٣١

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... (٣١)

اختلف فيه:

قَالَ بَعْضُهُمْ: كبائر الشرك؛ لأن كبائر الشرك أنواع، منها: الإشراك باللّه، ومنها جحود الأنبياء صلى اللّه عليهم وسلم، ومنها: الجحود ببعض الرسل، عليهم السلام، ومنها: جحود العبادات، واستحلال المحرمات، وتحريم المحللات، وغير ذلك، وكل ذلك

شرك باللّه.

فقيل أراد بالكبائر كبائر الشرك، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعودا لها المغفرة بالمشيئة بقوله - تعالى -: {إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وعد المغفرة لما دون الشرك، وقرنها بمشيئته؛ فهو في مشيئة اللّه - تعالى -: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وباللّه التوفيق.

وقيل: أراد بالكبائر كبائر الإسلام.

ثم يحتمل وجهين بعد هذا:

يحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر.

ويحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال في آخره: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، والتكفير إنما يكون بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات.

ويحتمل: أن يكون التكفير لها جميعًا وإن لم تجتنب؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} إلى قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}؛ ألا ترى أنه روي عن أنس - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " شَفَاعَتِي نَائِلَة لِأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتي ".

وروي عن عليٍّ أبن أبي طالب، - رضي اللّه عنه - أنه سمع امرأة تدعو: اللّهمَّ

اجعلني من أهل شفاعة مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فقال: " مَهْ! فَقُولي: اللّهمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الفَائِزِينَ؛ فَإِنَ شَفَاعَةَ مُحَمدٍ - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الكَبَائِرِ " ثم قرأ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . .} الآية.

ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها:

فقَالَ بَعْضُهُمْ: ما أوجب الحد فهو كبيرة: من نحو الزنا، والسرقة، والقذف، وغير ذلك.

وقال آخرون: الإشراك باللّه، وقتل النفس التي حرم اللّه بغير حقها، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقول البهتان، والفرار من الزحف.

وروي عن عبد اللّه بن مسعود - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - أنه سئل عن ذلك؛ فقال: " من أول السور إلى هنا من المحرمات، فهو من الكبائر.

وروي أنه قيل لابن عَبَّاسٍ: إن عبد اللّه بن عمر، يقول: الكبائر تسع. فقال، ابن عَبَّاسٍ - رضي اللّه عنه -: هن إلى التسعين أقرب، ولكن لا كبيرة مع توبة، ولا صغيرة مع إصرار.

وروي عن الحسن قال: قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " مَا تَقُولُونَ فِي الزنَا وَالسرِقَةِ وَشُربِ الْخَمْرِ؟ " قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: " هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَة " ثم قال رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا أُنْبَئُكُم بِأكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: " الْإشْرَاكُ بِاللّه، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ " قال: وكان متكئًا فجلس، ثم قال: " أَلَا وَقَوْلُ الزورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُورِ " قاله ثلاثًا.

وقوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}

ذكر تكفير السيئات إذا اجتنب الكبائر، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر، فهو في مشيئة اللّه: إن شاء [غفر] (١)، وإن شاء عذَّب؛ على ما ذكرنا: أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى، حظرًا كان أو إحلالا، واللّه أعلم. (١) في الكتاب المطبوع هكذا [كفر] ولعل الصواب ما أثبتاه يؤيده ما بعده (عذَّب)، أو تكون [كفَّر] بتشديد الفاء. واللّه أعلم. (مصحح النسخة الإلكترونية).

 ويقرأ في بعض القراءات: (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) (١) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفًا: أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك، واللّه أعلم.

قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}

قيل: الجنة.

﴿ ٣١