلالة أن المسئول لا يلزمه الدليل على شهوة السائل وإرادته؛ ولكن يلزمه أن يأتي بما هو دليل في نفسه.

وفيه دلالة له -أيضًا- أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنه لما قال: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ. .} - لم يخطر ببال أحد أنه أراد المجوس بقوله: {أَهْلُ الْكِتَابِ}، واللّه أعلم. فبطل قول من قال: بأنهم من أهل الكتاب، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ}

الصاعقة: هي العذاب الذي فيه الهلاك، وقد ذكرناه فيما تقدم، وإنما أخذهم العذاب بكفرهم بموسى بعد ما أتاهم موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بآيات الرسالة، لا بسؤالهم الرؤية؛ لأنه لو كان ما أخذهم من العذاب إنما أخذ بسؤال الرؤية، لكان موسى بذلك أولى؛ حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؛ فدل أن العذاب إنما أخذهم بتعنتهم وبكفرهم بعد ظهور الآيات لهم أنه رسول اللّه، وذلك قوله - تعالى -: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} يخبر نبيه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن شدة تعنتهم في تكذيب الرسل، وكثرة تمردهم وسفههم؛ ليصبر على أذى قومه، ولا يظن أنه أول مكذَّب من الرسل.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}

قيل: السلطان المبين يحتمل الآيات التي أراهم، ما يعقل كل أحد -إن لم يعاند ولا كابر- أنها سماوية؛ إذ هي كانت خارجة عن الأمر المعتاد بين الخلق، من نحو: اليد البيضاء، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك.

١٥٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ... (١٥٤)

حين لم يقبلوا التوراة؛ فعند ذلك قبلوا، ثم أخذ عليهم الميثاق بذلك، وهو ما ذكرنا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}.

عن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: {وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}، يقول: لا

 تعملوا في السبت عملا من الدنيا، وتفرغوا فيه للعبادة.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " وقلنا لهم لا تَعدّوا في السبت ":

وقال أبو معاذ: ويقرأ: " لا تَعَدَّوْا في السبت "؛ على معنى لا تتعدوا، تلقى إحدى، التائين، وإن شئت: تعتدوا، لم تدغم التاء في الدال.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}.

هو ما ذكر، قال ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: من أرسل اللّه إليه رسولا فأقر به - فقد أوجب على نفسه ميثاقًا غليظًا.

وقال مقاتل: الميثاق الغليظ: هو إقرارهم بما عهد اللّه إليهم في التوراة.

١٥٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللّه ... (١٥٥)

قال الكسائي: " ما " - هاهنا - صلة: فبنقضهم ميثاقهم.

وفي حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " وكفرهم بآيات اللّه من بعد ما تبينت ".

وقال مقاتل: فبنقضهم إقرارهم بما في التوراة، وبكفرهم بآيات اللّه، يعني: بالإنجيل والقرآن، وهم اليهود.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}

يحتمل على حقيقة القتل، ويحتمل على القصد والهم في ذلك، وقد هموا بقتل رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - غير مرة.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: قال كانوا يقتلون الأنبياء، وأما الرسل - عليهم السلام - فكانوا معصومين، لم يقتل رسول قط؛ ألا ترى أنه قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ}.

قيل فيه بوجهين:

أحدهما: أنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، لا تسمع شيئًا إلا حفظته؛ فالقرآن في هذا الوجه غلف.

والثاني: قالوا: قلوبنا في أَكِنَّة مما تقول، لا تعقل ما تقول؛ فالقراءة في هذا الوجه

 غلف فيه.

ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.

يحتمل أن يكون هذا جوابًا وردًا على قولهم: إن قلوبنا أوعية للعلم، لا تسمع شيئا إلا وعته؛ أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه طبع على قلوبهم بكفرهم؛ فلا يفقهون شيئا، واللّه أعلم.

* * *

١٥٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}.

قال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: قذفوها بالزنا، وهو قولهم: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}.

وقيل في قوله - تعالى -: {وَبِكُفْرِهِمْ} أي: كفرهم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبالقرآن، وقولهم على مريم ما قالوا: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}.

١٥٧

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ... (١٥٧)

قيل: سمي مسيحًا؛ لأن جبريل - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مسحه بالبركة؛ فهو كالممسوح الفعيل، بمعنى: المفعول، وذلك جائز في اللغة.

وقيل: المسيح، بمعنى: ماسح؛ لأنه كان يمسح المريض والأبرص والأكمه فيبرأ؛ فسمي لذلك مسيحًا، وذلك جائز الفعيل بمعنى فاعل، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه. . .} الآية.

لبعض الناس تعلق بهذه الآية بوجهين:

أحدهما: في احتمال الغلط والخطأ في المشاهدات والمعاينات.

والثاني: في احتمال المتواتر من الأخبار الغلط والكذب؛ وذلك أنه قيل في القصة: إن اليهود طلبت عيسى - عليه السلام - ليقتلوه، فحاصروه في بيت ومعه نفر غير أصحابه من الحواريين، فأدركهم المساء؛ فباتوا يحرسونه؛ فأوحى اللّه - تعالى - إلى عيسى - عليه

السلام -: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}؛ فأخبر أصحابه،

وقال: أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي فيقتل، ويجعله اللّه يوم القيامة معي وفي درجتي؟ فقال رجل منهم: أنا يا رسول اللّه؛ فألقى اللّه - تعالى - عليه شبهه ورفع عيسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح القوم أخذوا الذي ألقى اللّه عليه شبهه؛ فقتلوه، وصلبوه.

