٤٧

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} دلت هذه الآية أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ ولا ممن أوتوا الكتاب؛ لأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقا لما معكم وليس عند المجوس كتاب حتى يكون المنزل على مُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مصدقًا لما معهم.

ثم قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} أي: موافقًا لما معكم، وإنَّمَا كان موافقًا لما معهم بالمعاني المدرجة فيه والأحكام، لا بالنظم واللسان؛ لأنه معلوم أن ما معهم من الكتاب مخالف للقرآن نظمًا ولسانًا، وكذلك سائر كتب اللّه - تعالى - موافق بعضها بعضًا معاني وأحكامًا، وإن كانت مختلفة في النظم واللسان؛ دل أنها من عند اللّه - تعالى - نزلت؛ إذ لو كانت من عند غير اللّه كانت مختلفة؛ ألا ترى أنه قال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، ففيه دليل لقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - حيث أجاز الصلاة بالقراءة الفارسية؛ لأن تغير النظم واختلاف اللسان لم يوجب تغير المعاني واختلاف الأحكام، حيث أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه موافق لما معهم، وهو في اللسان والنظم مختلف، والمعنى موافق.

ثم يحتمل قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} بصفته، ونعته، ونبوته، ومبعثه، وزمانه، فيه فيما معكم، لا يخالف في شيء من ذلك.

ويحتمل: أنه هو النبي - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - الذي آمنتم به قبل أن يبعث، فكيف كفرتم باللّه؟! واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا. . .} الآية.

قيل: لما نزلت هذه لآية قدم عبد اللّه بن سلام على رسول اللّه - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فأسلم،

وقال: يا رسول اللّه، ما كنت أرى أني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.

وقيل: طمسها: أن تعمى أبصارها، وردها على أدبارها.

وقيل: طمس الوجوه: أن تعمى، وترد عن بصرتها، وذلك أنهم كانوا مؤمنين بمحمد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مستيقنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه نبي اللّه، يجدونه في كتبهم، يقول: حققوا إيمانكم بمُحَمَّد - صَلَّى اللّه عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبكتابه من قبل أن نضلكم عن هداكم؛ فتصيروا ضُلَّالًا؛ فلا تعلمون ما كنتم تعملون.

ويحتمل أن تكون الآية خرجت على الوعيد، وهي على التمثيل، لا على التحقيق.

ويحتمل: على التحقيق؛ كقوله - تعالى -: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} ويحتمل أن يكون هذا في الآخرة.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ أيضًا -: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} يحتمل الحقيقة؛ فيرجع إلى يوم القيامة، فيذهب عنه جميع محاسن الوجه.

أو نطمس وجوه الحق عنه بمعاندته، فيبصر الحق بغير صورته والباطل بغير صورته بعد أن كانوا رأوا كل شيء بصورته في كتبهم المنزلة، واللّه أعلم.

أو نطمس وجوههم عند أتباعهم الذين لأجلهم غيروا وحرفوا بما يطلعهم على خيانتهم، ويظهر لهم تبديلهم، وقد فعل بحمد اللّه تعالى.

وقد يحتمل الوعيد: أن يفعل بهم إن لم يؤمنوا حقيقة ذلك؛ كفعله بأصحاب السبت، تغير الجوهر، ثم لعل أُولَئِكَ قد أسلموا، أو نزل بهم ولم يذكر، واللّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا}

 أي: كان بأمر اللّه - عَزَّ وَجَلَّ - مفعولا، كما يقال: الجنة رحمة اللّه، والمطر رحمة اللّه، أي: برحمة اللّه، فعلى ذلك معنى قوله - سبحانه -: {أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا} أي: بأمر اللّه كان مفعولا.

ويحتمل قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا}، أي: عذاب اللّه نازلا بهم.

﴿ ٤٧