وقيل: إنه أُلقي شبهه على رجل من اليهود.

وقيل: إنه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما هموا بقتله التجأ إلى بيت، فدخل فيه، فإذا هم قد جاءوا في طلبه، فدخل رجل منهم البيت ليقتله، فأبطأ عليهم؛ فظنوا أنه قد قتله، فلما خرج وقد أُلقي شبهه عليه؛ فقتلوه، وقالوا لما قتلوا ذلك الرجل، وعندهم أنه عيسى؛ لما كان به شبهه، ثم لم يكن ذلك عيسى فلا يمنع أيضًا أن ما يشاهد ويعاين أنه -في الحقيقة- على غير ذلك، كما شاهد أُولَئِكَ القوم وعاينوا، وعندهم أنه عيسى، ثم لم يكن، واللّه أعلم.

ثم الخبر -أيضًا- قد تواتر فيهم بقتل عيسى، فكان كذبًا ما يمنع -أيضًا- أن الأخبار المتواترة يجوز أن تخرج كذبًا وغلطًا.

قيل: أما الخبر بقتله إنما انتشر عن ستة أو سبعة؛ على ما ذكر في القصة، والخبر الذي كان انتشاره بذلك القدر من العدد، هو من أخبار الآحاد عندنا.

وأما قوله - تعالى -: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.

يجوز أن يكون ذلك التشبيه تشبيه خبر أنه قتل من إلقاء الشبه على غيره، وقتله حقيقة؛ وذلك أنه ذكر في بعض القصة: أنهم لما طلبوه في ذلك البيت فلم يجدوه، ولم يكن غاب أحد منهم - قالوا: قتلناه؛ لأنهم قالوا: إنه دخل البيت، فدخلوه على أثره، فلم يجدوه - كان ذلك إنباء عن عظيم آيات رسالته؛ فلم يحبوا أن يقولوا ذلك، فقالوا:

 قتلناه، كذبًا؛ فذلك تشبيه لهم، واللّه أعلم.

فإن احتمل هذا - لم يكن ما قالوا من تخطئة العين لهم درك، ولو كان ما قال أهل التأويل من إلقاء شبهه عليه؛ فذلك من آيات رسالته، أراد اللّه أن تكون آياته قائمة بعد غيبته عنهم، وفي حال إقامته بينهم، واللّه أعلم.

وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} قيل: لفي شك، من قتل عيسى - عليه السلام - قتل أو لم يقتل؛

وقيل: {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} في عيسى، أي: على الشك يقولون ذلك.

قال اللّه - تعالى -: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ}.

أي: ليس لهم بذلك إلا اتباع الظن: إلا قولا منهم بظنهم في غير يقين.

{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}.

أي: ما قتلوا ظنهم يقينًا؛ {بَل رفَعَهُ اللّه}.

وقيل: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} أي: يقينًا ما قتلوه.

١٥٨

(بَلْ رَفَعَهُ اللّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨)

قيل: عزيزا حين حال بينهم وبين عيسى أن يقتلوه ويصلوا إليه.

{حَكِيمًا}.

حكم أن يرفعه اللّه حيَّا. وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: {وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا} في أن رسله يكونون معصومين، وهو قوله - تعالى -: {كَتَبَ اللّه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢). وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

١٥٩

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ... (١٥٩)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هو أي: قبل موت عيسى، إذا نزل من السماء - آمنوا به أجمعين، وبه يقول الحسن.

وقال الكلبي: إن اللّه - تعالى - إذا أنزل عيسى - عليه السلام - عند مخرج الدجال، فقتل الدجال - يؤمن به بقية أهل الكتاب؛ فلا يبقى يهودي ولا نصراني إلا أسلم.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل موت الكتابي؛ لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى، عليه السلام. وكذلك رُوي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى - عليه السلام قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: وإن ضرب بالسيف.

وقال: هي في حرف أُبَي: " إلا ليؤمنن به قبل موتهم ".

لكن التأويل إن كان هو الثاني؛ فهو في رؤسائهم الذين كانت لهم الرياسة، فلم يؤمنوا؛ خوفًا على ذهاب تلك الرياسة والمنافع التي كانت لهم، فلما حضرهم الموت أيقنوا بذهاب ذلك عنهم؛ فعند ذلك يؤمنون، وهو - واللّه أعلم - كقوله - تعالى -: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. . .} الآية، لكن لا ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت؛ كقوله - تعالى -: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ}؛ لأنه إيمانُ دفع العذاب والاضطرار؛ كقوله - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ. . .} الآية؛ فكان إيمانهم إيمان دفع العذاب عن أنفسهم، لا إيمان حقيقة؛ لأنه لو كان إيمان حقيقة لقبل، ولكن إيمان دفع العذاب؛ كقول فرعون حين أدركه الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ}، فلم يقبل منه ذلك؛ لأنه إيمان دفع العذاب، وإيمان الاضطرار، لا إيمان حقيقة؛ فعلى ذلك الأول، وباللّه التوفيق.

وقيل في حرف ابن مسعود - رضي اللّه عنه -: " وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به قبل موته ".

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " وإن كل أهل الكتاب لما ليؤمنن به قبل موته ".

وقيل: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ} قيل: باللّه.

وقيل: بعيسى.

 وقيل: بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ ذلك أن عيسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا نزل يدعو الناس إلى الإيمان بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}

قيل: إنه يكون عليهم شهيدًا بأنه قد بلغ رسالة ربه إليهم، وأقر على نفسه بالعبودية.

وقيل: الشهيد: الحافظ.

وقيل: " ويوم القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا ".

وقيل: يكون مُحَمَّد عليهم شهيدًا، وهذا كله محتمل، واللّه أعلم ما أراد.

* * *

١٦٠

وقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}

لولا آية أخرى سوى هذه؛ وإلا صرفنا قوله - سبحانه وتعالى -: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} على المنع، دون حقيقة التحريم؛ لأنهم أهل كفر؛ فلا يبالون ما يتناولون من المحرم والمحلل، ولا يمتنعون عن التناول من ذلك؛ فإذا كان ما ذكرنا - فيجيء أن يعود تأويل الآية إلى المنع؛ كقوله - تعالى -: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ}، فليس هو على التحريم؛ ولكن على المنع؛ أي: منعناه؛ فلم يأخذ من لبن المراضع دون لبن أمه؛ فعلى ذلك يجب أن يكون الأول.

 ثم المنع لهم يكون من وجهين:

أحدهما: منع من جهة منع الإنزال؛ لقلة الأمطار والقحط؛ كسني يوسف - عليه السلام - وسني مكة، على ما كان لهم من القحط.

والثاني: منع من جهة الخلق: ألا يعطوا شيئًا، لا بيعًا ولا شراء ولا معروفًا.

ولكن في آية أخرى بيان أن قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} - أنه على التحريم، ليس على المنع، وهو قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ}: أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن ذلك جزاء بغيهم؛ فدل ما ذكرنا في الآية أن ذلك على حقيقة التحريم؛ لما يحتمل أن يكونوا لا يستحلون ما ذكر في الآية، ولكن كانوا يتناولون الربا على غير الاستحلال؛ فحرم ذلك عليهم.

وفي قوله - تعالى -: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} دلالة لأصحابنا - رحمهم اللّه - في قولهم: إن من قد أَقَرَّ، فقال: هذا الشيء لفلان اشتريته منه - أنه له، ولا يؤخذ منه؛ وإلا في ظاهر قوله: هذا الشيء لفلان اشتريته منه - أنه إذا اشتراه منه لا يكون لفلان؛ فيكون ذلك منه إقرارًا له، لكنه على الإضمار؛ كأنه قال: هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه.

وكذلك قوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} أي: كانت أحلت لهم، وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - وحرف ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنهما -: " حرمنا عليهم طيبات كانت أحلت لهم ".

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللّه كَثِيرًا}

أي: بصدهم الناس عن سبيل اللّه كثيرًا، يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: أنهم صدوا من يستجهلون ويستسفهون عن سبيل اللّه: كانوا يدلون على الباطل وعلى غير سبيل اللّه، فذلك الصد محتمل.

ويحتمل: أنهم كانوا يصدون عن سبيل اللّه بالقتال والحرب.

١٦١

وقوله: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ... (١٦١)

دل أن الربا لم يزل محرمًا على الأمم كلها كما حرم على هذه الأمة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل أكل أموالهم بالباطل: هو الرشوة؛ كقوله - تعالى -: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ}، قيل: هو الرشوة.

وقيل: ما كانوا ينالون من أموال الأتباع والسفلة؛ بتحريفهم التوراة لهم، وهو قول ابن عباس، رَضِيَ اللّه عَنْهُ.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.

الآية ظاهرة.

١٦٢

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ... (١٦٢)

استثنى الراسخين في العلم منهم. والرسخ: هو ثبات الشيء في القلب؛ يقال: رسخ العلم في القلب، ورسخ الإيمان في القلب.

وقوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ}

[رُويَ عن عائشة - رضي اللّه عنها - أنها قالت: هذا خطأ من الكاتب؛ هو: " المقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة "] (١).

وكذلك في حرف ابن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: " والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة ".

وقال الكسائي: وجه قراءتنا: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ (١) هذه الرواية لا تثبت ولا تصح، وهي من وضع الزنادقة. واللّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

الصَّلَاةَ) يقول: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بإقامة الصلاة؛ كما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في سورة البقرة {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّه}، معناه: ولكن البر الإيمان بِاللّه.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله - تعالى -: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} يعني: الرسل.

 وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " لكن الراسخون في العلم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة والمؤمنون باللّه واليوم الآخر سوف نؤتيهم أجرًا عظيمًا "، وكذلك في حرف أبي: {المُقِيمِينَ الصَّلاةَ} بالنصب.

١٦٣

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}

قيل فيه بوجوه:

قيل: قوله: {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} الكاف صلة زائدة، ومعناه: إنا أوحينا إليك ما أوحينا إلى نوح ومن ذكر من بعده، أي: لا يختلف ما أنزل إليك وما أنزل إلى غيرك من الرسل؛ وهو كقوله - تعالى - {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}، {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى}.

وقيل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من الحجج والآيات " كما أوحينا إلى نوح " ومن ذكر من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا، أي: قد أعطاك اللّه، من الحجج والآيات ما يدل على رسالتك ونبوتك؛ كما أعطى أُولَئِكَ من الحجج والآيات على صدق ما ادعوا من الرسالة والنبوة، ثم لم يؤمنوا.

وقيل: إن اليهود قالوا: إن محمدًا لو كان رسولا - لكان يؤتى كتابًا جملة، كما أوتي موسى كتابًا جملة من غير وحي؛ فقال اللّه - تعالى -: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وحيًا من غير أن أوتي كل منهم كتابًا جملة كما أوتي موسى، ثم كان أُولَئِكَ رسلاً؛ فعلى ذلك مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رسول وإن لم يؤت كتابًا كما أوتي موسى، وللّه أن يفعل ذلك: يؤتي من شاء كتابًا جملة مرة، ومن شاء يوحي إليه بالتفاريق، واللّه أعلم

 بذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. . .} ومن ذكر.

يحتمل ذكر إبراهيم ومن ذكر من أولاده بعد قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ} - على التخصيص لإبراهيم ومن ذكر؛ لأنه ذكر النبيين من بعد نوح؛ فدخلوا فيه، ثم خصهم بالذكر؛ تفضيلأ وتخصيصًا لهم.

ويحتمل أن يكون قوله - تعالى -: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}: الرسل الذين كانوا بعد نوح قبل إبراهيم، ثم ابتدأ الكلام فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ. . .} ومن ذكر.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح، وكما أوحينا إلى الرسل من بعدهم، وكما أوحينا إلى إبراهيم "؛ فهذا يدل على ما ذكرنا من ابتداء الذكر لهم، واللّه أعلم.

والآية ترد على القرامطة مذهبهم؛ لأنهم يقولون: الرسل ستة، سابعهم قائم الزمان؛ لأنه ذكر في الآية من الرسل أكثر من عشرة؛ فظهر كذبهم بذلك، ومخايلهم التي سول لهم الشيطان وزين في قلوبهم.

١٦٤

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ... (١٦٤)

ذكر في بعض القصة: أن اليهود قالوا: ما بال موسى لم يذكر فيمن ذكر من الأنبياء؟ فأنزل اللّه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} هَؤُلَاءِ بمكة في " الأنعام " وفي غيرها؛ لأنه قيل: إن هذه السورة مدنية.

ثم في قوله: {وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} دلائل من وجوه:

أحدها: أن معرفة الرسل بأجمعهم واحدًا بعد واحد - ليس من شرط الإيمان بعد أن يؤمن بهم جميعًا؛ لأنه أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن من الرسل من لم يقصصهم عليه، ولو كان معرفتهم من شرط الإيمان لقصهم عليه جميعًا، لا يحتمل ترك ذلك؛ دل أنه ليس ذلك من شرط الإيمان، واللّه أعلم.

والثاني: أن الإيمان ليس هو المعرفة، ولكنه التصديق؛ لأنه لم يؤخذ عليه عدم معرفة الرسل، وأخذ بتصديقهم والإيمان بهم جملة.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا}.

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: خلق اللّه كلامًا وصوتًا، وألقى ذلك في مسامعه.

وقال آخرون: كتب له كتابا فكلمه بذلك؛ فذلك معنى قوله: {وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا} لا أن كلمه بكلامه، ولا ندري كيف كان؟ سوى أنا نعلم أنه أحدث صوتًا لم يكن، فأسمع موسى ذلك كيف شاء، وما شاء، وممن شاء؛ لأن كلامه الذي هو موصوف به في الأزل لا يوصف بالحروف، ولا بالهجاء، ولا بالصوت، ولا بشيء مما يوصف به كلام الخلق بحال. وما يقال: هذا كلام اللّه - إنما يُقال على الموافقة والمجاز؛ كقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّه}، ولا سبيل له أن يسمع كلام اللّه الذي هو موصوف به بالأزل؛ ولكنه على الموافقة والمجاز يقال ذلك.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا} يخرج هذا - واللّه أعلم - مخرج التخصيص له؛ إذ ما من رسول إلا وقد كان له خصوصية، والكلام خصوصية لموسى - عليه السلام - إذ كلمه من غير أن كان ثمة سفير ورسول، وكان لسائر الرسل وحيًا يوحي إليهم؛ أي: دليل برسول، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا} دل المصدر على تحقيق الكلام؛ إذ المصادر مما يؤكد حقائق ما له المصادر في موضوع اللغة، وأيد ذلك الأمر المشهور من تسمية موسى: كليم اللّه، وما جرى على ألسن الخلق من القول بأن اللّه كلم موسى؛ فثبت أنه كان له فيما كلمه خصوصية لم يشركه فيها غيره من الرسل، وعلى حق الوحي لمانزال الكتب له شركاء في ذلك من الرسل؛ فثبت أن لما وصف به موسى خصوصية بايَنَ بها غيره؛ على ما ذكره من خصوصية كثير من الرسل بأسماء أو نعوت أوجبت لهم الفضيلة بها، وإن كان حمل ما يحتمل تلك الخصوصية - قد يتوجه إلى ما قد يشترك في ذلك جملة الرسل؛ فعلى ذلك أمر تكليم موسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

١٦٥

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... (١٦٥)

أخبر أنه بعث الرسل بالبشارة في العاقبة لمن أطاعه، والإنذار لمن عصاه؛ فهذا ليعلم أن كل أمر لا عاقبة له فهو عبث، ليس من الحكمة، وأن الذي دعا الرسلُ الخلق إليه إنما دعوا لأمر له عاقبة؛ إذ في عقل كل أحد أن كل أمر لا عاقبة له ليس بحكمة؛ فهذا - واللّه

 أعلم - معنى قوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} مبشرين، لمن أطاع اللّه بالجنة، ومنذرين لمن عصاه بالنار.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ}.

يحتمل هذا وجهين:

يحتمل: لئلا يكون للناس على اللّه - تعالى - الاحتجاج بأنه لم يرسل الرسل إلينا، وإن لم يكن لهم في - الحقيقة - عند اللّه - تعالى - ذلك؛ فيقولوا: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}.

ويحتمل قوله - تعالى -: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} حقيقة الحجة، لكن ذلك إنما يكون في العبادات والشرائع التي سبيل معرفتها السمع لا العقل، وأما الدِّين فإن سبيل لزومه بالعقل؛ فلا يكون لهم في ذلك على اللّه حجة؛ إذ في خلقة كل أحد من الدلائل ما لو تأمل وتفكر فيها لدلته على هيبته، وعلى وحدانيته وربوبيته؛ لكن بعث الرسل لقطع الاحتجاج لهم عنه، وإن لم تكن لهم الحجة.

وإن كان على حقيقة الحجة فهو في العبادات والشرائع؛ فبعث الرسل على قطع الحجة لهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا}

أي: لا يعجزه شيء عن إعزاز من أراد أن يعزه، ولا على إذلال من أراد إذلاله.

{حَكِيمًا}: يعرف وضع كل شيء موضعه. وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.

١٦٦

وتوبه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ ... (١٦٦)

قيل فيه بوجهين:

قيل: يشهد اللّه يوم القيامة -والملائكة يشهدون أيضًا- أن هذا القرآن الذي أنزل إليك إنما أنزل من عند اللّه، لا كما يقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، {مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى}، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}، كما قالوا.

وقيل: قوله: {لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} أي: يبين بالآيات والحجج التي يعجز الخلائق عن إتيان مثلها، وتلزمهم الإقرار بأنه إنما أنزل من عند اللّه، واللّه أعلم.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} يحتمل وجهين:

أنزله بالآيات والحجج ما يعلم أنها آيات الربوبية والحجج السماوية.

ويحتمل: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: أنزله على علم منه بمن يقبل ومن لا يقبل، ليس كما يبعث ملوك الأرض بعضهم إلى بعض رسائل وهدايا لا يعلمون قبولها ولا ردها، ولا علم لهم بمن يقبلها وبمن يردها، ولو كان لهم بذلك علم ما أرسلوا الرسل، ولا بعثوا الهدايا؛ إذا علموا أنهم لا يقبلون؛ فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه على علم منه أنزل بمن يقبل وبمن يرد، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا}

أي: شاهدًا على ما ذكرنا من شهادته يوم القيامة على أحد التأويلين أنه أنزله.

ويحتمل قوله: {شَهِيدًا} أي: مبينًا، أي: كفى باللّه مبينًا بالآيات والحجج.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه - قال: لما أنزل اللّه: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. . .} الآية - قالت قريش: من يشهد لك أن ما تقول حق؟ فأنزل اللّه - تعالى -: {لَكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا}، وأنزل {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} الآية.

* * *

١٦٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}

أي: كفروا بآيات اللّه.

{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّه قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا}

أي: قد تاهوا وتحيروا تحيرًا طويلا.

ويحتمل: {قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا} أي: هلكوا هلاكًا لا نجاة لهم، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

١٦٨

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ... (١٦٨)

أي: كفروا بآيات اللّه وحججه، وظلموا أمر اللّه وتركوه.

ويحتمل قوله - تعالى -: {وَظَلَمُوا} حيث جعلوا أنفسهم لغير اللّه، وجعلوا العبادة لمن دونه، وهو إنما خلقهم؛ ليجعلوا عبادتهم له، فقد وضعوا أنفسهم في غير موضعها؛ لذلك وصفهم بالظلم؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

ويحتمل: ظلموا أنفسهم، وإن كانوا لا يقصدون ظلم أنفسهم؛ فإن حاصل ذلك يرجع إلى أنفسهم؛ فكأنهم ظلموا أنفسهم، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ... (١٦٩)

كأنه على الإضمار بألا يهديهم في الآخرة طريقًا إلا طريق جهنم.

ويحتمل ما قال أهل التأويل، قالوا: لا يهديهم طريق الإسلام إلا طريق جهنم: طريق الكفر والشرك هما طريقا جهنم في الدنيا، والإسلام هو طريق الجنة في الدنيا.

وهذه الآية والآية الأولى في قوم علم اللّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، ويموتون على ذلك؛ حيث أخبر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - لا يغفر لهم، ولا يهديهم.

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّه يَسِيرًا}.

ظاهر.

١٧٠

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ... (١٧٠)

يحتمل قوله: {بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ}: بالحق الذي للّه عليكم.

ويحتمل: {بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} بالحق الذي لبعضكم على بعض، قد جاءكم الرسول من اللّه ببيان ذلك كله.

ويحتمل قوله: {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} الحق الذي هو ضد الباطل ونقيضه، وفرق بينهما، وأزال الشبه؛ إن لم تعاندوا ولم تكابروا.

{فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ}.

لأن الذي كان يمنعهم عن الإيمان باللّه حب الرياسة، وخوف زوال المنافع التي كانت لهم؛ فقال: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ}؛ لأن ذلك لكم في الدنيا، والآخرة دائم لا يزول؛ فذلك خير لكم من الذي يكون في وقت ثم يزول عنكم عن سريع.

 وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. . .} الآية.

يخبر - واللّه أعلم - أن ما يأمر خلقه وينهى ليس يأمر وينهى لحاجة له أو لمنفعة؛ ولكن يأمر وينهى لحاجة الخلق ومنافعهم؛ إذ من له ما في السماوات وما في الأرض وملكهما - لا يقع له حاجة ولا منفعة، وهو غنى بذاته.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا}

عليمًا: عن علم بأحوالكم خلقكم، لا عن جهل، وعليمًا بما به صلاحكم وفسادكم.

(حِكيما): حيث وضع كل شيء موضعه.

ويحتمل قوله - تعالى - {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وجهًا آخر، وهو: الذي تكفرونه، يقْدر أن يخلق خلقًا آخر سواكم يطيعونه؛ إذ له ما في السماوات وما في الأرض، واللّه أعلم.

 

١٧١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}

والغلو في الدِّين: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم، وكذلك الاعتداء: هو المجاوزة عن الحد الذي أحد لهم، في الفعل وفي النطق جميعا.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: تفسير الغلو ما ذكر: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ}؛ فالقول على اللّه بما لا يليق به غلو.

وقيل: لا تغلوا: أي لا تَعَمَّقُوا في دينكم، ولا تَشَدَّدُوا؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على اللّه، والقول بما لا يحل ولا يليق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ}.

أي: الصدق.

وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ}

يقول: لا تقولوا للّه - تعالى - ولد ولا صاحبة.

وفي حرف حفصة - رضي اللّه عنها -: " ولا تقولوا: اللّه ثالث ثلاثة؛ إنما هو إله واحد).

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه}

الخطاب بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} في حقيقة المعنى - للخلق كلهم؛ لأن على كل الخلائق ألا يغلوا في دينهم، وهو في الظاهر في أهل الكتاب، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد، ولا في مخرج خصوصه دليل خصوصه؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ: الخصوص، وبخصوص اللفظ: العموم؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد، وبخصوص اللفظ خصوصه.

ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم: قال بعضهم: هو إله، ومنهم من يقول: هو ابن الإله، ومنهم من يقول: هو ثالث ثلاثة: الرب، والمسيح، وأمه؛ فأكذبهم اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - في قولهم، وأخبر أنه رسول اللّه ابن مريم، ولو كان هو إلهًا لكانت أمه أحق أن تكون إلهًا؛ لأن أمه كانت قبل عيسى - عليه السلام - ومن كان قبلُ، أحق بذلك ممن يكون من بعد، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره، لا يتخذ من غير جوهره؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولدًا - لم يتخذ من جوهر البشر؛ كقوله - تعالى -: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}

قَالَ بَعْضُهُمْ: كلمته: أن قال له: كن؛ فكان. لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: كن؛ فكان؛ فليس لعيسى - عليه السلام - في

ذلك خصوصية.

وأصله أنه سمي كلمة اللّه لما ألقاها إلى مريم، ولا ندري أية كلمة كانت؛ وإنما خلقه بكلمته التي ألقاها إليها؛ فسمي بذلك، كما خلق آدم من تراب؛ فنسب إليه، وحواء خلقها من ضلع آدم؛ فنسبها إليه، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة؛ فنسبهم إليها؛ فعلى ذلك عيسى، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها - نسب إليه، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال، ولم يذكر ذلك في عيسى؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كقوله - تعالى -: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} فسمي لذلك روحًا؛ لما به كان يحيي الموتى؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحًا، وهو قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}، سماه روحًا؛ لما به يحيي القلوب، كما يحيي الأبدان بالأرواح.

وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: أحياه اللّه وجعله روحًا.

وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: رسولا منه.

وقيل: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: أمر منه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ. . .}

لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة؛ إنما دعاكم الرسل أنه اللّه إله واحد لا شريك له ولا ولد.

{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}.

بما ذكرنا بالآية الأولى.

وقوله: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ} بالرفع، أي: لا تقولوا: هو ثلاثة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}

نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولدًا، ثم أخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض؛ وإنَّمَا يُتَّخَذُ الولد لإحدى خصال ثلاث: إما لحاجة تمسه؛ فيدفعها به عن نفسه، أو لوحشة تصيبه؛ فيستأنس به، أو لخوف غلبة العدو؛ فيستنصر به ويقهره، أو لما يخاف

 الهلاك؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه.

فإذا كان اللّه - سبحانه - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة، أو لملكه زوال - يتعالى عن أن يتخذ ولدًا وهو عبده.

{وَكَفَى بِاللّه وَكِيلًا}. قيل: حافظًا. وقيل: شهيدًا.

وقيل: الوكيل: هو القائم في الأمور كلها، واللّه أعلم.

١٧٢

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للّه وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ... (١٧٢)

تكلم الناس في هذه الآية: قال الحسن: فيه دليل تفضيل الملائكة على البشر؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للّه وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}؛ لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول، وأبدًا إنما يذكر ما به يؤكد؛ إذا كان أفضل منه وأرفع، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه؛ كما يقال: لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد؛ فهو على التأكيد يقال؛ فعلى ذلك الأول: خرج ذكر الملائكة على أثر ذكر المسيح؛ على التأكيد، وأبدًا إنما يقع التأكيد بما هو أكبر، لا بما دونه.

والثاني: قال: {لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وقال - عز وجل -: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}، وقالوا: فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي؟! وحال من لا يفتر عن عبادته طَرْفَةَ عَيْنٍ مع حال من يرتكب المناهي؟!

والثالث: ما قال اللّه - تعالى - حكاية عن إبليس؛ حيث قال لآدم وحواء - عليهما السلام - {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ}.

لو لم يكن للملائكة فضل عندهم ومنزلة -ليس ذلك للبشر- لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملك والوعد لهما أنهما يصيران مَلَكَينِ، ولا كان آدم وحواء باللَّذين يغتران بذلك - دل أن الملك أفضل من البشر.

والرابع: أن الأنبياء - صلى اللّه عليهم وسلم - ما استغفروا لأحد، إلا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين؛ كقول نوح - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ. . .} الآية.

وكقول إبراهيم - عليه السلام - {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وما أمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه محمدًا - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالاستغفار؛ فقال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} الآية،

وقال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، وما أمر بذلك، وما فعلوا ذلك؛ إلا ما يحتمل ذلك فيهم.

والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم؛ ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر؛ كقوله: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، وإلى هذا ذهب بعض الناس: بتفضيلهم الملائكة على البشر.

وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة؛ لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك - على الملائكة؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه.

ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة - إلى أنه: ليس في قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للّه وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} - دلالة على أن الملائكة كلهم أفضل منهم؛ لأنه إنما ذكر " المقربون "، لم يذكر الملائكة مطلقًا؛ فيجوز

 أن يكون لمن ذكر فضل على البشر، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف للّه والمعصية له، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم، من نحو: أنفسهم، والشياطين الذين سلطوا عليهم، ولا كذلك الملائكة؛ فمن حفظ نفسه، وصانها، وأخلصها من بين الأعداء، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات، والحاجات الداعية إلى الخلاف للّه والمعصية له - كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك، واللّه أعلم.

وما ذكر من اغترار آدم وحَواء بقول إبليس: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه؛ ليصير من جوهر الملائكة، ولكنه - واللّه أعلم - رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة للّه، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة للّه والطاعة له - فأحب أن يطبع بطبعهم؛ ليقوم بعبادة اللّه كما قاموا هم، واللّه أعلم.

والتكلم في مثل هذا فضل؛ ذلك إلى اللّه تعالى، وإليه التخيّر والإفضال.

ثم تأويل قوله عَزَّ وَجَلَّ - واللّه أعلم -: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا للّه وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}: وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون اللّه، ويعبدون المسيح دونه؛ فأخبر أن أُولَئِكَ الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي؛ فكيف تستنكفون أنتم؟!

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}

فهو - واللّه أعلم - على الإضمار؛ كأنه قال: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر؛ فسيحشرهم إليه جميعًا.

ثم بين جزاء من لم يستنكف عن عبادته ومن لم يستكبر، ومن استنكف واستكبر،

١٧٣

فقال: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ. . . (١٧٣) الآية، {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا. . .} الآية؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن؛ بل كانوا كلهم كفارًا؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته.

والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة، وقال الكساني: وإنما جمع بينهما؛ لاختلاف اللفظين، وهذا من حسن كلام العرب: كقول العرب: كيف حالك؟ وبالك؟ والحال والبال واحد، ومثله في القرآن والشعر كثير.

لكن الاستنكاف -والأنفة- لا يضاف إلى اللّه تعالى، والاستكبار يضاف، فهما من هذا المعنى مختلفان، وأما في الحقيقة فهما واحد، واللّه أعلم.

١٧٤

 قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}

والبرهان: هو الحجة توضح وتظهر الحق من الباطل.

وقيل: بيان من ربكم، وهما واحد.

قَالَ بَعْضُهُمْ: هو النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وقال آخرون: هو القرآن؛ فأيهما كان فهو حجة وبيان، يلزم الحق -ويبين- من لم يعاند.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا}

يبصر به الحق من الباطل، وبه يعرف: وهو القرآن، سماه: نورًا؛ لما به يبصر الحق، وإن لم يكن هو بنفسه نورًا؛ كالنهار: سماه مبصرًا؛ لما به يبصر، وإن لم يكن هو كذلك.

وقال قتادة: {نُورًا مُبِينًا}: هو هذا القرآن، وفيه بيانه ونوره وهداه، وعصمة لمن اعتصم به.

* * *

١٧٥

قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّه وَاعْتَصَمُوا بِهِ}.

جعل الاعتصام به ما به ينال رحمته وفضله.

والاعتصام: هو أن يلتجأ إليه في كل الأمور، وبه يوكل، لا يلتجأ بمن دونه، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}

كأنه - واللّه أعلم - على التقديم والتأخير: " فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به، ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا؛ فسيدخلهم في رحمة منه "، يعني: الجنة " وفضل "؛ كقوله تعالى: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}.

* * *

١٧٦

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -:، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}.

ذكر الاستفتاء، ولم يذكر: فيم استفتوا؟ لكن في الجواب بيان أن الاستفتاء فيم كان،

وقال: {قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}.

والكلالة: ما ذكر: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي. . .} إلى آخر ما ذكر.

قال جابر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ -: فِيَّ نزلت الآية.

ورُويَ عن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: ما سألت النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة، ثم طعن في صدري بأصبعه، فقال: " ألا يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيفِ التي في آخِرِ سُورَةِ النسَاءِ؟! "، وفيه دلالة أن قد يترك بيان ما يدرك بالاجتهاد والنظر، ولا يبين؛ ليجتهد، ويدرك بالنظر؛ لأن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - سأل غير مرة رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ولم يبينه، وأشار إلى الآية التي فيها ذكر ما سأل عنه؛ لينظر ويجتهد؛ ليدرك.

وفيه دليل جواز تأخير البيان؛ لأن عمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - سأله غير مرة، ولم يبينه حتى أمره بالنظر في الآية، وعمر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - لم يكن عرف قبل ذلك؛ فدل على جواز تأخير البيان.

وروي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه قال: الكلالة: من ليس له ولد ولا والد، وكذلك قال عمر - رضي اللّه عنه -

وقال: إِنِّي لأستحي من اللّه أن أرد شيئا قاله أبو بكر. وسئل ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - عن الكلالة؟ فقال: من لا ولد له ولا والد.

وروي عن جابر - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - قال: مرضت؛ فأتاني رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعودني وأبو

بكر الصديق معه؛ فوجدني قد أغمى عليَّ؛ فصبَّ وضوءه عليَّ؛ فأفقت؛ فقلت: يا رسول اللّه، كيف أصنع في مالي؟ وكان لي تسع أخوات؛ فلم يجبني حتى نزل قوله - تعالى -: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ. . .} إلى آخر ما ذكر، قال جابر - رضي اللّه عنه -: فِيَّ نزلت الآية.

قال بعض الناس: إذا مات الرجل؛ وترك ابنة وأختًا - فلا شيء للأخت؛ لأن اللّه - تعالى - قال: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} والابنة ولد؛ فلا ميراث للأخت وللأخ مع الابنة؛ لأنها ولد؛ فيقال: إن اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للابنة النصف؛ إذا لم يكن معها ابن؛ بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}؛ فإذا مات وترك ابنة وأختًا فللابنة النصف، وذلك النصف الباقي إذا لم يُعْطَ للأخت - يرد إلى الابنة؛ فيكون لها كل الميراث، وقد جعل اللّه - تعالى - ميراثها إذا لم يكن معها ولدٌ ذَكَرٌ - النصف، أو لا يرد إلى الابنة؛ فيجب أن ينظر أيهما أحق بذلك النصف الباقي؛ فجاء في بعض الأخبار: أن الأخوات مع البنات عَصَبَة؛ لذلك كانت الأخت أَوْلَى بذلك النصف الباقي، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}

ذكر للاثنتين الثلثين، ولم يذكر ما للثلاث فصاعدًا منهن، وذكر في الابنة الواحدة النصف في أول السورة بقوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ولم يذكر ما للبنتين؛ ولكن ذكر الثلاث فصاعدًا بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فترك بيان الحق في الابنتين؛ لبيانه في الأختين، وترك البيان للأخوات؛ لبيانه في البنات؛ ففيه دليل القياس: حيث اكتفى ببيان البعض عن الآخر.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

دل قوله تعالى: {إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} أن اسم الإخوة يجميع الإناث والذكور جميعًا؛ لأنه ذكر إخوة، ثم فسر الرجال والنساء؛ فهو دليل لنا في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وإنهم يحجبون الأم عن الثلث، ذكورًا كانوا أو إناثًا، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}

قيل: ألا تضلوا.

قال الكسائي: العرب تقول للرجل: أطعمتك أن تجوع، وأغنيتك أن تفتقر؛ على معنى ألا تجوع ولا تفتقر، وفي القرآن كثير مثل هذا.

ثم قوله: {يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} قيل: ألا تضلوا في قسمة المواريث. وقيل: ألا تخطئوا. وقيل: ألا تخلطوا، وهو واحد.

{وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

وعيد، وباللّه الحول والقوة، واللّه المستعان.

* * *

﴿ ٠